مجزوءة الوضع البشري: الشخص، الغير... الثانية بكالوريا

مجزوءة الوضع البشري: الشخص، الغير... الثانية بكالوريا
الشخص الغير
تقديم
لقد كان القول السقراطي: "أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك"، دعوة لفهم الإنسان لذاته ولوجوده أو وضعه الإنساني، ويعتبر سؤال الوجود أو الوضع البشري من أهم الأسئلة الفلسفية، وذلك لكونه ينهد إلى فهم هذا الوجود، والبحث في أبعاده الأساسية، وأهمها: البعد الذاتي الفردي، وذلك من خلال النظر إلى الإنسان باعتباره الأنا أو الشخص، أي بغض النظر عن علاقاته الممكنة مع أي شيء آخر. وأما الثاني فهو البعد الاجتماعي الخارجي، وذلك عبر تجاوز ما هو ذاتي والانفتاح على الإنسان من خلال النظر إليه كعلاقة مع الغير، ما دام الإنسان لا يستطيع العيش في عزلة عن الغير… ثم من جهة ثالثة هنالك البعد الزماني، ذلك أن الإنسان لا يوجد كذات/ شخص فقط، كما لا يوجد من خلال العلاقة مع الغير، بل إن وجوده يتحدد كتاريخ، له بداية وله نهاية، فالإنسان يولد وينمو ويتطور... ومن هنا أهمية التاريخ في فهم الوضع البشري.  
مفهوم الشخص
مفهوم الشخص
مقدمة
ما هو الشخص؟ وكيف يمكن تعريف الشخص؟ إن الشخص من حيث التعريف هو ذات مفكرة واعية حرة ومريدة تتحمل مسؤولية ما تقوم به من أفعال. ومن خلال هذا التعريف يتبين أن الإنسان ذات تمتلك خصائص تبدو ثابتة نسبيا وهذا يعني أنها تشكل هوية ينبغي البحث في أساسها، كما أن هذه الخصائص والصفات تمنح الإنسان قيمة يجب التساؤل حول مصدرها، أضف إلى ذلك أن الإنسان يقوم بسلوكات تبدو حرة، مما يتطلب البحث في حدود هذه الحرية. فما أساس هوية الشخص؟ وما مصدر قيمته؟ وما حدود حريته؟
الإشكال: على أي أساس تقوم هوية الشخص؟
موقف ديكارت: أساس هوية الشخص هو الفكر الخالص
 لفهم موقف ديكارت بخصوص الهوية الشخصية لا بد من الرجوع إلى كتابه الشهير " التأملات الميتافزيقية " حيث نستنتج أنه يؤكد على أن أساس هوية الشخص هو الفكر لأنه هو الشيء الوحيد الذي لا يقبل الشك. وبالتالي يكون الفكر هو الشيء الوحيد الذي يظل ثابتا ويصلح كأساس تقوم عليه الهوية الشخصية. فمن خلال هذا الكتاب أي " التأملات الميتافزيقية " يؤسس ديكارت موقفه من خلال منهجه القائم على الشك أو ما يسمى الشك المنهجي، وهكذا نجده في كتابه، وفي التأمل الأول يتناول مبررات الشك المتمثلة في خداع الحواس وخطأ العقل.. فما دامت الحواس تخدع (تجربة السراب، الحلم، تقاطع السماء والبحر ظاهريا...) والعقل يخطئ (عمليات حسابية بسيطة مثلا) فمن الواجب ممارسة الشك المنهجي بهدف الوصول إلى يقين أول يعتبر أرضية صلبة يؤسس عليها ما عداها... وعندما نشك في كل شيء نجد أن هنالك شيئا واحدا، في نظر ديكارت، لا يمكن الشك فيه وهو الشك ذاته، ويمكن إثبات الشك اعتمادا على الحدس والبداهة، وما دام الشك تفكيرا، فإن ما يثبت من خلال عملية الشك هو الفكر.  وهذا هو مضمون التأمل الثاني: إثبات هوية الأنا المفكر، من خلال الكوجيطو "أنا أفكر إذن أنا موجود"... حيث يبدو جوهر الإنسان هو الفكر، أي أن هويته تتحدد من خلال الأفعال الفكرية الخالصة والمجردة عن كل إحساس كالشك والفهم والتصور... وهي أفعال لا تنفصل عن الهوية الإنسانية، بل هي أساس وجود الإنسان وهويته، فالإنسان يوجد مادام يفكر، وإذا توقف عن التفكير توقف عن الوجود… إن الإنسان إذن ذات مفكرة، لكن الفكر هنا هو الفكر الخالص الذي يكون مجردا وقاطعا للصلة مع كل تجربة حسية.
موقف جون لوك: أساس هوية الشخص هو الفكر المبني على الإحساس
في كتابه "محاولة فلسفية في الفهم البشري" نجد نصوصا لجون لوك يمكن من خلالها أن نستنبط تصوره بخصوص الهوية الشخصية. ففي إحدى مقولاته نجده يعرف الشخص بأنه ذات مفكرة (كائن عاقل، قادر على الاستدلال والتفكير)، غير أن مفهومه للفكر يختلف عن ذاك الذي نجده عند ديكارت، بحيث أن الفكر لديه يتمثل في مجموع العمليات العقلية أو النفسية التي لا تنفصل أبدا عن الإحساس، بل إن الفكر يكون مرافقا دوما بالإحساس. لذلك فأساس هوية الشخص، فيما يعتقد لوك، هو الفكر المرافق بالإحساس أو ما يمكن أن نسميه التجربة الحسية (الفكر أو الوعي والذاكرة باعتبارها أحاسيس أو مصدرها الإحساس)..  والإحساس عند لوك نوعان: إحساس خارجي يربطنا بالعالم المادي من خلال الحواس، وإحساس داخلي من خلال ما يسميه بالتأمل أو الاستبطان.. وهكذا فلا فكر بدون إحساس، بل نستطيع الزعم بأن الفكر عنده إحساس، لكنه يتم على المستوى النفسي الداخلي. لذلك يعتبر العقل عند لوك (وعند التجريبيين عموما) صفحة بيضاء لا توجد فيه الأفكار الفطرية، والإنسان يحصل على الأفكار فقط عندما يتكون لديه الإدراك الحسي…يقول لوك: "إنني حين أدرك شيئا ماديا لا أدركه مباشرة ـ بواسطة العقل ـ بل أدركه بطريقة غير مباشرة، أي عن طريق أفكاري عنه، هذه الأفكار هي ما أدركه مباشرة…". ولعل هذا الموقف ينسجم تماما مع الفلسفة التجريبية التي تعطي أولوية للتجربة الحسية وللإحساس على حساب الفكر أو العقل. (نص جون لوك)... (تحليل نص جون لوك)
موقف شوبنهور: أساس هوية الشخص هو الإرادة
ينفي شوبنهور أن تتحدد هوية الشخص من خلال مادة جسمه، أو صورة هذا الجسم لأنهما يتجددان ويتغيران باستمرار… ويؤكد في كتابه: "العالم كإرادة وتمثل"، أن الإرادة هي معيار هوية الشخص لأنها تظل في هوية مع نفسها ومع الطبع الثابت الذي تمثله، وتتحدد هذه الإرادة فيما يلي: أن تريد أو ألا تريد.
وهكذا ينتقد شوبنهاور المواقف التي تربط بين الشعور والهوية، ويؤكد أن هوية الشخص تتحدد بالإرادة، أما الشعور فهو يتجدد ويتغير بفعل الزمن، كما يمكن تعديله وتقويمه، بينما الإرادة لا يمكنها أن تتغير لأنها خاضعة للزمان، وهو ما يجعل الفرد يتصرف دائما في هوية مع نفسه، أي أنه لا يستطيع أن يفعل غير ما يفعله. إن الإرادة ـ حسب شوبنهورـ هي الشيء الجوهري والأساسي في الإنسان ويعطيها الأولوية على العقل، لأن العقل مخلوق للإرادة كي يقوم على خدمتها وتنفيذ أوامرها ونواهيها. (نص شوبنهور) (تحليل نص شوبنهور)
موقف لاشوليي: أساس هوية الشخص هو الطبع والذاكرة
يعتبر جول لاشوليي أن المحدد الرئيس للشخص هو هويته كذات متطابقة مع ذاتها ومتميزة عن غيرها، وأن هذه الهوية تبقى متوحدة في الزمان كنتيجة لعمل مجموعة من الآليات النفسية التي تحمي وحدة الشخص، أهمها: آلية وحدة المزاج وآلية الذاكرة التي تحفظ ماضي الشخص وتوصله بحاضره. إن الهوية الشخصية لا تُعطى بشكل أولي أصيل في شعورنا، بل هي “بنية نفسية”، متصلٌة بالمزاج وبالذاكرة. كل ما يضاف إلى الذاكرة ينتمي إلى الأنا الذي يحدد طبيعة ردود أفعالنا في مختلف الحالات النفسية. وكلما تذكر الإنسان كلما تولد لديه الشعور بوحدته النفسية الثابتة. من خلال هذا الموقف ينتقد لاشوليي التصور الماهوي الثابت لهوية الشخص، ويثبت أن أساس الهوية هو حفظ الطبع وترابط الماضي بالحاضر في الذاكرة. (نص لاشوليي)
الإشكال: ما مصدر قيمة الشخص؟
موقف كانط: مصدر قيمة الشخص هو العقل الأخلاقي العملي
في كتابه "أسس ميتافيزيقا الأخلاق" (نص كانط) يؤكد كانط أن الأخلاق هي مصدر قيمة الشخص، حيث يعرف الشخص بأنه ذات لعقل عملي أخلاقي، وذلك من خلال التمييز بين ثلاثة مستويات في الوجود البشري: الأول هو الوجود الطبيعي، أي وجود الإنسان كجسد أو "كظاهرة طبيعية"، يكتفي بالتصرف وفق القوانين البيولوجية، وفي غياب استخدام العقل. إن هذا النوع من الوجود لا يمنح الإنسان إلا قيمة مبتذلة، ومتدنية، وبالتالي فالجسد لا يصلح كأساس يستمد منه الشخص قيمته.
والثاني هو الوجود العاقل، أي وجود الإنسان كذات مفكرة قادرة على القيام بعمليات عقلية عليا، وقادرة على رسم أهداف وتحديد غايات لنفسها. إن هذا النوع من الوجود يجعل الإنسان يسمو على كائنات أخرى، غير أنه مع ذلك لا يمتلك إلا قيمة نفعية خارجية، لأنه يحدد غايات لنفسه على حساب الآخرين... وهكذا فالعقل ليس كاف كمصدر تتحدد من خلاله قيمة الإنسان. (نلاحظ هنا انتقادا لديكارت)
 ثم هناك ثالثا الوجود الأخلاقي، أي وجود الإنسان كذات تتصرف وفق مبادئ العقل الأخلاقي العملي. إن هذا النوع من الوجود هو الذي يمنح الإنسان قيمة لا تقدر بثمن، لأنه يتصرف وفق الواجب ويحترم الكرامة الإنسانية، ويعامل الآخرين كغايات وليس كوسائل.
موقف نيتشه: مصدر قيمة الشخص هو إرادة القوة
 يؤسس نيتشه موقفه على إرادة القوة، وفي هذا الصدد يشن حملة عنيفة على الأخلاق ومن يمثلها دينيا وفلسفيا، ويمجد قيم البطولة والقوة، ويستهزئ بقيم الواجب والشفقة والصبر … ويعتبرها قيم الضعفاء، وفي هذا الصدد ينتقد كانط ويصفه في كتاب عدو المسيح بالغبي، كما يسخر من المسيح الذي ضحى من أجل الغير. فأن تكون ممتلكا لقيمة يعني مع نيتشه أن تكون قويا، أي أن مصدر قيمة الإنسان بالنسبة إليه هو القوة وليس الأخلاق لأن هذه الأخيرة وضعها الضعفاء والجبناء، أما الأقوياء فيصنعون قيمهم بأنفسهم.   
موقف راولز: مصدر قيمة الشخص هو الأخلاق والالتزام بالقانون
يتأسس موقف راولز على مفاهيم سياسية واجتماعية وقانونية معاصرة، ترتبط بالعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان، من خلال ربط قيمة الإنسان بالالتزام بالمبادئ الأخلاقية والانفتاح على الآخرين، على اعتبار أن الإنسان عضو داخل مجتمع، يتعامل مع أفراده كغايات وليس كوسائل، عبر فعل الخير وعبر الإنصاف والمساواة… إنه تصور بروح كانطية، لكنه ليس مثاليا بل مصدره الواقع السياسي المعاصر كما جسدته دولة الحق والقانون، حيث الالتزامات القانونية التي تجد مصدرها في النسق التربوي الأخلاقي.
الإشكال: هل الشخص حر أم خاضع للضرورة والحتمية؟
موقف اسبينوزا: الإنسان خاضع لضرورة طبيعية
 يعتقد اسبينوزا أن الشخص ليس حرا بل يتوهم الحرية، ففي كتابه "رسالة في اللاهوت و السياسة" يؤكد أن الإنسان خاضع لضرورة طبيعية، لا يملك خيارا أمامها ، ويعتقد أنه حر لأنه يدرك انه يقوم بالفعل لكنه يجهل السبب الذي يدفعه للقيام به، ويقدم أمثلة على ذلك من بينها مثال الحجر الذي يتحرك بفعل قوة خارجية، فلو امتلك الوعي لاعتقد أنه هو الذي يقوم بالفعل بحرية لأنه يجهل السبب المحرك، والأمر نفسه بالنسبة للإنسان، فالجبان يعتقد أنه يهرب بشكل حر غير أن الضرورة الطبيعية المتمثلة في الخوف هي التي تدفعه لذلك، وفي هذا الصدد يقول اسبينوزا الحرية هي وعي الضرورة أي أن تكون حرا معناه ان تدرك أنك لست حرا بل خاضع للضرورة.
موقف سارتر: الإنسان كائن حر
 على خلاف اسبينوزا يؤكد سارتر ان الإنسان كائن حر يمتلك من الحرية ما يجعله قادرا على تحمل مسؤولية ما يقوم به من أفعال، بل إن حريته ليس لها حدود، لأنه محكوم عليه بالحرية، وفي كتابه "الوجودية نزعة إنسانية"، يؤكد سارتر أن الإنسان لن يكون إلا وفق ما سيصنع بنفسه، وكما يريد أن يكون، ويشبهه بالمشروع لأنه ينفتح على المستقبل، ويملك إمكانيات عديدة لتجاوز الوضع الحاضر، وذلك لأنه كائن حر متحمل لمسؤولية فعله، كما يؤكد أن وجود الإنسان يسبق ماهيته، مما ينتج عنه حريته ومسؤوليته الكاملة والمطلقة عن هذا الوجود.
القاضي عبد الجبار المعتزلي: الإنسان حر مسؤول عن أفعاله
يؤكد أن الإنسان حر مختار لأفعاله لأنه يمتلك العقل الذي يرشده في حياته الأخلاقية، ويجعله قادرا على التمييز بين الخير والشر دون الخضوع لأي إكراه كيفما كان. إن نفي الحرية يعني نفي التكليف العقلي والشرعي معا، ومن ثم تسقط المسؤولية، والعقاب والثواب…بل إن الحرية في نظره بديهية من بديهيات العقل، ولا تحتاج لبرهان. إن القول بالحرية يثبت مسؤولية الإنسان عن أفعاله، لذلك يمدح المحسن على فعله، ويذم المسيء على فعله لأنه مسؤول عنه.
خلاصة عامة
من خلال القضايا والإشكالات التي تمت معالجتها في إطار مفهوم الشخص، نستطيع التأكيد بأن هذه الإشكالات تقدم لنا لبنة أساسية لبناء فهم ومعرفة بوجودنا البشري، خصوصا من خلال إدراك البعد الذاتي في هذا الوجود، من خلال مناقشة قضايا الهوية الشخصية، وقيمة الشخص، والحرية الإنسانية... غير أن هذا غير كاف إذا لم ننفتح على بعد آخر من أبعاد وجودنا البشري، أي البعد الاجتماعي. إن الإنسان لا يوجد وحده في العالم، وإنما يوجد مع الغير.
الغير
مفهوم الغير
مقدمة
لم يبدأ الاهتمام بموضوع الغير كموضوع فلسفي، إلا مع الفلسفة الحديثة، وخصوصا مع فلسفة هيجل، وذلك من خلال نظريته حول "جدلية العبد والسيد".
ما هو الغير؟ وكيف يمكن تعريفه؟ يمكن تعريف الغير بأنه ذلك "الأنا الذي ليس أنا"، أي الأنا الآخر والذات الأخرى، والشخص الآخر الذي يشبه الذات في عدد من الخصائص والصفات، ويختلف عنها في أخرى. والغير بهذا المعنى يثير مجموعة من التساؤلات حول وجوده ومعرفته والعلاقة معه.
المحور الأول: وجود الغير
الإشكال: هل وجود الغير ضروري بالنسبة للأنا؟ أم يمكن الاستغناء عنه؟
موقف ديكارت Descartes: وجود الغير افتراضي وليس ضروريا
تعتبر الفلسفة الديكارتية فلسفة ذاتية، ومن هنا يمكن أن نستنتج أن لا وجود للغير ضمن أطرها الأساسية. إن الفلسفة الديكارتية تتأسس على الأنا المفكر القادر على تحقيق الوعي بالذات اعتمادا على الذات نفسها و دونما حاجة لمساعدة الغير، هذا ما تعلمنا إياه تجربة الشك التي يضع فيها الأنا نفسه في مقابل الغير من خلال الشك في هذا الأخير، و من خلال العزلة عنه. ومن هنا يكون وجوده غير ضروري بل افتراضيا أو محتملا ما دام متوقفا على حكم العقل واستدلاله.
موقف هيجل Hegel: وجود الغير ضروري لتحقيق الوعي بالذات
 ينطلق هيجل من رفض فلسفة الذات الديكارتية، تلك الفلسفة التي تربط الوعي بالذات بالتفكير والتأمل. إن التفكير والتأمل في نظر هيجل لا يمكن أن يحققا وعيا بالذات لأن المتأمل ينغمس فيما يتأمله، والذات المفكرة تضيع في الموضوع الذي تفكر فيه، وبالتالي لا تعود إلى ذاتها إلا من خلال الرغبة.
إن الرغبة هي التي تجعل الإنسان أنا/ ذاتا، إنه ذات راغبة وليس ذاتا مفكرة. والرغبة هي التي تدفع الإنسان إلى العمل غير أن الرغبة نوعان: رغبة طبيعية موضوعها هو الأشياء، وتحقق للإنسان وجودا بسيطا طبيعيا حيوانيا، وبالتالي فالوعي هنا لا يتجاوز الإحساس بالذات. ولكي يكون الوعي وعيا بالذات ينبغي أن تقع الرغبة على موضوع غير طبيعي يتجاوز الواقع أي أن يكون رغبة في رغبات الغير، وعندما يرغب الأنا في رغبة الغير يظهر صراع الرغبات، الذي ينتهي بانتصار السيد الذي يكون مستعدا للموت من أجل انتزاع الاعتراف، واستسلام العبد الذي يفضل الحياة ويعترف بالسيد، غير أن كل واحد منهما يحتاج إلى الآخر وبالتالي تكون العلاقة بينهما علاقة جدلية، فكل واحد منهما يحتاج إلى الآخر لكي يحقق وعيا بذاته، ومن هنا فوجود الغير ضروري بالنسبة للأنا لأنه يساهم في تحقيق الوعي بالذات.
موقف سارتر Sartre: وجود الغير ضروري لإدراك الذات
 يؤكد سارتر أن وجود الغير ضروري بالنسبة للأنا، رغم أنه يحد من حريته، و ذلك لأن هذا الوجود يجعل الذات تدرك ذاتها بشكل كامل، وهذا ما يتضح من خلال تجربة الخجل، فالأنا  يخجل نظرا لكونه يدرك ذاته من خلال نظرة الغير إليه، بمعنى أن الغير بمثابة مرآة تعكس صورة الأنا في نظرة الغير، فيصبح الأنا قادرا على إصدار أحكام على ذاته مثلما يصدرها على الأشياء و الموضوعات… إن معرفة الذات لذاتها تكون ناقصة في غياب الغير و من هنا ضرورة وجوده لكي يكمل هذه المعرفة... (نص سارتر)
المحور الثاني: معرفة الغير
الإشكال: هل معرفة الغير ممكنة أم مستحيلة؟ وإذا كانت ممكنة فما هي حدودها؟ وكيف تتحقق؟
موقف سارتر: معرفة الغير كذات غير ممكنة
 يؤكد سارتر أن معرفة الغير غير ممكنة إذا نظرنا إليه كذات، لأن هذه المعرفة تقتضي تحويله إلى موضوع والنظر إليه كشيء ، أي نفي الخصائص والمقومات الذاتية الإنسانية عنه كالوعي والحرية والإرادة … وبالتالي فمعرفة الغير ممكنة فقط باعتباره موضوعا / جسدا غير أن الغير ليس جسدا بل ذاتا ومن هنا يمكن القول أن معرفة الغير مستحيلة..
موقف ميرلوبونتي: معرفة الغير ممكنة من خلال التواصل
ينتقد ميرلوبونتي تصور سارتر ويؤكد في المقابل أن معرفة الغير ليست مستحيلة ولا تتطلب تحويله إلى موضوع ويقول في هذا الصدد: " والواقع أن نظرة الغير لا تحولني إلى موضوع ، كما أن نظرتي لا تحوله إلى موضوع إلا إذا انسحب كل منا و قبع داخل طبيعته المفكرة أو جعلنا نظرة بعضنا إلى بعض لاإنسانية " أي أن التشييء يحدث عندما يغيب التواصل، و هكذا تكون معرفة الغير ممكنة من خلال التواصل، ويقدم ميرلوبونتي مثال حضور الغير الغريب أمام الذات، فعندما يغيب التواصل يحضر التشييء، لكن بمجرد الدخول في علاقة تواصلية ينكشف عالمه وتستطيع الذات إدراك عالمه الذاتي وأفكاره وعواطفه… وحتى عندما يغيب التواصل لا تكون المعرفة مستحيلة بل فقط مؤجلة…
موقف ماكس شيلر: معرفة الغير ممكنة من خلال النظر إليه كبنية
 يؤكد ماكس شيلر أن معرفة الغير ممكنة من خلال النظر إليه ككل، أي كبنية يتداخل في تشكيلها المظهر الخارجي والمعطيات الداخلية في نفس الوقت، فالغير لا ينبغي اختزاله في مظهره الخارجي/ الجسد (سارتر)، ولا بعده الداخلي / الذات (ميرلوبونتي)، لأنه كل لا يقبل التجزيء ، فتعابير الجسد/ المظهر الخارجي، تعبر عن الحالات النفسية والأفكار والعواطف/ المعطيات الداخلية.. يقول :" إن أول ما ندركه من الناس… ليس أجسادهم، ولا أفكارهم و نفوسهم.. بل ما ندركه منهم هو كل/ (بنية) لا يقبل التجزيء". ويقدم كمثال على ذلك الابتسامة، فهي تعبير جسدي خارجي، لكنها تعبر عن إحساس داخلي بالفرح أو غيره. ونفس الشيء بالنسبة للدموع فهي مظهر خارجي يخبرنا عما يجري داخل الذات…وهكذا فمعرفة الغير ممكنة شريطة النظر إليه نظرة كلية بنيوية لا اختزال فيها..
المحور الثالث: العلاقة مع الغير
الإشكال: كيف تتحدد العلاقة مع الغير؟ هل تتأسس على الصداقة والمحبة أم على الصراع والعداء؟
موقف ميرلوبونتي: العلاقة مع الغير هي علاقة صداقة من خلال التواصل
 يؤكد ميرلوبونتي أن العلاقة مع الغير علاقة إيجابية، أي علاقة صداقة وألفة وانفتاح شريطة وجود تواصل بين الأنا والغير، أي شريطة ألا تنعزل الذات وتتقوقع على نفسها وترفض التواصل مع الغير… وألا تنظر إلى الغير نظرة يغيب فيها البعد الإنساني من خلال نفي وسلب الخصائص الذاتية عنه وتجريده من حريته وإرادته، ووعيه… وبالتالي تحويله إلى موضوع. إن هذا النوع من التصرف يمكن أن يؤجل التواصل ولكنه لا يعدمه..
موقف هوبز: العلاقة مع الغير هي علاقة صراع
 يقول هوبز :" الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، وهو قول يتبين من خلاله أن العلاقة مع الغير علاقة سلبية، لأنها تتأسس على طابع حيواني لا أخلاقي، فأن يكون الإنسان ذئبا معناه أن يكون متصفا بصفات حيوانية كالهمجية والتوحش، والمكر والخداع… مما يجعل العلاقة معه علاقة يطبعها الصراع والتوتر، والحيطة والحذر… خصوصا وأن الإنسان أناني بطبعه وشرير، يميل إلى استغلال الغير، والاعتداء عليه، بدعوى الحفاظ على المصلحة أو الأمن أو غير ذلك…
موقف أرسطو: العلاقة مع الغير هي علاقة صداقة
 يؤسس أرسطو موقفه حول العلاقة مع الغير على الصداقة وخصوصا الصداقة المبنية على الفضيلة، ويؤكد على أهميتها وقيمتها، لأنها صداقة دائمة لا تفنى ولا تزول، إنها صداقة ترسخ القيم السامية، وأهمها العدل، يقول أرسطو:" متى أحب الناس بعضهم لم تعد هناك حاجة إلى العدل "وصداقة الفضيلة يقابلها نوعان آخران وهما صداقة المتعة وصداقة المنفعة، وهما زائلان بزوال المتعة والمنفعة. هكذا يتأسس الموقف الأرسطي على أسس أخلاقية تقوم على الصداقة الفاضلة والمثالية في العلاقة بين الأنا والغير. (نص أرسطو)
خلاصة
من خلال القضايا التي تم تناولها في إطار مفهوم الغير يتبين أنها تمكننا من فهم وضعنا البشري بشكل أعمق، إذ ينضاف إلى محاولة فهم الذات محاولة فهم العلاقة مع الغير، مما يجعلنا ندرك بشكل أكثر اكتمالا هذا الواقع البشري المتعدد الأبعاد. غير أننا مدعوون إلى الانفتاح على بعد آخر إن أردنا توسيع إدراكنا لوجودنا البشري.
مواضيع ذات صلة
أقوال فلسفية حول الشخص
أقوال فلسفية حول الغير


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس