سؤال هيدجر عن معنى الوجود والعدم
د علي
محمد اليوسف
لماذا كان هناك وجود الموجودات بدلا من العدم؟ مارتن هيدجر
العدم والفلسفة
كيف يعالج هيدجر العدم من منظور فلسفي
توضيح هيدجر أكثر لسؤاله الفلسفي:
هيدجر ومثال قطعة الطباشير
لماذا كان هناك وجود الموجودات بدلا من
العدم؟ مارتن هيدجر
يعتبر هيدجر تساؤله المار بنا هو فتح الفتوح
غير المسبوق في مباحث الفلسفة التي أغفلت مثل هذا التساؤل الهام الخطير الذي لا
معنى للتفلسف من غيره لاتصافه بالمواصفات التي يحددها هيدجر كالتالي، أولا لأنه
سؤال عميق جدا يتجاوز بعمقه معظم الاسئلة الفلسفية الاخرى.. وثانيا أنه السؤال
المركزي الاول في مكانته الفلسفية.. وثالثا وأخيرا أن هذا السؤال يمثل أساس الشروع
في عملية التفلسف. (1)
لقد أعطى هيدجر تساؤله المتناقض في النص أعلاه
أهمية استثنائية جدا لا يمتلكها السؤال وليست فيه، ولا يمكن لأي باحث في الفلسفة
تمريره على أنه مسّلمة فلسفية لم يسبق أحد هيدجر بها كون التساؤل خال من المعنى
الفلسفي الذي يحمل أبعادا تحتاج الى تحليل وإضافة.. فالعدم لا يسبقه وجود ولا يليه وجود، وقيمة
العدم أنه لا وجود ولا هو خلاء.. فلماذا يحاول هيدجر أن يجعل العدم معيار فهمنا
لماذا وجدت الموجودات ولم يوجد العدم.. العدم كما هو عند سارتر هو حالة من التزامن
الطارئ على كل متعين موجود محكوم بحتمية الفناء.. والعدم لا يكون وجودا افتراضيا
من غير تزامنه مع موجود يلازمه يعدمه ويفنيه، بمعنى لا قيمة وجودية في افتراض أن
يكون العدم تعويضا أو شكلا آخر من الوجود المدرك.. فالعدم افتراض حقيقي غير وهمي
لوجود غير موجود في وسائل أدراكنا له ولا بمعزل عنها.. إذ لا يمكننا تصور عدم بلا
موجودات هو جزء إفنائي منها..
فالموجودات في حقيقتها الجوهرية ومآلها الأخير
هي عدم محكوم بالزوال والفناء.. والعدم بالمنظور الفلسفي غير الفيزيائي ليس هو موضوعا
إدراكيا يتصوره العقل ويمكنه التعبير عنه بالكلمات ولا محاولة شرحه فلسفيا
بالمعاني والدلالات المجردة، وكل ما نتوفر عليه أننا نستطيع تلمس نتائج العدم في
الموجودات الحيّة التي يحكمها الفناء والموت.. ولا يوجد فرضية تكافؤية في المفاضلة
لماذا كان الوجود ولم يكن العدم؟ فالعدم آفة افتراضية في التعبير عنها فلسفيا في
ملازمتها الموجودات المحكومة بحتمية الزوال... وليس العدم شكلا من أشكال الوجود كي
تصح مقارنتنا له مشروعة كوجود افتراضي بالضد من موجودات حقيقية واقعية.. العدم ليس
موضوعا إدراكيا كما هو الحال مع الموجودات المدركة حسّيا أو المدركة خياليا.
من غير المعقول ولا من المنطقي فلسفيا
تساؤلنا لماذا لم يكن العدم حاضرا كعدم وكان هنالك موجودات عوضا عنه.. في مفاضلة
العدم على الوجود كما يحاول افتعاله هيدجر الذي ينكر به بداهة أن الموجودات معطى
طبيعي أنطولوجي مثل الطبيعة والانسان وكل متعالق بهما في تساؤل هيدجر لماذا لم يكن
العدم وكانت الموجودات؟
من المتعذر مقارنة حضور الموجودات كمعطى
وجودي في غياب العدم كحضور(غائب) غير قابل لتحقق حضوره الأنطولوجي ولا حتى غير
قابل ان يكون موضوعا تفلسفيا على مستوى التجريد المنطقي.. ولا حاجة إلى تكرار أن
تساؤل هيدجر لماذا كان هناك موجودات ولم يكن عدما أنه تساؤل بلا معنى وافتراض خال
من الدلالة الفلسفية التي يطالب هيدجر غيره التعمق بها والوصول إلى تخومها
الفلسفية..... العدم لا يعوّض عن الوجود كونه ليس بموجود ممكن أن ينوجد ويكون حتى
في زوال وفناء الموجودات لا على صعيد الحضور الفلسفي كموضوع ولا على صعيد
الانطولوجيا كموجود.. ولا يصح الاستدلال على الوجود بمعيارية ثنائية العدم وتلازمه
للوجود.
العدم والفلسفة
يعرّف هيدجر (العدم بأنه النفي القاطع لكل
وجود أو شيء يحكمه الفناء الحتمي القطعي بالموت.. والقول بأن العدم موجود قول
متناقض لأن العدم سلب وهذا ما يقرّه العقل) سنجد هيدجر لاحقا في غفلة من هفواته
الفلسفية لا يعترف بهذا التعريف المناقض لمحتوى سؤاله الاشكالي المار ذكره...
... وتعقيبنا أن العدم ليس وجودا (قبليا)
متعيّنا يسبق وجود الموجودات في عالم الأشياء التي يستهدفها الفناء، كما هو ليس
وجودا (بعديا) يخلف نهاية الاشياء المحكومة بالعدم.... أي حقيقة وجوهر العدم أنه استدلال
افتراضي غير مدرك كموضوع يسكن جوهر الاشياء كما تسكن الدودة قلب الشيء المحكوم
بالنفي العدمي على حد تعبير سارتر.. العدم هو استدلال افتراضي لموجود غير بائن للإدراك
لا كمظهر ولا كجوهر على السواء.. والعدم هو حالة من ملازمة الوجود لا يمكننا
التعبير عنها بالكلمات كموضوع قائم بذاته، فالعدم ليس جوهرا ولا ماهية ولا موجودا
منفصلا متعيّنا واقعيا يمكننا أدراكه بحواس واحساسات الادراك العقلي بل هو ملازمة
دائمية للموجودات لإفنائها.. أنه حقيقة مطلقة نعرف نتائجها بالحدس ولا نعرف
ماهيّاتها بالإدراك.. نستشعر العدم تقويضه الموجودات الحيّة وإفنائها.. لكننا
عاجزين عن معرفة ماهية العدم والاحاطة به لا بالإدراك ولا بالتعبير عنه بالكلمات..
وحدس العدم يتيح لنا معرفة الموجودات على حقيقتها قبل استهداف العدم الحتمي لها
كما الموت في إفنائه الكائنات الحية من الوجود.. وأبلغ تعبير عن ذلك أنما جاء على
لسان سارتر في تعريفه معنى العدم بقوله أن العدم يركب ظهر الوجود المحكوم بالفناء
والزوال لا يتقدمه ولا يسبقه بل يلازمه ملازمة الظل وهو القرين المتداخل به..
كالسوسة في باطن الموجودات والاشياء التي تنخرها..
العدم هو غير اللاوجود أو الفراغ (الخلاء)
الذي يتوسط موجودين محكومين بالفناء بل هو يلازمهما كجزء من تكويناتهما كلا لوحده
وصولا الى حتمية فنائهما لا قبليا ولا بعديا عنهما بل في ملازمة حتمية لا انفكاك
لهما (الوجود والعدم).. فالعدم لا يسبق الوجود ولا يأتي بعده، بل يداخله وهو دلالة
افتراضية يستهدف غيره من الموجودات والاشياء بالفناء.. وهو لا يفنى بالفناء ولا يعدم
نفسه كما في تعبير هيدجر, بل هو نتيجة حتمية شاخصة متبقية بعد فناء الموجودات
المحكومة بحتمية العدم والزوال.. أنه الموت الذي يعدم الحياة ولا يعدم نفسه في استمرارية
بقائه كحقيقة أزلية في معايشته الحياة والانسان والطبيعة والموجودات...
كيف يعالج هيدجر العدم من منظور فلسفي
لماذا كانت الموجودات بدلا من العدم؟ في
متابعتنا إجابة هيدجر عن تساؤله المتناقض هذا في محاولة إسباغ عمق فلسفي عليه لا
يمتلكه بغير افتعال هيدجر له يرى هيدجر أن مهمة تطوير تساؤله هذا يكون في:
-
صيغة السؤال التي تتضمن إشارة محدودة الى
موضع التساؤل، بمعنى إشارة محددة الى موضع التساؤل. (2)
-
أن هذه
الاشارة تبيّن لنا عن ماذا يبحث هذا التساؤل بدقة، وما هو الامر الذي يتم طرح
السؤال حوله، وأن ما يبحث عنه السؤال بتعبير هيدجر هو (وجود الموجود) ولماذا توجد
الموجودات بدلا عن العدم؟ (3)
ليس في المنطق الفلسفي أكثر تعبيرا بلا معنى
من هذه التعمية المقصودة في أضفاء نوع من التفلسف المربك الخاوي من الفكرة حول
تساؤل يحمل تناقضه بأحشائه التي لا تستقيم معها أضافات تفسيرية عليه من خارجه..
تفسيرات هيدجر غامضة لا رابط ولا علاقة ولا معنى لها يصدرها في توضيح وتحميل تساؤله
المقفل على تناقضه أصلا بما ليس فيه..
حيث يقر هيدجر بلا وعي منه تناقضه هذا بقوله
(ليس هناك من جدوى من الاستمرار في طرح السؤال عن موضوع العدم، فالعدم ببساطة هو العدم
وفوق كل ذلك عند الحديث عن العدم أو اللاشيء، فأننا لا نقوم بأية خطوة نحو الامام
من أجل معرفة حقيقة الوجود) (4)
إذن عن ماذا يبحث هيدجر في تساؤله بعد اقراره
الواضح هذا؟ ولماذا يستغرب وجود الموجودات بدلا من العدم؟ صحيح أن الفلسفة تجريد
ذهني غير مألوف لكن لا معنى له بغياب البحث في موضوع محدد فلسفيا يحمل مدلولات
بحاجة الى توضيح وإضافة تنويرية حقيقية جادة، تبيّن على ماذا يراد البرهنة عليه
وعلى ماذا يراد الوصول له.. أن طرح مثل هذه المسائل الافتعالية على أنها مواضيع
جوهرية في الفلسفة يتوجب على الاخرين إغنائها، أنما هو من غير دراية يضع التفلسف
داخل علامة استفهام وادانة أن مواضيع الفلسفة الاشكالية ليست سوى تجريدات لغوية
مفتعلة لا طائل من ورائها..
وأكثر من هذا نجد التناقض الواضح عند هيدجر
قوله (مشكلة الخطاب الذي يناقض نفسه هو أنه ينتهك ويسير بالضد من القواعد الاساسية
للخطاب السليم اللوغوس (Logos)
الذي يسير بالضد من المنطق، فالحديث عن العدم هو أمر غير منطقي تماما، والمرء الذي
يتحدث ويفكر بطريقة غير منطقية أو لا عقلانية هو شخص لا يتمتع بذهنية علمية..) (5)
فهل بعد هذا الرأي المناقض لفحوى تساؤله يبقى معنى فلسفي يقصده هيدجر لماذا كانت
الموجودات ولم يكن العدم؟؟
بالعودة الى أصل صيغة تساؤل هيدجر لماذا توجد
الموجودات بدلا من العدم؟ نجد التهويم الفلسفي الذي يطرحه هيدجر في أكثر من خمسين
صفحة من كتابه مدخل الى الميتافيزيقا في محاولة تسويقه تساؤل متناقض منطقيا وبعيد
جدا عن إسباغ مضامين فلسفية عليه.. ونجده يناقض نفسه بنفسه في أكثر من مجال في
محاولته البائسة خلع نوع من العبقرية الفلسفية غير المسبوقة في تاريخ الفلسفة
ممثلة بتساؤله المار ذكره..**
توضيح هيدجر أكثر لسؤاله الفلسفي:
يقول هيدجر في كتابه المعرّب الصادر عن دار الفارابي
مدخل الى الميتافيزيقا في معرض توضيح سؤاله قائلا (لماذا كان وجود الموجودات بدلا
من العدم؟) فأن (اللماذا) هنا في السؤال ستتبنى استراتيجية قوية واختراقا ومقاربة
مختلفة جدا، عندها يصبح السؤال: لماذا تشتت الموجود بعيدا وأنسحب الى أمكانية
العدم؟ لماذا يتراجع الى حيّز العدم؟) (6)
تعبير خال من الدلالة الفلسفية وسفسطائية
افتراضية لا معنى لها فقط قيمتها كونها صادرة عن فيلسوف وجودي بوزن هيدجر الذي
يحاول تخليد تساؤله فلسفيا مثل خلود عبارة ديكارت (أنا أفكر إذن أنا موجود) مع
فارق أن عبارة ديكارت التي تحمل مضامين فلسفية عميقة قابلة للنقاش سواء بالقبول أو
بالرفض كما جرى معها على امتداد ما يزيد على ثلاثمائة عام مضت.. وليست تساؤلا
خاويا من المعنى كما هو الحال مع عبارة هيدجر الذي يستميت في إعطاء ما ليس له قيمة
فضاءا فلسفيا في عبارة تحمل تناقضها القاتل قبل أن تولد على لسان هيدجر..
لنتابع مع هيدجر قوله )أن عبارة مثل بدلا من العدم في السؤال هي ليست كما يعتقد
البعض ملحقا زائدا غير ضروري للسؤال الحقيقي ولكنها تمثل عنصرا أساسيا مقوّما لكل
الجملة الاستفهامية.)(7)
ويمضي هيدجر في تفلسفه لماذا كان وجود
الموجودات، في هذا التساؤل المجتزأ عن السؤال المحوري يقول هيدجر (أننا نضع أنفسنا
فعلا داخل الموجود بطريقة تجعله يفقد صفة الوضوح- بذاته- كموجود. فالموجود هنا بدأ
يتمايل بين الطرفين الاكثر اتساعا وقساوة: أما الموجود وأما العدم، وبهذه الطريقة
فأن التساؤل ذاته يفقد كل مواقعه وأسسه الصلدة..) (8)
أمام هذه الفذلكة التعبيرية لهيدجر العصّية
على الفهم والاستقبال الذي يفتقد مضمونا فلسفيا في محاولته تمرير إضافات توضيحية
عن تساؤله لا معنى فلسفي لها، تعبيرات لغة مقّعرة تدين ولا تعمل لصالح فيلسوفنا
الوجودي اللامع هيدجر..
هيدجر ومثال قطعة الطباشير
في استطراد لهيدجر حول توضيح وفك طلاسم
تساؤله يستعين بضرب مثال عن قطعة الطباشير قوله (لو اخذنا قطعة الطباشير فأن لها
صفة وخاصية الامتداد وهي بالأحرى صلدة نسبيا ضاربة الى البياض الرمادي في لونها مع
حيازتها شكلا محددا، أن قطعة الطباشير تمتلك صفة أن تكون مستلقية أو ملقى بها هنا،
لكنها بالتاكيد تمتلك بالوقت ذاته بالقوة إمكانية ألا تكون مستلقية أو ملقى بها
هنا أمامنا، وألا تكون كبيرة بهذا الحجم. وأن حقيقة أمكانية أن يهتدي اليها والى
وجودها الذي يسير جنبا الى جنب مع السبورة كونها اداة معدة للاستخدام في عملية
الكتابة هو بالأحرى ليس شيئا ما نضيفه من لدنا على الشيء بواسطة تفكيرنا) (9)
لو أكتفى معلم مدرسة ابتدائية قائلا لتلاميذه
هذه قطعة طباشير في وجودها بجانب السبورة أنما تحمل أكثر من صفاتها التي نلاحظها
قبل استعمالنا لها بالكتابة، من حيث أن لها القدرة كأداة في الكتابة على السبورة بما
نريد ونرغب، وأن قطعة الطباشير لا يعطينا التفكير بها صفات يمنحها تفكيرنا لها بل
هي تمتلكها تلقائيا بالاستعمال لها.. إلا تصبح أمكانية مقارنة المعلم بالفيلسوف
هيدجر قائمة ولها مسوغات طرحها وحضورها؟؟
...يتبع
هامش **: في أغلب البحوث العربية الفلسفية التي هي كتابة
شروحات وهوامش تتناول بعض الفلاسفة الغربيين يجري عندنا توثين الافكار الفلسفية
لهم وتصنيمها بالانبهار والعصمة كمقدس بدلا من معاملتها النقدية الهادفة لها، وأول
بدايات تكوين حس نقدي فلسفي لدى طلاب الفلسفة في الجامعات عندنا هو وجوب اعتماد
لغة النقد والشك وليس عادة التسليم المطلق بما يقرأ وبذلك نكون وضعنا أقدامنا على الطريق
الصحيح..
1.مدخل الى الميتافيزيقا، مارتن هيدجر، دار الفارابي، ت:
د. عماد نبيل ص38
2. المصدر اعلاه ص 41
3.المصدر اعلاه نفس الصفحة
4.المصدر نفسه ص 42
5.المصدر نفسه نفس الصفحة
6. المصدر نفسه ص 47
7. المصدر اعلاه نفس الصفحة
8.المصدر اعلاه نفس الصفحة
9. المصدر اعلاه ص48
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية
0commentaires:
إرسال تعليق