الأسس الفلسفية للقانون العام الذي يحكم كل شىء: الحركة المحورية للعقل في الأشياء

الأسس الفلسفية للقانون العام الذي يحكم كل شىء:
الحركة المحورية للعقل في الأشياء

د بتول ناصر قاسم
ترى الفلسفة القديمة أن العقل كروي، وانه يبلغ ذاته غير مرة(1)، والى مثل هذا ذهبت بعض الفلسفات الحديثة، فالفكر يسير في حركة دائرية في رحلة المعرفة.. ينطلق في البدء من فكرة غير محددة لديه، يبلغها في النهاية وقد تحققت وأصبحت واقعاً، وبهذا يعود إلى نفسه بعد ان حقق نفسه، والعود دائري.
*   *   *
                               
إن لمسيرة العقل الدائرية قصتها التي تحكيها الفلسفة الجدلية منذ نشأتها وحتى اكتمالها على يد هيجل ونحن نطرح في هذا المبحث تصورنا لهذه المسيرة مستفيدين ومحاججين هذه الفلسفة ومنطلقين من المبادىء العامة التي انطلقت منها . فهذه الفلسفة تذهب الى أن السير الى الحقيقة مؤلف من خطوات يحكمها التناقض . فالتناقض هو المبدأ الأول الذي تسلم به هذه الفلسفة ولقد حاولت ولوج باب الحقيقة عن طريق قضية التناقض الذي يتخلل الوجود والذي يحكم هذه المسيرة الدائرية. والفكر يسير بهذه الصورة في كل معرفة وليس فقط في سعيه للمعرفة الكلية المطلقة التي تمثل خطواتها مراحل طويلة في تاريخ الفكر الإنساني أو التي تستنفد كل تاريخ الفكر الإنساني. ولكن هذا التاريخ الطويل يمكن اختزاله بالخطوات الثلاث التي ذكرناها كما ان كل معرفة هي خطوات ثلاث.
إن وجود التناقض ومعرفة المتناقضات ببعضها إنما هو من المعارف العامة التي اهتدى اليها العقل الانساني لدى كل الأمم، ومع أن تاريخ الجدل قديم يعود الى فلاسفة اليونان، ويمتد الى فلاسفة العصر الحديث، الا أن بحثنا يركز على فلسفة هيجل – كما قلنا - من هذه الفلسفات لأنها أعمقها وأكثرها تفصيلاً وأقربها من طبيعة منهجنا ولأنها تعد فاصلا بين تاريخين للفلسفة : قديم وحديث ولهذا ينظر الى هيجل بأنه أبو الحداثة ، وأن كل الأفكار والفلسفات الحديثة تأثرت به إن سلبا وإن إيجابا . فنحن إذن نناقش الفكر الفلسفي كله إذ نناقش فلسفة هيجل . وبحثنا يعترض على بعض مبادئها ويناقشها ويناقش من خلالها الفلسفات التي تأثرت بها واثرت فيها، فهيجل لا ينقطع عن الفلسفة القديمة، فمنهجه الجدلي امتداد وتطوير للجدل القديم، بل ان كلمة الجدل نفسها مشتقة من الكلمة اليونانية (ديالكتيك) التي تعني الحوار اوالمناقشة ، كما ان هيجل أخذ فكرة الجدل عن (كانت) فضلاً عن فلاسفة اليونان(2)، " فإذا كانت فلسفة هيجل " ثمرة" لتاريخ الفلسفة فهي تحمل في جوفها مبادئ الفلسفات السابقة كلها"(3)
 تنطلق فلسفة هيجل من مبدأ مهم وهو أن التناقض يتخلل عالم الفكر والمادة وأن " جميع الاشياء هي في ذاتها  متناقضة"(4). وترى "أن هذا المبدأ هو من أكثر المبادئ تعبيراً عن حقيقة الأشياء وماهيتها (5). ثم ان المتناقضات تعرف ببعضها، وببعضها تتميز.
إن هذا يعني ان الفكر لا يستطيع إدراك حقيقة الشيءعن طريق ضرب من الإدراك المباشر، يكشف بوساطته ماهيته الجوهرية، لأنه "ليس ثمة معرفة مباشرة (غير موسطة) وهذا القول لا ينفي فقط إمكانية إحراز الحقيقة بحدس حسي مباشر، بل ينفي ايضاً إمكانية بلوغ الحقيقة بواسطة مفهوم منعزل"(6).. إنك لا تدرك الشيء الا اذا أدركت نقيضه، فالضدان هما الشرط لمعرفة كل منهما، ولوجود كل منهما، "كل شيء في الطبيعة، كما في الفكر يشترط وجود ضده، آخره، الذي هو معيه ومناسبه الضروري"(7) لأنه لا معنى له الا به، لا معنى له الا بالانتقال اليه، لا معنى له الا بالخطوة الثانية اليه.
وقد وجدنا في تراثنا القديم أن اصحابه وهم يؤسسون لنظرية المعرفة أدركوا أن الاشياء تعرف بأضدادها، وبأضدادها تتميز، فقالوا: "بضدها تتمايز الأشياء"، وقرروا أن التناقض يتخلل الأشياء، ومما وجدناه من ذلك كلام للجاحظ يبين فيه أن التناقض يتخلل بناء الكون وأن المتناقضات يقترن بعضها ببعض، ويذكر أن من علة ذلك أن تعرف المتناقضات بعضها ببعض: "أعلم أن المصلحة في أمر ابتداء الدنيا الى انقضاء مدتها، امتزاج الخير بالشر، والضار بالنافع والمكروه بالسار، والضعة بالرفعة، والكثرة بالقلة.ولو كان الشر صرفاً هلك الخلق، او كان الخير محضاً سقطت المحنة، وتقطعت أسباب الفكرة. ومع عدم الفكرة يكون عدم الحكمة. ومتى ذهب التخيير ذهب التمييز، ولم يكن للعالم تثبت وتوقف وتعلم، ولم يكن علم، ولا يعرف باب التبيين، ولا دفع مضرة ولا اجتلاب منفعة ولا صبر على مكروه ولا شكر على محبوب ولا تفاضل في بيان، ولا تنافس في درجة، وبطلت فرحة الظفر وعز الغلبة. ولم يكن على  ظهرها محق يجد عز الحق ومبطل يجد ذلة الباطل، وموقن يجد برد اليقين، وشاك يجد نقص الحيرة وكرب الوجوم . ولم تكن للنفوس آمال، ولم تتشعبها الأطماع، ومن لم يعرف الطمع لم يعرف اليأس، ومن جهل اليأس جهل الأمن، وعادت الحال من الملائكة الذين هم صفوة الخلق، ومن الأنس الذين فيهم الأنبياء والأولياء إلى حال السبع والبهيمة.. فسبحان من جعل منافعها نعمة ومضارها ترجع الى أعظم المنافع. وقسمها بين ملذ ومؤلم، وبين مؤنس وموحش، وبين صغير حقير، وجليل كبير. وبين عدو يرصدك وبين عقل يحرسك، وبين مسالم يمنعك وبين معين يعضدك. وجعل في الجميع تمام المصلحة، وباجتماعها تتم النعمة، وفي بطلان واحد منها بطلان الجميع قياساً قائماً وبرهاناً واضحاً"(8).
إن التمييز بين المتناقضات، يعني التفريق بينها، فصلها. وهو في الأصل اللغوي عزل للشيء او "فصل بعضه من بعض"(9) ولعله من البديهة أن نقول، إن تمييز الأمور والأشياء، وفصل بعضها من بعض وعزله، يعني اجتماعها وارتباطها اولاً. أي ان الفكر يجمع بين الشيء ونقيضه، ثم يفصل بينهما. ومعنى هذا الجمع أنه يقيم بينهما علاقة أو وحدة يرتبطان بها تسمى وحدة الضدين. ولقد أكد لنا الأصل اللغوي القديم معرفة بهذه الوحدة في تعريفه السابق للتمييز بأنه فصل للشيء المتحدة أجزاؤه، الموجود بعضها في بعض حتى كأن أحد النقيضين في عدم انفصاله عن الآخر، او في وحدته مع الآخر، كأنه هو آخره. وهذا يقرره أبو حيان التوحيدي في كلام له: "العالم من حيث هو كائن فاسد، ومن حيث هو فاسد كائن. فلذلك نظمه بدد، وبدده نظم، ومتصله مفصول ومفصوله متصل, وغفله موسوم, وموسومه غفل, ويقظته رقاد, ورقاده يقظة، وغناه فقر، وفقره غنى، وحياته موت، وموته حياة…"(10).
إن معرفة المتناقضات، أوالتمييز بينها، يعني إدراك هذه العلاقات التي تجمع بينها، فالعلاقة التي تجمع بين الأشياء تولد خصائصها(11). ومعنى هذا أنه لا معنى لها خارج العلاقة، خارج الوحدة التي تجمع بين المتناقضين. وهما فيها "غير قابلين للفصل"(12) فأحدهما لا معنى له مفصولاً عنها، وبهذا "يصبح الجوهري هو العلاقة"(13) في عملية المعرفة، وان فهم الشيء يقتضي "الأنتقال من الشيء الى العلاقة"(14) و"في هذه اللحظة يدخل الوعي حقاً في مملكة الفهم"(15) فالفهم والمعرفة علاقة. واذا كانت العلاقة جوهر عملية المعرفة، واذا كان بها يفهم أحد النقيضين، او يعرف او يوجد ويكون له  معنى يعدها هيجل "الحقيقة العينية الأولى"(16) التي ينبثق عنها الشيء ونقيضه، أو يوجدان، وهما خارجها محض عدم أو تجريد. وكون العلاقة الحقيقة العينية الأولى، هو ما نتفق به معه، فالنقيضان في داخلها متعينان، ولكنها ليست الحقيقة الأولى وهذا ماسنقرره. وهو يسمي الخطوة الأولى (الوجود الخالص) الذي يعده كالعدم، او أنه والعدم سواء، وهذا ما نختلف به عنه.
إن هذه العلاقة أو الجمع ـ التي هي الخطوة الثانية والتي تعقب الانتقال الى الضد ـ دل عليها القدماء لغوياً بلفظة المقارنة. والمقارنة عندهم" قرن الشيء بالشيء.. شده اليه"(17) و"القران: الحبل"(18) وهو وسيلة القرن أو الشد. و"القرون، والقرونة، والقرينة، والقرين"(19) هي النفس، وهي وسيلة القرن او الشد عند الانسان.. ورادفوا هذه اللفظة بلفظة اخرى، هي: الربط: "ربط الشيء.. شده"(20) و"الرباط.. ما ربط به"(21) وهو وسيلة الربط او الشد، و"الرباط: الفؤاد"(22)وهو وسيلة الربط أوالشد في الانسان.. ورادفوا هذه اللفظة بأخرى، هي:ـ العقل: "العقال: الرباط، الذي يعقل به"(23) و"الحبل، هو العقال"(24) وهو وسيلة الربط او العقل، و"العقل: القلب، والقلب، العقل"(25)، وهو وسيلة الربط او العقل في الانسان.
 رادف القدماء إذن بين هذه الألفاظ، (القرن، الربط، العقل) كما رادفوا بين النفس، الفؤاد، والعقل، فهي أدوات القرن او الربط او العقل او الجمع بين الأمور في الأنسان، كما يربط الحبل (القران او الرباط او العقال) بين الأشياء المادية.. فالعقل، إنما سمي عقلاً، لأنه يجمع بين المختلفات، فهو أداة للجمع، "أداة للكشف عن الوحدة الكامنة وراء الاختلاف"(26) لينتهي الى التمييز بينها: "العقل، هو التمييز"(27) والتمييز معرفة، والعقل معرفة لأنه تمييز: "وعقل الشيء يعقله عقلاً، فهمه"(28). وهكذا استطاع القدماء أن يتصوروا عملية المعرفة تصوراً صحيحاً، يلتقي مع ما تقرره نظريات الفلسفة وما انتهينا الى تقريره فيها. لقد استطاعوا أن يدركوا أن أصل المعرفة الإنسانية هو العلاقة او الجمع او المقارنة او العقل، ولذا أطلقوه على وسيلة المعرفة في الانسان، العقل.
........
إن المعرفة هي إدراك التناقض ، إدراك أحد النقيضين بالآخر ، وهذا يعني الإنتقال من أحد النقيضين الى الآخر ، فالمعرفة هي الخطوة الثانية ، والمعرفة حركة . إن التناقض حالة للفكر هي حالة حركة، "إن التناقض منطق للحركة "(29) وهي حركة تتمثل بالرفض أو الفصل أو النفي أو الثورة ، إنها حالة صراع . واذا كان التناقض حركة هي صراع بين نقيضين، فإن أحد النقيضين خارج علاقته بالآخر سكون،(30) لأن وجود أحد النقيضين وحده يعني أن ليس هناك معه ما يصارعه فهو ساكن لا يتحرك. والسكون عدم لأننا قلنا أن لا معنى أو لا وجود لأحد النقيضين خارج علاقته بالآخر، فهو عدم أو تجريد خارجها. فالسكون يعرف ويتحدد معناه بالتناقض الذي هو حالة حركة، ولا يمكن تعريف السكون انطلاقاً من السكون، لا يمكن تعريفه الا انطلاقاً من نقيضه: "إنه يمكن تعريف السكون انطلاقاً من الحركة لا العكس، إذ ان الحركة وحدها واقعية بينما السكون ما هو الا تجريد"(31).
السكون إذن عدم، لأنه احد النقيضين خارج علاقته بالآخر، والحركة وجود لأنها تناقض، نقيضين، وأحد النقيضين يتعرف بالآخر او يوجد به. ولما كانا في داخلها وجود فهي وجود، ووجود واقعي: "إن الحركة هي التناقض في وجوده المرئي "(32) أي الظاهر او المتعين او المحسوس، إذ ان "الحركة الخارجية التي تدركها الحواس ليست الا الوجود الفعلي المباشر للتناقض"(33)   وإذا  كانت الحـركة هي التي تعـرف السكون او توجده، أي اذا كانت هي علة وجوده، فإن هذا يعني حقيقة أسبقية وجودها على وجوده، لأن العلة سابقة على المعلول. واذا كانت الحركة نقيضين، والسكون بعد وجوده هو أحد هذين النقيضين، فإن أسبقية وجود الحركة على وجود السكون يعني أسبقية وجودها على وجود أحد طرفيها..
 ما صورة الحركة، إذن، عندما كان أحد طرفيها غير موجود؟… نقول: إنها بصورة نقيضين، أحدهما موجود والآخر عدم غير موجود، أي انها بصورة نقيض واحد هوالوجود وهو الطرف الفاعل. وهذا يعني أن هناك تناقضا آخر بين الواحد(الذي يتسم بالاستقرار) والاثنين(الحركة) وإن الواحد سابق على الحركة . وهنا نسأل: كيف يكون الواحد سابقا على الحركة(الاثنين) وقد قلنا إن وجود أحد النقيضين يقترن بالآخر وإنه يتطلب وجوده ؟..لقد ذكرنا أن الحركة قبل وجود أحد طرفيها بصورة نقيضين أحدهما وجود والآخر عدم والوجود والعدم تناقض(اثنين) أو نوع من التناقض وهكذا يستطيع( الواحد) أن يسبق وجود (الاثنين) وأن يسبق وجود التناقض لأن هناك تناقضا ولكن بلا تناقض . ماذا نسمي الحركة عندما كانت بأحد طرفيها ؟..نستطيع أن  نستعمل تعبير "أصل الحركة" ليدل على الحركة عندما كان أحد طرفيها عدماً، عندما كانت بأحد طرفيها. وهذا يعني أن نقيض السكون (الذي هو الحركة) له صورتان، هما: الحركة وأصل الحركة، فهو أصل الحركة قبل أن يوجد نقيضه (السكون)، وهو الحركة بعد وجوده، وهذا يعني أن وجود الحركة يرتبط بوجود النقيض الآخر، فوجودها ليس سابقاً على وجوده، بل إن أحدهما مرتبط بوجود الآخر..إن أسبقية الحركـة  تعني أسبقية أصل الحركة. وكما أن وجود الحركة ليس سابقاً على وجود السكون، بل السابق هو أصل الحركة، كذلك فإنها ليست علة وجوده، إذ ان(الواحد) وهو الوجود السابق هوعلة وجود (الحركة) وهو علة وجود السكون . فهو أصلهما السابق عليهما ومصدرهما إذ به يوجدان.. (الواحد) يوجد السكون، وهو بذلك يوجد الحركة. إن أسبقية(الواحد) على الحركة تعني أسبقية الواحد على الاثنين،كما قلنا، فالواحد هو السابق.. وهنا نرد على فلسفة هيجل التي ذهبت الى أن علاقة التناقض التي عبر عنها بالصيرورة هي الحقيقة الأولى، أما الوجود السابق عليها، فهو كالعدم، تجريد خاو أو هو العدم: "إن الصيرورة هي أول فكرة عيانية، ومن هنا هي المفهوم الأول، في حين أن الوجود والعدم هما تجريدات خاوية"(34) فالصيرورة هي أول حقيقة عينية لأن النقيضين لا يوجدان الا في الصيرورة(35). وهما مختلفان أي متعينان فيها(36). أما قبل الصيرورة فليس هنالك اختلاف او تناقض، هنالك الوجود (او الكائن) في لاتحدده: "في بداية الفكر ليس عندنا الا الفكر في لاتحدده الخالص، إذ ان التحدد يحوي سلفاً التعارض، وفي البداية لا يوجد ضد. اللاتعين الذي لدينا هنا هو اللاتعين المباشر.وهو اللاتعين الذي يسبق كل تعين، اللامعين كنقطة انطلاق مطلقة. هو ذا ما ندعوه بالكائن. عن هذا الكائن لا يمكن أن يكون لنا أحساس ولا حدس ولا تمثيل، إذ انه الفكر الخالص وبوصفه كذلك يصنع البدء"(37).هذا الوجود السابق او الجوهر أوالماهية الذي ليس لدينا عنه إحساس  ولاحدس ولا تمثيل، كالعدم ـ لدى هيجل ـ لأنه غير محدد او غير متعين مثله فهما شيء واحد:(38) "إن البداية هي الوجود الخالص، وهذا الوجود الخالص هو من ناحية فكر خالص.. هو فكر خالص لأنه لا يحتوي على أي موضوع من موضوعات الفكر وإنما هو بالأحرى ليس الا هذا الفكر المجرد. فنحن حين نبدأ في التفكير"لا يكون أمامنا سوى الفكر في لا تعينه الخالص..وهذا اللاتعين عبارة عن فكر ـ وفكر صرف ـ وهو بما هو كذلك يشكل البداية.." لأن البدء الأول لايمكن أن يتوسط له شيء "فهو لا يرتبط بغيره ولا يشير الى شيء وراءه.." ومعنى ذلك أنه خلو من كل تحديد او تعيين لأن أي تحديد سوف يضفي عليه طبيعة جزئية تقوم بإزاء طبيعة جزئية أخرى، سوف يجعله "س" وليس "لا س". وكل ما نستطيع أن نحدد به الوجود الخالص هو أن نقول إنه الهوية الخالصة او "الحيادية" المطلقة، فهو لا يدل على شيء بالذات له وجود معين. ومن هنا يمكن أن ينعت بأنه تجريد صرف، الا اننا لابد أن نسارع ونقول إنه ليس نتيجة عملية تجريد قمنا بها، والا لتضمن توسطاً، وإنما هو "..إنمحاء أصيل للسمات يسبق كل طابع، وهو أولها جميعاً.." والواقع إن هذا الوجود الخالص او هذا اللاتعين المباشر هو العدم لا أكثر ولا أقل: "لأن الشيء الذي يخلو تماماً من كل تحديد او تعين هو بالضبط ما نقصده بالعدم".. الوجود الخالص ـ إذن ـ هو اللاتعين الخالص او هو السلب الخالص لأنه خلو من كل تحديد ومن ثم فهو فكر فارغ أو عدم(39)". وهذا ما نعترض عليه لأننا أثبتنا أسبقية(الواحد) ووجوده قبل وجود الحركة التي هي علاقة التناقض أو الصيرورة في تسمية هيجل والتي يعدها الحقيقة الأولى وما قبلها عدم وفراغ .  
 إن الوجود لدى هيجل هو وجود متعين، هو الوجود في الصيرورة، وهو يصف الوجود الخالص السابق على الصيرورة، الذي هو الخطوة الأولى من خطوات الجدل بأنه عدم. ويقول عن الماهية بأنها وجود للذات بدون علاقة بأشياء أخرى وهي بهذا عدم او تجريد(40). فالوجود عنده هو وجود متعين كما قلنا، أما قبل هذا الوجود المتعين، فهناك الوجود الخالص والعدم، وهذان لا فرق بينهما عنده. واذا كان الوجود الخالص عدماً فما هو العدم الذي يضعه في مقابل الوجود الخالص اذا كان لا فرق بينهما، ولماذا يفرق بينهما في اللفظ؟… وهو في حديثه عن الصيرورة _التي يذهب الى أن الوجود والعدم يتحول أحدهما الى الآخر فيها_ يقول إن بينهما فرقاً وتبايناً والا فلا معنى للتحول، لكنه في حديثه الآخر عن الوجود والعدم يقول إنه لا فرق بينهما ويصفهما بصفات واحدة فيذكر أن الوجود والعدم كلاهما أفكار، وأن العدم شيء موجود غير متعين كالوجود الخالص(41). ويقول إننا اذا حاولنا الوصول الى الوجود المطلق لا نصل الا الى العدم، وبالعكس(42)، وإن النور المطلق هو ظلام مطلق(43)، وإن فعل الإثبات هو فعل الانكار(44)، ذلك لأنه ليس هنالك تناقض ظاهري بينهما، يؤكد وجودهما في الظاهر، فالوجود عنده هو وجود صفات ظاهرة، ولما كان الوجود الخالص والعدم بلا صفات ظاهرة، لأن هذه ناشئة من تأثير أحد النقيضين بالآخر وتأثره به(45)، أي انها تشترط وجود تناقض واقعي ظاهر، فهما كما يصفهما عدم وتجريد.
إن ما وصف به الوجود الخالص والعدم جره الى نتائج غير معقولة، فهو يقول أن لافرق بينهما، ويقول إن بينهما فرقاً في الصيرورة. ولقد وصف الماهية التي هي وجود بالذات او عدم لأنها لا تعين بأنها قوة فاعلة نشطة سالبة تسلب نفسها أي تخلق سلباً لها(46). فالماهية التي هي عدم هي قوة فاعلة نافية عنده أي ذات إرادة. وقلنا إنه لا ينبغي لها ذلك على وفق كلامه لأنها عدم لا ينفي الآخر ويدخل معه في علاقة ضدية واختلاف. فأحد النقيضين ينفي نقيضه اذا كان وجوداً متعيناً ـ كما نفهم منه ـإما ان يكون عدماً فهو لا ينفي الآخر لأنه لا علاقة له بالآخر، فلكي يكون أحد النقيضين نفياً للآخر ينبغي أن يكون ضده، داخلاً معه في علاقة تناقض، أي أن يكون وجوداً متعيناً، وعندما يكون عدماً فهو خارج هذه العلاقة.
إن الوجود ليس وجوداً متعيناً حسب، فلقد توصلنا إلى أسبقية أحد النقيضين على الآخر, فهذا النقيض السابق لا يشترط وجود نقيضه، فهو سابق على وجود التناقض أو ظهوره وتعينه. أي إن هنالك وجوداً قبل وجود التناقض وظهوره ، قبل أن يخلق التناقض أو يظهر . وشرح هيجل يؤكد هذا، فهو يصف الماهية التي تسبق وجود الصيرورة هي والعدم بأنها تسلب نفسها، أي تخلق سلبها وتتجلى. فهي قوة فاعلة خالقة لسلبها الذي هو موجود بموجد، أي انه ليس فاعلاً انما منفعل يتلقى تأثير غيره فيه، وان وجوده متأخر عن وجود( الوجود) الذي يخلقه. فالماهية قوة خالقة، فهي ليست عدماً او كالعدم، كما يصفها هيجل لأن العدم لا يخلق. فهي الوجود الخالق، وسلبها مخلوق. ولم يكن هذا السلب موجوداً، أي انه كان عدماً وهي تخلقه. فما يسبق الصيرورة او العلاقة, وهما الوجود الخالص والعدم _الذي في أصل الحركة_انما هما متميزان بأن  أحدهما خالق والآخر مخلوق، او سيخلق. والخالق وجود، والمخلوق قبل خلقه عدم. وهو يصفهما بأنهما وجود وعدم، ولكنه يقول إنه لا فرق بينهما. فهناك اذن تميز بينهما وليس صحيحاً أنه لا فرق بينهما، حتى قبل ظهور التميز وتعينه وتحوله الى تميز او تناقض واقعي محسوس.
واذا كان الوجود الخالص عدماً ـ لدى هيجل ـ أو هو والعدم سواء، لأن أحدهما لم يتعين من الآخر، فهذا يعني أنه يصبح (وجوداً) بعد أن يتعين من نقيضه بعد ظهور التناقض وخلقه، وهذا يعني أن نقيضه (العدم) يبقى عدماً بعد التعين وظهور التناقض. فلكي يكون هو وجوداً متعيناً، يكون نقيضه (عدماً) متعيناً. وبهذا لا يكون الوجود هو التعين فقط، لأن (العدم) أصبح متعيناً ولكنه نقيض للوجود بعد تعينه ايضاً. فالوجود ليس تعيناً فقط، فهنالك وجود قبل التعين والظهور، وهنالك وجود بعده.
لقد توصلنا الى أسبقية وجود (الواحد) على الاثنين (الحركة) وفسرنا ذلك. وقلنا إن الحركةالتي هي نقيضين اثنين كانت بصورةأحد طرفيها يمثله أصل الحركة.. وهنا نذكر بأننا قلنا إنه لا وجود لأحد النقيضين الا بالآخر.. كيف يمكن إذن لهذا النقيض أن يسبق نقيضه، كيف يمكن أن يكون له وجود بلا وجود نقيضه؟ ونقول، إن كون أحد النقيضين (أصل الحركة) موجوداً، وكون النقيض الآخر (السكون)، عدماً، هو ما يكفل وجود نوع من التناقض ، لأن الوجود والعدم تناقض، ولكن بلا تناقض، ونقصد بلا تناقض ظاهر او متعين، ذلك لأن عدم وجود أحد النقيضين، يؤثر في الآخر ويجعله وجوداً كامناً او غير ظاهر، فعندما يختفي وجود العدم وهو وجود ظاهر، يختفي وجود نقيضه الظاهر ايضاً.. ووجود نقيضه الظاهر هذا هو الشرط لوجوده.. فإذا لم يكن هذا الوجود الظاهر لنقيضه موجوداً، كان هو عدماً. فالوجود الظاهر لهذا الوجود السابق كان غير موجود، وكان وجوداً محضاً إزاء عدم محض، وهذا نوع من التناقض، لكنه تناقض غير متعين، او غير ظاهر، هو تناقض كامن حتى يوجد العدم فيصبح متعيناً او ظاهراً. ولو كان هيجل قد ذكر أن الوجود الخالص هو نقيض كامن قبل أن تخلق العلاقة اوالصيرورة فيصبح كل منهما وجوداً متعيناً، لما بدا على كلامه شيء من الاضطراب، وهو له أقوال تنص على الوجود الكامن او الماهية قبل أن تصبح وجوداً متعيناً عند خلق التناقض(47). إن هذا الوجود الكامن هو غير العدم، هو غنى مطلق إزاء فقر مطلق، هو ثبوت إزاء محو، وهذه أوصاف هيجل نفسه. ونفضل نحن أن نسميهما حياة وموتا أو امتلاءً وخلواً او فراغاً، والفراغ هو المصطلح الذي تطلقه الفيزياءعلى العدم . والامتلاء والفراغ يكونان قبل التعين والظهور ويكونان بعده، فالوجود والعدم ـ كما قلنا ـ ليسا هما التعين والظهور أو عدم التعين والظهور فقط .
إن العدم الخالص والوجود الخالص ، كما قلنا، يمثلان نوعا من التناقض ولكن بلا تناقض لأن (العدم) لم يوجد بعد . ولكن العدم الخالص مع ذلك  في مقابل الوجودالخالص يكتسب تميزاً ما او تعريفاً مع أنه عدم. وخير ما يوضح لنا هذه الحقيقة، هو ما وجدناه في تراثنا القديم مما كتبه النحاة عن (العامل المعنوي) الذي فسروه بأنه عدم العوامل اللفظية، وقالوا إنه كالعوامل اللفظية في كونهما عوامل او علامات، إذ شبهوه هو والعوامل اللفظية الموجودة في الكلام بثوبين يريد صاحبهما أن يميز أحدهما من الآخر، فيصبغ أحدهما ويترك صبغ الآخر، فيكون عدم الصبغ في أحدهما كصبغ الآخر من حيث كونه علامة، فيتبين بهذا أن العلامة تكون بعدم الشيء كما تكون بوجود الشيء، واذا ثبت هذا جاز أن يكون عدم العوامل اللفظية (أي العامل المعنوي) عاملاً(48). أي انه في مقابل العامل اللفظي يكتسب تعريفاً كما يكتسبه الثوب غير المصبوغ في مقابل المصبوغ. ولا يرى هيجل هذا التمييز بين العدم والوجود، فالوجود الخالص الذي يسبق العلاقة أو الصيرورة ، وبه يبدأ الجدل لا يمكن تمييزه من العدم، ولا يمكن التفريق بينهما: "نحن لا نستطيع أن نفرق بين الوجود والعدم، لأن كل تفرقة تتضمن شيئين، وان بينهما صفة توجد في الواحد دون الآخر، ولكن الوجود خلو من كل صفة وكذلك العدم، فليس ثمة للتفرقة بينهما من سبيل، وفضلاً عن ذلك فإننا حين نفرق بين شيئين فلابد أن نجد ثمة شيئاً مشتركاً يندرجان تحته فإذا فرقنا بين نوعين، فإن هناك شيئاً مشتركاً بينهما هو الجنس، وفي حالة الوجود الخالص والعدم الصرف ليس ثمة شيء مشترك يمكن أن تقوم عليه التفرقة، فلا مجال من هذه الناحية كذلك الى التفرقة بين الاثنين، وقد يعترض معترض"(49) ونحن نعترض على هذا بأن بين الوجود الخالص والعدم_كما قلنا_نوعا من التميز هو الوجود( الخالص) والعدم( الخالص) كذلك. فالتميز هو الوجود واللاوجود أو العدم. الوجود امتلاء يعني حياة، والعدم خلو مما يمتلئ به الوجود. والوجود وعدم الوجود أو الامتلاء والخلو,أوالحياة والموت يخلق نوعا من التفرقة والتميز بينهما.
ونعترض على فلسفة هيجل، إذ ذهبت الى كمون كلا النقيضين، أحدهما في الآخر:ـ "كل منهما يخفي في داخله آخره"(50)، نرد عليها بأن أحد النقيضين المتأخر عن نقيضه في الوجود وهو (العدم) او (السكون) له صفة أنه يكمن في نقيضه (الحركة)  فيكون عدماً غير ظاهر ويكون نقيضه (الوجود) بصورة (أصل الحركة) فالعدم هو أحد النقيضين خارج علاقته بالآخر، أي إنه خارج نطاق العلاقة ومكانه فارغ فهو فراغ  وهذا الفراغ يمثل كمونا. وهنا ننبه الى أننا لانعني بكمون العدم في الحركة أنه يكمن في هذا النقيض الذي يكون أحد طرفي الحركة وهو الوجود الخالص فهذا النقيض صاف في جوهره لايتضمن تناقضا ونحن نأخذ بمبدأ الهوية الثابتة التي لاتتضمن تناقضا بالنسبة الى هذا النقيض . أما لدى هيجل فأحد النقيضين يمكن أن يكون هو الآخر أو أن يتحول الى الآخر ولا فرق بينه وبين الآخر وهذا ما يختلف به مع الفلسفة القديمة التي تنطلق من مبدأ الهوية وإن أحد النقيضين لا يمكن أن يكون هو الآخر إنما يكون هو ذاته وإن النقيضين لا يجتمعان معا في مكان واحد. أما اجتماعهما في (الحركة) أو العلاقة_وهو ما ذهبنا اليه_ فهذا الاجتماع لايعني أن تختلط هويتهما وأن لا يكون بينهما فرق. ونرد على فلسفة هيجل كذلك إذ ذهبت الى أن كلا من النقيضين يعتمد وجوده على وجود الآخر، فكل منهما يكون أساساً للآخر يعتمد عليه وجوده(51)، نرد عليها بأن هذا النقيض المتأخر يعتمد وجوده على وجود الآخر، ولا يعتمد النقيض السابق على وجود نقيضه ليوجد بدليل أنه كان سابقا في الوجود قبل أن يوجد الآخر.
ولقد أخطأ هيجل إذ ضرب مبدأ الهوية الثابتة الذي يتضمنه المنطق القديم، منطق أرسطو. فذهب الى أن الأشياء متناقضة في ذاتها وأن الشيء ينقلب الى ضده ويتحول اليه. ولقد أوقعه هذا في مأزق لايمكن تفسيره أو قبوله وضرب مبدأ الصيرورة وهو من المبادئ المهمة في منهجه الجدلي. فالصيرورة تعني انتقالاً بين مختلفين والا فلا معنى للأنتقال، فلا انتقال بدون اختلاف ولاصيرورة. ولكن هذا الانتقال وهذه الصيرورة يكونان من الشيء الى نفسه لديه وبهذا تتحطم مقولة الصيرورة فلا معنى لبقائها : ((الصيرورة هي أولاً انتقال الوجود الى العدم ولكن العدم هو الوجود فالصيرورة هي انتقال الوجود الى الوجود، لكن ذلك ليس صيرورة ومن ثم فقد اختفت الصيرورة. والصيرورة ثانياً: هي انتقال العدم الى الوجود ولكن الوجود هو العدم ولذا فالصيرورة هي انتقال العدم الى العدم. وهذا الانتقال كذلك ليس صيرورة وهكذا تنهار الصيرورة وتتحطم. ولن تكون نتيجة هذا الانهيار أن نصل الى العدم لأن معنى ذلك أن نرتد الى إحدى المقولتين ولن تكون النتيجة أيضا وجوداً وإنما هي اتحاد متوازن للوجود والعدم هو الوجود المتعين: وهذا الاتحاد المتوازن يصيب كلا منهما بالشلل على حد تعبير هيجل فتتوقف الحركة او الصيرورة.))(52) إن هذا دفع أحد شراح هيجل الى القول بضرورة الاستغناء عن لفظة الصيرورة واستبدالها بغيرها: ((إن مقولة الصيرورة قد يفهم منها أنها تتضمن فكرة التغير إلا أن ذلك غير صحيح على الاطلاق... إن سير الجدل سيكون أكثر وضوحاً لو أننا استغنينا عن لفظة (الصيرورة) وأطلقنا على مركب الوجود والعدم اسم الانتقال الى الوجود المتعين.)) (53) واذا كنا نؤمن بمبدأ الهوية ولانؤيد هيجل بألغاء هذا المبدأ ودعواه بأن الشيء هو ضده، فنحن بحاجة الى تفسير قولنا بوحدة الأضداد والعلاقة بين الضدين. والحقيقة اننا نقصد بذلك أن النقيض يستدعي نقيضه، فهو يوجد ويعرف من خلال علاقته به. وهذه العلاقة هي مانقصده بوحدة الضدين او العلاقة بينهما وهي علاقة لاتمس حقيقة وجوهر كل منهما، فالحركة مثلاً هي وحدة الضدين وهما يتفاعلان في داخل هذه الوحدة. وليس أحدهما هو الآخر. وفي داخل كل الأشياء هناك وحدة للأضداد لاتعني أن هذه الأضداد تزدوج هويتها فتكون هي الشيء وضده في الوقت نفسه( 54). ومن ضمن هذه الأشياء العقل الإنساني فهو يوحد بين الأضداد ليعرفها، هو وحدة أضداد أوعلاقة، وقبل أن يكون علاقة (اثنين) كان مسبوقا بالواحد الذي هو العقل الإلهي الكلي والهوية الخالصة.
...................
قلنا إن حركة الفكر تمثلت بالرفض او الثورة، فالحركة صراع يسعى فيه أحد النقيضين الى نفي الآخر، أو القضاء عليه او هدمه، فإذا كانت المناقضة مخالفة: "وناقضه في الشيء مناقضة ونقاضاً: خالفه.. ونقيضك الذي يخالفك(55) فإنها عملية صراع تقضي بأن يسعى أحدهما إلى هدم الآخر: "النقض، ضد الأبرام..والنقض: اسم البناء المنقوض إذا هدم، وفي حديث صوم التطوع، فناقضني وناقضته، هي مفاعلة من نقض البناء، وهو هدمه، أي ينقض قولي وأنقض قوله.. والأنتقاض الانتكاث، والنقض ما نكث من الأخبية والأكسية فغزل ثانية"(56) فالمناقضة، حركة، هي صراع يسعى فيه كلا النقيضين الى هدم أحدهما الآخر، والبناء مكانه، كما يفهمنا الأصل اللغوي.
إذن النقض، يعني صراعاً يرتبط بغاية، فهو هدم وبناء. واذا كان النقض هدماً وبناء، فهو ليس هدماً لأجل الهدم.. إن مثل هذا الهدم لا يمتلك تصوراً عن البديل الذي يهدم به الآخر، والذي نفهمه من كل هذا أن عملية النقض تبغي القضاء على التناقض.
 إن المناقضة صراع يسعى فيه أحد النقيضين الى هدم نقيضه والقضاء عليه، ولقد كنا قد قلنا إن الوجود السابق على وجودالحركة ووجودالسكون هو مصدر لهما أي لوجودهما, أي انه يوجدهما، وسبب إيجاده لهما أنه يريد أن يتجلى لأنه كما قلنا وجود خالص بدون صفات  ظاهرة . وإيجاده للحركة يوجد العدم أويظهره لأنه أحد طرفي الحركة وقبل أن يوجد كان فراغا أو خلوا فيها . إن هذا الفراغ او الخلو سيصبح نقيضاً ظاهرا يتخذ صفة الضد من نقيضه(الوجود) الذي يجتمع معه في الحركة والذي  سيصبح هو كذلك وجوداً ظاهراً له صفات وخواص ظاهرة إزاء نقيض له صفات وخواص. وصفات العدم وخواصه هي محو لما يتصف به الوجود. ونستطيع أن نشبه وجود العدم بوجود النار، فالنار وجود له صفات ظاهرة وحيز في الوجود ولكنها تخلو من الوجود وأنها تقضي على أي وجود فيها وتحيله الى عدم ، فهي العدم ولكن ظاهرا أو موجودا .
 إن الوجود السابق بأيجاده للعدم يوجد علاقة التناقض التي هي حركة والتي هي صراع، أي يوجد الصراع. ولقد كنا قد ذكرنا أن العقل الإنساني علاقة تناقض وهذا يعني أنه في صراع: صراع داخلي بحكم التناقض الذي فيه وصراع خارجي تجاه الوجود الكلي السابق عليه بحكم جزئيته وعدم نفيه للعدم أو السلب الذي فيه كاملا. ..
واذا كان الوجود السابق يوجد الصراع فإنه يسيطر عليه، وإن نتيجة الصراع ستؤول اليه، وإنه هو الذي سيتسنى له الانتصار بهدم نقيضه او القضاء عليه والقضاء على التناقض(العلاقة) وهذا هو غاية الصراع . وإذا كان العقل الإنساني(علاقة) فإن نتيجة الصراع تعني تجاوزه لجزئيته_بتجاوزه للسلب الذي فيه_ وعودته الى العقل الكلي السابق عليه.. ولكننا نتساءل هنا، كيف يتسنى لهذا النقيض السابق أن يظل موجوداً وقد قضى على نقيضه لأننا لم ننس إذ قلنا إنه لاوجود لأحد النقيضين خارج علاقته بالآخر؟… ونجيب على هذا بأننا قلنا، إن الهدم يعني بناء أيضاً، وإن أحد النقيضين إذ يهدم نقيضه فإنه يبني مكانه.ويعني كلامنا أن ما يبنيه يحفظ له نوعا من العلاقة به، أي انه يحتفظ بما يشير الى علاقته بنقيضه، وسوف نشرح كيف يهدم أحد النقيضين نقيضه ويبني مكانه، وكيف يقضي على نقيضه ويحتفظ بعلاقته به..
قلنا إن هذا النقيض السابق يوجد نقيضه الذي كان عدماً، ونحن سمينا هذا النقيض السابق وجوداً، وإذا كان هو وجوداً فإن نقيضه عدم.. واذا كان وجود هذا النقيض الذي كان عدماً يوجد التناقض، فهذا يعني أنه يبقى يحتفظ بصفة العدم المناقضة للوجود بعد وجوده، يبقى يحتفظ بصفة (ضد الوجود)، فهو يمثل العدم ـ كما قلنا ـ بالرغم من تحوله الى وجود لأنه على الضد مما يمثله الوجود. ووجوده يعني(ظهور) تميزه من نقيضه، أو خلوه منه ، إنه يعني وجود الفراغ أو الخلو _من الوجود_ أوظهوره .
ونضرب مثالاً: فإذا فرضنا أن الخير (وهو أحد النقيضين في علاقة الخير بالشر) هو هذا النقيض السابق في الوجود، فإن الشر نقيضه هو عدمه، هو الذي تنعدم فيه صفة الخير او ما هيته، ينعدم فيه (وجود) الخير او ينقض. فهو بالنسبة الى الخير الذي هو (وجود) يمثل هذا النقيض الذي يحتفظ بصفة العدم (عدم وجود الخير) بعد وجوده.. وعلى هذا تكون الموجودات المتناقضة، بعضها يمثل الوجود وبعضها الآخر يمثل العدم مع أنه وجود.ولقد كنا قبل قليل قد شبهنا وجود العدم بوجود النار ونشبه ظهور الوجود بوجود الماء فهذا مصدر للوجود وللإحياء وتلك عدم تحرق ما فيها وتحيله الى عدم .
إن وجود العدم يعني تميزه او ظهوره بعد أن لم يكن ظاهراً، اتخاذه صفة الضد من (الوجود)، نقيضه. وبهذا الظهور ظهر التناقض الذي كان  غير ظاهر او غير متعين. هنا نميز بين وجود العدم ووجود الوجود السابق عليه.. إن وجود العدم يشترط وجود نقيضه، فهو وجود ظاهر لأن النقيضين سيكونان موجودين، يظهر أحدهما الآخر او يحدده. أما وجود الوجود فلا يشترط وجود نقيضه، فهو سابق على وجود نقيضه، وعندما كان سابقاً وكان نقيضه عدماً، كان وجوداً محضاً ضد عدم محض. وقد قلنا إن أحد النقيضين يستمد معناه أو تتحدد صفاته من نقيضه، لأن الصفات هي علاقة بالآخر كما تقول فلسفة هيجل. ولما كان نقيض الوجود عدماً، كان هو وجوداً محضاً بلا صفات ظاهرة أو متميزة ، ولذلك نسميه وجوداً كامناً او غير ظاهر.. أما وجود العدم فهو وجود تميز او ظهور فقط، لأنه لا يوجد بدون وجود نقيضه، ولأنه يبقى يحتفظ بصفة (العدمية) بعد وجوده، لأنه ضد هذا النقيض الذي كان موجوداً. وقد ضربنا لوجوده مثلاً بوجود (الشر) الذي هو عدم للخير، الذي يبقى يحتفظ بصفة (عدم الخير) بعد وجوده.. أما وجود (الوجود السابق) فهو وجود بالماهية لأنه كان موجوداً قبل وجود الآخر الذي كان عدماً، وهو ضد العدم، ولكنه قبل وجود العدم واتخاذه صفة الضد لم يكن متميزاً هو الآخر تميزا ظاهرا ، فكان وجوداً كامناً، وجوداً محضاً ضد عدم محض. وبعد وجود العدم، أي ظهوره، وظهور التناقض، أصبح وجوداً ظاهراً، أي انه أصبح وجودين: وجوداً بالماهية، ووجوداً بالظهور. أما وجود العدم، فهو ذو جانب واحد، وجود بالظهور والتعين فقط.
ولقد قلنا إن العدم هو عدم لأنه خارج علاقته بنقيضه، وإنه يتحول الى وجود في داخل علاقة التناقض لأنه يتميز في داخل هذه العلاقة من نقيضه، يكون له معنى، أي تتحدد صفته بعد أن لم تكن كذلك، وذلك بعد أن يقترن بنقيضه وينسب اليه..
إن وجود العدم يعني ـ إذن ـ تحوله الى علاقة، لأنه كان عدماً خارجها.. واذا كان وجود العدم يعني تحوله الى علاقة، واذا كانت العلاقة تعني صراعاً بين طرفيها، وان للصراع نتيجته التي ينتصر فيها هذا النقيض الذي هو سابق، أي (الوجود) وانه يدحر عدوه، فإن الطرف الذي سيبقى من هذه العلاقة هو الوجود.. هو الطرف الذي يمثل الوجود السابق، فهو يقضي على الطرف الذي يمثل العدم، ويخلف وجوده، فتبقى العلاقة (وجوداً) وتنتهي عدماً.
وهكذا تنتهي عملية النقض الى القضاء على التناقض والى (وجود) فقط هو الوجود الظاهر او المتعين الذي يمثل وجودين هما: الوجود السابق (أصل الحركة) وهوالذي كان وجودا كامنا، والوجود الذي استحال اليه هذا الوجود السابق بعد وجود العدم، أي الوجود الظاهر. والوجود الظاهر يمثل كذلك كما قلنا وجود العدم، لأننا قلنا إن وجود العدم يقترن بوجود العلاقة أو الحركة التي هي وجود ظاهر او متعين ولكنه وجود يندحر ويقضي عليه الوجود الظاهر الذي له أصله القديم او أسبقيته في الوجود. وهذا الوجود الظاهر او المتعين الذي له أصل سابق هو الذي يشير الى علاقة التناقض التي انتهت لأنه نفي لوجود العدم (الصفة التي قضي عليها) او عدم لها، فهو الصفة الأخرى منفية، أي انه سلب الآخر، أي انه يتضمن الأخر منفياً، وهذا يشير الى هذا الآخر، يشير الى علاقته به: "فإذا كنا نتحدث عن الوجود المتعين، فلابد أن نلاحظ أنه يتضمن السلب كذلك . إنه وجود كذا وليس وجود شيء آخر، ولو رفع منه هذا السلب لعدنا من جديد الى الوجود الخالص الفارغ او اللاتعين بما هو كذلك"(57) فالوجود المتعين او الظاهر فيه سلب الآخر، يتضمن الآخر منفياً: "التعين او الكيف إيجاب وسلب في آن معاً، او هو وضع ورفع في وقت واحد، ويرجع ذلك الى أنه يشمل الوجود والعدم (او الإيجاب والسلب). فالكيف من ناحية تعين للشيء، أي هو ما هو عليه، أعني وجوده. فإذا كان الشيء يتصف بصفات معينة كأن يكون لاذع المذاق أبيض اللون، على شكل مكعبات.. الخ، قلنا إن هذا الشيء هو الملح، فالكيف من هذه الناحية وجود الشيء نفسه. والكيف من ناحية أخرى جانب سلبي: فالكيفيات التي تجعل الشيء قطعة من الملح، تجعله أيضاً ليس قطعة من السكر. ونحن اذا نظرنا الى الجانب الإيجابي في الشيء لوجدنا أن هذا الجانب هو وجود الشيء كما هو موجود في ذاته وبمعزل عن الأشياء الأخرى. والى الشيء في جوانبه السلبية، استطعنا أن نقول إن هذا الجانب ينفي شيئاً آخر، وهو بذلك الوجود الذي له علاقة بأشياء أخرى، او ينفي أشياء أخرى، وهو من هذه الناحية مقولة فرعية هي الوجود للآخر"(58). فكل موجود متعين له علاقة بالآخر من حيث أنه نفي للآخر: "كل تعين سلب كما قلنا، والكيف تعين للشيء، فالكيف سلب"(59).
إن الوجود المتعين يتضمن الآخر منفيا, وهذا هو الذي يضمن الاحتفاظ بشيء من علاقة التناقض بعد القضاء على التناقض لأن الوجود المتعين ـ كما قلنا ـ يتضمن ما يشير إلى التناقض ولا بد له من أن يتضمن ذلك . وأخيرا فإنه هو هذا المظهر الذي يمثل عملية البناء بعد الهدم.
إن الوجود المتعين هو الخطوة الثالثة والأخيرة من خطوات الحقيقة، حقيقة الشيء، وهو يمثل تحققاً للخطوة الاولى (الماهية او الجوهر)، وعودة اليها، لأنه يمثل التحقق الفعلي للماهية أو الجوهر في الوجود الواقعي أو الوجود المتعين، وهو بهذا ينهي مسيرة الحقيقة، ويوقف حركتها,لأن غاية المسيرة هي أن تتعرف الخطوة الأولى او تتعين ولم يتحقق هذا الا بالخطوة الثالثة التي قلنا إنها الخطوة الأخيرة لأنها نفي للخطوة الثانية, نفي للنفي . وهي بهذا عودة للخطوة الأولى بعد أن أصبحت متعينة سالبة للخطوة الثانية أو نافية لها .
إن قضاء الوجود المتعين على التناقض يعني القضاء على الصراع وعلى الحركة.. أي ان الحركة لها نهاية هي نهاية التناقض، نهاية الصراع، وعندها يستقر الفكر، ولقد قلنا، إن الفكر متحرك (متناقض) ومستقر، فارقته الحركة، وفارقه التناقض.
إن العلاقة او الصيرورة ـ لدى هيجل ـ يقضى عليها، وسـوف تنتهي الى هذا الوجود المتعين فهو نتيجتها: "حتى تصورنا الشائع للصيرورة أن شيئاً ما يخرج منها، وأن الصيرورة من ثم لها نتيجة. بيد أن هذا التصور قد يثير تساؤلاً: لماذا لا تظل الصيرورة مجرد صيرورة، ولماذا يكون لها نتيجة.؟ والإجابة على هذا التساؤل تأتي مما تظهر عليه الصيرورة فعلاً، إن الصيرورة تحتوي على الوجود والعدم بطريقة تجعل هذين العنصرين ينتقلان دائماً الواحد الى الآخر، ويلغي الواحد منهما الآخر، وطالما أن الوجود والعدم يفنيان في الصيرورة (وهذه هي فكرة الصيرورة نفسها) فإن الأخيرة لابد أن تفنى هي الأخرى.. "إن الصيرورة تبدو كما لو كانت النار التي تأكل نفسها بنفسها حين تحرق الأشياء المادية. ونتيجة هذه العملية على أية حال ليس عدماً خالصاً، ولكنه وجود يتحد مع السلب في هوية واحدة، وهو ما نسميه بالوجود المتعين"(60).ولابد من أن نشير الى أن هذا الوجود الذي يتحد مع السلب في هوية واحدة لدى هيجل هو غير ما نقصده بقولنا إن هذا الوجود المتعين الذي تنتهي اليه الحركة والذي هو الخطوة الثالثة من خطوات الحقيقة يتضمن سلب الآخر فنحن لا نقصد أنه يتضمن العدم نقيضه إنما نقصد أنه ينفيه ولقد كان ينفيه باطنا وأصبح ينفيه ظاهرا وباطنا فهو وجود ظاهر .
إن التناقض الذي تمثله العلاقة يختفي ليحل محله الوجود المتعين: "الكينونة والعدم بوصفهما ليسا الا واحداً في الصيرورة يختفيان. الصيرورة من جراء هذا التعارض الذي تحويه، تمضي في الوحدة حيث ينحذف الضدان، ونتيجة هذا المضي هو الوجود (الكينونة المتعينة)"(61)التي قلنا إنها غير الكينونة التي تنطوي على ضدها .
العلاقة او الصيرورة مرحلة إذن قبل الوصول الى الوجود المتعين او الظاهر وحده.. "إن الصيرورة لـم تكن سوى قنطرة ومعبراً الى الوجود المتعين"(62).ولكن الوجود المتعين الذي تنتهي اليه الصيرورة لدى هيجل هو وجود يتحد مع العدم، كما قلنا ،هو الوجود الذي يتحول الى العدم أو يتضمن العدم ، أي الوجود الذي ليس له هوية خالصة ، وليس هو الوجود المتعين الذي تكون الصيرورة أو العلاقة معبرا له لدينا. إن الوجود المتعين هو الذي ينفي الآخر أي فيه ما يشير الى علاقته بالآخر من حيث أنه نفي له وخلو منه وسلب له . والعلاقة هي تلك التي تحوي النقيضين وتجمع بينهما بدون سلب الهوية منهما كما يذهب هيجل . والحق إن كلام هيجل على الوجود المتعين والصيرورة فيه غموض واضطراب .
قلنا إن أحد النقيضين هو ضد للآخر وهو نفي له، أي ان حقيقة وجوده تتعلق بحقيقة الآخر، ولهذا يشترط لوجوده أن لا يتجرد مما يشير الى علاقته به..الوجود هو نفي للعدم، ولكن الوجود كان موجوداً والعدم نقيضه كان عدماً قبل أن يتم له نفيه.. لابد اذن من أن حقيقة وجود (الوجود) تتأثر بالعدم.. هل يلغي العدم الوجود، أي هل يعدمه ما دام العدم ضداً للوجود أيضاً ونفياً له؟… ونقول لا، فالوجود كائن كما استنتجنا.. ما هو تأثير كينونة حالة العدم على الوجود الذي هو نفي لها أيضا ما دامت لا تعدمه وما دام وجوده كائناً..؟ ونقول: إن العدم لا يعدم وجود نقيضه (الوجود) او ينفيه كما قلنا، فوجوده، كائن ولا يتحول الى عدم.. إنه يعدم الوجود الظاهر فقط . وعدم وجوده هو أوعدم ظهوره يؤثر في الوجود السابق بأن يجعله غير ظاهر او غير متعين.  وهذا يعني ان هنالك وجودين، وهذا قلناه.. الوجود السابق على الحركة أي الكامن او غير المتعين او غير الظاهر، والوجود الذي يظهر بوجود العدم، فهو وجود متعين او ظاهر.. إن العدم لا يعدم الوجود السابق على الحركة او يقضي عليه، لأن هذا كائن ، لكنه يكتم صفته ما دام عدماً، يجعله كامناً، أي ان العدم يسبب كمون الوجود، فيكون وجوداً بالذات .
إن العدم هو قضاء على الوجود الظاهر، ولذلك كان العدم كائناً، والوجود السابق على الحركة كان موجوداً ، لأن العدم ليس نفياً له، العدم لا ينفي هذا الوجود، بل ينفيه هذا الوجود، فالوجود ناف والعدم منفي، ينفيه الوجود السابق. وليس صحيـحاً أن كلا النقيضين أحدهما ينفي الآخر، او كما يقول هيجل يلغي أحدهما الآخر في الصيرورة ويتحول أحدهما الى الآخر. فالعدم ليس بقوة نافية كما وصفه هيجل.. كيف يمكن للعدم أن يكون فاعلاً او قوة سالبة نافية، والعدم موت كما يصفه. العدم لا ينفي لأنه ليس بقوة. وبعد أن أصبح متعيناً واتخذ صفة الضد للوجود بعد وجود العلاقة ووجوده فيها يبقى مجرداً من صفة (النافي) لأن هذه صفة الوجود الذي هو (الفاعل) لا (المفعول) أو (المنفي) التي هي صفة العدم، وهذا هو نوع من التناقض بينهما، وليس صحيحاً بهذا أنهما ينفي أحدهما الآخر، او أنهما يتنافيان.
إن الوجود السابق هو وجود كامن قبل أن يخلق العدم، وإن الوجود الذي يمثله وجود العدم هو وجود ظاهر او متعين يكون السبب في ظهور الوجود السابق. إن وجود العدم هو وجود ظاهر، وهو عدم اذا كان الوجود كامناً. أما الوجود السابق فهو وجود عندما كان العدم عدماً لكنه وجود كامن وبعد وجود العدم  يتحول الى وجود ظاهر كذلك في العلاقة، فهي تظهر كلا النقيضين.. إن الوجود الكامن هو جوهر او فكر او مضمون، والوجود الظاهر هو عرض ظاهر او فعل او شكل يظهر الوجود السابق عليه فيجعله ظاهراً، وبهذا يكون للوجود السابق وجودان: باطن وظاهر (قبل ان يوجد العدم وبعد وجوده). وللوجود المتأخر وجود واحد، ظاهر، وهذا هو فرق بينهما.
 الوجود السابق الذي هو الماهية او الجوهر او الفكر او الروح – بتعبير هيجل- يخلق العدم، او يوجده فيتحول الى وجود ظاهر او متعين او واقع يتجلى به. ومن هذا الواقع او الوجود الظاهر الانسان صاحب العقل المفكر، أي إن الوجود السابق يريد أن يتجلى كذلك من خلال المعرفة الانسانية والعقل الانساني من ضمن الوجود المادي الذي يتجلى به والمتمثل بالكون أجمع . وإذا كان الوجود السابق يوجد العدم أويظهره على مراحل أو أجزاء فإن ظهور الوجود المادي المتمثل بالعقل الإنساني الذي يسعى الى أن يجلي المعرفة الكلية سيكون على مراحل أو أجزاء حتى ظهور العقل الكامل الذي يخلو من كل سلب والذي يتجاوز نقص العقل الإنساني الجزئي ويحقق عودته الى العقل الكلي المطلق . وهذه المراحل ثلاث خطوات يخطوها العقل الإنساني ليلتحق بهذه النهاية . وهذه الخطوات يصفها هيجل في المعرفة الدينية_التي هي ثاني خطوة من خطوات العقل لديه_ والتي فيها يسعى الانسان الى معرفة الله والى التوافق معه ويحصل هذا عبر لحظات ثلاث تقابل لحظات الفكر الثلاث وهي: لحظة العقل الكلي أو الله ، ثم لحظة الجزئية التي يشطر العقل الكلي فيها نفسه الى العقل الكلي والعقل الجزئي متمثلا بعقول الأفراد المتناهية. والعقل الكلي والجزئي هنا منفصلان يقفان كل منهما في مواجهة الآخر بوصفهما ضدين . ثم لحظة الفردية وهي عودة الجزئي الى الكلي وعلاج الانقسام الذي حدث . وهذا يعني ان العقل البشري يسعى الى إلغاء بعده وانفصاله عن الله ويكافح لكي يربط نفسه بالله ويتصالح معه، وهذا الجهد يتمثل بالعبادة. وهكذا فإن  العبء الأساس الملقى على عاتق كل دين هو وصل الانسان بالله وإلغاء بعده عنه، وهذا يفترض سلفاً نوعاً من الانفصال عن الله، الذي يصبح معه التوفيق والمصالحة عملية ضرورية. وتعتمد المصالحة على عودة العقل البشري المتناهي المنعزل الى الله والصدور عنه.(63).
إن مسيرة العقل هذه هي مسيرة الجدل. وإن خطوات الجدل يتعرف بعضها ببعض. ولهذا قيل إن المنهج الجدلي تعبير عن طبيعة العقل، او إنه يرتبط بفكرة العقل سواء أكان العقل الموضوعي المبثوث في كل ثنايا الكون والذي يربط بين الموجودات، أو العقل الانساني الذي يسلك هذه الخطوات في سعيه الى المعرفة وفي تعبيره عن معرفته هذه بالعمل .
 إن العمل معرفة تحققت في الواقع ، والتاريخ الموضوعي الذي يصنعه الإنسان هو تاريخ معرفته المتطورة عبر التاريخ : إن الفكر ينتج الواقع عند هيجل: "إن مسيرة المعرفة هي انتاج الواقع"(64) وإنه "ليس هناك اطلاقاً عمل بدون نظر، بدون وعي، بدون فكر، بدون انتباه، بدون عاطفة، بدون حلم، جيد او سيء، مفيد او مضيع ومحبط"(65).
وتأخذ عليه الفلسفة الماركسية، أنه وقع في الوهم المثالي،لأن المعرفة لا تخلق الواقع، بل "إنها إعادة إنتاجه في الرأس"(66) وهي تعني أن الواقع يخلق فكراً يطابقه، والذي أكده هيجل أن الفكر يخلق واقعاً يطابقه. وقد أكد بحثنا أن الوجود السابق هو جوهر أو مضمون كامن وأن الوجود الظاهر المادي متأخرعنه وأنه هو الذي يخلق هذا الوجود المتأخر لكي يتجلى .
إن هذا الجوهر او الفكر او المضمون لا يتجلى كاملاً في أول نفي للعدم، ذلك لأنه ينفيه على مراحل وكل مرحلة عبارة عن خطوات ثلاث، تمثل الثالثة منها عودة لأن الفكر فيها يحقق نفسه في الواقع ويمثل وجوداً متعيناً، وهذا يمثل انطباقاً على الجوهر او الوجود الأول وعودة اليه. وتستمر سلسلة المثلثات في مسيرة الفكر الكلي الطويلة التي يسعى فيها الى التحقق الكامل. وبهذا لا يمثل ما يتجلى منه في أول نفي الا جزءاً من الجوهر الكامل، وهو في كل نفي يضيف الى هذا الجزء حتى يتجلى كاملاً.
إن الوجود الظاهر الذي يمثله هذا الجزء المحدود هو نقيض معاد للكل الذي يمثله الجوهر او الوجود السابق . وبهذا يرتبط الوجود بعلاقة تناقض اخرى، فضلاً عن تناقضه مع العدم، هي بينه وبين الجزء المتحقق. وهو يحاول في كل نفي أن يتجاوز الجزء ليحقق نفسه كاملاً، أي ان النفي يستمر، ويستمر الصراع بين الجزء والكل حتى يتجاوز الكل العدم كاملاً. وهو في كل نفي يرجع الى ما حققه ليرى مدى انطباقه عليه، ثم ليتجاوزه ويطوره..
إن علاقة التناقض بين الكل والجزء تتمثل بالتناقض بين الوجود المادي الظاهر والوجود الجوهري الكامل . الوجود الظاهري ليس كاملا في مراحل وجوده الأولى حتى تتكرر عمليات إيجاده على مراحل أو أجزاء متتالية ليتحقق إيجاده كاملا. العقل الانساني الجزئي المحدود ليس كاملا في مراحل وجوده الأولى وليس فعله الذي هو نتاج عقله ومعرفته كاملا كذلك . والعقل الكلي يتجاوز العقول الجزئية المحدودة من خلال الولادات المستمرة حتى يوجد العقل الانساني الكامل(لدى الإنسان الخليفة) الذي يسعى الى استيعاب الحقيقة أو المعرفة الكلية وذلك بالكدح المستمر والجهد المتواصل والمراجعة المستمرة لمعرفته الخاصة ثم تجاوز هذه المعرفة باستمرار حتى تكتمل معرفته بالاستفادة من خبراته المتراكمة وتجاربه العملية المتحققة في صناعته للتاريخ الموضوعي .
المعرفة تستفيد من الممارسة او التجربة, فالمعرفة مسار تقدمي يستند الى الخبرة او "التجربة".."(67) ولكن هذه الخبرة أو التجربة هي أساس المعرفة ومبدأها_ لدى الأفكار المادية كالماركسية_ وقوتها المحركة : "الممارسة ليست فقط أساساً للمعرفة، وإنما هي قوتها المحركة ايضاً"(68)  وهذا عكس ما نذهب اليه وما ذهب اليه هيجل فالمعرفة تستمد من الفكر، وتستفيد من الممارسة.
إن العلاقة بين الفكر والممارسة, او بـين النظرية والممارسة، علاقة "ديالكتيكية": هناك إسهام متبادل بين النظرية والممارسة"(69).. الممارسة تغني الفكر، وتستمد منه وتنطلق .
إن النفي او النقض يبقى مستمراً ما دام التناقض قائماً بين الكل الذي يعنيه الجوهر، والجزء الذي هو ظاهر او واقع لا يعكس الا بعضاً منه. ويبقى الصراع مستمراً حتى يتحقق الكل تماماً من خلال الواقع.
 هذه الحقيقة تفسر لنا التطور الذي يحرك كل شيء في الوجود. فالموجودات تتطور وذلك لأنها في بداية نشأتها لايعكس مايظهر منها أولاً كل الجوهر الكامن فيها وإنما يظهر هذا كاملا من خلال نفيه للعدم  كاملاً. ومن خلال عملية الصراع الدائر او عملية النفي يتجلى الجوهر كله شيئاً فشيئاً. فالانسان مثلاً يكون طفلاً ثم يتدرج في نموه من خلال تجلي الجوهر الكامن فيه والذي يحرك نموه . وكل الحيوانات والنباتات وكل شيء ينمو إنما بفضل التحقق التدريجي لكل الجوهر الكامن فيه. والعقل الانساني يمر بهذا التطور التدريجي المستمر للانسان وذلك لكي يتكامل مع الجوهر الكلي الكامن فيه والذي يوجد مستقلا عنه كذلك . العقل الانساني يعاني من النقص ولهذا قلنا عنه أنه علاقة تناقض ، فهو يتضمن الإيجاب والسلب . وهو يسعى الى تجاوز السلب الذي فيه لكي يلتحق بالعقل الكلي أو يلاقيه .  إن السلب او النقص الذي في العقل يدفعه الى الحركة والتجاوز لكي يتطور الى الكل الذي هو غاية الحركة لديه.
 الحركة تحكمها اذن غاية، هي بلوغ العقل أو الفكرالكامل نفسه عن طريق الواقع أو الوجود المادي الظاهر ومنه الانسان ، ولهذا فإن النفي او التجاوز لا يبقى مستمراً، وإنما له أجل وغاية يقف عندها . إنه يقف عندما يصل الى غايته.. الغاية التي انطلق منها، والتي يعود اليها في النهاية عن طريق الواقع. والنفي يقف فقط عندما يكون عودة. عندما تكون النهاية هي البداية. وهنا نعرف أن عمليات النفي هذه التي تتمثل بنفي الأفكار الجزئية _ بسبب ما تتضمنه من سلب _ كانت توجهها هذه البداية التي تطالعنا في النهاية. وكما أن البداية هي فكرة خالصة من السلب فالنهاية كذلك . ومن أجل هذا فهي تمثل عودة الى البداية .  هنا فقط يقف الفكر، عندما تلتحم النهاية بالبداية، او تعود اليها، عندما لا يبقى هناك تناقض بين البداية والنهاية، وهنا فقط تنتهي الحركة إذ لا تناقض ولا صراع.
 حركة العقل أو الفكر الإنساني تحكمها، إذن غاية، هي البداية الكلية الكاملة وهي النهاية التي ينتهي اليها العقل الانساني بجهده وسعيه .  وعندما تكون النهاية هي البداية في الفكر، فمعنى هذا أنه يسلك في حركته سلوكاً دائرياً، فمن خصائص الحركة  الدائرية أن البداية فيها هي النهاية وبالعكس، وبهذا فإن "الفكر يؤلف منظومة تامة، منظومة أغلقت على نفسها"  (70). إن "الطابع الدائري للمنظومة يظهر الآن بوضوح تام"(71) فالنهاية "تبلغ مجدداً بدايتها وترجع الى نفسها"(72). والنهاية تبلغ بدايتها عن طريق التحقق العملي. وبدايتها جوهر أو فكر مجرد تصل اليه أو تعود اليه عن طريق الواقع(73) "والفكرة الخارجة من ذاتها، المتجسدة، لتصل بانتاجها الحياة الواعية الى العودة لذاتها"(74).
إن العقل أو الفكر يعود الى البداية بتجاوز أجزائه ، أي ان العقول الإنسانية تمثل أجزاء في مسيرة العقل الكلية لأنها غير كاملة بسبب ما تتضمنه من سلب ، وهذا يمثل للعقل صراعاً ضد نفسه . وهذا يعني أن الصراع له صيغتان: الأولى بين الفكرة ونقيضها، وذلك لأن العقل علاقة تناقض بين الإيجاب والسلب كما قلنا . والثانية بينها وبين نفسها. أي بين العقل الذي هو علاقة بين الإيجاب والسلب أي الذي مازال يتضمن السلب او النقص ولم ينفه عنه تماما وبين العقل الكلي الذي يمثل الحقيقة الجوهرية المتضمنة فيه كما يمثل الحقيقة الجوهرية السابقة على وجوده والتي يرتبط بها بسبب هذا النقص بعلاقة الجزء بالكل، والخاص بالعام، والمحدود بغير المحدود. والكل يصارع الجزء فيها، والعام يصارع الخاص، وغير المحدود يصارع المحدود حتى يصل به اليه.. ومن هنا يكون الجزء والخاص والمحدود، هو العائق المعادي الذي على الفكرة الكلية أن تغلبه، وهذا يمثل لها "صراعاً قاسياً.. ضد نفسها.. ما تريده.. هو أن تبلغ مفهومها الخاص ذاته"(75) أي إن الصراع يبقى مستمراً حتى ينتهي التناقض بينهما، حتى يكون الجزء على قدر الكل، حتى يكون العقل الانساني على قدر الفكرة الكلية ، وحتى يكون الفعل الإنساني على قدر الفكر، وهذا يعني ان الفكر يتناقض مع الفعل، ولا يتناقض معه عندما يبلغ به اليه فيكون على قدره .
والفكر او العقل يعود الى البداية، باستيعاب الأجزاء، فهو يرجع الى ما حققه ليستكمل جوانب النقص الأخرى، محتفظاً بما حققه بوصفه عناصر الفكرة الكلية. فهذه السلسلة الطويلة من الإنكارات المتجاوزة، لا تمحى تحت تأثير الحركة الجدلية، لأنها أجزاء مما يعنيه الكل في سعيه الدائب نحو التحقق الكامل (76). إن الكل يتحقق او يتجلى في العقل الانساني بعد سلسلة من عمليات تجلي الأجزاء او توليدها واستيعابها وتجاوزها: "الماهية تتجلى في توليد وزوال اعراضها"(77).
لقد قررنا أن تاريخ تطور الواقع انما هو تاريخ تطور العقل أو الفكر لأن الفعل مصدره فكر كما ذكرنا . وإن تاريخ تطور الفكر هو تاريخ عملية نقض مستمر، ولكن الى أجل وغاية. إن النقض هو القانون العام للتطور الفكري..إن النقض هو هذه الحركة التي للفكر، والتي تحكم تطوره، وتحكم تطور الواقع فيما بعد . وهو سر حركة الفكر وحركة الواقع . ولأنه نقض يلحق النهاية بالبداية كانت حركة الفكر وحركة الواقع حركة دائرية ...كروية .

الهوامش:

(1)ينظر: كتاب النفس لارسطوطاليس، نقله الى العربية الدكتور أحمد فؤاد الأهواني، دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الأولى، 1949،ص22.
(2) ينظر: المنهج الجدلي عند هيجل، إمام عبدالفتاح إمام، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت ـ لبنان، ص42.
(3) المصدر السابق، ص41.
(4) نفسه، ص199.
(5) نفسه.
(6) فكر هيغل، روجيه غارودي، ترجمه وقدم له إلياس مرقص، دار الحقيقة، بيروت،ص75.وينظر: "موسوعة العلوم الفلسفية"، ترجمة إمام عبدالفتاح إمام، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت ـ لبنان، طبعة أولى1983، ص206ـ207.
(7) فكر هيغل، ص80.
(8) الحيوان، الجاحظ، تحقيق عبدالسلام هارون، طبع في القاهرة سنة 1945، جـ1، ص204.
(9) لسان العرب، (ميز)، العلامة ابن منظور، دار صادر للطباعة والنشر، دار بيروت للطباعة والنشر، 1956م.
(10) المقابسات، ابو حيان التوحيدي، حققه وقدم له محمد توفيق حسين، مطبعة الارشاد، بغداد، 1970، ص424.
(11) ينظر: فكر هيغل، ص80.
(12) المصدر السابق.
(13) نفسه ص97.
(14) نفسه.
(15) نفسه.
(16) هيجل او المثالية المطلقة، زكريا ابراهيم، الناشر مكتبة مصر للطباعة، 1970، ص155.
(17) لسان العرب، "قرن".
(18) المصدر السابق.
(19) نفسه.
(20) نفسه (ربط).
(21) نفسه.
(22) نفسه.
(23) نفسه، "عقل".
(24) نفسه.
(25) نفسه.
(26) هيجل او المثالية المطلقة، ص251.
(27) لسان العرب، "عقل".
(28) نفسه.
(29) فكر هيغل، ص79، وينظر: "المنهج الجدلي عند هيجل" ص200 و"موسوعة العلوم الفلسفية" ص217.
(30) ينظر: فكر هيغل، ص18.
(31) المصدر السابق، ص82.
(32) هيغل، مختارات ـ 1ـ ترجمة إلياس مرقص، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1978، ص131.
(33) المنهج الجدلي عند هيجل، ص200.
(34) هيجل ص48ـ49، وينظر (المنهج الجدلي عند هيجل)، ص157. وينظر كذلك: هيغل/ مختارات ـ 1ـ ص106.
(35) ينظر، هيغل، مختارات ـ 1ـ ص104.
(36) ينظر: المصدر السابق، ص103.
(37) نفسه، ص99، وينظر (المنهج الجدلي عند هيجل ص140).
(38) ينظر: "هيغل، مختارات" ص102.
(39) المنهج الجدلي عند هيجل ص153ـ 154.
(40) ينظر: المصدر السابق ص185ـ 188.
(41) نفسه، ص154.
(42) نفسه، ص156.
(43) نفسه، ص161.
(44) نفسه، ص154.
(45) نفسه، ص208.
(46) نفسه، ص224.
(47) نفسه، ص185ـ186.
(48) ينظر: (اسرار العربية)، ابو البركات الأنباري، تحقيق محمد بهجة البيطار، مطبعة الترقي بدمشق،1957م، ص68ـ69.
(49) المنهج الجدلي عند هيجل ص154.
(50) فكر هيغل، ص80.
(51) ينظر: "المنهج الجدلي عند هيجل" ص202.
(52) المصدر السابق ص158.
(53) نفسه ص156-157.
(54) يتجه الفكر الديني الى نفي مبدأ التناقض ووحدة الأضداد وهو ما جاءت به فلسفة هيجل والفلسفة المادية الديالكتيكية إذ يلغيان مبدأ الهوية الذي تؤمن به الفلسفة القديمة. وفي كتاب (فلسفتنا) يرد السيد محمد باقر الصدر على هاتين الفلسفتين فيما تذهبان اليه فيبين أولا أن الفلسفة الميتافيزيقية لا تنفي وجود الأضداد فهذا أمر يقره كل منطق وكل فيلسوف منذ أقدم عصور الفلسفة المادية والإلهية ، وما يحصل بين الأضداد الخارجية المستقلة من (كفاح) إنما هو حقيقة في مختلف الفلسفات منذ فجر التاريخ الفلسفي. كما ان هذه الفلسفات لم تنكر الحركة فمدرسة أرسطو_ وهي المدرسة الفلسفية الكبرى في العهد الإغريقي _ آمنت بالحركة . ولا يعني مبدأ عدم التناقض_ وهو المبدأ الفلسفي الذي أقام أرسطو منطقه عليه _عدم وجود الأضداد إنما يعني أن الأضداد توجد بصورة مستقلة فلا تختلط هويتها ولا يتحول أحدها الى الآخر ، ويقوم بين هذه الأضداد كفاح يؤدي الى نتيجة .أما (الصراع) بين نقائض وأضداد (مجتمعة في وحدة معينة ) فهذا يتنافى مع مبدأ عدم التناقض الذي تأخذ به الفلسفة الكلاسيكية  لأن هذه (الوحدة)  تتيح للمتناقضات أن يتحول أحدها الى الآخر بما يؤدي الى سلب ذواتها وهويتها . وينكر السيد محمد باقر الصدر وحدة الأضداد والتناقضات الداخلية بسبب ما ذكرنا لأن هذا _حسب تفسيرنا_  يسيء الى بعض المفاهيم الدينية فهو مثلا يسيء الى  الذات الإلهية بما يقتضي من تحولها الى ضدها ومن انطوائها على ضدها وعدم تجانسها . ولكن سعيه الى إنكار هذه (الوحدة) قاده الى أحكام تؤخذ عليه، فهو مثلا يرفض اعتبار الشحنة الموجبة والسالبة من قبيل النفي والأثبات والسلب والإيجاب ، فهذا مجرد تعبير علمي واصطلاح  فيزيائي لديه  فكل منهما نوع خاص من الكهربائية وليست إحداهما وجود الشيء والأخرى عدما لذلك الشيء وليس التجاذب بينهما لونا من ألوان الإجتماع ولا مظهرا من مظاهر الديالكتيك.  فالتجاذب _كما يرى_ لون من ألوان التفاعل بين الأضداد الخارجية المستقل بعضها في الوجود عن بعض . وهذا التفاعل بين الأضداد الخارجية ليس من الديالكتيك في شيء ولا يمت الى التناقض الذي يرفضه المنطق الميتافيزيقي بصلة. فالمسألة مسألة قوتين تؤثر إحداهما في الأخرى لا مسألة قوة تتناقض في محتواها الداخلي. مع أن السيد الصدر يبين ما يورده العلم من أن ( السلبية والإيجابية الكهربائيتين لم تجتمعا في شحنة واحدة وإنما هما شحنتان مستقلتان تتجاذبان كما يتجاذب القطبان المغناطيسيان المختلفان من دون أن يعني ذلك وجود شحنة واحدة موجبة وسالبة في وقت واحد أو وجود قطب مغناطيسي شمالي وجنوبي معا . فالتجاذب بين الشحنات المتخالفة لون من ألوان التفاعل بين الأضداد الخارجية ) وهكذا نجد أن السيد الصدر يقر أن العلم لم يقل إن الشحنة الموجبة والشحنة السالبة هما شحنة واحدة ولا ذكر أن الفلسفة المادية قالت ذلك وإنما تقول إنهما متناقضتان وإن بينهما تجاذبا وإنها عملية ديالكتيكية  تقع في قلب المادة . والسيد الصدر يستبدل بمصطلحات المادية مصطلحات أخرى فالكفاح أو الاشتباك مكان الصراع والاختلاف مكان التناقض والتفاعل مكان التجاذب وهو يستبعد أن يكون التجاذب لونا من ألوان الاجتماع ، فكيف لايكون كذلك وكيف يتجاذب المختلفان إن لم يلتقيا ويجتمعا ؟ المهم إن السيد الصدر أراد أن يستبعد فكرة وحدة الأضداد ولم يحاول أن يقترح لها تفسيرا آخر يخدم التفسير غير المادي الذي يؤمن به كما حاول بحثنا الذي قال بوجود وحدة للأضداد من دون أن يضرب مبدأ الهوية وعدم تناقضها، وإن لم يقل السيد الصدر بذلك فأين يحدث هذا التفاعل بين الأضداد المستقلة ؟ أليس في قلب الأشياء ؟ فهذه الأشياء هي  الوحدة التي تتفاعل فيها المختلفات . ولنضرب لذلك مثلا الأنسان : ألم يقل الإمام علي  ( ع )عن الإنسان إنه( معجون بطينة الألوان المختلفة.. والأضداد المتعادية  والأخلاط المتباينة) ، وألم يقل الله تعالى عن النفس الإنسانية : (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ) فكما أن الإنسان هو من أخلاط متباينة وأضداد متعادية في طينته المادية فكذلك هو في نفسه وروحه وفكره . ونرى أن الصحيح أن نقول إن الأضداد تجتمع في وحدة ولكن دون أن يمس مبدأ الهوية وإن الأشياء تنطوي على التناقض ولكن المتناقضات تحتفظ بهويتها وتتفاعل فيما بينها ونتيجة هذا التفاعل _الذي يقول به السيد الصدر والفلسفة الكلاسيكية _أن الجانب الذي يمثل الوجود السابق هو الذي ينتصر فيغير هوية الجانب السالب أو يطرده من وحدة العلاقة ويؤول الأمر اليه وهذا ما ينتصر للدين .
 ويفعل السيد الصدر الشيء نفسه في رده على تفسير الحركة لدى الفلسفة الديالكتيكية فليست هي نتيجة للصراع بين التناقضات الداخلية إذ ليست في الحركة وحدة للتناقضات والأضداد لتنجم عن الصراع بينها إنما هي سير تدريجي للوجود وتطور للشيء في الدرجات التي تتسع لها إمكاناته ، ولذلك حدد المفهوم الفلسفي للحركة بأنها خروج الشيء من القوة الى الفعل تدريجيا ، فالشيء المتحرك يحتوي على الفعلية والقوة أو الوجود والإمكان معا وهذا هو تشابك القوة والفعل أو الإمكان والوجود واتحادهما في الحركة، فإذا نفد الإمكان ولم تبق في الشيء طاقة على درجة جديدة انتهى عمر الحركة.وهذا الخروج التدريجي للشيء المتطور إنما يحتاج الى سبب خارجي أو علة خارجية فالحركة لايمكن أن تكتفي ذاتيا وتستغني عن هذه العلة الخارجية  .  ويرى السيد الصدر أن في المحتوى الداخلي للشيء إمكانا للدرجة المقبلة واستعدادا  لها ،أي ان في داخل الشيء ( يتشابك ) (الإمكان أو القوة ) و ( الواقع أوالفعل ) .  ونستطيع أن نفسر التشابك بالإجتماع والتفاعل في داخل الشيء الذي هو الوحدة التي تجمع بين الإمكان أوالقوة والواقع أو الفعل، ونستطيع أن نفسر الإمكان أو القوة بالطاقة أو السلب الذي في الأشياء ، والواقع أو الفعل بما تحقق من ذلك الشيء أو ما انتقل اليه الشيء في حركته محققا تاريخ نفسه. وهو يسمي الشيء المتحرك الوجود المتطور الذي يثرى ويتدرج بصورة مستمرة حتى تستنفد بالحركة تلك الإمكانات التي يتضمنها الشيء ويستبدل في كل درجة من درجات الحركة الإمكان بالواقع والقوة بالفعلية. فالحركة كما يشرحها السيد الصدر مؤيدا بذلك الفلسفة القديمة إنما هي صراع وتفاعل بين الواقع والإمكان أو الفعل والقوة وهذا ما قررناه والقوة والإمكان هو ما عبرنا عنه بالعدم أو السلب الذي تحاول الأشياء أن تطرده عنها لكي يتحقق وجودها كاملا فتنتهي الحركة . وهكذا نجد أن السيد الصدر يحاول أن يبعد الألفاظ عن المعاني ولكن التفسير يقرب بينها فهو يقر بالاجتماع مادام يقول باشتباك الجانبين فكيف يكون الاشتباك من دون اجتماع ؟ وهو يقر  بالتناقض مادام أحد الجانبين واقعا متحققا (ايجابا) والآخر مازال إمكانا وقوة أو طاقة لما تتحقق بعد(سلبا)  . وهذا الاشتباك يعني صراعا والسيد الصدر يرفض هذه اللفظة لأن النظرية التي يختلف معها تستعملها . ينظر :(فلسفتنا )، ص : 228_191
(55) لسان العرب "نقض".
(56) المصدر السابق.
(57 )المنهج الجدلي عند هيجل/ ص159.
(58) المصدر السابق، ص160.
(59) نفسه.
(60) نفسه، ص158.
(61) هيغل، مختارات ـ 1ـ ص108.
(62) المنهج الجدلي عند هيجل، ص168.
(63) ينظر: فلسفة هيجل، ولترستيس، ترجمة الدكتور إمام عبدالفتاح إمام، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة1975، ص683ـ685.
(64) فكر هيغل، ص29.
(65) المصدر السابق، 31.
(66) نفسه، ص29.
(67) هيجل او المثالية المطلقة، ص179.
(68) أسس المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية، سبيركين وياخوت، ترجمة محمد الجندي، موسكو، دار التقدم،1972، ص113.
(69) نظرية الأدب، رينيه ويليك، أوستن وارين، ترجمة محيي الدين صبحي، المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، دمشق، ط3،1972، ص47.
(70) فكر هيجل، ص151.
(71) المصدر السابق.
(72) نفسه
(73) ينظر: "المنهج الجدلي عند هيجل" ص284.
(74) هيجل ص54.
(75) فكر هيغل، ص55.
(76) ينظر: "هيجل او المثالية المطلقة" ص254.
(77) هيغل، مختارات ـ 1ـ ص90.


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس