الواقعية الجديدة وريثة الفلسفة الذرائعية

الواقعية الجديدة وريثة الفلسفة الذرائعية
د علي محمد اليوسف                                                               02 يناير 2020 
ظهرت الواقعية الجديدة ((The new Relatism كفلسفة أمريكية خالصة شأنها شأن الذرائعية تحت عنوان: برنامج وأول منصّة عن ستة واقعيين   A program and first platform of six Realists 
واستعارت الواقعية الجديدة الأمريكية وريثة الفلسفة الذرائعية عن وليم جيمس فكرة 
      - (أن الوعي ليس جوهرا بل وظيفة )
-         والثانية (أن الوعي تجربة صرفة لا طبيعية ولا عقلية بل محايدة)..
والعبارتان بما تخصّان (الوعي) تحتاجان إلى مناقشات ليس لها بداية ولا آخر، وسنتناولهما هنا بما يسمح به المجال في عدم خروجنا عن متن الموضوع.
 تعقيبنا على عبارتي وليم جيمس هي أن تكون الأفكار معارف يستقبلها ويطلقها الوعي ليس كجوهر متعالق ومتداخل بها من جهة ومتعالق مع العقل من جهة أخرى، بل الوعي في المنهج البراجماتي وسيلة معرفية شأنها شأن اللغة في توصيلها المدركات، والوعي محور مركزي في وظيفة تمكين العقل معرفة الأشياء والمدركات، من حيث يتعذر علينا الفصل بين الوعي والعقل تجريديا كما يرغبه جيمس في الفصل قوله: الوعي تجربة محايدة وليست عقلية ولا طبيعية، والوعي في الوقت الذي يكون فيه وسيلة استدلال معرفي وحلقة وصل وظيفية بين العقل ومدركاته لا يمكننا اعتباره وظيفة أو تجربة محايدة في عملية الإدراك حسب تعبير وليم جيمس أيضا، فالوعي ليس (موضوعا) لإدراك عقلي كي يكون جوهرا منفصلا محايدا بل الوعي هو تفكير متداخل في صلب العقل المعرفي للأشياء، والوعي بدون ملازمته التداخلية الصميمية بالعقل لا يمكن أن يكون هناك إدراك سليم لموجودات العالم الخارجي في لا وجود وعي قصدي وانعدامه، ولا حيادية قائمة يمكن الركون على سلامة وقوعها للوعي باعتباره تجربة صرفة قائمة بانفراد ليست عقلية بل هي محايدة.. الوعي ليس تجربة محايدة من خلال اعتباره وظيفة حسب الفهم البراجماتي، بل هو جوهر نافذ ومتنفذ بالقيام بدور معالجة المدركات الواردة ونقل مقولات العقل بشأنها أيضا في تداخله الصميم كحلقة وصل أيصال المحسوسات للعقل ونقل وإصدار ما يعطيه العقل من تفسيرات وعلاقات لها.. الوعي هو التجسيد الحقيقي لمنظومة الإدراك بدءا من الحواس وصولا الى الذهن عبر الجهاز العصبي وأخيرا نقل الوعي أفكار العقل في تعبير اللغة عن الأشياء بالعالم..
ربما تكون حيادية المحسوسات التي مصدرها الحواس في علاقتها الإدراكية المعرفية بالعقل هي أقرب الى الاقتناع من قولنا الوعي تجربة محايدة لا طبيعية ولا عقلية حسب ما تقول به الذرائعية والواقعية الجديدة... والأنا كجوهر هو وعي ذاتي يسترشد العقل على الدوام في بيان معرفة حقيقة مدركاته ولا يمكن للوعي أن يكون تجربة محايدة في الإدراك.. وإذا جاز لنا التعبير أن (العقل) يكون موضوعا مدركا من العقل ذاته، عندها يصبح جواز القول أن (الوعي) هو موضوع محايد بمعزل عن العقل.. والعقل موضوع محايد عن الوعي... وهو ما يدخلنا في سفسطة لغوية منطقية تعبيرية لا معنى حقيقي لها.. فمثلما لا حاجة للعقل أن يعقل نفسه ذاتيا وتجريديا، كذلك لا يوجد وعي يعي ذاته بمعزل عن تداخله الوظيفي بالعقل الذي يمنحه حقيقته العضوية به وليس استقلاليته عنه.
تقوم أطروحات الواقعيين الأميركان الجدد الذين يرومون تطوير الفلسفة الذرائعية الأم على ثلاث مرتكزات في تداخلهما معا هي:
-         فلسفة المعرفة ليست أساسية من الناحية المنطقية، بعبارة أخرى لا يمكننا استخلاص طبيعة الواقع من طبيعة المعرفة. (1)
-         لا وجود للقضايا الوجودية أو غير الوجودية تكون سابقة على فلسفة المعرفة) (2)
-         المعرفة بوصفها علاقة فهي تنتمي للعالم نفسه الذي ينتمي اليها موضوعها، وبالتالي يكون كل موضوع هو حاضر بشكل مباشر في الوعي، والفرق بين ذات الوعي وموضوع الوعي(المعرفة) ليس فرقا بالكيفية ولا بالجوهر بل فرقا بالدور أو في الموقع أو في التشّكل.. (3)
يمكننا استخلاص أكثر من ملاحظة فكرية بضوء ما أدرجناه عن أفكار الفلسفة الواقعية الأمريكية الجديدة:
-         الواقعية الجديدة فلسفة تلتقي مع أنماط المفاهيم الوجودية عند (سارتر، هيدجر) بالمعنى المشترك بينهما كمفاهيم فلسفية مجردة وليس كمفاهيم خاضعة لحتمية التجربة الذرائعية.. فالأشياء في فرادتها الأنطولوجية تكون موجودة حتى لو لم يكن لدينا وعي بها وبإدراكها وهو ما تعمل به الفلسفة الواقعية في مرتكزها الفكري البراجماتي..
-         مقولة الواقعية الجديدة لا يمكن استخلاص طبيعة الواقع من طبيعة المعرفة مقولة تحتاج الكثير جدا من التوضيح للاقتناع والتسليم بصحتها.. لما تحمله من تداخلات عديدة تشمل الوعي والتصورات والفكر واللغة وعلم النفس وأخيرا وظيفة العقل...
-         الكليات كمواضيع إدراك متعذر علينا الوعي بها ومعرفتها كاملة كما هي إنما هي تظل وجودا قائما باستقلالية حتى حين يكون لنا وعي عاجز عن أدراكها أكثر من تجزئتها تحليليا لمعرفة بعضها.
-         ميزة الواقعية الجديدة في خروجها على الذرائعية أنها أيّدت حقيقة الكليات التي تعارض كل من ديوي وجيمس وذرائعيي مدرسة شيكاغو أذ لا شك في وجود العالم الخارجي المستقل قبل كل شكل من أشكال المعرفة والوعي والادراك له.
-         تعتبر الواقعية الجديدة الامريكية الفلسفة الامريكية الثانية وريثة الذرائعية التي حاولت إخراج الفلسفة الامريكية من المستنقع السايكولوجي الاستبطاني والحدسي والمنطقي الأرسطوي الذي كانت قد انزلقت اليه بهدف حملها الوقوف على أرض صلبة حسب رأي فلاسفة الواقعية الجديدة في انتقادهم الذرائعية. (4)
أن الوعي ليس جوهرا قائما بذاته كما هو ليس تجربة خالصة منّبتة محايدة عن جوهر العقل، لذا فالوعي وظيفة مادية وعقلية ماهوية مستمدة من جوهر العقل في تعالقهما المشترك وتخارجهما معا في أدراك الاشياء وفهمها وتفسيرها.. لذا يكون جوهر الوعي غير منفصل عن جوهر العقل ولا يمكن التفريق بينهما في محاولة اعتبار كل منهما جوهرا يمثل موضوعا قائما بذاته. الوعي بأختصار غير مخل هو وظيفة العقل، والوعي الذي لا يعقله العقل لن يكون موجودا.. لا وجودا محايدا ولا وجودا وظيفيا..
أما اعتبار الوعي تجربة خالصة كما تذهب له الذرائعية الأميريكية فهو تعبير لا يحمل معه التفسير البراجماتي العملي والعلمي معا.. لأننا لا يمكننا اعتبار الوعي تجربة خالصة محايدة حسب رغبة الفلسفة الذرائعية، في حين كل معطيات العلم والمعرفة تؤكد أن الوعي يتداخل مع العقل ويتكافل معه في معرفة وتفسير مدركاتهما.. وتجربة الوعي لا تكون تجربة خالصة لوحدها وهي تمثل تجربة العقل في الادراك والمعرفة وكما أشرنا له في أسطر سابقة الوعي والعقل تجربة واحدة لا انفصال ولا تقاطع بينهما.. وتجربة الوعي وتجربة العقل واحدة لا يمكن الفصل بينهما من حيث أنهما أدراك مشترك واحد لشيء أو لمجموعة موجودات ومواضيع تتم معرفتها بتداخل الوعي والعقل...
ومن الممكن أن نعتبر الوعي وظيفة أو وسيط في نقل مدركاته الحسية الى العقل وبالعكس في نقل مقولات العقل الفكرية لغويا عن مدركاته العالم الخارجي، وبهذا المعنى لا يكون الوعي وسيطا ناقلا محايدا بين مدركات الحواس ومدركات العقل، فالوعي هو حلقة متداخلة في منظومة معرفية متكاملة تبدأ بالشيء كموجود بجوهر وصفات، ومن ثم بأدراك الحواس له، ومن ثم استقراره كوعي في الذهن وأخيرا تأتي مقولات العقل النهائية بشأنه... لذا الوعي في حالة إدراكه الاشياء غير العاقلة في الطبيعة فهو لا يدركها ألا كوسيط بين الحواس والذهن.. والوعي بلا منظومة التصورات والتمثلات الانطباعية للأشياء لا يكون له حضورا محايدا مستقلا مطلقا.
لهذا من الخطأ اعتبار الوعي تجربة خالصة لذاتها ومحايدة في إدراكها الموجودات في العالم الخارجي.. عندها يصبح تساؤلنا وجيها منطقيا بماذا نستدل على أن الوعي كاف أن يكون تجربة خالصة؟ وكيف؟ ألا أذا أخذنا الوعي هو وظيفة ابستمولوجية ليست محايدة ولا منفصلة وليست قائمة كتجربة لوحدها من دون اعتبار الوعي حلقة في منظومة معرفية متكاملة تبدأ بالوجود ولا تنتهي بالعقل.
الهوامش
1.      جيرار ديلودال، الفلسفة الأمريكية، ت.جورج كتورة، الهام الشعراني ص 123
2.      المصدر اعلاه ص120
3.      المصدر اعلاه 120
4.      المصدر اعلاه ص 124



تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس