فيورباخ والطبيعة

                       فيورباخ والطبيعة  
د علي محمد اليوسف
 يقول أحد الفلاسفة المعاصرين في معرض حديثه عن تعالق الدين واللغة عند الفيلسوف بروديكوس:( إن الإنسان البدائي والذي بدا له أن كثيرا من الظواهر الطبيعية معادية له، ومع ذلك كان معجبا جدا بالهبات التي تزوده بها الطبيعة لتسهيل حياته ورفاهيته). (1)، وفي تعبير ظريف ليوربيدوس: أن الأرض يجب أن تثمر شيئا لإطعام قطيعي سواء أكانت الطبيعة راضية أن تفعل ذلك أم لا.
هذه الطبيعة المادية في مجموع تكويناتها وتنوعاتها الأرضية، لم تكن طبيعة جامدة (روحيا) بمعنى الثبات والسكون الفيزيقي الذي يعدم تساؤلات ما وراءها، تساؤلات الإنسان الكائن النوعي في ذكائه المتفرد به عن باقي المخلوقات والكائنات، (عقليا - روحيا) خياليا تأمليا ميتافيزيقيا فيما وراء ظواهر الطبيعة.
(أن مصير الانسان هو أرادته وتفكيره، وبمجرد أن يتخطى المرحلة البدائية، ويصبح كائنا يقرر مصيره على أسس وقوانين تتسم بالحكمة والعقل، عندئذ تظهر له الطبيعة والعالم كشيء يعتمد على فكره وإرادته وتأثره بهما). (2)
وبحسب فيورباخ: حين يرتقي الانسان بفكره وأداته فوق الطبيعة، فانه يصبح خارقا للطبيعة، ويصبح الإله أيضا خارقا للطبيعة. (3) هنا يتوجب التنبيه أن لا الخالق الغيبي في السماء، ولا الإله الانساني مجسدا بالإنسان نفسه، يستطيع خرق قوانين الطبيعة لتلبية رغائب الانسان، ماعدا ما جاء كمعجزات منسوبة للأنبياء لتدعيم إيمان الناس بهم. ولا بمقدور الطبيعة خرق قوانينها الثابتة أيضا من أجل حاجات الانسان، فهي من جهة لا تعي ذاتها ومن جهة أخرى لا تعي وجود الانسان معها، لكن بمقدور الانسان منفردا خرق قوانين الطبيعة من أجل رغائبه وإشباع حاجاته وملذاته، إذا ما توفرت له صفات الألوهية كما خلعها عليه فيورباخ من خلال علوّه وإعلائه الانسان كمهيمن على الطبيعة. وهذا لا يتم الا في وعي الانسان لذاته كائنا مميّزا عن كائنات الطبيعة الاخرى من حوله، وكونه جزءا من الطبيعة متمايز عنها متعاليا عليها بالذكاء والعقل التطوري واللغة.
 إن انتقال الإنسان من الحالة الحيوانية الانقيادية للطبيعة، هو انتقال نوعي مفارق عن علاقة تكيّف وانقياد الحيوان لها، فحين يعلو الانسان فوق الطبيعة، فبماذا يعلوها؟ وكيف؟ فهو يعلو عليها بخاصيتي الذكاء والتخيّل اللتين لا يمتلكهما الحيوان في علاقته المتكيّفة مع الطبيعة المهادنة لها... وبهذا يتسيّد الانسان الطبيعة، ويكون تعامله معها غير متكيّف سلبيا انقياديا لها كما عند الحيوان، لذا نجد الإنسان في علاقة رأسية احتدامية متصارعة مع الطبيعة. وبهذا النوع من العلاقة نجد الانسان يعلو على الطبيعة ولا تعلو هي عليه. رغم ضآلة وجوده الكياني وقدراته المحدودة أمام لا محدودية الطبيعة في متخيله الارضي لها وفي امتلاكها من موجودات مذهلة لتأمين بقائه. وأنه لمن المهم أن الانسان في مراحل تاريخية متقدمة في وجوده الانثروبولوجي تمكن من اختراع اللغة في اعتلائه ظهر الطبيعة وموجوداتها.
وأكثر مما ذكرناه فان فيورباخ يصف الآلهة والتوحيد الديني قائلا ما معناه أن التأليه أو التوحيد لإنسانية الطبيعة الالهية بمعنى انتساب الطبيعة الالهية للإنسان له وليس انتسابه هو وتبعيته لها. إنما ينبعان فقط من ربط الإنسان الطبيعة بذاته، لأن الطبيعة تخضع نفسها للإنسان دون إرادة ولا وعي منها.(4) كما أن الطبيعة غير ملزمة، ولا تعي أهمية تنفيذها لرغائب الانسان وتلبية احتياجاته منها، كما وليس  بمقدورها خرق قوانينها الطبيعية التي تحكم الوجود الطبيعي رغما عنها ودون دراية منها، من أجل تحقيق ما يحتاجه الإنسان منها كما أشرنا سابقا، لسبب يجهله الانسان كما تجهله الطبيعة هي أيضا، هو أن الانسان البدائي القديم لا يدرك أن الطبيعة تختلف عنه جوهريا في أنها لا تعي ذاتها ولا تعي وجود وظواهر الاشياء من حولها بخلاف الانسان عن الطبيعة في وعي الانسان ذاته ووعيه المحيط والموجودات من حوله.
ومن منطلق تجاهل الجدل الحاصل في أن الطبيعة خالقة لنفسها وقوانينها على وفق الانتخاب الطبيعي الدارويني والتطور البيولوجي والانثوبولوجي للانسان والطبيعة، أو اعتمدنا المنحى الايماني الديني أن الله هو خالق الطبيعة ومنظّم قوانينها بإحكام لا تدركه الطبيعة ذاتها ولا الانسان أيضا. نجد من المهم التذكير بأن الطبيعة التي تنتج وتسود قوانينها التي تحكمها هي والانسان معا، فالطبيعة لا تصنع تلك القوانين في إدراك أهميتها للانسان وأشباع رغائبه واحتياجاته، أي أن قوانين الطبيعة التي تعمل بمعزل عن إرادة الانسان في توفيرها وسائل بقائه وتلبية احتياجاته المعيشية له وللحيوانات معه كافة، لا دخل لوعي الطبيعة بصنعها ووجود تلك القوانين التي تحكم الانسان والطبيعة وحتى الكوني أيضا. وفي الوقت الذي يندهش الانسان بالطبيعة، في تساؤله من أوجدها وكيف؟ فالطبيعة لا تمتلك جوابها لأنها لا تعي كيف وجدت ومن أوجدها... كما أن الانسان لا يقوى حل لغز حياته هو في وجوده الارضي الطبيعي والى يومنا هذا.
وبحسب فيورباخ أيضا (فان الآلهة قادرة على فعل ما يرغب الانسان، بمعنى أنها تطيع وتلبّي قوانين قلب الانسان.. فعلاقة الانسان بروحه، تعادل علاقة الآلهة بالعالم المحسوس). (5) هذه العبارة مشبّعة ميتافيزيقيا تصوفيا ولا تقول أكثر من أن الانسان مبتدأ ومنتهى الدين، فكلتا العلاقتين علاقة الانسان بروحه، وعلاقة الانسان بالآلهة هي علاقة افتراضية خيالية معدومة التحقق ولا فارق بين العلاقتين لأن مصدر خلقهما هو الانسان فقط. هي علاقة الانسان مع نفسه فقط ولا وجود لآلهة تعلو الانسان الا تلك التي وضعها هو في موقع الاله المقدس المعبود.
وتأكيدا لما ذهبنا له من جهة ثانية فعلاقة الانسان بروحه علاقة وجدانية نفسية لا وجود حسّي أو إدراكي مادي عقلي لها، لذا هي تعادل علاقة الآلهة الافتراضية بالمحسوسات والماديات والطبيعة والعالم التي أيضا هي غير موجودة سوى في مخيّلة وتفكير الانسان فقط. فالإنسان يعبد ما يتخيّله هو فقط حسب حاجته الروحية أو المادية، ويؤمن بمعبوده بروحه المجردة وليس بعقله في كل ما يصنعه له خياله.
إذا ما علمنا أن فيورباخ فيلسوف وشاعر أيضا، أدركنا مدى قدرته الفكرية وقابليته الساحرة على تطويع لغة الفلسفة بالفاظ تعبيرية شفافة موحية تتوارى خلفها المعاني والدلالات... فقد وضع نزعة التدين عند الانسان مستودعها (القلب) وليس العقل ولا تزال هذه الحقيقة مسّلم بها دينيا في جميع لاهوت و ميثولوجيا الأديان، فالعقل بمدلولاته الادراكية والحسّية والخيالية الذهنية، لا يتوسّله الانسان في محاولة الاستدلال المنطقي ولا الحسي التجريبي في إشباعه نزعة التدّين عنده، وإنما يستعمل عقله في التساؤل التأملي التجريدي الخيالي في ترسيخ أيمانه الغيبي فقط، ولا زالت هذه الفرضية تغلب على تديّن أكثر الموحدين لله، أن الايمان الديني مصدره القلب وعجز العقل في الاستدلال على تثبيت الايمان الروحاني ببراهين عقلية.
فالإنسان يعمل عقله حسّيا وخياليا بعكس الحيوان الذي يدرك الطبيعة عقليا محدودا جدا، وحسّيا مباشرا في تامين الطبيعة ما يحتاجه في غذائه فقط، ولا يمتلك الحيوان قابلية ولا قدرة أعمال العقل خياليا تجريديا حتى في حالة تعطيل اللغة عنده.. لذا الانسان يمتاز عن الحيوان بأنه كائن ديني أو متديّن كونه كائن عقلي وخيالي في وقت واحد.
لنمعن النظر جيدا في العبارة التالية لفيورباخ (أن الانسان يفعل من خلال الله، ما يفعله الله حقيقة بنفسه). هذه العبارة المكتنزة فلسفيا لا تحمل أكثر من تأويل أوحد وحيد يمثل معنى، لما كان بدأه فيورباخ في بداية كتابه أصل الدين، من أن الآلهة مصنّعة خياليا من قبل الانسان، وليس هناك من وجود الهي من غير تأمل الانسان وأعمال عقله الخيالي في ما وراء الطبيعة، وأيمانه بتخليق ما كان قد أبتدعه خياله انطولوجيا، ويحمل جميع الصفات الذاتية التي يخلعها الانسان عليه، على الهه.
إن عبارة فيورباخ هذه في تأويلها بمنهجية علوم اللغة في المسكوت عنه الذي يتخفى فائض المعنى فيها خلف المفردات اللغوية، تلخيصها يكون بأن الاله والانسان هما وجود انطولوجي واحد هو الانسان فقط في معايشة خياله في علاقته بكل من الطبيعة والميتافيزيقيا... ولا يختلفان إلا بأهمية الخيال في البحث عن الامان الروحي أي الدين.
إن جميع المصادر البحثية في نشأة الدين تذهب الى بداياته حتى مراحل الوثنية قبل الاديان السماوية تشير الى الشرق العراق السومري والبابلي ومصر الفرعونية والهند والصين وفلسطين، ثم انتقلت الاديان الوثنية والميثولوجية والاسطورية والسحرية الى بلاد اليونان والرومان الى ما قبل ظهور اليهودية والمسيحية. عن طريق فتوحات الاسكندر المقدوني للشرق حوالي 320 قبل الميلاد.
فعلى لسان هيرودوتس يذكر فيورباخ (أنه في الشرق يقلل الانسان من قيمة نفسه الى مستوى الحيوان كي يثبت ولاءه الديني، أما عند الاغريق والرومان فأن تأكيد الانسان لكرامته تضعه في مصاف الالهة). طبعا في هذا مغالطة آرية عنصرية عرقية، اذ الى وقت ليس ببعيد تاريخيا فأن الاغريق كانوا يضّحون بالأطفال قرابين للآلهة زيوس كم كان يفعل (آخيل) أو غيره من وثنيي الأرباب ولم تكن تحسب تلك حيوانية دينية، بعدها بزمن أيضا ليس ببعيد كانت قبائل الفايكونغ تضحي بالقرابين الآدمية إرضاءا للإله أيتش... وأخلافهم اليوم من أرقى وفي المقدمة حضاريا من دول العالم الذين هم الدول الاسكندنافية.
لقّب فويرباخ بأنه صاحب منهج فلسفي مادي تصوفي أو تأملي ذاتي، البعض ينعت فويرباخ فيلسوف الذات فهو عالج موضوعة اغتراب الذات فلسفيا في سبق فلسفي يحسب له. ومن الماركسيين المحدثين الذين ينكرون التأثير المادي لفويرباخ على ماركس، بنفس معيار أنكارهم الجدل الهيجلي على اعتباره هو الآخر مثاليا تجريديا تأمليا.. علما أن جميع دارسي وباحثي الماركسية يذهبون الى أن المادية الفويرباخية والجدل أو الديالكتيك الهيجلي كانتا دعامتا الديالكتيكية المادية، والجدل المادي التاريخي الذي أعتمدهما ماركس في صياغته قوانين تطور المادة والتاريخ، بعد تخليصه مادية فويرباخ من تصوّفها التأملي الديني، وتخليص الجدل الهيجلي من مثاليته المقلوبة.
لكن لا يمكن لأحد نكران أن المعارف والفلسفات وحتى العلوم الإنسانية، هي تراكم معرفي وحضاري تاريخي محكوم بالكم والكيف، في تقادم زمني لا يلغي تماما جهد السابقين على اللاحقين تاريخيا، مهما أعتور وشاب تلك المسيرة من النقد والمراجعة والحذف والتفسير والتفنيد والتجاوز.. الخ. كما يتعذر ولادة معارف علمية أو فلسفية من فراغ سابق عليهما.
وإذا سمحنا لأنفسنا إسقاط الفهم الحداثي وما بعد الحداثي على اي نص مكتوب، فهو بحسب رولان بارت في مقولته الشهيرة موت المؤلف، في ردّه كل نص الى تناصه المتعالق مع سابقاته من النصوص من جهة، ومن جهة اخرى فأن النص بعد كتابته ونشره يصبح ملكا صرفا للقاريء المتلقي، أو بالأحرى المتلقين الآخرين في تعدد وتنوع قراءآتهم للنص في ملاحقتهم ما يسمى فائض المعنى المتبقي بعد كل قراءة جديدة. وهو ما ينطبق على كل نص تداولي مكتوب سواء في الثقافة أو المعارف أو الفلسفة أو السرديات الكبرى كالايديولوجيا والتاريخ الخ.
ويؤكد البرتو ايكو هذا المعنى لدى بارت قائلا: أن بارت يقوم بتفريق هام بين نص القراءة، الذي يستهلكه القاريء، والذي يمنح نفسه للقاريء بلا مشّقة، ومن ثم يقوم بترسيخ العادة وألمألوف، وبين نص الكتابة الذي يقوم القاريء بكتابته مرة أخرى، ومرات عديدة في كل قراءة أخرى جديدة.
الهوامش:
1.كتاب اصل الدين لفيورباخ/ ترجمة وتقديم  احمد عبد الحليم /القاهرة ص12
2. نفس المصر ص17
3. نفس المصدر السابق ص22
4. نفس المصدر السابق ص34
5. نفس المصدر السابق ص56



تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس