عودة

بقلم يوسف عشي

بين فروع النخيل، وهبات اللفح الحميم، هناك.. حيث لا ظلال ،لا غثاء، ولا صياح طفل رضيع.. هناك.. حيث القيض و الحر الشديد.. بحر الرمال يمتد، وصرير الرياح  يشتد..هناك.. ظهر فجأة، ولربما لم تكن فجأة..والأمر سيان..

كان ملثما وبين ثنايا عمامته الفطحاء تنساب حبيبات الرمل في سلاسة وكأن في انسيابها ما يحيل إلى خرير مياه طرف غدير..لكنها لا تكاد تلامس الجبين حتى تتلاشى في هدوء تاركة محلها حروف وجه حرثته الخطوط ، وكسته الشمس بلون غروبها الدائم..لكن تلك الحبيبات لا تلبث أن تظهر بين زغيبات تلك اللحية الشعتاء الطويلة..ولم تكن تلك العصا لتجد مبررا لوجودها لولا انحناء ذلك الظهر المقوس.. كانت العمامة أول ما ظهر وكأنها تنبت من بين الكثبان نبتا.. وبصمود الأبطال بدا وكأن ذلك الجسد الهرم يصرخ في وجه الريح.. يصرخ في وجه الحر..يصرخ في وجه الأرض.. يصرخ و يصرخ و يصرخ .. وكأن صوت صراخه يجلجل بين ثنايا ربوع وأرجاء تلك البيداء القاسية.. يصرخ وكأنه يقول :" أنا صامد في وجهك أيتها الصحاري ، أنا سابر لغورك أيتها الفيافي..أنا قاهرك أيتها البراري.." كانت تلك العبارات وغيرها كثير، تتنازع أهواء نفس ذاك القادم البعيد .. لكن صيحة حقيقية انطلقت هذه المرة.. كان الصوت قادما من بين جذوع أشجار النخيل.. كان صوت صبية.. فهي لم تكد تلمح داك القادم حتى أطلقت تلك الصيحة .. كانت الصيحة تقول:" وا عماه.. وا عماه.." وكانت كافية ليهب الجميع واقفين ، وأعين الترقب تكاد تنطق لتقول:" هل هو فعلا.. هل نجح؟.. هل كان صادقا؟..هل ..وهل..وهل؟.." لكن الكل أصبح متأكدا.. وصار الأمر نافذا.. ففي أعلى التل الرملي كان العجوز يحث الخطا متوكئا على عصاه بيمينه، ولكنه  و-هذا هو الأهم- كان يرفع قربة الماء الصغيرة بيسراه عاليا.. ولم يكن الأمر في حاجة إلى كثير من الذكاء ليعلم الجميع أنه قد عاد .. عاد ظافرا .. ولم يكن مستحيلا ما أبداه.. نعم لقد عاد من حيث لم يدرك أحد أنه سيعود.




تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس