الولايات الأنثوية المتحدة


الولايات الأنثوية المتحدة



د ماجدة غضبان



غالبا ما أقف مذهولا أمام مدرس التأريخ.. هذه الحصة تثير في القلق، و أكثر ما أكرهه فيها هو الحديث عما كان يجري في غابر الأزمان، لأنني أعده فاصلا بين الخيال و الواقع، و كل الاساطير التي يظنها مدرس التأريخ حقائق لا تقبل نقيضا لها، تجعلني أغزل منها آلاف من علامات الاستفهام..
نحن نذم علنا، و سرا تلك الولايات.. غير أن كل ما في أسواقنا مستورد منها، معظم نسائنا يحلمن بالعبور نحوها، و تمنعهن أمومتهن عن اجتياز الحدود المتوجة بقبة عاطفة الأمومة لحماية الولايات من أي هجوم نووي نحوها.. و النووي هذا جعلني أظن أن كل ما يقال عن حياة من سبقونا هو ضرب من الخيال..
صحيح أن المدرسة نظمت عدة رحلات نحو متاحف الأسلحة القديمة، و زيارات للمعارض الفوتوغرافية التي تصف بربرية القرن الحادي و العشرين، و ما سبقه من قرون، غير أني عجزت تماما عن رسم صورة كاملة لأجدادنا القتلة.. هم في بعض الأحيان يشبهوننا، و في أحيان كثيرة لا يختلفون عن الحيوانات المفترسة في غابة لم تعبث بها يد إنسان، كما أن الجثث المحنطة لضحايا الكتابة المسمارية قد أتلفت، و لم يعد لها من وجود سوى ما يحيطها من أسرار و كتمان.. و تسريبات تثير القشعريرة و الخوف في جسد أي رجل..
جدتي هي أكثر النساء تحمسا للحديث عن مدينة نهداد، رغم ذاكرتها المعطوبة..سمعتها في طفولتي و هي تروي الحكايات عن واد جميل، كان يوما ما ساحة حرب لم تنته إلا بظهور غريب لعصابات نسوية بدت شديدة القسوة مع خصومها الرجال.. استولت على مساحات شاسعة من الأراضي الجرداء بعد حرب ذكورية دامت قرنا من الزمان، انهته تلك النسوة بتعليق الرجال من أعضائهم التناسلية في الشوارع و الساحات، و ظن العالم أن هاته التجمعات المجنونة ستتحول إلى قبائل من آكلات لحوم البشر مع كمية سلاح تكفي لمسح كل أثر للحياة خارج البقع التي وضعن أيديهن عليها، و بلغ الخوف من وحشية مصير من يقرب منهن حدا لا يجرؤ على اجتيازه أي رجل، فهن لا يقتلن الرجال كما كن يفعلن في بداية ثورتهن، بل يقطعن الأعضاء الذكرية، و يعدن إرسال الضحايا من حيث أتوا، و بين أفخاذهم بقعة ملساء حفرت عليها بالمسامير رسائل مرعبة.. ثم انقطعت أخبار تلك العصابات، و لم تتوفر الشجاعة لدى أي رجل لدخول دولة البتر و الكتابة المسمارية على مواضع فحولتهم..
غير أن النسوة في مختلف أنحاء العالم لم ينقطعن عن زيارة بلد عصابات لا تعاملهن إلا بود، و تكرمهن أيما إكرام لقاء نشر دعوتهن لانضمام المزيد من النساء إليهن دون شرط سوى عدم اصطحاب ذكور..
و مر زمن كان الرجال فيه يلقون بقنابلهم النووية فوق ذاك الوادي المرعب دون ان يسمعوا دوي انفجار، إنما يعقب ذلك جفاف كل عضو تناسلي ذكري مع خصيتيه، و تحوله الى ما يشبه قطع من خشب آيل للسقوط..
و سنة فأخرى لم يعد الرجال يفكرون سوى بحماية أنفسهم من الانقراض، يتنازلون عن كل شيء للولايات في صفقات غير عادلة لقاء أن تظل أعضاؤهم حيث هي، تعمل دون عطب مفاجئ..
و يعد الاسلاف تحطيم مصانع السلاح، و اتلاف كل اداة قتل أكبر هزيمة للولايات المختلطة أمام الولايات الانثوية المتحدة..
و بعد زمن صمت ينذر بخطر مباغت، تتالت أخبار الاختراعات، و الاكتشافات التي تبث من خلال محطات أنثوية عالمية، لتجعل من البقاع التي سيطرت عليها تلك النسوة محصنة تحصينا كاملا ضد أي سلاح صنعه الرجل يوما ما..
تتذكر جدتي أن مواسم حصد البنات الرضع كان عيدا وطنيا لتلك الولايات الخالية من الذكور تماما وفق ما سمعته من والدتها يوما.. تقطف فيه البنات الصغار من أشجار تشبه رحم المرأة، ثم توضع في أحضان الأمهات اللواتي يرضعنهن طوعا من خلال حلمات دافئة تسحب حليبها من خزان المدينة الكبير..
لم تتسع تلك الرقعة الغريبة المحتشدة بأسرارها إإلا سلميا، كانت النساء تتجه من كل أنحاء العالم صوب ذاك البلد الساحر، و هن يضمن ما بحوزتهن من أراض لوطن خاص بالأنوثة وحدها بعد طرد الذكور منها..
و جدتي تضحك حين تذكر أن موضعا معروفا يطلقون عليه اسم (العلاوي) في العاصمة (نهداد) أصبح محل انطلاق الباصات الفضائية التي ترحل حسب جداول زمنية نحو جنات النعيم في زحل و الزهرة و المريخ و كواكب أخرى في مجرات لا يعرف عنها شيئا أي فرد من البلدان المختلطة الجنسين، أي التي مازالت تقر بحق الذكور في التواجد مع النساء.
و يقال أن هنالك متحف يسمونه متحف العهد الذكوري، فيه الكثير من الرجال المحنطين.. تحدثت عنه امرأة مسنة قبل وفاتها أمام حشد متظاهرات يطالبن بحقوق كالتي يسمع عنها في الولايات الأنثوية، و قد أعربت عن أسفها إذ لم يسعها الالتحاق بعصابات النسوة المتمردات على حروب حصدت الملايين بسبب أولادها الذكور الذين لم تستطع تركهم صغارا..
و قد تضمن خطابها توضيحا لما حدث حين قرر رجل انتحاري اجتياز الحدود الفاصلة بين الولايات المختلطة و الولايات الأنثوية المتحدة.. قالت إنه دخل دونما صعوبة، و كأن الحدود قد فرشت له زهورا، ربما لاصطياده، و جعله عبرة لغيره، و أنه قد تزحلق من الحدود حتى قلب العاصمة نهداد دون أن يدري كيف، كان كل شيء متموجا و زلقا.. و الشوارع أشبه ببطون الكواعب الملساء، أما البيوت فنهود منتصبة بأبواب تشبه الحلمات، و السيارات نهود أخرى تنزلق كأنها جحافل من حيامن تناضل لبلوغ بويضة أنثى..
لم يكن هنالك من دخان، و لا غبار، و الأريج يفوح في المكان حتى يخال المرء أنه في قلب زهرة، و ليس في مدينة.. الألوان أصابت عينيه بغشاوة، و خدر لذيذ سيطر عليه و هو يسير تائها بخطاه بين أجساد لم تسترها قطعة قماش..
علام القماش و الأزياء و الأحذية؟؟؟، هكذا تساءلت المرأة العجوز، نحن نلبسها هنا أما بسبب مفردتي العيب و الحرام ضمن القاموس الذكوري سيء الصيت، أو لنثير الرجال بإظهار بعض الجسد كي يصاب بالجنون ليرى ما خفي منه...
طاف الانتحاري كشبح، لا امرأة تلتفت اليه، فجميعهن ينزلقن كأجنة في بطون لا تعرف ألم ولادة، يسبحن دون نقل الأقدام في بحر زلق السواحل، لا يشعر من يبلغه إلا و كأنه الطير محلقا في سمائه..
معظم الروايات تتفق على انه قد مات بالسكتة الانتصابية، فقد عانى من انتصاب لا يتوقف منذ أول خطوة له نحو الحدود و حتى الملعب المسمى بلحظة الابداع...
و الملعب هذا فيه سر تفوق الحضارة الأنثوية على المختلطة، فهنالك ينهمر الحب كمطر ربيع يخضل الأجساد الطرية المشدودة، و النهود المنتصبة التي لم تتجشم عناء الإرضاع، و البطون المستوية التي تجهل الحمل و الترهل..
كل امرأة مع آلاف من خليلاتها يعشن زمن النشوة الجماعي، كل الشفاه الناعمة تقبل غيرها، و كل الأنامل الرقيقة تداعب ما تعثر عليه حولها من عطايا الأجساد العارية، و تتحد الاف من التنهدات كموسيقى عارمة يهتز لها الفضاء، و تجعل من السيول المتدفقة لذة محيطا زبده خمر دنان كواعب لم يعرفن المشيب، يقطعنه عوما نحو قمم الطاقة الذهنية...
و عند تلك القمم تصنع المعجزات، و تشع من العقول شموسا لا عهد لنا بها، تغير من كيميائية الخلايا العصبية، و تدفعها إلى العمل بأقصى قدراتها، ليغدو اينشتاين بعبقريته مجرد غبي أحمق في المختبرات التي تمتليء بالنسوة المبتهجات بعد انقضاء لحظة الابداع..
تنبلج الحياة من بين ذراعي كل أنثى، و تلج الأقدام الحافية المترفة المجرات من ممراتها المفتوحة دونما حصون، تلد شبكيات العيون أقواس قوس قزح تتردد في رحابها صدى ملايين من الضحكات الأنثوية الشبيهة بالسيمفونيات، و تبنى المدن في رمشة عين، و تزرع الآلاف من الزهور، و تحبو الملايين من الرضيعات على أرض من حرير..
لا يشكو أحد فقرا و لا جورا، لا تعرف الكراهية، و لا الحقد..
المدارس سفوح جنات تمنح لطالباتها القدرة على التواصل مع كائنات أخرى عبر الفضاء.. و التلميذة لا تحصل على شهادة نجاح إن لم تقدم لمجتمعها الأنثوي اختراعا جديدا يضيف سببا جديدا للسعادة..
الرجل الانتحاري ظل ينزلق بين ملاعب، و مسابح، و ورشات عمل أشبه بقصور من ماس و ذهب، و هو يكابد انتصابه حتى توقف قلبه مرهقا، و تم تحنيطه و عرضه في المتحف..
استاذ التأريخ يصف لنا بشاعة الأجداد، و حروبهم، و كيف تم تحطيم كل معامل السلاح بعد ثورات لم تتوقف من قبل الأمهات، و كيف أصبح الرجل يسير برقة فراشة تحط على زهرة ربيع، و يتكلم بصوت أشبه بالكمان و هو يحاول أن يرضي زوجته بعد أن قررت المغادرة صوب نهداد..
قال أننا مررنا بفترة خشينا فيها من الانقراض، و لازلنا نخشى ذلك، فالنساء في نهداد يقطفن البنات من أشجار المحبة، لسن بحاجة لنا، و النساء هنا يرغبن في الهروب نحوهن، أصبح كل مائة رجل يخطبون ود واحدة فحسب، جميلة كانت أم قبيحة، فقط كي لا يظل أحدهم وحيدا، و إن أغضبها غادرته دون أسف صوب من هو أفضل منه ليقضي بقية عمره متحسرا على ذكريات حضن امرأة..
قال أيضا ان المثليين حوربوا بشدة، فهم يقللون من قدراتنا على إنجاب المزيد من الرجال.. و قد قتل كل من أبدى ميولا شاذة قتلة شنيعة..
زرت المتاحف مرارا لأفهم دوافع الحروب، و القتل التي جعلت من أجدادنا عبيدا للموت، و لم أستطع تخيل ذاك العالم الأحمق.. و لولا خوفي من السكتة الانتصابية لزرت تلك الولايات و أعلنت ولائي المطلق لها..
في المدرسة لقحوني بلقاح مضاد للاغتصاب، رغم أني لم أفهم كيف يطلب الرجل من المرأة شيئا دون رضاها..
كل ما كان، يبدو لي في منتهى الوحشية، قد تغير عالمنا و أصبح أشد هدوءا مقارنة بتأريخ الدم، و الاغتصاب، و الفقر، و المعاناة، رغم ذلك مازالت الولايات الأنثوية تمنع دخول الذكور.. إنهن ببساطة لا يشعرن بحاجة لتواجدهم، بل يرين في شعر أجسادهم ما يخز الشوارع المورقة بنعومة، و في شواربهم ما ينتأ بقبحه في حدائق تزهو بالجمال المنبسط أمام الاعين..
تمنيت لو أنني أصبح بنتا لمدة يوم واحد يسمح لي فيه أن أعيش في تلك الدنيا التي لا تعرف ليلها من نهارها.. فالشموس الصناعية بلا عدد.. و النهود التي أتمنى النوم في ظلالها هي بيوت و أشجار..
قبلت امي صباحا و أنا أقول لها:
إنني أعلم حجم تضحيتك إذ لا تلتقين بالنسوة هناك.. لا عجب أنهن غيرن مسار البشرية من الحماقة نحو التواصل مع سكان مجرات لم نرهم يوما.. و قد صنعن جنات فيها ما لا عين رأت، و لا أذن سمعت، و لا خطر بعقل بشر.. هن كما أنت، لا تعرفين سوى أن تمنحيني كل ما بحوزتك من حياة...


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس