الوجود مفهوم ميتافيزيقي وليس موجودا أنطولوجيا

الوجود مفهوم ميتافيزيقي وليس موجودا أنطولوجيا
د علي محمد اليوسف                                                            06 فبراير 2020
هذه المقالة الثالثة التي أكتبها عن تساؤل هيدجر: لماذا كانت الموجودات ولم يكن العدم؟ التي ابتدأ به كتابه مدخل إلى الميتافيزيقا، وفي كل الأحوال أن ما كتبته بمقالاتي الثلاث ليست آراءا شخصانية متحاملة بحق الفيلسوف هيدجر وإنما هي منهجية ممارستي النقد لأفكاره الفلسفية فقط وله ما شاء أن يكون، وللقارئ الحكم على صواب أفكار هيدجر أم صواب الافكار النقدية له؟ طبعا أنا أدعو القارئ الى مراجعة المقالتين السابقتين كي يكون على دراية كافية بالحكم على مضمون هذه المقالة التي هي امتداد لما سبقها كي تتكامل الرؤية الفكرية لديه ...
كيف يفهم هيدجر علاقة الوجود بالعدم؟
كمفتتح لهذه المقالة أقول أن هيدجر وفي سرده (84) صفحة من كتابه (مدخل الى الميتافيزيقا) يخلط في تناقضاته الفلسفية بين (الوجود) كمفهوم فلسفي تجريدي يحتمل العديد من وجهات النظر الفلسفية كونه مفهوما كليا ميتافيزيقيا شموليا لا يمتلك دلالة مصطلحية ثابتة ولا يمكن التعبير عنه إلا مجازيا بالفكر واللغة وليس بالإدراك العقلي كموضوع متفق عليه فلسفيا، وبين (الموجودات) التي هي متعينات إدراكية مادية محسوسة متوزعة في العالم المحيط بنا يكون التعبير عنها محددا ودقيقا...
وأوضحت ما فيه الكفاية في مقالتيّ السابقتين بما يجعلني متحررا من التكرار في وجوب الإعادة لما كتبته لمن يرغب الوقوف على خلط هيدجر بين المفهومين.. فالموجودات هي المكونات الاساسية لكل وجود كلي غير محدود بالإدراك بينما لا يلزم بالضرورة من ذلك أن يكون تعبير الوجود هو مكافئ انطولوجي للموجودات في وجودها المادي المدرك..
يعرّف هيدجر(الموجودات) الانسان والاشياء من حولنا وليس (الوجود):( الموجود هو ذلك الجمع المحتشد من الناس في الشوارع المشغولة الناشطة والضاجّة دائما بالحركة، أن الموجود نحن أنفسنا، الموجود هم اليابانيون والناس الاخرون من شتى الاجناس، الموجود هو المقطوعات الموسيقية المختلفة للموسيقار باخ، الموجود هو كاتدرائية ستراسبورغ، الموجود هو ترانيم هولدرين الشعرية، الموجود هو المجانين الذين يقطنون في مأوى المجانين، الموجود هم المجرمون.)(1)
ويتساءل هيدجر (إذا كان الموجود من المفترض أن يكون في مكان ما وزمان ما، هو موجود أو غير موجود في الواقع، أذا لم نفرّق ونمّيز سلفا بين مفهومي الوجود والعدم، وينبغي علينا أن ندع الموجود يكون ويوجد تماما كما هو الحال) (2)
من الملاحظ أن رؤية هيدجر للموجودات هي محض رغبة شخصية بعيدة جدا عن منهج التفلسف في البحث عن الحقيقة في ملاحقة حقائق الاشياء كموجودات ومفاهيم باستقلالية عن رغباتنا في تطويعها قسرا، كما أن في العبارات الماضية اقتباسات مأخوذة عن فوكو، وعن مانويل كانط.. لكن ليس مهما الوقوف عندها على كل حال كتوارد أفكار تحصل...
من المعلوم جيدا أن الموجودات والاشياء في العالم من حولنا ليست وليدة رغبة ونزعة ذاتية تريد هذا ولا تريد ذاك، فالموجودات التي عددها هيدجر هي موجودات مستقلة في وجودها عن رغائبنا وأسلوب تعاملنا معها وأدراكنا ومعرفتنا لها، أدراكا تفاعليا مشتركا بين كل الناس فكاتدرائية ستراسبورغ ليست موجودة بإشارة من هيدجر لها ولا هو المعجب الوحيد بموسيقا باخ وهكذا مع الشاعر هولدرين والمجانين والمجرمين الخ، الموجودات هو وقائع أنطولوجية لا توجد ولا تخلق برغبة شخص ولا بإرادة مجموعة أشخاص وهي أي الموجودات سابقة في وجودها على كل تفكير وإدراك بعدي لها في وجودها المادي القبلي.. فالطبيعة بمكوناتها والموجودات من حولنا هي قسمة أنطولوجية في العقول المدركة لها وليست حكرا على أحد منفردا يجدها ويدركها وحده كما يحلو له ويشاء..
أما تعبير هيدجر دعونا ندع الموجود يوجد، فلا معنى له كون الموجود يوجد بمعزل عن رغباتنا ولا مجال لنا نفيه كموجود برغبتنا أيضا كما لا أمكانية لنا أن نوجده بمجرد تفكيرنا به وأدراكنا له... ودعوة هيدجر أن ندع الموجود يوجد ويتنفس، هو في توفير الحرية كاملة للإفصاح عن حقيقته الجوهرية وهو ما لا خلاف عليه.. فالموجود الحي (الانسان) هو وجود حرية وارادة وقرار ولا رقيب يمنعه ويستلب منه هذه المعطيات الفطرية والتكوينية المكتسبة التي بموجبها يكون الانسان انسانا لا حيوانا..
لكن الخطأ الأكبر في هذه السقطات الفكرية هو أن هيدجر يضع العدم مكافئا وجوديا على ضوئه وبمقارنته به يتحدد الموجود والوجود معا ... فالعدم ليس وجودا مكافئا للموجود بل هو جزء طفيلي عارض يلازم الموجود في وجوده الانطولوجي المتعين إدراكيا ولا ينفصل عنه حتى إفنائه تماما.. وليس من المنطقي أن يتوقف أدراكنا الموجودات في تعالقها مع العدم... فالموجودات لا تحتاج تعينّها الانطولوجي بمقارنتها الضدية بالعدم الإفنائي لها..
أن الموجود المدرك زمانيا - مكانيا يوجد ويغيب عن إدراكاتنا له متى ما كان عاملي الزمان والمكان متوفران كوسيلة أدراك له في الحضور وفي الغياب، الموجود يغيب عن إدراكاتنا ولا يغيب بالعدم الإفنائي وحده (الموت)، كون العدم نفيا تاما له لكن غياب الموجود هو غياب مؤقت لا يفنيه ويعدم الحياة فيه حينما لا ندركه ماثلا أمامنا وفي تفكيرنا... وعدم أدراكنا الموجودات لا يقع عنه ويترتب عليه انعدامها وجوديا.... مدركاتنا العقلية فقط هي التي تحدد غياب أو حضور الموجود بخلاف العدم الذي هو إفناء تام وليس تغييب مؤقت للموجود ولا قدرة للموجودات على أدراكه أو اجتنابه والافلات من حتميته..
وقولنا هذا ينطبق تماما على قول هيدجر في تناقضه (أننا ندرك الموجودات بلا شك كونها تصطدم بنا ونلتقي بها على طول الخط، ونحن نعمل بذلك على التمييز والتفريق بين وجودها من عدمه على هذه الشاكلة) (3)
واضح جدا أن هيدجر يفهم حضور الموجودات من (عدم) حضورها كون العدم يطالها وليس غياب الموجودات الحسّي المؤقت بسبب غياب أدراكنا لها وليس في استهداف العدم لها ونفيها نهائيا كما يعرب هيدجر أن غياب الموجودات هو بسبب استهداف العدم لها فقط.. غياب الموجود عن مدركاتنا له لا يكون بالضرورة غيابا نهائيا نتيجة استهداف العدم له.. وغياب وحضور الموجود غير الإفنائي له عدميا أنما يقوم على أدراكنا له من عدمه..
كيف لنا ألا نمّيز بين غياب الموجودات المؤقت عن انعدام الموجودات بالفناء التام، العدم بالإفناء والموت التام لها؟ فالعدم يطال الموجودات الحيّة بالموت والفناء مثل الانسان والحيوان والنبات ولا يطال الموجودات غير الحية (الجمادات) في الطبيعة.. ولا المفاهيم الكلية مثل الوجود، الاخلاق، الموسيقى، والطبيعة غير الحيّة وغيرها.. فهذه مفاهيم وجودية تلازم الموجودات والانسان تحديدا..
غياب الموجودات عن إدراكاتنا لا يعني السبب هو إفناء العدم لها فقط، الموجود المدرك في حضوره وغيابه ليس مشروطا باستهداف العدم له وإفنائه، فغياب شخص مثلا كموجود عنا لا يكون بالضرورة بسبب الموت الذي يستهدفه بالفناء بل بسبب ربما ظروف معينة حجبت تواجده مؤقتا عنا.. غياب الموجود لا يجب تعليله تعليلا وحيد الجانب هو أن العدم طاله ولم يعد موجودا.. فعدم الموجود نهائيا لا يكون الا في حالة الفناء والموت وهذا ينطبق على كثير من الموجودات التي لا يطالها العدم بل الغياب الطبيعي المؤقت.. أما أغلب انحجابات مداركنا عن العديد من الموجودات هي ليست بسبب استهداف العدم لها فقط بل لأنها موجودات في غياب مؤقت عن مداركنا لها..
ويدين هيدجر فلاسفة عديدين تناولوا مبحث الوجود لعل أبرزهم نيتشه قائلا (أن من الخطأ القول أن كلمة وجود هي كلمة لا معنى محدد لها فارغة وغامضة) (4) وتعبير كلمة لا معنى لها فارغة وغامضة هي لنيتشه..
من السهل أن يكون التفريق بين الوجود كمفهوم كلي تجريدي لا يدرك الا بموجوداته التكوينية له فقط، وبين الموجودات التي هي متعينات إدراكية حسّية للعقل التي هي تكوينات الوجود.. والقول بأن الوجود كلمة غامضة غير محددة هو قول صحيح لنيتشه رغم استهجان هيدجر لها، فالوجود مفهوم ميتافيزيقي مجرد، وليس أدراك أنطولوجي محدد كموجودات إدراكية تكوينية له..
ويعود هيدجر الى نفس تناقضه بقوله (ما زلنا نعثر على حقيقة أن الوجود هو عبارة عن معنى غامض وغير محدد ولكن من جانب آخر فأن البحث والذي شرعنا في أنجازه هو فقط أننا قمنا فعلا وبوضوح وبشكل مؤكد بمحاولة التمييز بين الوجود والعدم..) (5) في أكثر من 84 صفحة من كتابه مدخل الى الميتافيزيقا ومن استطرادات فلسفية لا حاجة لها وتهويم ميتافيزيقي متناقض يقر هيدجر بإنجازه المتحقق في نجاحه بيان الفرق ما بين الوجود والعدم.!!
لنتعقب نجاحات هيدجر في تمييزه بين الوجود والعدم (ينبغي أن نضع بالحسبان الامر التالي: ربما يكون أمر مشكوك فيه ما أذا كان الموجود الفردي في مكان ما وفي زمان ما موجودا أو غير موجود، ربما يمكن لنا أن نرتكب خطأ بهذا الخصوص على سبيل المثال: ما إذا كانت هذه النافذة هناك، والتي بالرغم من كل شيء موجودة كانت مغلقة... ولكن حتى وأن كان هذا الشك يطرح نفسه فان التمييز المحدد الواضح بين الوجود والعدم يجب أن يكون حافزا حاضرا بأذهاننا) (6)
طبعا لو عدنا الى قراءة عبارات هيدجر فهو لايزال لا يفرق بين الوجود والموجود في علاقتهما بالعدم، ويخلط بينهما في استعماله أحدهما بدلا من الآخر وكأنهما دلالة تعبيرية واحدة لمعنى واحد بعلاقتهما بالعدم.. ولا يفرق بين الوجود كمفهوم فلسفي ميتافيزيقي مجرد وبين الموجود الذي هو متعين أدراكي حسّي عقلي.. وهل أصبح تمييزنا كما في عبارة هيدجر السابقة بين الوجود والعدم هو أن كانت النافذة مفتوحة أم مغلقة؟؟
هيدجر: اللغة والوجود
يذهب هيدجر لتعريف الوجود بضوء الفهم في تعبير اللغة على أنها هي مصدر اشتقاق كلمة الوجود في تطورها تاريخيا قائلا (اللغة ومن خلال تطورها تشّكل حتميا صيغة المصدر لكلمة وجود، على سبيل المثال: أن يوجد، أن يقدم نفسه، ومع مرور الزمن أصبحت اللغة نتيجة ذلك تنتج معنى ضعيفا متبلدا غامضا لتلك الكلمة) (7).
الوجود كمفهوم ميتافيزيقي قبلي سابق على اللغة ولم تخلقه اللغة وليست هي مصدر تخليقه كوجود.. اللغة لم تأت بالوجود كمفهوم وناتج عرضي لتطورها كلغة عوضا عن أنها وسيلة استدلال الفكر الإنساني على معرفة معنى الوجود.. فالوجود مفهوم أنطولوجي ميتافيزيقي غامض شغل التفكير الانساني والفلسفي منذ عصور سحيقة قبل اختراع اللغة التعبير عنه تجريدا كمفهوم ميتافيزيقي، ولم تكن اللغة سوى وسيلة الدلالة في التعبير عنه كمفهوم غامض غير محدد ولا يحمل مضمونا يمكن تحديده وتعيينه كموضوع ابستمولوجي خارج نطاق دلالته الغائمة الغامضة ميتافيزيقيا..
أن الوجود من حيث هو مفهوم ميتافيزيقي يكتسب غموضه، وليس امتلاك (وجوده) من حقيقته على أنه مفهوم غير مجمع عليه كمصطلح متفق عليه ويشّكل هذا الفهم محورا بحثيا مركزيا في الفلسفة... وهذا الفهم لا يربط الوجود بالعدم كواقعة أنطولوجية واقعية، فالوجود على خلاف مكوناته من (الموجودات) لا يلتقي العدم ولا يفنيه الا عندما نبيح لأنفسنا استخدام تعبير (الوجود) ونعني به (الموجود) المتعيّن انطولوجيا المحكوم بالعدم، والعدم لا يستهدف الوجود كمفهوم تجريدي غير متعيّن.. وإنما هو يستهدف الموجودات الحية الانطولوجية الفيزيائية القابلة للفناء والموت.. العدم لا يعمل في فراغ لغوي تجريدي بل يعمل في مجال أنطولوجيا الموجودات الواقعية الحيّة.. والخطأ الشائع في الفلسفة التعبير اللغوي عن الوجود ويراد القصد منه الموجود....
ويعبّر هيدجر عن هذا التناقض في التناوب الدلالي الواحد بين الوجود والموجود رغم حذره الشديد ألا يقع في التناقض بقوله: (أن الشيء الذي يناقض نفسه لا يمكن أن يوجد ويكون، فالدائرة لا يمكن أن تكون مربعا ولا مثلثا، لكن الوجود محدد وغير محدد كليا في وقت واحد) (8)
ولتوضيح محاولة هيدجر هذه البرهنة على هذا الاشكال المستعصي منطقيا يذهب على خلاف من نيتشه الذي يرى في الوجود كلمة فارغة لا معنى لها كونه مبحثا ميتافيزيقيا في الفلسفة... والقول لهيدجر: (فاذا فكرنا بعمق وعن كثب في حقيقة وطبيعة هذه الكلمة – الوجود – فأنها في نهاية المطاف تتحول الى حقيقة على الرغم من ضبابية وعمومية معناها، أننا بلا شك نقصد بها شيئا محددا) (9).. نلاحظ أن تعبير هيدجر في تحديده الوجود كشيء محدد أنما يكون في أعادة البرهنة على أمكانية تمرير سقطته أنه يتعامل مع كلمتي وجود وموجود أنهما لفظة واحدة في التعبير عن معنى دلالي محدد واحد عن شيء واحد.. لتوكيد هيدجر وجهة نظره أنه يمكننا استحضار الوجود من المفهوم الميتافيزيقي له، الى مرتبة الموجودات التي يمكننا معاملتها إدراكا عقليا أبستمولوجيا..
هيدجر أمام محاولته العقيمة جعل مفهوم الوجود الميتافيزيقي واقعة مادية محكومة بالعدم يلجأ الى ممارسته لعبة تبادل أدوار معنى الوجود كمتعين انطولوجي بدلالة محمولاته من الموجودات الواقعية المتحررة عن الوجود في وجودها المستقل أنطولوجيا.. الاشتباك بين الوجود والموجود الذي يحاول هيدجر تسويغ أمكانية عبور الاختلاف الواسع بينهما هو في مساواة الوجود كمفهوم ميتافيزيقي غير محدود مع الموجود كموضوع مادي واقعي يطاله الافناء العدمي..
فالموجود يبقى مفهوما معلقا في تعبيرنا اللغوي وفهمنا المتداول الخاطئ أن الوجود ممكن الوجود كمتعيّن انطولوجيا كقولنا (وجود الشيء) ونعني به تعيين الشيء كموجود بأسناد وجوده الى لفظة (وجود)، بهذا المعنى التعبيري اللغوي (وجود الشيء) لم يكتسب الشيء وجوده الواقعي الحقيقي وإنما أكتسب الوجود بإضافة لفظة (الشيء) له وجوده المتعين المدرك أنطولوجيا بينما الوجود في حقيقته مفهوم زئبقي غائم وغامض غير متفق عليه.. غير متجل(ي) سوى بمحمولاته من الموجودات التي يمكننا إدراكها معرفيا..
إذن في قولنا (وجود الشيء) يصبح الوجود موجودا بالشيء ولا يكون الشيء موجودا بالوجود.. وإذا ما قمنا بتجريد الشيء عن لفظة وجود فهو لا يفقد شيئا من حقيقته الانطولوجية كموجود مدرك واقعي بينما يفقد الوجود كل قيمته أن يكون موجودا متعيّنا أنطولوجيا.. بتعبير مختصر أننا في حال جرّدنا لفظة (وجود) عن (الشيء) فسوف نحصل على شيء موجود ولا نحصل على (وجود موجود) مجرد غير أنطولوجي في حقيقته..
وفي لفظة (وجود الشيء) لا يكتسب الوجود متعّينه المادي منفردا عن الشيء بل يكتسب الوجود ماديته الزائفة غير الواقعية عندما نقرنه بالشيء الذي هو معطى موجود واقعيا.. والشيء كمتعيّن واقعي موجود لا يحتاج اقترانه بلفظة الوجود كي يحوز الاستدلال الانطولوجي كموجود يدرك.. عليه فالأشياء موجودات كمعطى طبيعي لا يتوقف معنى دلالة وجودها بإضافة كلمة (وجود) لها، فالموجود شيء متعّين أنطولوجيا قبل وبعد إضافة أو عدم إضافة لفظة (وجود) له.. وإلا ما كنا استطعنا اطلاق كلمة (شيء) عليه..
بالمختصر المفيد قولنا (وجود الشيء) لا يعني أن الشيء أكتسب وجوده (انطولوجيا) كمتعيّن (موضوع) يمكن إدراكه في أسناده الى لفظة وجود.. ولفظة شيء منفردة وحدها تعني أنه (شيء موجود) مادي وليس (وجودا) لفظيا لا معنى يحتويه ولا يتحدد وجوده من عدمه في إدراكنا له (كموجود) من عدم إدراكنا له، فالأشياء هي موجودات لا يخلقها الادراك من حولنا وما يدركه من هذه الاشياء شخص أو مجموعة أشخاص قد لا يتسنى لآخرين إدراكه.. وتعبيرنا (وجود الشيء) لا يكافئ ولا يفيد معناه أو يعني قولنا (الشيء موجود) الذي هو حقيقة تثبت أن الشيء المعني موجود كمتعين انطولوجي يمكننا أدراكه كموجود..
في محاولة هيدجر أضفاء صفة (الوجود) كمفهوم ميتافيزيقي على موجوداته كمواضيع مدركة للحواس والمخيلة والعقل يقول (الوجود الذي يخص أو يقود الى كل موجود أيّا كان، والذي – أي الوجود – هو بالتالي منثور متوزع ومشتت بين كل تلك الموجودات (الاشياء) التي هي مألوفة وحاضرة بالنسبة لنا، هو شيء – يقصد الوجود – أكثر فرادة وخصوصية من كل الاشياء الاخرى المنثور والمشتت فيها – يقصد موجودات الوجود – أن الوجود ينتمي بوضوح الى مجال الحضور. (10) ...
لا خلاف أبدا على عدم أمكانية نكران حقيقة أن تجّلي الوجود لا يكون ألا بتجليّات مكوناته أي موجوداته التي يحتويها ولا يسيطر عليها كأشياء متوزعة متناثرة عنه في الواقع والمحيط، أن الامر المهم نراه بوجوب التفريق بين الوجود كمفهوم ميتافيزيقي غير محدود ولا يمكننا الالمام به مجردا منزوعا عن مكوناته من الموجودات، وافتراقه عن الموجودات كمكونات متعينة واقعيا تنسب إلى الوجود مجازا تعبيريا ولا تنتسب له في حقيقة ماديتها..
إنه لمن العبث أن نحاول جعل أدراكنا الموجودات كأشياء موزعة متناثرة نعايشها وعلى تماس مباشر بنا هو بوجوب انتسابها الى (الوجود).. في حين أن الموجودات كأنطولوجيا لأشياء متعددة موزعة متناثرة أنما تكون حقيقة وجودها المتعين هو في انتسابها إلى الواقع والحركة والخيال والعقل، وتسميتنا (وجود الاشياء) لا يمنحها حقيقة وجودها، فهي موجودة كمتعينات مدركة بالحس والوعي والعقل وتعبير اللغة. بمعنى تلخيصي موجز الوجود هو تمثيل مجازي في التعبير عن الاشياء التي هي وقائع حقيقية مباشرة في حياتنا ولا أهمية أن يحضر الوجود في تسميتها أم لا يحضر لأن ذلك تعبير لغوي مجرد عن وجود لاواقعي مجرد.
الهوامش:
1.      مارتن هيدجر/مدخل الى الميتافيزيقا/ ت: د. عماد نبيل ص 82
2.      نفس المصدراعلاه نفس الصفحة
3.      نفس المصدر ص 83
4.       نفس المصدر نفس الصفحة
5.      نفس المصدر ص 84
6.      نفس المصدر نفس الصفحة
7.      نفس المصدر ص 80
8.      نفس المصدر ص 84
9.      نفس المصدر ص 84




تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس