تعاطيتم ثوب العقوق ...


تعاطيتم ثوب العقوق ...


بقلم : محمد ناصر الدين لحمادي



يحدثنا ابن عبد البر في كتابه الماتع ‘‘بهجة المجالس‘‘ (ج2، ص772) عن أبي العلاء محمد الوكيعي (ت300هـ) أنه قال: " ما سمعت بكار بن قتيبة القاضي قط ينشد بيت شعر إلا مرة، كنت عنده واختصم إليه رجل وابنه، فكان من كل واحد منهما إلى صاحبه ما لم يحمد بكار، فالتفت إليهما وأنا أسمع، فقال:
تعاطيتما ثوب العقوق كلاكما     أب غير بَر وابنه غير واصل
إنه عقوق متبادل بين الابن وأبيه، وليس ذلك العقوق المألوف الذي ربينا على النفور والتعوذ منه، وسؤال الله التوفيق لضده. والعقوق في دلالته اللغوية يمتح من معين القطع والعصيان، والاستخفاف وترك الإحسان، ويقال للماء إنه عق إذا اشتدت مرارته...
وداء العقوق قديم، فقد كانت العرب تقول: " العقوق ثكل من لم يثكل"، وفي كتب الأدب أخبار عن شعراء أخذوا من العقوق بنصيب قليل أو كثير، منهم الحطيئة وجرير وعلي بن بسام ومنازل بن فرعان... وقد خلدوا تلك المثلبة القبيحة والسبة الشنيعة في أشعارهم شاهدة عليهم.
وثمة عقوق الآباء لأبنائهم، ومن المشهور قول سيدنا عمر لأب أساء تربية ابنه فساء خلقه: "عققته صغيرا فعقك كبيرا"، وهذا عقوق إهمال الولد والتخلي عن تعاهده بالتقويم والتثقيف، والانشغال عما يصلح دينه ودنياه، مما يجعله عرضة لرذل الأخلاق وسيئها، تتقاذفه رياح الأهواء إلى حيث ما لا تحمد عقباه، وقبيح من الأب أن يكون هذا حاله، إذ الأولاد أمانة وأي أمانة، ومن حمل أمانة فإنه يحاسب عليها حفظها أم ضيعها.
وأبشع من هذا أن يصير الأب عدوا لولده ذئبا عليه... لقد صرنا نسمع ونقرأ عن آباء ينتهكون أعراض أبنائهم، وينالون منهم شهوة ملعونة، تركوا ما أحل الله لهم من أزواجهم، وأقبلوا على فاحشة قوم لوط يأتون أولادهم فلذات أكبادهم، وبناتهم المؤنسات الغاليات..أسفي على فتية صغار كالسحر الحلال والربيع الضاحك، والظل وقت الهاجرة، والفرج ساعة اليأس...
وبعض الآباء لم يكفه أن يتجاسر على ابنه، بل يقتله أيضا إذا تمنع عليه وأبى الخضوع لشهوة أقل ما يقال عنها إنها أخس وأحط من الحيوانية، والحيوان البهيم مظلوم إذا ما قورن بهذه الفئة من البشر. ومنذ مدة ليست بالقصيرة، تناقلت الصحف خبر رجل مقعد احترف التسول بالكتاب العزيز في المقابر، كان يبيح بناته متعة سهلة المنال لندمائه من السكارى، وأمثال هذا الخبر صار كثيرا متداولا...
كيف يكون إحساس أب وهو ينظر إلى ابنه، الذي فرح بقدومه إلى دنيا الناس وأحسن إليه وأنفق عليه، وقد هتك عرضه جار أو معلم أو تاجر، سيشعر وكأن سكينا جال قي أحشائه، وكل من في قلبه ذرة من إنسانية سيتألم ولا شك... فكيف إذا كان المعتدي أبا،  وهو الذي من واجبه أن يحمي ولده ويرعاه، فإذا به يتخلى عن ذلك، بل ينظر إلى ابنه أو ابنته نظرة مريبة، سرعان ما تتحول إلى منكر عظيم...
إن الله لم يوص الآباء ببر أبنائهم، لأن حب الولد مركوز في النفس متأصل في الطبع، حبهم حب للنفس، فهم حشاشة الفؤاد وعصارة القلب... ولكن فئة من الآباء ترى في طفولة أبنائها شهوة تختلس ووطرا يقضى. الولد الحبيب بعض من النفس، فكيف يعتدي امرؤ على نفسه؟ ما من شك في أن أبا يغتصب ابنه أو ابنته مظلم القلب يسلك دروبا من الضلال يكتنفها ظلام كثيف من الشهوة... ولو ترك هذا الأب ابنه جائعا حافيا عاريا في الشارع يتكفف الناس يسألهم مطعمه وملبسه لكان خيرا وأفضل من أن يطعمه ويكسوه لقاء انتهاك عرضه واغتصاب طفولته.
وفي مقابل عقوق الآباء أبناءهم نجد عقوق الأبناء آباءهم، وبعدما كنا نسمع عن عقوق الغلظة والسب والهجر، صرنا إلى ما هو أسوأ، فلقد حدثتنا الأخبار عن أولاد عققة  فجرة غير بررة، يضربون أمهاتهم وآباءهم ضربا مبرحا، وبعضهم "يجتهد" أكثر فيزهق أرواحهم بدعوى الانفعال أو تأثير الخمر أم الخبائث... ولقد كان أسلافنا يضربون أروع الأمثلة وأجمل النماذج في بر الآباء ومعاملتهم بالحسنى، فقد كان علي بن الحسين لا يؤاكل أمه مخافة أن يسبقها إلى طعام تشتهيه، وكان لعمر بن ذر ابن بار لا يمشي أمامه إلا ليلا خوفا عليه...إن مثل هذه الأخبار إذا ما قورنت بأفعال عققة هذا الزمن الرديء عدت ضربا من ضروب المثاليات التي تستعصي على التصديق.
إننا أمام عقوق متبادل، آباء يعقون أبناءهم ثمرة القلب وبؤبؤ العين بمطاهر كثيرة من العقوق، أفظعها الاغتصاب والقتل، وأبناء يعقون آباءهم، بسوء القول والفعل، دون مراعاة ما يجب لهم من حق البر والحب والإحسان، جزاء وفاقا لما بذلوه  من عطف وحنو ورعاية... وإن العقوق بنوعيه لدليل معبر أيما تعبير عما يعانيه مجتمعنا العربي المسلم من تفكك وتصدع ينذر بكل شر مستطير... فالبدار البدار إلى تدارك  ما يمكن تداركه وإصلاحه.. ومواجهة هذه الظواهر المشينة بكل ما تستحق من حزم وعزم، وإن الردع وحده غير كاف لمجابهة تلك الأدواء، ولا شاف لهذه الأمراض التي تفتك بالمجتمع... وإن التوعية الجادة والدؤوب كفيلة – إن شاء الله – بإصلاح ما فسد قبل فوات الأوان ولات حين مندم، وليعلم الآباء أن من واجبهم إنشاء مواطنين صالحين يبنون مجتمعهم بساعذ الجد، ويخدمون وطنهم بدافع الإخلاص، وحينها لن يكونوا – بإذن الله - إلا بررة يكرمون آباءهم ويبرونهم ويأخذون عنهم المشعل  لتنشئة أبنائهم على الخير والهدى والبر، لعلنا نرسو على بر الأمان.



تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس