هل يصلح نيتشه لقراءة الحاضر العربي؟
محمد
مستقيم
فريدريك نيتشه مالئ الدنيا وشاغل الناس في كل العصور
لايمل عشاق "بومة منيرفا" من الكتابة عنه والإقامة الرمزية بين شذراته واستعاراته الفاتنة، يعود في كل مرة ليطل علينا
بمطرقته التي لاترحم القلاع الهشة والأسوار البالية .والعرب اليوم ربما في حاجة
ماسة أكثر لاستضافة هذا الجرماني المشاغب والاستعانة بقراءاته لزمنهم الحاضر التي يشبه تلك التراجيديات
الإغريقية التي كان نيتشه مولعا بقراءتها وتحليلها مع تلاميذه في الصف.
نقدم للقراء هذا الأسبوع إحدى المساهمات الجادة في قراءة
الفلسفة النيتشية، يتعلق الأمر بالأستاذ والباحث الجزائري عبد الرزاق بلعقروز الذي
أصدر كتابا قيما تحت عنوان: " نيتشه ومهمة الفلسفة: قلب تراتب القيم والتأويل
الجمالي للحياة"/الدار العربية للعلوم /ناشرون. وهو في الأصل بحث أكاديمي
أنجزه المؤلف تحت إشراف الدكتور عمر مهيبل.
وقد قدم لهذا العمل الأستاذ والباحث المغربي عز العرب
لحكيم بناني، الذي اعتبره مدخلا أساسيا إلى فلسفة نيتشه من زاوية إشكالية التراتب.
فالكثير من القضايا الفلسفية الكبرى عند نيتشه تشكل منعطفا حقيقيا في الفكر
المعاصر. ومن أبرز تلك القضايا التي عالجها قضية التراتب في حقول القيم والأخلاق
والدين والفن والميتافزيقا. لقد أقدم نيتشه على إحداث تراتب جديد في نماذج التأويل
والفهم والتقويم بناء على استرجاع الحس التاريخي المفقود والذي اختفى مع هيمنة
النموذج الأفلاطوني وتحالفه مع التصور الديني الأبولوني في كتابة التاريخ الغربي
في مجالات الفن والفلسفة والدين. لقد أخذ نيتشه إذن على عاتقه إعادة اكتشاف هذا
التاريخ المنسي وبالتالي إعادة ترتيب سلم القيم خارج الموروث الأفلاطوني الديني.
بالإضافة إلى ذلك فقد أحدث صاحب "جينالوجيا
الأخلاق" تقابلا بين العقل والغريزة من خلال التقابل بين أبولون
وديونيزيوس معيدا الاعتبار لهذا الأخير
على حساب الأول الشيء الذي ساعد على كتابة تاريخ الأديان بصورة جدية ومن وجهة نظر
مختلفة عما سبق في هذا المجال. لقد هاجم نيتشه الأديان بسبب تحولها إلى أداة سلطة
وعنف في يد رجال الدين والكنيسة. إن الديانات الوثنية قد هدمت في نظره الهوة بين
الإنسان والآلهة ومجدت ثقافة الرقص والغناء والموسيقى. أما اليهودية والمسيحية فقد
تخلتا عن هذا الطابع الاحتفالي وكرستا ثقافة العبودية التي جعلت منها أبلغ تعبير
عن التدين، وانتقلت هذه العقلية إلى المجال الأخلاقي حيث انتشرت ثقافة الطاعة
والتبجيل والتعظيم حتى عند فلاسفة كبار أمثال كانط، لقد استعان نيتشه بالمنهج
الفيلولوجي من أجل تفكيك هذه الأخلاق وهذا
هو جوهر مشروعه النقدي .
أما المؤلف عبد الرزاق بلعقروز فقد أكد بأنه يسائل في
هذا الكتاب إحدى القضايا التي شغلت نيتشه وهي مسألة التراتب والتي احتلت مكانة
هامة في المنهج الجنيالوجي عنده، إن التراتب مصدر للقيم من جهة ومصدر لاختلافها من
جهة أخرى، فصدور القيم حسب نيتشه متوقف على العنصر التراتبي الذي يقسم العالم
بمواضيعه ورموزه إلى تعارضات مختلفة:أدنى، أعلى، شرير، طيب، قبيح، جميل..وهي عبارة
عن معاني دالة، وكل مايدل على معنى فهو عبارة عن قناع يغلف تأويلات مستبطنة
وسابقة، لذلك فإن مهمة فيلسوف المستقبل (والمشرع في نفس الوقت) ستكون هي إعادة
تقييم القيم وبناء التراتب الأصلي.
التراتب إذن هوالمحدد للمعنى والقيمة وكل سيطرة تعادل
تقييما جديدا " وباسم تراتب أفضل وأرفع سوف يراجع نيتشه جميع القيم ، تتساوى
في ذلك التاريخية منها والسائدة ، والكشف مواطن الضعف والوهن، القوة والإثبات ، في
كل بنية صراعية محكومة بعلاقة السيطرة" .
إذن كيف قرأ نيتشه هذا التراتب؟ وماهو أصل هذه التراتبات
القيمية، وماحجم تأثيرها على ثقافة الإنسان الحديث؟ هذه عناصر الإشكالية المحورية
التي تصدى نيتشه للإجابة عنها في نصوصه المزروعة بالألغام المجازية والمحكومة
بسلطة الاستعارة.
إن أهمية موضوع التراتب –يضيف المؤلف- يمكن النظر إليه
من الجوانب الآتية:
1- حضور نيتشه في الدرس الفلسفي المعاصر باعتباره يشكل
منعطفا جذريا في تاريخ الفلسفة.
2- موضوع التراتب هو فرصة للمعرفة والاطلاع على حقائقالفلسفة والتعرف على تقنيات التأويل التي مورست من قبل عقول العصر الحديث كديكارت
وكانط وهيجل.. ثم مسألة قيمتها والكشف عن محدودية نتائجها وقصور آليات تأويلها، ثم
مكتشفا لمعالم فلسفة جديدة تبشر بتعاليم بديلة وقيما أرفع.
3- قلة الدراسات حول موضوع التراتب عند نيتشه بالمقارنة
مع دراسات أخرى حول جوانب من فلسفته كالميتافزيقا وإرادة القوة والعود الأبدي،
باستثناء بعض الدراسات مثل ماقام به جيل دولوز في كتابه القيم " نيتشه
والفلسفة" والذي تحدث في أحد فصوله عن مسألة التراتب حين قام بتحليل مفهوم
السيطرة في البنيات الاجتماعية من الناحية الفنية والأخلاقية. وكذلك بعض الدراسات
الفلسفية التي تناولت هذا الجانب في أبعاده الإيديولوجية والاجتماعية والتاريخية
والسياسية.
في الفصل الأول بحث المؤلف عن الأرضية المفاهيمية
والتاريخية لمصطلح التراتب، حيث حدده في ثلاثة معان وهي:
أ- التراتب بمعنى الاختلاف.
ب- التراتب بمعنى التفاضل.
ج- التراتب بمعنى الترويض والاصطفاء.
أما في الفصل الثاني فقد عالج فيه الدين بوصفه أصل
التراتب وامتداد هذه الثقافة في لغة الفلسفة حيث تتداخل الفكرة الأنطولوجية
والتفاضل الأخلاقي، مع معالجة التأويل الإستيطيقي للوجود باعتباره منعرجا تحرريا
ومتجاوزا للميتافيزيقا بواسطة الفن.
وفي الفصل الثالث حلل المؤلف آراء نيتشه في الأخلاق
والتأويلات التي لازمتها باعتبارها نظرية للتراتب بين البشر مع تحديد الملامح
الكبرى التي سيكون عليها الفاعل البشري الجديد بماهو نموذج الإنسان الأسمى.
وتضمنت خاتمة الكتاب خلاصة عامة للبحث مع استعراض
الانتقادات الموجهة لنظرية التراتب والنتائج السلبية المترتبة عنها.
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية