الذات واللغة


  

بقلم: مصطفى بدوح
     

 ما الذي يهمنا في كل مرة نثير فيها إشكالية الفهم، الاستيعاب، التلاؤم، التكيف، هل يكمن المشكل في اللغة التي يتم بها تبليغ الخطاب للآخر في فهم العالم وما يحيط به أم في الذات المتكلمة؟ وأيهما أسبق عن الآخر، هل اللغة أم الذات؟. إننا أمام علاقة تجمع بين كل من الأقطاب التالية: (الذات - اللغة – العالم)، حيث إن اللغة هنا لها دور الوسيط في كل الحالات، وكيفما كان الحال، فإنها تبقى معبر كل مكبوتات الذات تجاه العالم الخارجي وما يكتنفه من جهة أولى، وحيال ما يغمرها من جهة ثانية. بذلك يتضح لنا أن اللغة ما هي إلا وسيلة لتبليغ المضمون، فاللغة نتاج الذات المتكلمة، اللغة وقد بلغت الأوج الذي يعتبر فيه امتلاكها أمرا شائك التحقق. لذا، هل اللغة هي التي ستخضع لمنطق الذات أم الذات هي الأخرى عليها أن تطيع اللغة في كل تجلياتها المحتملة؟
      عندما نقول أن الذات تستهدف اللغة، فإننا نكون أمام تعزيز وتضخيم للذات، وبه نتخلى عن النقد الذاتي، نتحدث عن تضخم الذات، الذات وقد اكتملت وحققت استقلاليتها. وهنا نكون قد حرقنا مراحل الشخصية الوظيفية، على حساب الشخصية القاعدية باللغة المفهومية لـ"رالف لينتون"، لنقول بالوجود في الذات لأجل الذات  بتعبير "فريدريك هيغل". أما عندما نجبر الذات بأن تطيع اللغة، معناه يجب عليها أن تبحث عن سبل تحقيق ماهيتها، مشروعها، إنها حقا تسائل الوجود، وكأنه كتاب يجب تصفحه والتعلم على لغته المفهومية للعالم، بدليل أن اللغة مأوى الوجود بتعبير "مارتن هايدغر".
       كما أن فاعلية الذات، تكمن في اتخاذها من اللغة مفتاحا لاستجلاء ألغاز العالم، وفهم الآخر، واستيعاب كل الموجودات، لتكون اللغة حينها هي بيت تكتنف كل حقائق هذا الوجود الرحب. في حين إذا أرجعنا المشكل بصفة عامة إلى اللغة، وإرجاع كل خلل لها، يجبرنا على اختيار النوعية اللغوية لإصلاحه، معناه، وبطريقة مضمرة، أن الذات غير مستعدة لأن تتكيف مع مستجدات العصر، وهذا يسقطنا بشكل أو بآخر في إزالة العناء عنها، مع إبقائها راكدة على أحوالها لا تتغير، إلا أنها ستبقى في قصورها، وهذا ما سنطلق عليه بـ "القصور الذاتي". ليصدق القول بتعبير هيراقليطس" الشيء الذي لا يتغير يموت". فهل نسعى إلى تغيير الذات أم إلى اختيار نوعية اللغة؟
      إن اللغة، لا يمكن امتلاكها، فهي متغيرة، تحمل رموزا وتمثلات لثقافة ما، لها قيمتها في إطار إبستيميتها الخاصة بها، لغة تتطور عبر الزمان والمكان. فعندما نريد التعبير عن فكرة معينة، يستحيل علينا التفكير في الروابط والكلمات التي سنقدمها بها، فالتفكير ليس هو الأمر نفسه، أثناء التلفظ بما فكرنا فيه، فالروابط والكلمات التي ستناسب المفكر فيه، لا نجدها إلا وكنّا على مشارف إخراج القول من القوة إلى الفعل جهرا، إن اللغة تتطور حقا بتعبير "نعوم تشومسكي".
      لذلك عندما نتحدث عن الذات في علاقتها بالعالم، لا يتحقق الفعل بشكل مباشر، وإنما تكون وسيلتنا لذلك هي اللغة، فهي مفتاح التعرف على موجوداته، لتكون الذات في تجربة تحاكي فيها المفاهيم الوجودية الفصيحة، باعتبارها تجربة تبعث السمو في الذات، أثناء بحثها عن إمكانات وجودها في عوالم أخرى من اللغة، هكذا يتم الابداع، إنه وجود من طراز خاص. كما أنها تربية ذاتية تتم بالعزف على أوتار اللغة، لتبوح بحقيقة مكنونها الوجودي.
     لذا، عندما نقول، أن الذات تجد ماهيتها في لغة مستقيمة يمكن أن تسدي لها اعترافا بها مبدئيا، قيميا، أخلاقيا..، فإننا نريد أن نحدث إصلاحا، ولهذا فالأجدر أن نبدأ بالذات، وإيلاء أهمية لها، فكل تقدم نبتغيه، يكون رهينا بالذات أولا، إنه "مبدأ الذاتية"، وحتى إن عدنا إلى بوادر الحداثة فسنجد أن "مبدأ الذاتية" من بين السمات الأساسية للتشييد مجتمعا حداثيا ومنفتحا، تسوده قيم التسامح وعلى رأسها الحرية والديمقراطية، هذا القول الذي يهدف في صميمه إلى عقلنة الحياة، وتنظيمها، عقل راقي يصبو إلى تحقيق الأفضل من الأفضل. أين يكمن الخلل، إذن؟
     إننا إذا توقفنا برهة عند سؤال ما الخلل؟ نكون قد وضعنا منهجية معقلنة في طريقنا إلى الإصلاح، كما أنه وبطريقة مضمرة نترك للذات بأن تجد لنفسها مكامن خللها، حيث إنه بحث يستغرق وقتا فيه من الأرجاء، والتسويف ما يكفي. لكن الأمر ليس كما نعتقد، لأنّ اللغة غير مجبرة ومستعدة لأن تفهم الذات، وإنما على الذات أن تفهم اللغة، وأن تحاكيها في كل تطوراتها، سواء منها التطورات المفهومية للغة الصريحة، ذات الدلالات منطقية، مستمرة باستمرار الكتابة اللغوية الإبداعية المرجأة.
      إن ما يجدر الانتباه إليه هنا، هو أن اللغة لا تبقى على حالها، فهي تتطور وتأخذ مسارات مختلفة باختلاف الزمكان، لذلك عندما ننادي باللغة الصريحة، فنحن نؤكد ضمنيا على أهمية المعنى الصريح للقول في ارتباط بقائله، فالمداخل إلى اللغة متعددة، وامتلاكها مسألة لن تنتهي، لأنها مستمرة باستمرار الزمان وتلاحق الأجيال، وكذا مع مستجدات العصر. فما يمكن توجيهه والوقوف إلى جانبه، هي الذات، بتوجيهها توجيها أحق، وبتحقق ذلك، لن نجد عائقا في فهم واستيعاب أي مضمون لغوي كان، طال الزمان أو قصر.
       بهذا يكون الفهم ظاهرة ذاتية خاصة، وإن لم يكن كذلك، فلابد أنه – بوضوح- هو شأن عام موضوعي. فعندما يفسر "جوتلوب فريجه" على سبيل المثال، معنى جملة ما أو حسها على اعتبار أن الفكر الذي تعبر عنه، فإنه يصر على القول، أن هذا التفكير يكون شيئا ما موضوعيا وقابلا للتبادل الشخصي، بمعنى أنه يمكن "أولا" أن يكون الأشخاص المختلفين التفكير أو الفكر نفسه، فيما أنه لا يمكنك أن تأخذ الصورة الذهنية الموجودة لديّ، بمعنى أن الأشخاص المختلفين، في مقدورهم أن يفكروا وأن يصوغوا الفكر، ليس هذا فحسب، بل إنهم يستطيعون أن يفهم بعضهم صياغات بعض، فالأفكار تنقل وتبلغ، إذ الجنس البشري لديه مخزون مشترك من الأفكار التي تنتقل وتتحول من جيل لآخر.
       هذا، ويجب على المعنى والفهم أن يكونا من انتاج الذات، وليس من انتاج اللغة، فالذات هي التي تنتج المعاني وتؤسس للفهم الصحيح، أما اللغة ما هي إلا وسيلة لتبليغ الفكرة، فما على الذات إلا أن تكون صادقة وصريحة في قولها، وبذلك يكون للغة صدر رحب لكل أحاسيس الذات ومعانيها، كيفما كان نوع اللغة التي يجب أن نقبل عليها، من ثمة، فالمعنى هو نتاج إحساس لا غير. فإن كانت الذات على غير استعداد لفهم دواعي وجودها، فإنها ستنتج لنا بالفعل لغة ركيكة، ولن تقبل إلا ما كان قرينا لها وفي مستوى ملكة فهمها، لأنها لن تدرك إلا شبيهها.
        من ثمة، على المعنى أن يكون - حسب فريجه- علنيا، حيث نجده يرفض أي مفهوم للمعنى أو الفهم بدلالة لغة الحضور أو وجود خبرة داخلية، وأن قيمة المعنى ليس لديها مكان آخر تذهب إليه، فيما عدا أن تمضي تجاه وجهة النظر التي مؤداها، أن الفهم والمعنى يعرضان بالكامل في الاستخدام العلني للتعبيرات المعنية.
         حصيلة القول، إن الذات هي التي يجب أن تتغير إلى الأحسن، فالخلل كامن فيها وليس في اللغة على الإطلاق، فالمعنى والفهم قادران على أن ينتجا اللغة ويطوراها، وهذا لا يتأتى إلا بمراعاة الذات، الآخر، بتوفير كل الشروط التي تسمح للفرد من استيعابه وتلاؤمه وتكيفه مع وضعه، لاستجلاء علاقته بذاته وباللغة والعالم والآخر، هكذا، يمكن للواجب أن يكون في ذاته ولأجله، لا لشيء آخر، غير أنه يقوم على اعتبار الشخص غاية في ذاته وقيمة أخلاقية تستدعي الاحترام بتعبير "إيمانويل كانط".

تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس