إذا كان الإنسان حيوانا اجتماعيا فذلك لكونه كائن لا
يمكن تصور حياته خارج المجتمع المنظم الخاضع لقوانين. إنه بتعبير آخر حيوان سياسي
أي ممارس للسياسة باعتبارها قدرة على تنظيم المجتمع و حل مشاكله بطرق
إبداعية تضمن إمكانية تجاوز المشاكل. و لعل الهدف السامي للسلوك السياسي هو أن
يعيش الناس ضمن مجتمع تسوده العدالة و يضمن فيه العيش الكريم. إن العدالة
إذن غاية أساسية لما يترتب عنها من مكتسبات و حقوق تجعل الإنسان آمنا حرا كريما...
غير أن العدالة تتطلب آليات لتحقيقها. و يعتبر القانون أحد هذه
الآليات التي يمكن أن تضمن تحقيق العدالة.. غير أن الإشكال الذي يمكن
مصادفته هنا هو ذاك المتعلق بإمكانية أن تكون العدالة مرتبطة بتطبيق القانون.
فهل تطبيق القانون يؤدي بالضرورة إلى تحقيق العدالة؟ ألا يمكن أن يكون
تطبيق القانون حاجزا يمنع تحقيق العدالة؟ ألا يحتاج القانون إلى
آليات مساعدة لكي تقوم العدالة؟
عندما نتأمل الصيغة التي يطرح بها السؤال: هل العدالة
هي تطبيق القانون؟ يبدو من خلال المفهومين الأساسيين أنه يراهن على وجود علاقة
بين العدالة و القانون، و بشكل أدق فهو يتضمن أطروحة
مفترضة تتأسس على اعتبار تطبيق القانون سبيل لتحقيق العدالة أي أن العدالة تتمثل
في تطبيق القانون. بداية ما المقصود بالعدالة؟ و المقصود بالقانون؟ و ما
العلاقة بينهما ؟ العدالة هي الاستقامة، و هي قاعدة أخلاقية و قانونية
يتأسس عليها الحق الذي ينبغي أن يتمتع به الإنسان. أما القانون فهو مجموع
القواعد و المبادئ و الأعراف التي تنظم العلاقات بين الناس داخل مجتمع ما. هكذا
إذن يراهن السؤال على جعل تطبيق القانون طريقا لتحقيق العدالة، بمعنى أنه عندما
يتم تطبيق القواعد و المبادئ التي تنظم شؤون الناس داخل المجتمع ستتحقق العدالة، و
لا عدالة حسب هذا الافتراض إلا من خلال وجود قوانين مطبقة و مفعلة على أرض الواقع.
هكذا يمكن أن يكون الأمر صحيحا إلى حد كبير،
فعندما نجد دولة مثل الدولة الأوربية تطبق القانون على الجميع، وتسهر على
أن لا يكون أي شخص فوق القانون فهي بذلك تضمن وجود العدالة لأنه لا أحد يمكنه أن
يتعرض للظلم، يستطيع الناس أن يعيشوا بكرامة ما دام القانون موجود لحمايتهم و ما
دام هذا القانون يتم تفعيله و ليس حبرا على ورق. و إذا عدنا إلى تاريخ الدولة
الإسلامية نجد نموذجا مشرقا في هذا الإطار و هو المتعلق بالخليفة عمر
ابن عبد العزيز فهو استطاع من خلال تطبيق القوانين المستمدة من المرجعية
الدينية الإسلامية أن يحقق العدالة و لم يكن يظلم عنده أحد. و لتأكيد وجود علاقة
بين العدالة و تطبيق القانون يمكن استحضار ألان
الذي يعتقد أن العدالة و الحق ينبغي أن
يتأسسا على تطبيق القوانين و على وجود المؤسسات التي تصدر الأحكام وفق هذه القوانين، و
يقدم مثال حيازة ساعة و امتلاك منزل.. فلا تكون الحيازة أو الامتلاك حقا و لا وفق
مبادئ العدالة إلا إذا صدرت أحكام قضائية على رؤوس الملأ.و هكذا فلا عدالة بدون
قوانين تحقق العدالة، و لا حق بدون قوانين عادلة.
هكذا يظهر أن فكرة ربط العدالة بالقانون هي
فكرة صائبة، لكن ألا يمكن أن نعيد فيها النظر؟ هل تطبيق القانون يضمن تحقيق
العدالة دائما و بشكل مطلق؟ ألا يمكن الاعتراض على مثل هذه الفكرة؟
قد تبدو إذن فكرة ربط العدالة بتطبيق القانون فكرة تثير
التحمس، لكن ماذا لو أن هذا القانون كان ظالما؟ هل سيكون تطبيقه مصدرا للعدالة؟ و
ماذا لو كان القانون يطبق و لكن ليس على الجميع؟ و ماذا لو كان من وضع طاغية من
الطغاة؟ إنها أسئلة مشروعة تجعلنا نعيد النظر في مسألة علاقة العدالة بتطبيق
القانون. إن تطبيق القانون إذن لا يضمن تحقيق العدالة بتاتا، فعلى سبيل المثال توجد دول يحكمها طغاة يضعون قوانين
تناسب أحلامهم و طموحاتهم الشخصية و يسهرون على تطبيقها، لكنها لا يمكن أبدا أن
تضمن العدالة. لنأخذ مثلا قانون الحصانة الذي يتمتع به وزراء أو برلمانيون أو
دبلوماسيون... إنه قانون يحمي هؤلاء و يجعلهم فوق المحاسبة، و هذا ليس عدلا. و
الأمر نفسه بالنسبة للقانون أو العرف الذي يجيز تزويج فتيات في عمر ثمان أو تسع
سنوات {حالة اليمن}، إنه قانون ظالم و لا يمكن أن تترتب عنه أية عدالة. هذه
الأمثلة و غيرها كثير يظهر بجلاء أن تطبيق القانون لا يكون دوما مؤديا إلى
العدالة. و لعل هذا ما دفع شيشرون إلى
القول بأن فكرة ربط العدالة بالقانون فكرة عبثية، متسائلا: ماذا حتى قوانين
الطغاة؟ لقد وضع هتلر قوانين و مثله فعل موسوليني و صدام و عبد الناصر... لكنها
كانت قوانين استبدادية لا تقود إلى العدالة. لذلك ربط
شيشرون العدالة بالطبيعة الخيرة و العقل القويم و ليس بالقوانين،
فالعدالة لا تتحقق بنظره إلا بالتصرف وفق مبادئ المحبة و الاحترام و التضحية
كمبادئ متأصلة في الطبيعة البشرية.
من جهة أخرى يمكن القول بأن العدالة ليست فقط تطبيقا
للقانون و إنما تطبيقه بمساواة بين الجميع،
لأن تطبيقه على فئة دون أخرى، أو من خلال اللامساواة يمكن أن ينتج عنه الظلم و ليس
العدالة، و لعل هذا ما ذهب إليه ألان عندما ربط العدالة بالمساواة و دون الأخذ
بعين الاعتبار للفروقات الموجودة على مستوى السن او الجنس أو المكانة الاجتماعية.
يقول ألان في هذا السياق : " والقوانين العادلة
هي التي يكون الناس أمامها سواسية، نساءا كانوا أم رجالا أو أطفالا أو مرضى أو
جهالا. أما أولئك الذين يقولون إن اللامساواة من طبيعة الأشياء، فهم يقولون قولا
بئيسا" .
لكن
ألا يمكن أن يكون في المساواة بين الناس شكل من أشكال الظلم و غياب العدالة؟ إن
الناس مختلفون طبيعيا و اجتماعيا...: يوجد الرجل و المرأة، الغني و الفقير،
المجتهد و المتكاسل... و بالتالي ليس من العدل التعامل معهم جميعا بشكل متساو. إن
العدالة وفق هذا المنطق تتحقق من خلال اللامساواة أحيانا، و هنا يمكن أن نستحضر
نظرية العدالة كإنصاف مثلما صاغها جون راولز الذي يعتقد أن الإنصاف يتطلب وجود
مساواة في الحقوق و الواجبات بين جميع الأشخاص كمل يتطلب الاعتراف باللامساواة على
مستوى الواقع : على مستوى الملكية أو السلطة أو غير ذلك من الأمور المرتبطة بهبة
طبيعية أو قدرة سمحت بها الظروف شريطة أن يستفيد غير المحظوظين من تلك الأمور من
خلال شراكة و تعاون اجتماعي يضمن الرخاء للجميع.
نستطيع
في النهاية أن نخلص إلى أن العدالة تربطها بالضرورة علاقة بالقانون، و بالتالي
يتطلب تحقيقها تطبيقا للقانون شريطة أن يكون هذا القانون في خدمة مصلحة المواطن و
يصون كرامته و أن يكون مبنيا على أسس أخلاقية حتى يحترمه هؤلاء المواطنون.. و
ينبغي أن يكون هنالك فصل بين السلط و استقلال للقضاء ضمانا لتطبيق القانون على
الجميع، خصوصا و أنه يوجد نموذج دولة الحق و القانون التي تحقق العدالة من خلال
تطبيق القانون.
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية