شرود..

بقلم : يوسف عشي


شرود..


          هناك في الأفق البعيد تتناثر سحيبات ثلجية كأنها صفيحات تكاد تطفو على سطح يم مديد ، و كأنما زبد يحتضر بجفاء على حواف السماء..طير وحيد يسبح في لج ذاك البحر السماوي.. ونسيم قد يبدو كإعصار يصعق تلك الريشة و هي لا تكاد تلامس الأغصان حتى تنطلق في استسلام للتيار نحو رحلة المجهول في سلاسة و طاعة تامة.. هكذا بدا المنظر .. أو ربما هذا ما خيل له أنه يراه..
كان شاردا.. تائها .. مسهما.. لوهلة بدا و كأن الزمن قد توقف..أو ربما أحس به هو يتوقف..ثم.."اسماعيل، اسماعيل.. أين شردت ، يبدو أن المكان قد أعادك الى الماضي!.." لم يكن هناك من مثير أكبر من كلمة الماضي.. و ها هو اسماعيل يلتفت ببطء وكأنه يخشى أن تفوته أشد اللحظات إثارة.. وكأنه ينتشل نفسه من فراش دافئ في يوم عبيس ممطر..يلتفت.. ليحذق برهة .. شعر رمادي يميل الى البياض ينسدل في ارتخاء وحياء .. يهتز بفعل النسمات.. وكأن مشهد الريشة يتكرر.. غيوم أطبقت على عينين واسعتين تشعان بلون بني .. خطوط رسمها الزمن وأبدع في صفها، لتتكاثف وتصنع وقارا يصعب الإنزياح عنه .. ابتسامة شمطاء لم يفلح الزمن في خفق بريقها  ولا النيل من عذوبتها.. وجسد متهالك منحن وكأن في تحدبه شموخ الجبال .. حذق اسماعيل برهة ثم أطلق العنان لتنهيدة كبيرة..فانطلقت تلك العبارة ..انطلقت وكأنما انتظرت عمرا كاملا لتنبلج.. خرجت من بين شفتين غطاهما ستار رمادي و كأنه ألياف معدن لا يعرف الصدأ.. تمخضت بين الشفتين تاركة وجها كهلا، و حاجبين كثين يرخيان عناكبهما فوق محجرين غائرين.. كأن بريق لؤلؤ يتوارى خلف شعاب المرجان.. انبجست العبارة وهي تترك أخاديد نحثها الزمن معوجة لتصنع ملامح كهل وقور.. كانت العبارة تقول:" إيه.. حقاً.. لقد شخنا يا فاطمة .." و فاطمة تربت على كتف الكهل وتقول:"أجل.. ولكنك لم تكن لتقول هذا وأنت تراني لأول مرة في حياتك .. لم تكن لتقول هذا وأنت ترفع عينيك لترى ظهري يحجب عنك هذا المنظر الذي يستبسل في أخذك مني حتى بعد مرور عشرين سنة .." ويعود الكهل ليطرق هنيهة، ثم يستدير بجسده كاملا.. و يستطرد.." لم يكن ليحرمني مصاحبة البدر..فكيف به الآن أن يفعل وأنا أجالس القمر ذاته؟!.." تبسمت العجوز ..فتهلل الكهل .. وبعد برهة انطلقت ضحكاتهما الشائخة لتجلجل في المكان..

تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس