أنونيماس*
ماجدة غضبان
المعرض الذي اقامه المجهول في صالة الضياع ضم مليارات
من اللوحات. لم تكن جميعها باللون الأسود و الأبيض.. بعضها لُوّن بألوان العيد، و
بعضها رسم وجوها بقسمات مختلفة، فيما حلقت لوحات أخرى في دهشة اللامعقول.. نظرت
الى ساعتي.. الوقت يشير الى ثمالة ما تبقى منه، و الجدار المنتصب أمامي لا تحده
حدود.. خربشات على جدار الزوار تظهر وجود آخرين، لا أتبين لهم صوتا، و لا صورة.. ،
كأنهم الغمام بين أضراس ريح.. رحلة دون تذكرة.. وجدران دون سقف.. لوحات دون الريشة
أو أصابعها..
_ ما الذي أتى بي إلى هنا؟..
بحث سريع على غوغل.. عن تأريخ ميلادي.. وجه أمي.. و هي
تلدني.. صرخاتها.. شكل أبي، و هو يستاء من أنوثة بشر بها توا.. وجوه قد مرت بي، أو
مررت بها.. أختام أقدام من موطن أعرفه بعثراتها على الصفحات الإلكترونية.. أبحث عن
وجهي..
_ البيانات لا تطابق ما كتب في حيز البحث..
طعم خبز التنور يبحث عن موهبتي في التعرف اليه.. رائحة
الشاي المهيل تحيط بي كذراعي أمي.. لكن غوغل حدق في وجهي بسيماء ذاهلة.. تمنيت لو
ان حيز البحث يكبر قليلا ، و يستوعب حكايتي:
_ قد كان لي ببساطة قرية من طين، و مدرسة، و تلاميذ لا
يتغيبون عن الدرس، و إن أمطرت ثلوجا، يرتدون ثقوب الأسمال، و يحلمون أحلاما لا
تسعها بيوت القرية..
هل من أثر لها في معرض المجهول؟؟..
هل من بقايا لها في صالة الضياع؟؟..
البدايات ارتمت بين شهوة كينونة، و امتناع.. كخيوط فجر
لم يشأ أن يعزف نهاره بعد على وتر الشمس.. الأوراق البيضاء، الكلمات العذراء.. جميعها
ترتعش بين تلاش و ظهور.. على الطاولة انتصبت لحظة تحول في انتظار ان أقبض باناملي
عليها.. خُلِطت طينة الأديان ببعضها، و عُجِنت كتب الأنبياء، و استدارت لتكون بين
ذراعي المعجزة التي لا تدرك.. كي تدرك!!!!!!!.. أصوات حشود تسد منافذ الاصغاء،
تهدر من ثقب كوني.. هنالك غيري ربما؟؟..
الحاسوب بصمته لا يُنكأ له جرح أمام هول حيرتي..
يطالعني بدهشة غوغل أمام أسئلتي.. حتى تستأثر بي رغبة بحث عارمة.. تستولي علي
تماما..
التقط حمى التحام مع أناس معي في الصالة بملقط قروي
ساذج، كذلك الذي يحثون فيه الجمر على الاتقاد.. تسحرني ذكرى، أو خيال، أو ظل إنسان
ينكر قبر وحشتي.. و عند شفاه تتشهى الموت تهذي بعض كلماتي إزاء كل عدم يرميني صوب
غيره:
_هيا يا غوغل.. أرجوك..
أيها الكونفوشيوس البوذي الزرادشتي اليسوعي الطيب..
ألن تقل لي في أي مكان أنا؟..
قد رضعت حليبا من أم تجهل أبجديتها، و قد ظننت أنني لن
أكون مثلها يوما، و سأغير الأقدار التي عجزت عن فعل ما يضدها، و لن يتجاهلني الكون
مع معرفتي بأبجدية كانت فوق الدفاتر كشموس تتقدم نحو صغار القرية.. لكنك الآن
تزدري كل أبجدية أتقنها، فأنا خارج أسوارك ، في معرض المجهول.. في صالة الضياع..
الجفاف يهل كمطر الكتروني لا يرى على محيا غوغل..
يتوقف البحث عند النتائج ذاتها، و يكرر نصائحه.. غير الاملاء، اختصر الكلمات، ابحث
بلغتك..!!!
أغادر صفحة غوغل كعبد مذنب أقيم عليه الحد.. و ابتعد
بضع خطوات.. أنظر الى الجدار الذي لا ينتهي مثل جدار صين الكتروني يلتف حول نفسه
في بانوراما مثيرة للغثيان.. أمد يدي نحو لوحة تتكلم.. تتكلم دون توقف بصوت أقرب
الى صوت إنسان آلي.. أغتالُ الضباب الذي شكلها بأصبعي دون قصد.. تتساقط كلماتها
كنثيث ثلج على سواد هوة تحت قدمي.. أنتقل الى لوحة امرأة ترقص بمجون.. تغادر
مكانها.. ما أن أشاركها، و أشرع برقص ثنائي.. الموسيقى تستلقي كشيخ يحتضر على
منحدر الجدار.. ارتد على أعقابي متوسلة بمستر غوغل.. أشرع في تنقيب الكتروني عن
نبرة صوتي.. ربما يحتفظ بنموذج له قبل أن يغادر حنجرتي؟؟..
غوغل المهيب يعرب عن أسفه.. لينتهي البحث الى سفوح
بيضاء مشوبة باعتذار مهذب..
_ أهناك سبيل للبحث سوى غوغل؟؟..
كل ما حولي يرتمي حيث ارتضت له عيناي.. و الأصوات
تغزلها أذنان لا تتقنان سوى اللغة العربية..
_ هل بإمكاني العثور على لغة أخرى؟؟..
_ هل بإمكاني سماع الآخرين؟
منكبان غوغليان يبتعدان، و يصغران أمام ناظري.. الأوتاد
داخل روحي تتساقط.. و يتهشم الفراغ.. ألأغاني، و الذكريات تذوب كخيوط من الشمع على
شفتي بركان.. ، تقتل سجادة من خيوط الصوف بزخرفة قروية.. أدور بشوق حول صدى ضحكاتي
التي كانت يوما قبل إنبعاث جثة غوغل..
أرفع الستار عن إستعراض يوم البعث، و هو ينشر غسيله
على منتجع كامب ديفيد.. و البيت الأبيض.. و ضجيج لوس انجلوس.. أكرر صلاتي رغم تنحي
غوغل عن مهمة البحث.. و مغادرته الصالة..
أيها النبي الالكتروني المهول.. ايها العارف باسراري،
و اسرار قريتي، ايها المتمكن مني، و من تأريخي، أيها المؤشر العجيب الذي يحط على
كل اماكن لامستها رحلتي.. انني ارجو الحضارة فيك، و أناشدها:
هل من حقول قمح؟؟ ، أو صورة امرأة تحتطب؟؟، أخرى تحمل
جرار الماء؟؟، طفل نصف عار لا يهمه برده من حره؟؟..
هل من أب لا يعرف دهاليزك؟؟، و يمحي إمتدادك العظيم
المنتفخ في وكالة ناسا او الأف بي آيبأبوذية يحفظها عن ظهر قلب؟؟..
الفضاء الافتراضي يبدي امتعاضه من سيماء لغتي
العربية.. يجيب دونما اكتراث:
_ لم يتم العثور على الرابط الذي طلبته، ربما كان
منتهي الصلاحية..
ما زال يشتت ذاكرتي.. يعيدني الى زحام اللوحات..
بصمتها، و صراخها، و اهازيجها..
بين لوحة و أخرى تتداخل الأيام و جسدي، تتناثر جيف جثث
متعفنة لزوار سبقوني في ضياعهم، تجاهلوني كما فعلت دون خيار مني او منهم، و
أغفلوني كما أغفلتهم قبل ان نجد الوقت لنسأل: لماذا؟؟؟..
أخربش على الجدار المخصص للتعليق يائسة، أمضغ مرارة
وحدتي كتسلية لا أملك إلاها.. شيء من الأمل يدعوني لكتابة اسطر مضطربة:
_ أنا ماجدة، من قلعة سكر، في جنوب العراق ، أرجو ممن
يلتحق بي من أهلي أن يوصل رسالتي لمن بعده..
أنا ضائعة في مكان يزهو بفخامة القصور، أراني في كل
الاتجاهات التمع على مرايا لا حصر لها كقطعة ماس تركت في علبة لحين استخدامها..
أنتحب كطفل في سوق مزدحم، رغم أني من مواليد عام 1964، أظنني في العام 2015..
لازلت امتلك بعض الثقة لاجزم انني في هذا العام لا غيره..
أشعر ان لا صلة لي باللوحات.. و لا لون فيها بإمكانه أن
يحل محل نبضات قلبي.. لم يطرق سمعي أي صوت.. بل صوتي نفسه ذاب بين حبال البلعوم
كحلم تائه في صحرائه بقطرة ماء تتشكل عند افق اليأس..
في يدي كأس موت، و رعشة ارتشاف تستحوذ علي.. و ان كنت
أستطيع التنفس جيدا حتى الآن..
أجهل موقعي على خارطة العالم، فالداتا تتراقص امام
عيني، و ليس سوى مستر غوغل من يعرف فك الغازها.. يبدو عليه الكرم، و سعة الصدر..
لكنه ببساطة لا يرسم لي دربا قد تخرجني من ضياعي.. و تعيدني الى قلعة سكر..
لابد أن أعترف ان أعمدة المعرض الرخامية الهائلة لم
تثر في سوى مشاعر غربة، لم توكل لها مهمة اسعادي، او العناية بي باي شكل من
الاشكال، فانا محض داتا امام عينين خبيرتين، تجسان وريد الماضي، و شريان المستقبل،
و تعبثان بتوزيعهما على خلايا جسدي..
اللوحات بمخملها المترف لم تقايضني بسعادة تشبه تلك
التي عرفتها في سبخة (أبو درابي)** ، و الألوان مع براعة توزيعها ليست بأجمل من
فسيفساء (كاع إضْحَيجة)*** التي تزهر، و تعشب، و تكشف عن الفطر بعد المطر..
ربما هناك لوحة في هذا المعرض الفسيح تمثلني.. لكنها
لا تنتمي لي.. طالما انا نفسي لم أفلح بالعثور عليها.. بودي أن أقول شيئا أخيرا أيها
الكون المغوغل، و هو لك وحدك، و كل رغبة لي:
ان السباحة في (الكَـرمة)**** هي كل ما أحتاج اليه الآن..
بعدها ربما سينجلي ضباب غربتي، و اغترابي..
التوقيع
إمرأة من الأنونيماس
انونيماس* باللغة الإنجليزية Anonymous تعني المجهول
، و هي تمثل أكبر تجمع الكتروني لحركة شبابية غامضة التنظيم و الرؤية، يتميز
أعضاؤها بقناع يضعونه على وجوههم ، تعنى بمهاجمة كل مستبد _كما يبدو- الكترونيا، و
الإطاحة بمؤسساته الألكترونية ، رغم فشل مظاهراتها الأخيرة في كل العالم.
(ابو درابي)**
اسم أرض سبخة في قلعة سكر.
(كاع إضْحَيجة)*** اسم اول ارض زرعها اجدادي عند
قدومهم من الحجاز و حتى نهر الغراف حيث ابتنوا على ضفافه قلعة جدي سكر المشلب، ثم
تحولت الى سبخة أيضا بعد قانون الإصلاح الزراعي المشؤوم.
(الكَـرمة)****
نهير صغير يسقي الأراضي الزراعية في قلعة سكر.
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية