هوسرل ومفهوم ماهيّة الانسان
د علي محمد اليوسف 09 يناير 2020
الماهية الجوهر والصفات
نجد مهما تحضير الانتباه قبل البدء بعرض فلسفة إدموند هوسرل (1859 –
1938) عن الماهية بمنهجه الظاهراتي (الفينامينالوجيا) هو أن هوسرل يعالج ماهية الإنسان
وليس (ماهيات) الموجودات والكائنات والاشياء في الطبيعة غير العاقلة.
ويرى هوسرل أن ماهية شيء فردي هي ما تتكشف به حقيقته
ومعناه، والماهية تتصف بصفة العموم خصوصا أن ما تنسبه الماهية لفرد يمكن أن يشترك
به أفراد آخرون (1)
قبل دخولنا مناقشة هذا الفهم الماهوي لهوسرل نبدأ بمسألة
جوهرية هامة نعتمدها مرتكزا في هذه المقالة هي أن الماهية عند الانسان لا تتصف
بالتعميم العام كصفات مشتركة بين الناس بل هي (جوهر) فردي متمّيز خاص، بل أهم
خاصية للماهية عند الانسان هي أنها فردية غير مدركة دفينة وتجربة خاصة شخصية ذاتية
تعني الفرد وحده ولا يصح تعميمها على المجموع من الأفراد...
والصفات قد تكون مشتركات يمكن تعميمها بينما الماهية هي
تفرّد متمايز يختلف من شخص لآخر لا يمكن تعميمه.. وهو ما لا نجده لدى هوسرل
وأشياعه باستثناء سارتر الذي يخالفهم الرأي.. ومن المهم التنبيه أن كانط يفرق بين
الماهية والصفات على العكس من هوسرل الذي أراد الرد على كانط معتبرا الصفات هي
تجليّات الماهية ولا فرق بين الإثنين من حيث المحتوى والمعنى... ونحن نرجّح فهم
كلا من كانط ومن بعده سارتر مع الفرق الكبير بينهما، أن الماهية تكوين ذاتي مدّخر
عند الإنسان وليست صفاته الخارجية المدركة... وبهذا الفهم تعتبر الماهية وجود
بذاته (نومين).. وأوضح تعبير بهذا المعنى قول كانط: أن كل ما نستطيع معرفته هو
عالم الظاهر الذي لا يشبه عالم الشيء في ذاته، فالله وحده يستطيع أن يرى ذلك –
يقصد العالم بذاته - لأنه غير مقيد بالزمان والمكان وقصور العقل البشري..
وهذا الفهم لماهية الانسان عند هوسرل كصفات مشتركة تجمع
بين النوع الواحد أفقيا وبين الصفات والماهية عموديا في النوع الواحد أيضا الذي هو
الانسان.. يختلف كليّا عن فهم تلميذه سارتر باعتبار هذا الاخير يفهم الماهية أنها
ليست كينونة ناجزة أو جوهرا مكتملا متداخلا مع وجود الفرد يحمله معه على الدوام
كموضوع قابل للإدراك في معاملته عقليا، بل يفهم سارتر الماهية عملية تكوينية
تطورية ذاتية ينشئها ويبنيها الانسان بنفسه طيلة سني حياته، وليست ماهيته معطى
وجوديا يمتلكه الانسان بالفطرة كجوهر ذاتي يلازمه متكاملا بمعزل عن صفاته الخارجية
وحتى بالتكامل معها..
ونفهم بضوء سارتر أن (الوجود) هو الواقعة الإنسانية
البدئية الأساسية التي تسبق كل شيء آخر في حياة الإنسان والتي يمكننا فهمه في أسبقية
الوجود الإنساني كجوهر ماهوي أو كوعي قصدي أو كينونة فردية فهذه جميعها تأتي لاحقا
للوجود الإنساني السابق عليها جميعها أولا المتفرعة عنه.. فالوعي والماهية
والكينونة جميعها نواتج مصنّعة للوجود وتتفرع عنه ولا تكون مكتسبة صفة الموضوع
المدرك منفردة أو مجتمعة قبل تحقق وجود الانسان أنطولوجيا بالحياة.. فالإنسان يوجد
أولا وبعدها تتفرع عنه تبعات هذا الوجود في الوعي واللغة والماهية والكينونة
والحرية والارادة وهكذا..
فالماهية الإنسانية هي سيرورة حياتية متطورة نامية
يكتسبها الانسان من الحياة بما يستطيع في سعيه أضافة مكونات جوهرية ذاتية خاصة به
من تجاربه بالحياة هي ليست الصفات العامة التي يشترك بها مع غيره من الاشخاص من
نوعه... ومن المتعذّر أن نعثر على ماهية إنسانية ناجزة مكتملة ليست في مراحل من
تكوّنها وتصلح أن تكون موضوعا متعّينا في أدراك العقل والتعامل معه..
كما والماهية عند الانسان الفرد هي وعي ذاتي بها وديناميكية
متطورة من التكوين التراكمي الكمّي والنوعي المستمرين كوعي قصدي مصنّع في امتلاك
صاحبه عقلا تفكيريا نوعيا مفارقا لغيره من الاشخاص يستطيع به ومن خلاله بناء
شخصيته وماهيته المتفردتين عن غيره كماهية ذاتية وليست صفات مشتركة موجودة عند
عشرات من الناس.
والماهية عند الإنسان الفرد خاصية لا يشاركه بها أحد أو
مجموعة من الأشخاص، لذا تكون الماهية ذاتية فردية تحمل خصائص لا يمكن تعميمها على
المجموع، فالماهية ليست مجموعة صفات خارجية يشترك الفرد بها مع مجموع من نوعه هم
الأفراد الآخرين.. بمقدار ما هي تصنيع ذاتي لوعي قصدي متمّيز يمتلكه الإنسان منفردا
باستقلالية تامة عن علاقات ارتباطه بالصفات التي تجمعه مع الآخرين من الأشخاص...
كما يعتبر هوسرل (الماهية نسق هرمي متسلسل يعلوها الأعم
ويندرج تحتها الأخص ومن ثم فالماهية زمانية) (2)..
بالعودة إلى الخطوط
العريضة في المنهج الظاهراتي عند هوسرل الذي اعتمدته ورسّخته وجودية سارتر وهيدجر
ومن قبلهما كانط أن الإنسان وجود قبلي سابق على ثلاث نزوعات أقنومية قارّة تحكمه:
هي وجود (لذاته) وهو الوجود الطبيعي السوّي للإنسان، والوجود (بذاته) أو من أجل
ذاته ويشمل هذا بعض صفات (ماهية) الفرد، وأخيرا وجود من أجل الآخرين، ولا يشترط أن
تكون هذه الإفصاحات الأنطولوجية الثلاث
متحققة عند فرد أو مجموعة أفراد بل جميعها حالات من السيرورة الوجودية التي تحكم
الإنسان منذ الولادة وحتى الممات..
لذا وحسب المنهج الفينامينالوجي عند هوسرل والوجودية
يكون الهرم الذي يحمل الصفات العامة التي يتشارك بها الفرد مع غيره من الأشخاص
والتي لا تشكل (ماهيات) إنسانوية وإنما صفات وجودية عامة مشتركة قابلة للإدراك
العقلي المباشر كمواضيع كما هو الحال مع كل موجودات وأشياء الطبيعة غير العاقلة...
فالماهية عند الإنسان وغير الإنسان هو صفات مدخّرة في عمق الذات والوجود غير مفصح
عنها ولا هي موضوعا في محل أدراك حسّي عقلي لها إلا من قبل حاملها الإنسان الفرد
فقط الذي يستشعرها في كيانه كخصوصية يتفرد بها. بينما لا تعي الموجودات غير
العاقلة بالطبيعة ماهياتها أو جواهرها الخفية عن صفاتها البائنة الخارجية..
وصفات الإنسان الخارجية البائنة والمدركة التي يتقاسمها
الفرد مع غيره من البشر لا تمثل ماهية الإنسان كجوهر ولا كينونته كوجود، بل هي
صفات عامة تشير إلى إنسان معيّن بما هو موجود وبما هو كائن في تلك الصفات التي
تكون موضوعات قابلة للإدراك المباشر والتعامل معها حسّيا وعقليا لكنها في كل
الاحوال تبقى هذه الصفات المدركة لا تشكل ماهية من المتعذر إدراكها حسّيا مباشرة
أو إدراكها بتجريد ذهني أو حدسي، وصفات الفرد الخارجية ممكن أن تكون مواضيع إدراكية
لكن بخلاف الماهيات عند الافراد التي لا يمكن أن تكون مواضيع إدراكية.. فالماهية
جوهر مكتسب ثابت نسبيا والصفات عرض متغّير يطاله الزوال والاضمحلال أغلب
الاحيان...
والصفات مواضيع مدركة ولا تكون جوهرا ماهويا غير مدرك
كما هو الحال مع الماهيات التي هي جواهر لا تدرك مباشرة حسّيا بل ممكن معرفتها
علميا كمواضع ابستمولوجية، فمثلا طول الانسان ولون بشرته وتقاسيم وجهه ولون عينيه
كلها صفات قد نجدها عند الفرد كما هي موجودة عند عشرات الأشخاص، وهذه الصفات لن
تكون ماهيات إنسانوية.... وإذا نزلنا قليلا مع هوسرل من صفات رأس هرم الماهية
المزعومة عنده لمعرفة ما يندرج أسفلها من صفات خاصة أكثر بفرد أو مجموعة أفراد فإننا
سنتعرف بهذه الحال على صفات مشتركة لكنها لا تمثل ماهيات أيضا مثل ما يمتلكه شخص
من نزعة دينية وقيم أخلاقية وضمير وطبيعة وسلوك، وعواطف وغيرها التي يمتاز بها
الانسان الفرد وإمكان مشاركته الجماعية بها.. فالماهية شأن خاص جدا وليس شأنا عاما
يسهل معرفته وإدراكه إلا من صاحبه فقط...والماهية ليست موضوعا لإدراك حسّي أو عقلي
وهذا ما يؤكده كانط... أن الموجود بذاته هو وجود ماهوي يتعذر علينا إدراكه
والتعامل معه كموضوع مثلما نتعامل مع الأشياء وموجودات الطبيعة..
لنضرب مثلا حول الصفات والماهية في النبات ونقارنها مع
الانسان، فمثلا نقول الشجرة تلتقي مع غيرها من الاشجار باللون الاخضر وكل الاشجار
تتكون من جذور غائصة في التربة ومن ساق يتوسطها وأوراق وأغصان تعلوها لكن كل هذه
الصفات المنفردة لشجرة أو المشتركة مع غيرها من الاشجار أنما تبقى صفات عامة وليست
ماهيات خاصة متباينة للأشجار، وعند مغادرتنا الصفات العامة نحو الخصوصيات الصفاتية
الأكثر اختلافا بين الاشجار فأننا سنجد هناك أشجارا دائمة الخضرة وأخرى نفضية تنفض
أوراقها موسميا وأخرى غير مثمرة للزينة وبخلافها المثمرة وهناك أشجار معمرة وأخرى
غير معمرة وهكذا مع صفات عديدة يمكن أدراكها ومعرفتها وربما كانت بعض تلك الصفات
تدخل في تشكيل الماهيات للشجرة الواحدة لكنها تبقى في جوهرها صفات بائنة الادراك
خارجية كمواضيع وليست ماهيات خالصة دفينة يمكن التعامل معها إدراكيا وابستمولوجيا..
فالماهية هنا ليست صفات بل جوهرا محتجبا خفيّا وراء الصفات الخارجية..
واختصارا ربما يغنينا عن الاستطراد نقول ماهية كل شيء أو
موجود في الطبيعة تتميز بخاصيتين:
الاولى أن الماهية لا تمثل موضوعا للإدراك لأنها خاصية
محتجبة خلف الصفات الخارجية البائنة للمواضيع المدركة أو المواضيع الخيالية التي
يبتدعها العقل من الذاكرة..
والخاصية الثانية أن الماهية فردية شخصية لا يمكننا
تعميمها حتى داخل النوع الواحد من جنسه الذي هو الانسان.. فماهية كل فرد لا تشابه
ماهيات آخرين غيره..
بقيت لدينا مسألة تعبير هوسرل أن الماهية (زمنية) فهي
حقيقة لا غبار عليها لكن ليس بالفهم الذي أشار له هوسرل باعتباره الماهية منجزا
كموضوع يمكن التعامل معه إدراكيا كشيء مادي أو موضوع متعيّن.. ويمكن لتأثير الزمان
عليه تغييره كمدرك خارجي كموضوع في حين يكون الفهم الصحيح أن الزمن عامل تكوين وإنشاء
للماهية عبر المراحل العمرية للإنسان وليس عامل تقويض لها كما يحذر هوسرل منه....فالزمان
الذي هو عامل تغيير للأشياء والمواضيع في وجودها الادراكي الحسي أو الخيالي أنما
يطال الصفات ولا يطال الماهيات كونها ليست مواضيع مدركة لا عقليا ولا زمانيا..
الماهية بهذا المعنى المختلف عن منهج هوسرل الظاهراتي هي
أنها سيرورة دائمية في الزمن وليست صفات مكتملة كموضوع أدراكي في تداخلها العقلي
مع الزمن والمكان حسب هوسرل.. هنا تكون الماهية عند هوسرل هي مجموع صفات الشيء
المدرك كموضوع وهذا ما لا ينطبق على الماهية لأنها ليست موضوعا للإدراك إلا في
حالات استثنائية جدا تشمل غير الانسان من موجودات تكون معرفتها من اختصاصات التجارب
العلمية وليس من مباحث منطق الفلسفة الظاهراتية على وجه الخصوص..
الماهية والإدراك
وفي متابعتنا آراء هوسرل حول الماهية عند الانسان بمنهجه
الظاهراتي (الفينامينالوجي) نجده يقول (الماهية ليست مدركة ولا متخيلة لأن كل
معطيات التجربة الحسية أو المتخيلة تتحدد بزمان ومكان) (3)
وأخيرا أقرّ هوسرل بما أردناه وشرحناه في السطور السابقة
من أن الماهية عند الانسان ليست موضوعا لإدراك عقلي يتحدد زمانيا ومكانيا ولنا
توضيح أكثر بعد تكملتنا تثبيت عبارته الاستدراكية قوله ( ومع ذلك لا ينبغي أن يتطرق الذهن إلى أن الماهية تجريد، وإلا أصبحت
نتاجا للفكر وأصبح هذا النتاج زمانيا أي متغيرا عرضيا، وهكذا يتبين أنه اذا كان
التجريد يوقظ الوعي بالماهية فانه مع ذلك لا يوّلد الماهية)(4)
ثمة ملاحظات توضيحية مفهومية نرى أهمية تثبيتها بضوء
عبارتي هوسرل السابقتين:
-
قول هوسرل الماهية ليست مدركة ولا متخيلة كموضوع لأن كل
معطيات التجربة الحسّية أو المتخيلة تتحدد بزمان ومكان أدراكي عقلي لها.. هو اعتراف
صحيح جاء متأخرا خيرا من ألا يأتي بما كنا سعينا توضيحه بسطور سابقة.. وهذا يجنبنا
الخلط بين إدراك العقل للأشياء كموجودات مادية من ضمنها الإنسان.. وبين الماهية
التي هي صفات دفينة غير مدركة ولا واضحة تخص كل موجود لوحده في الطبيعة بذاته.. لذا
فالماهية ليست موضوعا لأدراك يحدّه الزمان والمكان.. وهذا ما يؤكده كانط بالضبط.
-
الماهية ليست موضوعا مدركا لا في الإنسان ولا في باقي
الاشياء المادية الطبيعية غير العاقلة كموجودات خارجية.. كما أن الماهية هي أيضا
ليست موضوعا متخيّلا يكون مصدره الذاكرة... وإنما الماهية تكوين أنشائي متطور على
الدوام بالإضافات النوعية غير المنظورة ولا متاح أدراكها بسهولة من قبل الاخرين ما
عدا الشخص ذاته منفردا لذا من المتعذر أن تكون ماهية أنسان موضوعا لأدراك غيره من
أفراد.. ولا تكون بالضرورة موضوعا مدركا ألا من قبل كل شخص منفردا بذاته تلازمه
ماهيته كصيرورة حياتية يصنعها هو بنفسه بمرور الزمن.. فالماهية هي وعي الوجود
الشخصي المتمّيز لكل انسان منفردا لوحده..
-
كل ما هو غير موضوع للإدراك يكون متحررا من سطوة الزمان
والمكان في تحديده وتعيينه كموجود.. لذا تكون الماهية التي هي ليست موضوعا للإدراك
بعيدة عن سطوة الزمان عليها في انحلالها وتقويضها، بل العكس الزمان غير المنظور تأثيره
المباشر على ماهية الانسان يكون عاملا ضروريا في تشكيل ونمو وسيرورة ماهية الشخص
المتكوّنة باطراد مستمر داخليا بمرور الزمن.. فالماهية جوهر حصيلة عمر الانسان
بالحياة.
-
تحصيل حاصل لا حاجة التأكيد عليه قول هوسرل الماهية ليست
تجريدا ذهنيا وألا أصبحت نتاجا يخلقها الفكر، لا نتصور غاب عن تفكير هوسرل حقيقة أن
كل ما هو غير موضوع مدرك حسيا أو خياليا لا يمكن أن يكون نتاجا تجريديا بالذهن..
والماهية عند الانسان لا تكون موضوعا مدركا من غير صاحبها حاملها التي يستشعرها
مثلما يستشعر سريان الحياة في جسمه... والماهية جوهر تبنيه الحياة ولا تخلقه الأفكار
المجردة.. لأنها جوهر وجودي مادي يلازم وجود الانسان وليست أفكارا متخيلة مجردة
بالذهن مستمدة من الذاكرة..
-
متى يكون الشيء أو الظاهرة موضوعا للإدراك؟؟
وسيلة العقل في إدراك الاشياء
في وجودها المادي المتعيّن في عالم الاشياء يكون بمنظومة العقل الحواس والجهاز
العصبي والدماغ.. أما مواضيع الادراك العقلي المستمدة من الذاكرة ومعاملتها
الادراكية بالذهن تجريديا فهي كل المواضيع والاشياء التي تكون خيالية من صنع خيال
الانسان والذاكرة ولا وجود مادي حقيقي لها في عالم الأشياء، وفي كلتا الحالتين لا
تنطبق حالة الادراك على الماهية أن تكون موضوعا لأدراك من غير الشخص حاملها فقط.. لا
كمدرك مادي خارجي ولا كمدرك تخييلي داخلي بالذهن مستمد من الذاكرة..
-
لا أعرف أي تجريد يقصده هوسرل قوله (التجريد الذي يوقظ
الوعي بالماهية ومع ذلك فهو لا يوّلد ولا يكون مصدرا للماهية..) وهنا نعيد ونكرر أن
هوسرل لا يقر بحقيقة أن الماهية عند الانسان ليست موضوعا للإدراك لأنها جوهر خفي وليست
صفات خارجية.. لذا في استعمالنا مفردات تعبير هوسرل في التجريد الذي يوقظ الوعي بالماهية..
تعبير يتعامل مع الماهية كموضوع أدراكي في الذهن المجرد.. في حين الماهية هي واقعة
مادية دفينة يمتلكها الانسان من تجاربه بالحياة لكنها ليست موضوعا لإدراك عقلي
مادي ولا خيالي.. كما ليس بإمكان الوعي التجريدي خلق موجودات ماهوية.. الماهية
تكون موضوعا إدراكيا تجريديا في ذهن الانسان الفرد حاملها ولا تكون الماهية موضوعا
إدراكيا تجريديا من قبل غيره من الاشخاص الذين يشاركونه النوع بالصفات وليس النوع
بالماهيات.. وماهية الانسان هي تكوين الشخصية الذاتية التي لا تكون موضوعا إدراكيا
لغيره..
-
الماهية عند الإنسان هي صيرورة مادية تتم داخل الذات
الانسانية المنفردة كجوهر ولا يتسنى لأحد أدراكها من غير صاحبها في بنائه وأنشائه
المستمر لها.. والماهية لغير حاملها المعني بها ليست وجودا ماديا متحققا في أدراكها
ولا موضوعا تخييليا يمكن معاملته تجريديا لا في إدراكه ولا في خلقه من غيره...
-
الماهية موضوع ومدرك مادي ومدرك تخييلي للفرد فقط وليس
من غيره ويستطيع الانسان التعبير عن ماهيته بالتجريد الذهني المفكر في حين يعجز عن
ذلك غيره من الناس أيضا. فالماهية موضوعا للذات وليس موضوعا مدركا لغيرها..
-
يؤكد هوسرل على أن الماهية ليست نتاجا للفكر نتوصل إليه
بالتجريد بل هي اكتشاف وليست اختراعا.. وتعقيبنا صحيح أن الافكار لا تنتج ماهيات
التي هي مواضيع تتسم بالمادية لذات الشخص، وهي تراكمات من الخبرة العملانية
بالحياة وليست اكتشافا يدركها العقل تجريديا ولا هي اختراعا لا يدركها العقل،
فالماهية جوهر موجود متعيّن يستطيع صاحبها التعبير عنها بلغة التجريد لأنها ليست
موضوعا لغيره..
-
كل وعي وأدراك لشيء أو لموضوع هو فعل تجريدي في الذهن لا
يمتلك العقل وسيلة أخرى غيرها في معرفته لأن أدراك العالم من أبسط ذرة الى أعقد
شيء مدرك هو تجريد وتمّثلات صورية عقلية، والا تعذر علينا أدراك الأشياء من حولنا
أو المواضيع في مخيّلتنا من غير تجريدها فكريا ولغويا.. حتى الادراك الحدسي
للموضوعات لا يتم بغير تجريد صوري ذهني..
-
ينكر هيجل عالم الوجود بذاته ويؤيده في هذا المنحى
العديد من الفلاسفة من بعده، والسبب أن الشيء بذاته عند الانسان هو مجموع صفاته
وعلاقات المنتظمة الداخلية، غير المدركة أو المنظورة من غيره، فالإنسان يدرك جيدا
نقاط الضعف والقوة في شخصيته التي هي في أغلبها من صنعه هو ولا يعرفها أو يدركها
غيره، بينما تكون الماهية أو الوجود بذاته عند موجودات الطبيعة غير العاقلة هي افتراض
حدسي من الاخرين في محاولة الوصول له ومعرفته. وماهيات الموجودات غير العاقلة لا
تدرك ذاتيا من قبل حامليها بخلاف الانسان الذي يعي ماهيته منفردا.. ومثلما لا
يستطيع انسان حدس وإدراك ما يفكر به غيره قبل تعبيره تواصليا بما يفكر به، كذلك هي
الماهية الإنسانوية لا تدركها غير ذات صاحبها..
-
ماهية الإنسان تبلور طبيعي نامي مستمر في البناء
والتشّكل يزامن الإنسان في جميع مراحل حياته، بينما تكون ماهيات الموجودات غير
العاقلة ثبات من الصفات الداخلية لا تتطور ولا هي من صنع حاملها لأنها جزء من معطى
وجودي لا علاقة لأحد غير الطبيعة في أيجاده..
الفهم الميتافيزيقي للماهية
يرى ميرلوبونتي أن الحدس
هو الذي يوّلد الوعي بالماهية، وهذا الوعي بالماهية لا يمكن أن يكون تمّثلا حتى
وأن كان موضوعه ملموسا، فالتمثل أنموذج أتوجه من خلاله إلى الماهية، والماهية تبقى
دائما وراء التمثلات..(5)..
إننا نفهم الحدس منهجا إدراكيا
ناقصا في الإحاطة والتعبيرعن موضوعه وتبقى العلاقة التي تربط الحدس بموضوعه ضبابية
غير واضحة ولا تشّكل معرفة يقينية حقيقية عن الموضوع المحدوس.. لذا حين يكون
الموضوع هو الماهية التي يفهمها ميرلوبونتي فهما ميتافيزيقا عندما تكون الماهية
حصيلة حدس وتمّثلات غير منهجية هي أقرب الى التفكير الميتافيزيقي منه للمنهج
المنطقي الفلسفي المتمّكن من التعبير عن موضوعه بعلاقة إدراكية حسية أو خيالية
عقلية سليمة.. فكيف يستطيع الحدس أن يوّلد الوعي بالماهية كما ينّظر له ميرلوبونتي؟؟
الماهية كما سبق لنا
فهمها هي تكوينات من السيرورة الدائمية التي لا تكون موضوعا للإدراك الاستدلالي
عنها ومعرفتها بمنظومة الاحساسات العقلية.. فكيف يكون الوعي بالماهية دائما وراء
التمّثلات الحدسية المتأرجحة بين التخمين وعجز التطابق الادراكي الواقعي مع
الاشياء كمواضيع.. كما أن الماهية سيرورة تكوينية وليست جوهرا ناجزا في أمكانية
معرفته ولا تكون الماهية موضوعا لتمّثلات حدسية لموضوع افتراضي غير موجود في
التعامل معه.
الهوامش
1.الفلسفة واللغة، عبد الوهاب جعفر، ص54 نقلا
عن المصدر الاجنبي.
2. المصدر اعلاه ص 55 نقلا عن المصدر الاجنبي
3.المصدر اعلاه نفس الصفحة نقلا عن المصدر
الاجنبي
4.المصدر اعلاه نفس الصفحة نقلا عن المصدر
الاجنبي
5. المصدر اعلاه ص 62 نقلا عن المصدر الاجنبي
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية
0commentaires:
إرسال تعليق