موقف
زكى نجيب محمود من الميتافيزيقا
أ.د. ابراهيم طلبه
سلكها
رئيس
قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة طنطا
مصر
عندما نطالع
مؤلفات زكى نجيب محمود لا نجد اختلافا كبيرا بين مواقفه الفكرية ومواقف فلاسفة
التحليل اللغوى المعاصرين أمثال مور ورسل وفتجنشتين ، وفلاسفة الوضعية
المنطقية أمثال مورتس شليك وآير وكارناب وغيرهم . نجده يدور مدارهم جميعا
من حيث إنه يتبنى منهجهم التحليلى ، ويعالج القضايا التى يتعرض لها بنفس طريقتهم ،
وينزع منزعا متعصبا ضد الميتافيزيقا ومنحازا مع العلم ، ويهاجم الفلسفة التقليدية
، ويدعو إلى الفلسفة العلمية ، ويدافع عن التحليل المنطقى فى مجال التفكير العلمى
بالذات ، ويطالب الفلاسفة بضرورة التزام الدقة البالغة فى استخدام الألفاظ
والعبارات ، التزاما يقربهم من العلماء فى دقة استخدامهم للمصطلحات العلمية ، وأن
يكون عملهم هو توضيح الأفكار توضيحا منطقيا .... الخ .
ولقد أعلن زكى
نجيب محمود نفسه عن تأثره بفلسفة الوضعية المنطقية وذلك فى مستهل الفصل الرابع
من كتابه "قصة عقل" حيث أعلن أنه تبنى اتجاها فلسفيا معاصرا هو
"الوضعية المنطقية" فى سنة 1946 عندما قرأ كتاب آير الذى يلخص
فيه "الوضعية المنطقية" وعنوانه "اللغة والصدق والمنطق "
وما أن انتهى من قراءته حتى أحس بقوة أنه قد خلق لهذه الوجهة من النظر(1)
.
وبالنسبة
لموقفه من الميتافيزيقا نجده فى كتابه "موقف من الميتافيزيقا "
يحدد الميتافيزيقا بأنها البحث فى أشياء لا تقع تحت الحس ، لا فعلا ولا إمكانا ،
لأنها أشياء بحكم تعريفها لا يمكن أن تدرك بحاسة من الحواس ....(2) ويميز زكى نجيب محمود بين نوعين
من الميتافيزيقا : ميتافيزيقا تأملية وميتافيزيقا نقدية ، ويعلن رفضه للميتافيزيقا
التأملية ويطالب بحذفها من دائرة الكلام المفهوم، ويعلن قبوله للميتافيزيقا
النقدية لأنها نافعة ومفيدة فى دراسة قضايا العلوم .
أولا
: الميتافيزيقا المرفوضة "التأملية" :
يرى زكى
نجيب محمود أن أتباع الميتافيزيقا التأملية يقولون إن الكون بكائناته الحية
والجامدة بشموسه وأقماره ونجومه وهوائه ومائه ... الخ هو الذى يجب رده إلى أصله
الأول البعيد ، ويمثل لهذا الاتجاه بالفيلسوف الألمانى هيجل .
والفلسفة
التقليدية فى جملتها "تأملا" أما الفلسفة المعاصرة فى جملتها
"تحليل" وبين الفلسفة التأملية والفلسفة التحليلية اختلاف واضح :
أولا
:- تدعى الفلسفة التقليدية أنها تكشف عن الحق فيما يتصل
بالكون باعتباره كلا واحدا ، وأما الفلسفة التحليلية المعاصرة فتبرأ من الإدعاء
بأنها تكشف عن حقائق الكون صغر أو كبر ، لأنها تعلم أن ذلك من شأن العلماء وحدهم
بما لديهم من وسائل تعينهم على المشاهدة وإجراء التجارب ، كل علم فيما يخصه من
جوانب الكون وأجزائه . ولا يزعم الفيلسوف المعاصر لنفسه شيئا سوى أنه يتناول
العبارات التى يقولها العلماء أو عامة الناس
فيوضح غمضها ويبرز عناصرها .
ثانيا
:- تحاول الفلسفة التأملية التقليدية أن تواجه عالم الأشياء
وجها لوجه ، وما ألفاظ اللغة وعباراتها إلا أدواتها الثانوية للتعبير عما قد تصل
إليه من حقيقة ، بل كثيرا ما تدعى أن ألفاظ اللغة وعباراتها قاصرة لا تنهض
بالتعبير عن الحقيقة التى وصلت إليها "التأملات" الفلسفية تعبيرا
كاملا شاملا . وأما الفلسفة التحليلية المعاصرة ، فتدور كلها حول ألفاظ اللغة
وعباراتها اعتبارا منها بأن مهمتها الوحيدة التى لا مهمة سواها ، هى أن تطمئن إلى
وضوح ما ينطق به الناس ، علماؤهم وعامتهم على السواء ، وأما الحقيقة الشيئية
فموكولة إلى رجال العلوم على اختلافهم .(3)
ولذلك يوجه زكى
نجيب محمود نقدا حادا إلى الفلسفة التأملية، فهى – فى رأيه - لا تستند فى تأملها على المشاهدة والتجربة بخلاف العلم
الذى يردك إلى أشياء الطبيعة المحسوسة .. فالفيلسوف التأملى – مثل الشاعر وعلى
خلاف العالم – يقول كلاما مرجع الصدق فيه إلى ما يدور فى نفس المتكلم ، لا ما يحدث
على مسرح الطبيعة الخارجية من حوادث . وهنا يضع زكى نجيب محمود أصابعه على
فرق هام بين أقوال الفلاسفة وأقوال العلماء ، فبينما الفلاسفة "فلاسفة
التأمل" ينصرفون إلى بواطن نفوسهم ليقولوا ما يقولونه ، يتجه العلماء إلى
خارج نفوسهم إلى حيث الطبيعة وظواهرها ليقرروا عنها ما يقررون من قوانين .
والعلماء
عندما يصفون العالم الواقع الحقيقى فإنهم يعتمدون فى ذلك على ما شاهدوه أو اجروا
عليه التجارب ، أما الفلاسفة فهم – على خلاف ذلك – يصفون العالم قياسا على ما رأوه
فى أنفسهم. فلئن كان منهج العلماء استقراء يتقصى الأمثلة الجزئية ليخلص منها إلى
قانون عام يصف ظاهرة بعينها ، فمنهج الفلاسفة التأمليين "تمثيل "
أى تشبيه العالم بالإنسان ثم الحكم على العالم بما نحكم به على الإنسان .(4)
ولهذا نجد أن
الفلسفة التأملية أو الميتافيزيقية قد تعثرت الخطى .. فمشكلاتها الفلسفية المزعومة
إنما نشأت من طريقة استعمال الفلاسفة " للألفاظ والعبارات " إذ
تراهم يستخدمون الألفاظ والعبارات على نحو يختلف عن الطريقة التى اتفق الناس فيما
بينهم – اتفاقا مفهوما بالعرف – على أن يستخدموا بها تلك الرموز اللغوية . وبذلك
تنشأ عبارات ليست بذات معنى مفهوم ، وقد لا يظهر فيها هذا الجانب إلا بعد تحليل ،
فتؤخذ عند فلاسفة الميتافيزيقا على أنها "مشكلات" تستدعى التفكير
والتأمل ، وتنتظر الحل والجواب ، والحق أنها أخلاط من رموز لا تدل على شئ البته ،
فإذا استوجبت منا شيئا فهو حذفها حذفا من قائمة الكلام المقبول .(5)
فليس على
الفيلسوف الميتافيزيقى من بأس فى أن يقول – مثلا – إن "الروح عنصر بسيط"
كما يقول زميله العالم إن "الذهب عنصر بسيط" ، لكن زميله العالم
حين يقول ذلك عن الذهب فإنما يقوله وأنابيب المعامل تحت يديه ، وهناك قطعة الذهب ،
فيظل يحاورها بتجاربه أمام المشاهدين ، حتى لا يجد أحدا بدا من التسليم بأن قطعة
الذهب ستظل ذهبا ولا تحلل إلى عناصر أخرى ، وبهذا يكون الذهب عنصرا بسيطا . وبهذا
أيضا يتحدد معنى كلمتى "عنصر بسيط" وهو ألا يكون الشىء قابلا
للتحليل إلى أجزاء مختلفة الخصائص .
أما الفيلسوف
حين يقول القول نفسه عن "الروح" فهو يستحل لنفسه ألا يتقيد بهذه
الضوابط والمراجعات ، فلا أنابيب هناك ولا معامل ولا "روح" بين أصابعه .
إنه نطق بصوت زاعما أنه رمز يرمز إلى شئ بين الأشياء ، ثم زعم أن ذلك الشىء
المرموز له من صفاته أنه يتحلل إلى أجزاء مختلفة بل مهما حللته وجدت أجزاء متشابهة
بعضها مع بعض . لكن ماذا حلل فيلسوفنا إذا فوجده متشابه الأشياء ؟ أين المسمى الذى
أطلق عليه اسم "روح" ثم راح يزعم له الصفات وبهذا فإن عبارة
"الروح عنصر بسيط" عبارة فارغة من المعنى لأن فيها رمزا لا يشير
إلى مرموز له بين عالم الأشياء .(6)
المشكلات
الميتافيزيقية إذن تنشأ من استخدام رموز ليس لها مدلولات فى عالم الواقع ،
وبالتالى لا يجوز فيها البحث واختلاف الرأى ، فهى كلام فارغ لا يرسم صورة ولا يحمل
معنى ولذا يجب طرحها بحيث لا يبقى بعد ذلك فى دائرة العلم إلا العلوم الطبيعية
والرياضية .
ولتوضيح ذلك
يفرق زكى نجيب محمود بين نوعين من الكلام : كلام يراد به وصف عالم الأشياء
وما فيه من أحداث ، وكلام آخر ينصرف به قائله إلى داخل نفسه لا إلى خارجها .
فالكلام إما أن نستخدمه أداة لتصوير ما هو كائن فى عالم الأشياء "وهذه لغة
العلوم وما يجرى مجراها " وإما أن نستخدمه أداة للتعبير عما تختلج به نفس
الإنسان من الداخل "وهذه لغة الفنون وما يحرى مجراها ولا ثالث لهذين
الطرفين " .(7)
لكن إلى أى
ناحية يتجه الفيلسوف الميتافيزقى بعباراته ؟ هل يريد أن يصف بها ما هو خارج نفسه ،
أو يريد أن يعبر عما يدور داخل نفسه من مشاعر ؟ يرى زكى نجيب محمود أنه لا
يمكن أن تكون الأولى لأن الفيلسوف الميتافيزيقى يتحدث عن أشياء ليست هى بين ما يقع
عليه حواسنا من أشياء . يحدثنا – مثلا – عن "العدم" وكل ما فى
الدنيا " موجودات " ليس فيها " عدم " ويحدثنا
عن " المطلق " من قيود الزمان ، ويحدثنا عن " الخير "
وعن "الجمال " وكل ما فى الدنيا ليس بين عناصرها الكيماوية أو
الفيزيقية عنصر يسمى " خيرًا أو جمالاً " . هكذا يحدثنا الفيلسوف
الميتافيزيقى عما ليس فى الطبيعة أى لا يحدثنا عما هو خارج نفسه.
إذن فهل
يحدثنا عما يدور داخل نفسه من مشاعر وأحاسيس، لو قال ذلك فله ما شاء لكن لا يجوز
أن يصف أقواله بالصواب لأنه لا صواب فى التعبير الذاتى ، وإنما يكون الصواب صفة
تصف الكلام حين يصور شيئا خارجها . ويكون معناه عندئذ أن الصورة الكلامية تطابق
الأصل الخارجى . غير أن الفيلسوف الميتافيزيقى لا يقنع بأن يكون كلامه تعبيرا عما
يجيش به نفسه هو، بل أنه صورة وصفية للعالم الواقع خارج نفسه ، ومع أنه يعترف لك
فى الوقت نفسه أنه لا يسوق الكلام معتمدا على خبرته الحسية ، ويقول بأنه يركن فى
ذلك على عيانه العقلى ، هكذا يتذبذب فيلسوف ما راء الطبيعة بين الخارج والداخل (8) .
وهنا يتبنى زكى
نجيب محمود موقف المذهب التجريبى العلمى فى الفلسفة فيؤكد أن القائل إذا عجز
عن أن يشير لنا إلى كائنات حسية هى التى تنصرف إليها عبارته التى نطق بها ، كانت
عبارته هذه ليست باطلة فحسب ، بل خالية من المعنى ، إذ أن المعنى " هو
بعينه الخبرات الحسية التى يرمز إليها الكلام الذى نزعم له ذلك المعنى " (9) .
فلقد تبين
لرواد التحليل فى الفلسفة الحديثة عندما تناولوا بالتحليل مشكلات الفلسفة
التقليدية أنه لا إشكال على الإطلاق ، وأن الأمر كله غموض فى لغة الفلاسفة ، هو
الذى خيل لهم أنهم إزاء مشكلات تريد الحل ولا حل هناك ، فهل النفس خالدة أم فانية
؟ هل يكون هذا العالم المحسوس قائما وحده أم أن وراءه عالما عقليا آخر؟ هل الموجود
الحقيقى هو الأفراد الجزئية أم الحقائق الكلية التى تعبر عن نفسها فى تلك الأفراد ؟
، وهكذا من أمثال هذه الأسئلة التى لم يزل الفلاسفة التأمليون يلقونها ويحاولون
الجواب ولا جواب ، فيتناول فيلسوف التحليل هذه العبارات نفسها ليفض مغالقها
اللفظية وإذا هى فارغة لا تنطوى على شئ ، وإذا هذه المشكلات المزعومة الموهومة
تذوب ثم تتبخر فى الهواء وتختفى.(10)
ولهذا يطالب زكى
نجيب محمود بضرورة الكف عن النظر إلى ما وراء الحس لأن الكلام فى هذه الحالة
سيخلو من المعنى . إذ يبين لنا التحليل المنطقى للعبارات التى نقولها عند النظر
إلى ما وراء الحس أنها أشباه عبارات تخدع بتركيبها النحوى السليم ، لكنها فى حقيقة
أمرها لا تؤدى مهمة الكلام وهى الإخبار لأنها لا تحمل معنى على الإطلاق تخبر به .
ولهذا أيضا
يفرق زكى نجيب محمود بين الجملة العلمية والجملة الميتافيزيقية : الجملة
العلمية تكون ذات معنى ويمكن تحقيقها عن طريق ما تدل عليه من خبرات ، أما الجملة
الميتافيزيقية فهى بغير معنى . ويقول إنه لا يرفض العبارات الميتافيزيقية على أساس
أنها تقيم مشكلات لا يمكن حلها مادامت خارجة عن حدود الخبرة ، بل يرفضها لأنها
عبارات بغير معنى ، ذلك لأنه من التناقض أن يقال عن مشكلة أنها مستحيلة الحل بحكم
طبيعتها ، لأن ما هو مستحيل الحل على هذا النحو لا يكون مشكلة حقيقية . حقا قد
تكون المشكلة القائمة مستحيلة الحل استحالة عملية، أى أنه قد لا يكون لدى الإنسان
فى ظروفه الراهنة وسائل حلها ، ولكن هذه الوسائل قد تتوافر له غدا أو بعد غد ،
فعندئذ تكون المشكلة حقيقية . أما تلك التى يقال عنها بحكم الفرض أنها مستحيلة
الحل استحالة منطقية ، فمشكلة زائفة أى ليست مشكلة على الإطلاق ، والمشاكل
الميتافيزيقية هى من هذا القبيل .(11)
رفض زكى
نجيب محمود إذن للمشكلات الميتافيزيقة ليس لصعوبة حلها ، بل لأنها مشكلات
زائفة ، فهى بمثابة أسئلة يستحيل منطقيا أن يكون لها جواب ، وشرط السؤال بحكم منطق
اللغة نفسها أن يكون جوابه ممكنا لو توافرت للإنسان الظروف التى تمكنه من الجواب
أما أن تسأل السؤال وتفرض فى الوقت نفسه أن الإجابة عنه غير ممكنة ، فلا يجوز
عندئذ أن تعلل عدم الإجابة عنه بصعوبة أو بعدم قدرة الإنسان وقصور معرفته . بل
حقيقة الموقف عندئذ هى أن السؤال لم يكن سؤالا حقيقيا وإن اتخذ الصياغة النحوية
للسؤال .(12)
ولهذا فلا تجن
ولا إسراف من رجال العلم ، حين يهاجمون الفلسفة قائلين : إنها حين تبحث فى مشكلات
مثل وجود الله وخلود الروح وحرية الإرادة ، فإنما تنسج نظرياتها من رؤوس الفلاسفة
نسجا لا تستند فيه إلى تجربة . ولذلك كانت الفلسفة راكدة لا تخطو كما تخطو العلوم
، فلا تزال تناقش اليوم المشكلات نفسها التى ناقشها اليونان الأقدمون ، أما العلم
فغير ذلك إذا هو يبنى على ما قاله السابقون ثم يمضى .(13)
وخلاصة هذا
القول : إن الميتافيزيقا المرفوضة عند زكى نجيب محمود هى الميتافيزيقا
التأملية أو الفلسفة التقليدية بنزعتها التأملية ، ورفضه لها يرجع إلى عدة أسباب
من أهمها :-
1- أنها تجاوز مجرد إقامة البناء لتزعم أنها تصور الكون كما
هو موجود بالفعل ، وهنا يكون موضوع الخطأ ، الذى يشبه الخطأ الذى تقع فيه الخرافة
حين يعلل الناس حدثا بغير علته فيقولون – مثلا – إن مرض المريض علته حين سكن الجسد
المرض ، أو موت المسافر علته نعيق الغراب فوق سطح الدار ليلة السفر ، وهذا الزعم
من الميتافيزيقا التأملية هو وحده الذى يرفضه زكى نجيب محمود ، ويصفه بالخرافة .
2-
أن عبارات
الميتافيزيقا التأملية – بحكم طبيعة الموضوع – تشتمل دائما على حدود لا يكون لها
معنى إلا فى مجالها ، فإذا قلنا عن أنواع الجملة إنها ثلاثة من ناحية كونها صادقة
حتما أو باطلة حتما أو أنها مما يحتمل الصدق والكذب ، وجدنا الجملة الميتافيزيقية
لا تندرج تحت أى قسم من هذه الأقسام .
والجملة
الصادقة حتما هى تكرار المفهوم الواحد مرتين فى صورتين مختلفين ، إحداهما تحلل
مضمون الأخرى كأن تقول 2+2=4 . والجملة الباطلة حتما هى التى ينقض شطرها الثانى
شطرها الأول كأن تقول إن المثلث لا تحيط به ثلاثة أضلاع . والجملة التى تحتمل
الصدق والكذب هى الجملة التجريبية . أما الجملة المتافيزيقية فهى لا تندرج تحت أى
صنف من هذه الأصناف الثلاثة ومن ثم فهى جملة خالية من المعنى .(14)
ثانيا : الميتافيزيقا المقبولة " النقدية "
الميتافيزيقا
المقبولة عند زكى نجيب محمود هى الميتافيزيقا النقدية ، وهذا الضرب من
الميتافيزيقا سديد ونافع ومقبول ، لأن هذه الميتافيزيقا توجه جهودها التحليلية نحو
العلوم ونتائجها لترى متى تعوج ، ومتى تستقيم ، وهل هى يقينية الصدق أو أنها لا
تزيد فى صدقها على درجة من درجات الاحتمال .
أنصار هذه
الميتافيزيقا يوجهون بحثهم نحو الأفكار لا نحو الأشياء ، فيسألون عن الأفكار
العلمية ما أصولها الأولى ؟ فكيف نشأ العلم الرياضى ، وكيف نشأت العلوم الطبيعية
وكيف نشأت النظم المختلفة ؟. وليس السؤال هنا سؤال عن النشأة التاريخية متى كانت ،
بل هو سؤال عن النشأة المنطقية ، كيف تأتى للعقل الإنسانى أن يفرز علما رياضيا
وعلما طبيعيا وهكذا؟ ويمثل لهذا الاتجاه بالفيلسوف الألمانى كانط .(15)
الميتافيزيقا
النقدية إذن عبارة عن محاولة لتحليل قضايا العلوم تحليلا منطقيا يردها إلى جذورها
الأولى ردا يتبين منه مدى مشروعية التركيب اللفظى الذى صيغة فيه قضية علمية معينة
: أهو متسق الأجزاء بعضها مع بعض ، أم هو منطو على تناقض مستتر؟ أهو تركيب فى
طبيعة ما يمكن الباحث من المقابلة بينه وبين ما يشير إليه من حقائق العالم الواقع
، أم هو مشتمل على مفردات لغوية رابطة بين المفردات تجعل التحقق من الصواب أو
الخطأ أمرا محالا؟.
ويرى زكى
نجيب محمود أننا لو أخذنا بوجهة النظر التى تجعل الميتافيزيقا تحليلا منطقيا
لقضايا العلوم انتهينا إلى فكرة رائعة بالنسبة إلى الفلسفة وطبيعة عملها ، إذ يتضح
لنا فى جلاء أن الفلسفة ليست مطالبة بأن يكون لها قضايا خاصة بها ، ولا هى مستطيعة
ذلك حتى إذا أرادته لنفسها لأن العلوم المختلفة – كل فى ميدانه – هى وحدها المؤهلة
بمناهجها للوصول إلى حقائق الكون والإنسان . وحسب الفلسفة – إذن – أن تسير وراء
العلوم تتعقب أقوالها لتصب عليها ضوء التحليل المنطقى فتكشف ما قد يكون فيها من
خلل يستدعى من العلماء إعادة النظر.(16)
وهكذا انحاز زكى
نجيب محمود للعلم على حساب الفلسفة ، فهو يستبدل بالميتافيزيقا التأملية الميتافيزيقا
النقدية أو العلمية ، ويمكن إبراز هذا الموقف عنده من خلال تتبع آرائه حول الوظيفة
التى يجب أن تلتزم بها الفلسفة .
يصرح زكى
نجيب محمود بأن الفلسفة تحسن صنعا لو عرفت على وجه التحديد والدقة أن مجالها
هو التحليل ، والتحليل وحده فذلك يحقق لها الصفة العلمية . بل لابد من أن تكون
الفلسفة تحليلا صرفا ، تحليلا لقضايا العلم بصفة خاصة حتى تضمن لها أن تساير العلم
فى قضاياه ، وأن تفيد فى توضيح غوامض تلك القضايا .(17)
فإذا أرادت
الفلسفة ، أن تظل قائمة بين وجوه النشاط الإنسانى بحيث تؤدى عملا يساعد على تقديم
الفكر فى شتى ميادينه، فلا مندوحة لها عن قصر نفسها على التحليل وحده – تحليل ما
يقوله غير الفلاسفة من الناس – فالقول لسواهم ، وعليهم التوضيح . ولذلك يقول زكى
نجيب محمود مع فتجنشتين : إن "موضوع الفلسفة هو توضيح الأفكار
توضيحا منطقيا " .(18)
فالمهمة
الأساسية للفلسفة هى تحليل الألفاظ والقضايا التى يستخدمها العلماء والتى يقولها
الناس فى حياتهم اليومية . فليس من شأن الفيلسوف أن يقول للناس خبرا جديدا عن
العالم ، ليس من مهمته أن يحكم على الأشياء لأن هذا الحكم يقوم به فريق آخر من
العلماء ، كل فى عمله الذى اختص به فعالم الطبيعة أولى منه بالتحدث عن قوانين
الطبيعة ، وعالم النفس أولى منه بالتحدث عن قوانين السلوك وهكذا . بل مهمة
الفيلسوف هى أن يحلل المعانى ويوضحها .(19)
لا ضير عند زكى
نجيب محمود إذن من الإبقاء على الفلسفة على شرط ألا تتجاوز دائرة التحليل لما
يقوله الناس فى شتى نواحى التفكير ... " إذا أريد للفلسفة بقاء ، وجب أن
تحصر نفسها فى مهمتها الحقيقية الممكنة النافعة
ألا وهى التحليل المنطقى للألفاظ والعبارات" (20)
وهكذا نلاحظ
أن الفلسفة التى يتبناها زكى نجيب محمود ويدافع عنها فى معظم مؤلفاته هى
الفلسفة التى تكون على غرار العلم ، تكون شبيهة بالعلم ، هى الفلسفة العلمية ، ..
وهو لا يريد بالفلسفة العلمية أن تشارك العلماء فى أبحاثهم ، فتبحث فى الضوء
والكهرباء كما يبحثون ولا يريد أن تبحث فى الحياة وفى الإنسان كما يبحثون . فلهم
وحدهم أدوات البحث فى الأشياء والكائنات وليس لنا إلا ما يقولونه عن تلك الأشياء
والكائنات من عبارات ومما يصوغونه عنها من قوانين . فإذا حصرنا اهتمامنا لا فى
إضافة عبارات إلى عباراتهم ، أو فى صياغة قوانين غير قوانينهم بل فى عباراتهم نفسها
وقوانينهم نفسها ، نحللها من حيث هى تركيبات من رموز لنرى إن كانت تنطوى أو لا
تنطوى على فرض أو مبدأ فنخرجه لعل إخراجه من الكمون إلى العلن يزيد الأمر وضوحا ،
إذا حصرنا اهتمامنا فى ذلك كانت الفلسفة علمية بالمعنى الذى يريده زكى نجيب
محمود .(21)
ليس المقصود بالفلسفة
العلمية عنده إذن مشاركة العلماء فى أبحاثهم ، بل هى علمية لأنها تعنى أول ما تعنى
بتحليل قضايا العلوم ، يقول : " إننا نريد للفلسفة أن تكون شبيهة بالعلم ،
لكننا لا نريد أن نقرن الفلسفة بالعلم بالمعنى الذى يجعل الفلاسفة يشاركون العلماء
فى موضوعا بحثهم ، فيبحثون فى الفلك ، وفى الطبيعة مع علماء الطبيعة ، وفى تطور
الأحياء مع علماء البيولوجيا وهكذا . بل إننا – على نقيض ذلك – نحرم على الفيلسوف
باعتباره فيلسوفا أن يتصدى للحديث عن العالم حديثا إخباريا بأى وجه من الوجوه لأنه
لا يملك أدوات البحث التى تمكنه من ذلك . فليس هو منوطا بالملاحظة وإجراء التجارب
حتى ينتهى بها إلى أحكام إخبارية عن العالم . ونأخذ على الفلاسفة التأمليين أن
ورطوا أنفسهم فيما ليس من شأنهم ، إذ كانوا يظنون أن الفكر الخالص وحده فى وسعه أن
يصف الوجود الخارجى مع أن ذلك محال ..."(22)
لا ينبغى على
الفلاسفة أن يورطوا أنفسهم فيما لا شأن لهم به من شئون العلم ، بل يجب أن يلتزموا
الدقة البالغة فى استخدامهم للمصطلحات العلمية . فإذا كان العالم يحدد على وجه
الدقة ما يريده حين يقول " جاذبية " و " ضوء "
و " صوت" ... الخ ، فكذلك ينبغى للفيلسوف أن يكون بهذه الأمانة
نفسها وبهذه الدقة نفسها فى استخدامه لألفاظه الأساسية الهامة ، فلا يقول – مثلا –
كلمة "نفس" أو كلمة " عقل " أو كلمة " خير
" ... الخ إلا وهو على أتم العلم بحدود معناها .(23)
ومن أهم
المبادئ التى ينبغى أن تقوم عليها الفلسفة العلمية : تحديد ألفاظها تحديدا لا يدع
أمامها كلمة بغير مسمى مما يمكن تعقبه بالحواس ، وأن تحصر بحثها فى مشكلات جزئية
محددة . فبدلا من أن يحاول الفيلسوف مستحيلا ببحثه عن " مبدأ "
يضم الكون كله بما فيه ومن فيه يقنع بالبحث فى مفهوم واحد من مفاهيم العلم كمفهوم
" السببية " – مثلا – يتعاون فى تحليله مع زملائه الفلاسفة كما
يتعاون العلماء فى المعمل على تحليل مادة من موادهم. وبهذا يستفيد بعضهم من بعض
ويكمل بعضهم بعضا وتنمو المعرفة الفلسفية عن الموضوع الواحد نموا تدريجيا يجعل
آخره أقرب إلى الصواب من أوله .(24)
والخلاصة : أن
الفلسفة بالمعنى المحدد الذى يريده لها زكى نجيب محمود هو ألا تورط نفسها
فى مجالات العلوم الخاصة ، بل تجعل مهمتها تحليلا منطقيا للمدركات العلمية
والقضايا العلمية . وبهذا تصبح الفلسفة فلسفة للعلم ، أى تصبح منطقا للعلم أو
تحليلا له ، وهدفها هو التوضيح لا الإضافة الجديدة ، فليس هناك عالم إلا عالم
الواقع ، وليس لأحد أن يتحدث عن العالم حديثا موضوعيا إلا رجال العلوم المختلفة .
وللفلسفة أن تجئ بعد ذلك فتحلل وتوضح ، للعلم أن يقرر وللفلسفة أن توضح له ما
يقرره ، والخير كل الخير أن يجئ التوضيح نفسه على أيدى العلماء أنفسهم ، لأنهم
مشربون بمواد علومهم ، ولكنهم إذا ما فعلوا فلن يكونوا عندئذ علماء ، بل يصبحون
فلاسفة لعلومهم التى يتناولونها بالتوضيح والتحليل .(25)
وهكذا نلاحظ
أن زكى نجيب محمود فى رفضه للميتافيزيقا التأملية وتبنيه للميتافيزيقا
النقدية وكما هو واضح من دفاعه عن الفلسفة العلمية ، يتفق مع تقسيم كانط
للميتافيزيقا إلى نوعين : ميتافيزيقا العقل التأملى وميتافيزيقا العقل العملى وذلك
فى بعض الجوانب وإن كانا يختلفان فى جوانب أخرى .
ولقد أشار زكى
نجيب محمود نفسه إلى ذلك ، حيث ذهب فى كتابه " موقف من الميتافيزيقا "
إلى أن الميتافيزيقا عند كانط لها معنيان ، وهى عنده مستحيلة بأحد هذين
المعنيين ، لكنها ممكنة بالمعنى الآخر ، هى مستحيلة على العقل النظرى العلمى إذا
أريد بها البحث فيما هو فوق تناول التجربة البشرية وهى ممكنة إذا أريد بها تحليل
القضايا العلمية تحليلا ينتهى بنا إلى إبراز الفروض التى تستقر إليها تلك القضايا
.
وقد بدأ كانط
بالاعتراف بمعنى واحد وهو المعنى الأول إذ كانت لفظة " الميتافيزيقا "
عنده بادئ ذى بدء تعنى " مجموعة الأحكام الفلسفية كلها فيما عدا الأحكام
المنطقية " . وذلك بعبارة أخرى معناها كل الأحكام التى لا تبنى على الحدس
التجريبى أو الحدس الرياضى . لكن كانط بعد خوضه فى تحليل الأحكام العلمية رياضية
وطبيعية انتهى إلى المعنى الثانى ، فأصبحت الميتافيزيقا بمعناها المجدى من الناحية
العلمية هى مجرد تحليل القضايا العلمية.
غير أن موقف زكى
نجيب محمود إزاء كانط هو رفضه للمعنى الأول على أساس أن الميتافيزيقا عندئذ
تكون فوق مستطاع العقل الإنسانى ، بل على أساس أن أقوالها تكون فارغة من المعنى
وتأباها قواعد تكوين اللغة ذاتها ، وقبوله للمعنى الثانى .(26)
إذن
الميتافيزيقا التى يرفضها كانط يرفضها على أساس أن العقل النظرى له حدود لا يستطيع
مجاوزتها فهو محكوم عليه بحكم طبيعته نفسها ألا يستطيع الإجابة عنها لأنها تجاوز
حدود قدرته كلها . ولهذا فإن استحالة الميتافيزيقا هنا هى حقيقة نفسية بمعنى أنه
لو كان الإنسان على غير ما هو عليه فى إدراكه للأشياء لأمكن ألا تكون المعرفة
الميتافيزيقية مستحيلة . أما زكى نجيب محمود فهو يرفض الميتافيزيقا لأن
أقوالها فارغة من المعنى فهى تستخدم ألفاظًا للغة فى غير مواضعها الصحيحة ، ولهذا
فإن استحالة الميتافيزيقا هنا هى استحالة منطقية بالدرجة الأولى ، وهذا هو بعينه
موقف الوضعية المنطقية .
وبهذا نكون قد
أوجزنا الكلام فى موقف زكى نجيب محمود من الميتافيزيقا ، لكن يجب علينا قبل
أن نختم الحديث فى هذا الموضوع أن نذكر نقطة أخرى قد يكون لها أهميتها فى هذا
الصدد، وهى أن موقف زكى نجيب محمود من الميتافيزيقا والذى عرضه لنا خاصة فى
كتابه " خرافة الميتافيزيقا " فى طبعته الأولى، قد أحدث موجات
هجوم وانتقادات لاذعة ضده .
ولعل أشد هذه
الانتقادات تطرفا ذلك الانتقاد الذى اتهمه بأنه خارج على الدين ، واتهامه كذلك
بأنه قد تنكر للأخلاق نفسها . ولذلك أصدر زكى نجيب محمود بعد ما يقرب من
عشر سنوات طبعة ثانية لنفس الكتاب بعنوان جديد هو " موقف من الميتافيزيقا".
ويتضمن الكتاب فى طبعته الجديدة مقدمة جديدة يدافع فيها عن إيمانه وتمسكه بدينه ،
ويمكن توضيح ذلك على النحو التالى :
أولا
: يذكر زكى نجيب محمود أن أبشع نقد تعرض له هو أن
اختلط الأمر على الناقدين فخلطوا بين فلسفة ودين ، حتى خيل له يومئذ أن بعض هؤلاء
النقاد – على الأقل – لم يقرءوا من الكتاب شيئا ، وهم إما أن يكونوا قد اكتفوا
بقراءة عنوانه – فى طبعته الأولى " خرافة الميتافيزيقا " قائلين
لأنفسهم الميتافيزيقا هى ما وراء الطبيعة ، وما وراء الطبيعة هو الغيب وهو أيضا
الله سبحانه وتعالى وإذن فهذه الجوانب الهامة من الإيمان خرافة عند مؤلف الكتاب .
ثانيا
:- وإما أن يكون بعض هؤلاء النقاد أقل من ذلك درجة ، وهم
هؤلاء الذين طفقوا يرددون ما يسمعونه من غير وعى ولا دراية .
ثالثا
:- وهؤلاء جميعا – فيما يرى زكى نجيب محمود – قد
خلطوا بين فلسفة ودين . فالفيلسوف عندما يقيم بناءه الميتافيزيقى يضع فى بداية
طريقه " مبدأ " معينا ينطلق منه معتقدا بالطبع – صواب ذلك المبدأ
، وليس لديه من سند يرتكز عليه فى ذلك الاعتقاد إلا ظنه بأنه قد رأى ذلك المبدأ
بحدسه رؤية مباشرة . لكن اعتقاده فى صواب مبدئه لا يمنع فيلسوفا آخر– يعتقد بدوره –
أنه هو الصواب ، والفيلسوف هنا مطالب بإقامة البرهان العقلى الذى يبين صواب مبدئه
، وصواب النتائج التى استدلها من هذا المبدأ .
رابعا
:- والذى يرفضه زكى نجيب محمود ، فى ذلك ويطلق عليه
صيغة " الخرافة " ليس هو أن يتخذ الفيلسوف الميتافيزيقى لنفسه ما
شاء من مبدأ . ولا هو – بالطبع – النتائج التى استدلها مادام استدلاله جاء على
منطق العقل ، بل المرفوض هو أن يبنى الفيلسوف بناءه الفكرى فى ذهنه ثم يزعم أنه
تصوير لحقيقة الكون كما هى قائمة فى الوجود الواقعى خارج الذهن .
خامسا
:- يرى زكى نجيب محمود أن العقيدة الدينية أمرها
مختلف كل الاختلاف لأن صاحب الرسالة الدينية لا يقول للناس : "إننى أقدم
فكرة رأيتها ببصيرتى" ، بل يقول لهم : "إننى أقدم رسالة أوحى بها
إلى من عند ربى لأبلغها". وهنا لا يكون مدار التسليم بالرسالة برهانا
عقليا على صدق الفكرة ونتائجها المستدلة منها ، بل يكون مدار التسليم هو تصديق
صاحب الرسالة فيما يرويه عن ربه أى أن مدار التسليم هو الإيمان .
فمن يعترض على
الفيلسوف يجب عليه أن يقدم أدلته المنطقية التى تبرر اعتراضه ، أما من يعترض على
صاحب الرسالة الدينية فذلك ليس لأنه رأى خللا فى منطق التفكير ، بل لأنه لم يصدق
صاحب الرسالة وكفى . ولذا نلاحظ وجود فرق كبير جدا بين الموقف الفلسفى والموقف
الدينى ولا يصح أبدا أن نقول لمن يعترض على الفيلسوف بأنك – باعتراضك هذا – بمثابة
من يعترض على رسالة الدين .
سادسا
:- كان من بين المواضع التى استثارت نفوس الذين وجهوا النقد
إلى الطبعة الأولى من كتاب " موقف من الميتافيزيقا " ما ورد عن
" القيم " من أنها معدودة بين المفاهيم الميتافيزيقية التى رفض زكى
نجيب محمود أن يكون لها معنى خارج البنى الفكرية التى وردت فيها ، فأخذت هؤلاء
النقاد ظنون بأن فى مثل ذلك القول تنكرا للأخلاق نفسها .
ويرد زكى
نجيب على هذا الاتهام فيصرح بأن حقيقة الموقف بعيد عن ظنون هؤلاء النقاد بعدا
شاسعا ، فليس هناك ضرب واحد من ضروب الفكر الفلسفى تنكر للقيم الأخلاقية والجمالية
فى ذاتها ، ولكن الأمر أمر تحليل يكشف عن طبيعتها . ويزعم أن دلالة أى لفظ يشير
إلى قيمة أخلاقية أو جمالية ليست جزءا من الواقع الخارجى ، ولكنها كائنة فى طوية
الإنسان وتظهر عندما ينفعل ذلك الإنسان بما يراه فى مجرى الأحداث الخارجية .
فالقيم الأخلاقية والجمالية هى ضرب من " الرؤية " التى توحى بها
ثقافة الشخص الذى يطلق تلك القيم على المواقف ، فليس الاختلاف على قيمة القيم
الأخلاقية ، بل الاختلاف على ماهية الموقف الذى يستحق أن تطلق عليه هذه القيمة .(27)
ومجمل القول :
إن زكى نجيب محمود يرى أن مجالات : الشعر والنثر الأدبى وشتى صنوف التعبير
الوجدانى على اختلافها، ومجال السحر والأساطير ، كل مجال من هذه المجالات له
معياره الخاص به . فللشعر الجيد معياره ، ولكل جنس أدبى غير الشعر معياره وهى
معايير تختلف كل الاختلاف عن معيار المنطق العقلى الذى تضبط به مناهج القول فى
دنيا العلوم .
وإذا كان زكى
نجيب محمود يشترط شروطا خاصة للعبارة العلمية كى تكون مقبولة على أسس منطقية
تجعل لها معنى ، فإنه لم يكن يريد أن يطبق تلك الشروط على قصيدة الشعر أو على قصة
بناها الخيال .
الهوامش
1- د. زكى نجيب محمود : قصة عقل ، دار الشروق
1953 ص 115 .
2- د. زكى نجيب محمود : موقف من الميتافيزيقا ، دار
الشروق ط3 1987 ص 110 .
3- المرجع نفسه ص 141 .
4- د. زكى نجيب محمود : نحو فلسفة علمية ، مكتبة
الأنجلة المصرية ص ص 2 – 3 .
5- د. زكى نجيب محمود : موقف من الميتافيزيقا ص 3
.
6- المرجع نفسه ، ص ص 6 – 7 .
7- د . زكى نجيب محمود : من زاوية فلسفية ، دار
الشروق ط3 1982 ص ص 112 – 114 .
8- المرجع نفسه : ص ص 114 – 115 .
9- الموضع نفسه .
10- د. زكى نجيب محمود : نحو فلسفة علمية ص 11 .
11- المرجع نفسه : ص ص 70 – 71 .
12- الموضع نفسه .
13- د . زكى نجيب محمود : موقف من الميتافيزيقا ص
15 .
14- المرجع نفسه : راجع المقدمة .
15- الموضع نفسه .
16- الموضع نفسه .
17- د . زكى نجيب محمود : نحو فلسفة علمية ص16 .
18- د . زكى نجيب محمود : موقف من الميتافيزيقا ص ص 16 – 17 .
19- المرجع نفسه : ص 19 .
20- المرجع نفسه : ص 36 .
21- د . زكى نجيب محمود : نحو فلسفة علمية ،
المقدمة .
22- المرجع نفسه : ص 7 .
23- المرجع نفسه : ص 8 .
24- المرجع نفسه : ص 10.
25- المرجع نفسه : ص 813 .
26- د . زكى نجيب محمود : موقف من الميتافيزيقا ص
ص 51 – 52 .
27- المرجع نفسه : المقدمة .
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية