الواقعية النقدية الامريكية والمنهج الطبيعي

الواقعية النقدية الامريكية والمنهج الطبيعي
د علي محمد اليوسف 
سانتيانا والفلسفة النقدية
الواقعية النقدية والمنهج الطبيعي
عرض وتحليل المنهج الطبيعي
سانتيانا والطبيعة
الفكر ومضمونه في الفلسفة النقدية

سانتيانا والفلسفة النقدية
جورج سانتيانا (1863- 1952) فيلسوف أمريكي من أصول إسبانية، اتسمت آراؤه الفلسفية النقدية بالاستغلاق العميق في تعبيره عن المعرفة والعقل والطبيعة والانسان والجوهر، ويشوب تفلسفه تعابير متطرفة وغريبة من حيث الغموض الذي يكتنفها كقوله (المعرفة هي وهم اليقين الحيواني). (1) وقوله أيضا: بأي معنى أنا موجود؟ الوجود لا ينتمي إلى مجرد معطى، وأنا لست معطى لذاتي.
أنتظم سانتيانا مع فلاسفة النقدية سيلارز، رورتي، وسيرل، وآخرين عديدين في نقد آراء وليم جيمس في الذرائعية معتبرين (الاشياء ليست كما تقدمها التجارب لنا) (2) وهو الطعن المباشر العميق في النيل من فلسفة وليم جيمس تحديدا أكثر منها استهداف بيرس وديوي، في تأكيد فلاسفة النقدية أن حقيقة الاشياء ليس نتيجة وثمرة التجربة، فالتجربة غير كافية لاستنتاج أهمية وصلاحية وصواب الافكار التطبيقية كما تذهب له ذرائعية وليم جيمس..
وفعلا فإن الأشياء في العالم الخارجي هي قطعا غير الأشياء المعبّر عنها بالتمّثلات الذهنية وتصورات العقل واختبارها في مصانع التجريب التطبيقي.. ودائما ما تكون التجارب وغيرها من وسائل التعبير عن الاشياء في وجودها المادي عاجزة عن أيفاء تلك الاشياء حقيقتها الماهوية، أن دلالة الاشياء في واقعيتها الحسّية قبل الادراك المعرفي لها هي أكثر غنى وحقيقية وامتلاءا منها بعد تناولها في كل وسائل المعرفة الانسانية ومنها التجربة العلمية، ومثال ذلك هو الطبيعة في كل ما تحويه من مكونات في نسقها التنظيمي المعجز الذي تعجز عنه الوسائل المعرفية ليس في تقليد ذلك النظام وحسب وإنما في العجز عن مجاراته في الواقع الطبيعي للأشياء.. وكما يقول سانتيانا عن هذه الحقيقة (أن يكون العقل عاجزا عن توجيه الطبيعة، فذلك نابع من تطور العقل بالذات كظاهرة مضافة على الطبيعة).
كما وصف فلاسفة النقدية (الإدراك بأنه خلاص وليس قبضة) (3)، أي أنهم أرادوا أن يكون الإدراك الفكري التمثلي للأشياء، أي معرفة مضمونها كموضوع هي رفع حمولة وتحرير الإدراك من أسر وقبضة موضوعه.. والإدراك المعرفي لموضوعه ليس اكتشافا فكريا – عقليا (قبضة) متحصّلة بل هو تحرير للفكر وتحرير الموضوع من حمولته في سطوة وهيمنة الادراك العقلي..
وشكك فلاسفة الواقعية النقدية بأن تكون التمّثلات تشي عن معرفة جوهر المدرك (الموضوع) في مقولتهم (كيف يكون الموضوع المعروف جوهرا لشيء غير معروف؟). (4) وفي هذا التشكيك نستشّف الاقرار الواضح أن معرفة موضوع ما لا يعني إدراك جوهره الحقيقي ولا يصح الاستدلال به في معرفة جواهر مواضيع أخرى غيره... الموضوع المعروف لا يكون جوهرا لذاته ولا جوهرا لشيء غير معروف، بعبارة ثانية الإفصاحات المعرفية حول جوهر الموضوع ليست كافية أن تمنح الأشياء المواضيع جواهرها الاخرى غير المعروفة.
كما طرحت الفلسفة النقدية جملة من التساؤلات التي أرادت من خلالها وضع الفلسفة الذرائعية في زاوية حرجة مثل (لا يوجد أطلاقا حقيقة عقلية لشيء بذاته، فالجوهر الموضوع هو الجوهر الكلي للموضوع ). (5)
وهذا تعبير فلسفي سليم من حيث أن حقيقة الوجود المادي لشيء أو أشياء لا تنقسم قسمة ابتذالية على ذاتها الى صفات ظاهرية كلية وعلاقات فيزيائية من جهة يمكن أدراكها بمعزل عما يمكن أن تحمله وتحويه من جواهر لا تدرك حسيا خفيّة مستترة خلف الصفات الكليّة للأشياء من جهة أخرى..
وجوهر الشيء لا يدرك حسّيا مباشرا كما لا يدرك كموضوع غير مادي (خياليا) من الذاكرة في تمّثلات الذهن له.. ولا يعني عدم الادراك المباشر له الجزم القاطع أن الجواهر غير موجودة في حال أدراكنا كليّات الاشياء في صفاتها الظاهرة.. فقد تكون معرفة الكليات هي معرفة استبطانية حدسية في معرفة جوهر الشيء المدرك في كليته، وقد يكون الأمر ليس كذلك فإدراك الكليات كاف لمعرفتها من دون جواهر تختزنها في ذاتها، أذ لا تكون الكليّات في غالبية الاشياء بمعنى آو آخر هي أدراك عرضي في معرفة جواهرها.. وهو ما تذهب له الفلسفات التي تنكر وجود الجواهر فيما يسمى الشيء بذاته وينكرون وجود شيء في ذاته، وأن معرفة الكليّات يغني عن لا جدوى البحث عن الجوهر ومعرفة الكليّات المادية حسّيا، ومعرفة كليات الاشياء المدركة هو كاف لمعرفة حقيقة الشيء وهذا ما تأخذ به الفلسفات المادية منها المادية الديالكتيكية الماركسية..
عبارة الفلسفة النقدية المار ذكرها تنكر وجود حقيقة عقلية لشيء في ذاته أطلاقا كما مرّ بنا، ولا يصبح من السهل معنا الجزم بصحة هذه المقولة، كونها مشروطة بتحفظ أن عدم أمكانية وقدرات العقل الوصول الى الاشياء بذاتها في جواهرها ليس كافيا أن يمنحنا القطع الجازم بعدم وجودها وعدم حاجة التفتيش عن أشياء لا يدركها العقل حسيا ظاهراتيا، فما لا يدركه العقل غير موجود هي مقولة مثالية تحتاج الى برهان وألا تكون سذاجة في التعبير لا معنى لها..
كما أن معرفة الكليات عند الفلاسفة النقديين تمثل تفويضا تعويضيا مقبولا في عجز العقل إمكانية فهم الاشياء بذاتها، لذا يكون معرفة الكليّات الصفاتية الفيزيائية التكوينية للأشياء هو معرفة الجواهر، وهي وجهة نظر لا ميتافيزيقية ولا مثالية بل تأخذ بها الفلسفات المادية كما كنا أشرنا له سابقا.. رغم أنها وجهة نظر تحمل علامة استفهامها معها بأن معرفة كليات الاشياء وعلاقاتها التكوينية الداخلية والخارجية منها لا يعني القطع الجازم بعدم وجود شيء يحمل جوهرا ماهويا الذي هو الشيء بذاته..
حين ننتقل الى سيلارز وهو من أقطاب الفلسفة النقدية نجده يعبّر عن هذه الاشكالية الفلسفية بفجاجة تلغي معنا المناقشة الجدية لها، يقول سيلارز (غير متاح لنا أمكانية بلوغ الجواهر الخاصة الخاضعة لأدراك الحواس) (6) غريبة أن يكون الجوهر موضوعا غير مدرك من الحواس ولا نقّر لا إمكانية أن يدرك الجوهر من العقل!! وهو لغز عصّي على العقل كما مر بنا؟؟ الجوهر ماهية ذاتية لا تدرك لا من الحواس ولا من العقل.
الجواهر ليست ماهيات يمكن أن تكون خاضعة لأدراك الحواس وألا لما كان هناك معنا سببا وجيها يقودنا التسليم بآراء فلاسفة لا يستهان بهم تأكيدهم أن الوجود بذاته هو ماهية وجوهر لا يمكن ولا بمستطاع العقل أدراكهما في وحدتهما المتداخلة، هذا على الاقل ما كان كانط دعا له وأيّده من بعده كلا من هيجل وماركس وهوسرل وهيدجر وسارتر ما ألجأهم جميعا أنكار شيء يتوجب معرفته أسمه الوجود (بذاته).. أن الوجود بذاته ليس عدما ولكنه ماهية جوهرية لا يدركها العقل والقول بعدم وجودها مسألة لم تستوف الحسم القاطع..
أن ما تدركه الحواس أحدى منظومات العقل الادراكية هو كليّات الاشياء الخارجية في تمظهراتها الحسّية فقط، ولو شئنا التوضيح أكثر في مراجعة مقولة سيلارز لوجدنا الامر معكوسا عما قال به، فإمكانية معرفة الوصول لإدركات كليّات الأشياء التي هي الصفات الفيزيائية والعلاقات الخارجية تكون أكثر جدوى متاحة لنا وميّسرة من البحث عن جواهر لا تخضع لأدراك الحواس, فجواهر الاشياء الخاصة التي هي ماهيات مدّخرة في الاشياء بذاتها التي لا يمكن أدراكها وبلوغها بالحواس،  هي ليست موضوعات يمكن إدراكها حسّيا كما في أدراك كليات الاشياء, فالجوهر ليس موضوعا ماديا تدركه الحواس ولا تدركه منظومات الادراك العقلية مثل الوعي والجهاز العصبي والذهن.. الجوهر هو ليس عدما لكنه حدس العقل الماثل في إمكانية وجوده وفي احتمال وعجز العقل عن إدراكه..
كما يطرح سيلارز مقولة فلسفية أخرى (أنه من حيث المبدأ يكون موضوع المعرفة – وفي آن واحد -  وجودا عقليا، ووجودا- خارج – العقل)(7) تعبير سيلارز هذا هو الوضع الطبيعي المقبول لموضوع المعرفة الذي يجب أن يكون واقعيا مستقلا في عالم الأشياء المادية كوجود قائم بذاته سواء أكان موضوعا ماديا أو مجموعة علاقات فيزيائية تمثل صفاته الخارجية المدركة، وفي نفس الوقت يكون موضوع المعرفة هو وجود خارج العقل، فالعقل بهذا المعنى لا يدرك سوى المواضيع المنفصلة عنه، حتى إدراكات العقل لمواضيع الخيال التي مصدرها الذاكرة أنما هي مواضيع منفصلة عن العقل وليست جوهرا متداخلا عضويا معه في أدراكه لها ومعرفتها، والاختلاف في عبارة سيلارز هو اختلاف في لغة التعبير الفلسفي وليس اختلاف في (المعنى)... قوله أن موضوع المعرفة وجود عقلي في نفس وقت أنه وجود خارج العقل.. فهو وجود مادي مستقل من جهة، وموضوعا لإدراك العقل من جهة اخرى وفي كلتا الحالتين يبقى موضوع المعرفة قائما في انفصاله عن العقل.. موضوع المعرفة هو مادة تفكير العقل به لكنه لا يمّثل كل مقولات العقل..
ولا أهمية لموضوع المعرفة في وجوده الانطولوجي مالم يكن مدركا عقليا داخل تمّثلات العقل، ومواضيع المعرفة هي وجودات مادية أو علائقية خارج العقل منفصلة عنه، وألا كانت في موضع استحالة إدراكية.. وهذا لا يتماشى مع رأي بعض الفلاسفة اعتبارهم الذات والموضوع شيء واحد لا يمكن الفصل بينهما..  فوعي الذات هو في المغايرة الادراكية لموضوعه وليس في التطابق التام معه.
كما أن موضوع المعرفة في الوقت الذي يكون فيه ماديا مستقلا أو خياليا مستمدا من الذاكرة فهو خارج العقل في كل الحالات وألا استحال إدراكه عقليا، وليس موضوع المعرفة الخيالي جزءا عضويا من تكوينات العقل بل هو موضوع معرفي للعقل ومادة تفكيره.. خلافا مع حال الاحساسات أو الوعي فهذه تكوينات لمنظومة عقلية عضوية وظيفية في تداخلها مع العقل وليست مواضيع أدراكات عقلية له.
وبهذه الضرورة الإدراكية المتعالقة يكون موضوع المعرفة عقليا على الدوام. وموضوعات المعرفة لا يدركها العقل الا باشتراط أن يكون أدراكه لها قصديا بمعنى وهدف يراد بلوغه والوصول إليه، وألا كانت موضوعات المعرفة لا أهمية حقيقية لها، فمواضيع المعرفة هي وجود عقلي قبل وجودها الذاتي الحسّي المستقل لذا فارتباطها بالعقل لا يكون مسوّغا ألا بإدراكية قصدية معرفية هادفة.
الواقعية النقدية والمنهج الطبيعي
ارتبط المذهب الطبيعي في الفلسفة الأمريكية ب (سانتيانا) الذي (هو نمط الفلسفة التي لا تقبل بأية حقيقة مطلقة سوى الطبيعة فقط، وتعتبر الطبيعة مبدأ كل وجود وكل معقولية وكل قيمة) (7) كما ويرفض المنهج الطبيعي الثنائيات مثل: عقل – طبيعة/ روح – مادة، معتبرين الثنائيات عقلية وليست فعلية، ذلك أنه (يطبعن) الانسان العقلاني، ويروحن المادة، والعقل لا يناقض الطبيعة، فالعقل موجود في الطبيعة) (8)
عرض وتحليل المنهج الطبيعي
 بضوء العبارات السابقة تكون كل ثنائيات الوجود هي وحدة إدراكية واحدة ولا فرق بين أحد قطبيها في نفي الاخر بل في التعايش معه والاقتران الضروري به، ولا معنى لأحدهما بغياب حضور الآخر، الثنائية بعد أدراك أحد قطبيها يكون حضور الغائب الثاني معياريا تضادا، ولا تتّعين الثنائية الا بعد أمكانية تعيّنها وجودا مدركا كموضوع أو على الاقل مقاربة حضورها كحدس قابل التحقق في الادراك...
والطبيعة لا يمكنها أن (تطبعن) الانسان العقلاني من دون إرادته وقرار مسّبق منه أنه جزء من الطبيعة متمايز عنها ويعلو عليها ولكنها لا تعلو عليه ولا تتبعه، الطبيعة ليست تابعا للإنسان ألا بمقدار تبعيته هو لها.. والانسان لا يعقلن الطبيعة قبل طبعنتها له أولا.. أنسنة الطبيعة وعقلنتها لاحق على طبعنة الطبيعة للانسان.. الانسان وجد نفسه في الطبيعة مرضعته قبل تفكيره تطويع الطبيعة لحاجاته ورغائبه..
 وكل مكتسب يحققه الانسان العقلي مصدره الطبيعة يكون من صنع الانسان العقلي وليس من صنع الطبيعة، الطبيعة لا تصنع الانسان في وقت هو يحاول تصنيعها، كما أن الانسان العقلي لا يناقض الطبيعة لأنه بحاجة ماسّة لمعرفة حقيقتها وحل الغازها والاستفادة منها.. والعقل موجود في الطبيعة ليس بمعناه البيولوجي العضوي كجزء منها متداخل بها ومتمايز عنها.. والانسان العقلي موجود بالطبيعة في صورة تابع لفهم تنظيمها المعجز وليس دليلا من أجل أعادة تنظيمها المتقن بما لا يقوى الانسان مجاراته.
ولا يتساوى العقل الانساني والطبيعة من حيث أنهما معطيان متلازمان لا يفترقان، فالطبيعة وجود إلهامي ومعطى ميتافيزيقي لا يحتاج الى أثبات وجود من الانسان العقلي الذي تربطه بالطبيعة علاقة عضوية كسبب ونتيجة في تخارجهما المشترك.. والعقل معطى طبيعي للإنسان قبل أن يكون معطى تعالقي  بالطبيعة.
الطبيعة كيان مادي مقولة قارة لا تحتاج البرهنة على صدقيتها، الا أنها – أي الطبيعة – خارج الآلية المادية التي تحكم موجوداتها ومكوناتها، فالطبيعة نظام كلّي وليس نظاما تجزيئيا، على شكل قطوعات ومدركات لا ينتظمها نسق متكامل من الكلية الطبيعية في نظامها وقوانينها العامة، أنها بتعبير سانتيانا (الطبيعة هي المجموع الكلي لشروطها الخاصة) (9)، أي شروط خصائصها الذاتية في نظامها وفي قوانينها التي من غيرها لا تكون بمواصفاتها التي ندركها كحقيقة ثابتة..
مادية الطبيعة ليست حقيقة مكتسبة يمنحها الإنسان العقلي لها وإنما هي مادية كمعطى يحاكم الانسان وجوده المادي بضوئها وفي اقترانه بها، مادية الطبيعة معطى متعال على الطبيعة الميتافيزيقية ذاتها وكذلك على الانسان العقلي الميتافيزيقي، ولا يمكننا فهم الطبيعة على حقيقتها علميا فقط من حيث أن نظام الطبيعة المتماسك لا يخضع دوما لتجارب العلم قبل عجز العلم احتواء قوانين الطبيعة بكل مكوناتها الملغزة.. ومعرفة الطبيعة بمعنى أدراك حقيقتها فهما علميا لا يمكن تحديده في اكتشاف قوانينها العامة وإنما في محاولة معرفتها كوجود مادي غير عاقل يجعل من الانسان العقلي تابعا لها.. وما تدركه عقولنا من الطبيعة ليس أكثر مما تعطيه لنا مدركاتنا العقلية القاصرة عنها.. حدود معرفتنا الطبيعة هي حدود مدركاتنا القاصرة عن فهمها.. وهنا يكون عالمنا الحقيقي الذي نعيشه.
سانتيانا والطبيعة
يقول سانتيانا (كما هي الروح بالنسبة للجسد كذلك هو العقل بالنسبة للطبيعة، الذي هو كمالها الثاني.) (10)
كمال الطبيعة الاول هو بما اكتسبته الطبيعة ما ورائيا ميتافيزيقيا - روحيا من نظام وقوانين عامة، أي بتعبير ميتافيزيقي ديني (الله) هو الذي أكسبها هذا النظام العجيب الذي يقف أمامه العقل الانساني لا يقوى على التفكير في معرفة السبب ولا كيف ومتى.. والكمال الثاني هو الذي أكتسبه الانسان العقلي من الطبيعة ولم تكتسبه هي منه.. أن الطبيعة تفرض على العقل الانساني كمالها المنتظم بلا حدود لا يدركها العقل ولا قدرة الإحاطة والإلمام بها... ويعبّر سانتيانا عن هذا أن يكون العقل عاجزا عن توجيه الطبيعة فذلك نابع من تطور العقل بالذات كظاهرة مضافة على الطبيعة.
الطبيعة لم تكن يوما إفرازا بيولوجيا أو ولادة قيصرية تلدها الحياة التي هي ناتج الطبيعة ولم تكن الطبيعة ناتج الحياة، فالحياة والانسان هما توأم المولود قيصريا من الطبيعة الأم.. والطبيعة أشمل من الحياة في كل المقاييس فاذا ما كانت الحياة بالنسبة للإنسان فضاءا لا يحد فأن الطبيعة بالنسبة للإنسان والحياة فضاء لا يمكن أدراكه.. إلا إذا اعتبرنا الطبيعة كينونة مادية مخترقة ميتافيزيقيا بالصميم من قبل الحياة أي من الانسان...الحياة نظام مصنوع إنسانيا، والطبيعة نظام مصنوع ألهيا..
وفهمنا للحياة أنها فائض معنى في تداخلها مع الطبيعة ولا يمكنها مجاراتها ولا حتى التمرد عليها، فالطبيعة سر الحياة ولا وجود لحياة إنسانية لا تلوذ بالطبيعة كملجأ آمن لها... الطبيعة هي علة الحياة وفهمنا لها والتعايش الضروري معها هو لا يشكل أضافة للطبيعة بمقدار ما يشكل وجودا ما هويا للإنسان العقلي في ألأخذ منها على الدوام.... وعقلنة الانسان للطبيعة هو أضافة لها قبل أن تكون مكسبا انسانيا على حسابها..
الفكر ومضمونه في الفلسفة النقدية
يطرح فلاسفة الطبيعة ومنهم سانتيانا سؤالا على جانب من الاهمية والوجاهة (كيف يمكن للفكر أن يخلص من مضمونه؟) (11)..
الفكر هو حمولة مضمونه والوعي القصدي به، والفكر بلا مضمون هو وعي زائف غير متحقق، والفكر في حمولة مضمونه (الموضوع) هو إلزام العقل الاستجابة له في تناوله كموضوع... أن تحوّل المضمون الفكري الى تكوينات وتمّثلات علائقية إدراكية في الذهن يزيح عن كاهل الفكر حمولته ويجرده منها... لذا تكون مسؤولية الفكر تجاه موضوعه هي ألزام عقلي له يحرر الفكر من حمولته..
والسؤال هل يستطيع الفكر أن يمنح الأشياء ماهياتها أو جواهرها؟
الفكر في حقيقته طاريء على الماهية والجوهر من حيث أن الفكر وسيلة معرفية من وسائل العقل الادراكية، وتبقى حمولة الفكر لمضمونه حمولة وظيفية يراد إيصالها وإيداعها العقل، والفكر في تعالقه مع العقل داخل المنظومة الادراكية العقلية التي تبدأ بالحواس... والفكر ليس كيانا مستقلا ولا موضوعا يمكن أدراكه من غير الاستدلال على وظيفته المعرفية في تنفيذ تعبيرات العقل الفكرية اللغوية عن الاشياء من خلال الوعي والفكر..
الفكر جوهر عقلي لا وجود له من دون العقل. ومن المتعذر جدا الجزم الكامل أن حمولة الفكر هي (ماهيات) جرى تصنيعها في مصنع الحيوية العقلية.. فالعقل يعجز عن صناعة الماهيات التي هي معطى وتكوينات تدخل جوهر الاشياء بما هي خصائص تكوينية قابلة للنمو والصيرورة الدائمة.. فالماهية تشكيل دائمي مستمر وليس وجودا ماديا يمكن التعامل معه حسّيا إدراكيا كموضوع معرفي..
الماهية جوهر غير منظور مستقل والفكر وسيلة إدراك وظيفية عقلية.. ولا يمكن للفكر صناعة ماهيات الاشياء التي لا يستطيعها العقل أيضا، فالماهية وجود بذاته وهي جوهر داخلي مكمّلا كينونة وجود الشيء.. والفكر والعقل كلاهما لا يفهم من الماهيات ومعرفتها أكثر مما يعطيهما الموجود الكلي لهما..
وأكثر من هذا مما لا يدركه العقل ويعجز معرفته يكون هو الماهيات وجواهر الاشياء التي لا يمكن للعقل تصنيعها في امتلاكه معرفة الصفات الكليّة في موجوداتها.. الماهية أو الجوهر وجود مادي يكتسب ماديته من كونه جزءا عضويا ملازما لكل موجود مادي في الطبيعة وبالخصوص الانسان وعالم الانسان والحياة.. لذا تكون الماهية عجزا عقليا أدراكها لأن الماهية ليست موضوعا للإدراك العقلي..
يعبّر سانتيانا عن مقاربة هذا المعنى قوله (أن نظام الماهية محايد من حيث تعريفه، ولأنه يضم كل شيء، الى ما لا نهاية فليس له سلطة على العالم الموجود وليس بمقدوره أن يحدد طبيعة الصفات التي تظهر في الحوادث ولا نظام ظهورها. (12) – أحيل القارئ الى مبحثي المنشور على موقع المثقف بعنوان (هوسرل وماهية الانسان) , فقد وضّحت فيه معنى الماهية بما يغني من تكراره هنا بما لا يحتمله الموضوع......يتبع
الهوامش
1.الفلسفة الامريكية ,جيرار ديلودال, ت: د. جورج كتورة ,د. الهام الشعراني ص 147
2.المصدر اعلاه ص 148
3. المصدر اعلاه ص 150
4.المصدر اعلاه ص 152
5. المصدر اعلاه ص 154
6. المصدر اعلاه ص 159
7. المصدر اعلاه ص 161
8. المصدر اعلاح ص 163
9. المصدر اعلاه ص 166
10. المصدر اعلاه ص 167
11. المصدر اعلاه ص 169
12. المصدر اعلاه ص 170




تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس