استِجْدَاءُ
الفَنِّ.. أو الجَرْيُ ورَاءَ المُطْلَـقِ
بقلم: عادل بوحوت
بعدما قرأ عن حُبّ الشُّعراء والرسّامين
والمغنّين للأميرات الجميلات المُتنعِّمات بظلال أشجار الياسمين في بساتين القصور
الفاخرة، وتعلّقهم بآيات الحُبِّ والجمال والحقِّ الكامنة في الطّبيعة والنّاس، وهوسهم
بارتياد الماوراء ونُشدان النهايات...
قرأ كلّ ذلك وغيره الشّيء الكثير، ودغدغه أمل
كبير في أن يصير مِثلهم، فقُام مدفوعا بأمله مدعوما بطموح لا يعرف الحدود، وأخذ
لوحا كان من إرث جدّه الذي قيل إنّه كان يخُطُّ عليه آي القرآن حتّى تعلق بحبال
الذّاكرة، وتكون معهُ يوم البعث شفيعا من نار جهنم. بيد أنّ سِنِيَّ الجدّ تمّت
قبل أن يُتمّ حفظ الستين حزبا، وقد بُلِّغ الثّمانين ونيفا...
اقتنى قماشا أبيض أشبه ما يكُون بالكفن، لكن
لا ليضَعَهُ على رأسه، كما كان يفعلُ النّاس عندهم – في المغرب الأقصى-
احتفاءً بالموت، حسبما تقول الحكايات…
فكّر، وقُال لنفسه: –قبل أن يفتح القُماش- "لا غرو فأنا من أمة
يَنشُدُ أبناؤها المُطلق في الموت، فيما أدركت أمم غيرنا أنّ المُطلق يقبعُ مُنذ
البدء في قمقم هذا الذي يُسمُّونهُ فنّاً.. فأنا إذن أنشُد المُطلق على نحو
ما فعل آبائي الأوّلون، لكن على غيرِ هديِهِم.."
أعاره رسّامُ سوق نهاية الأسبوع – الذي كان من
معارفهم- بعد لأيٍ وطول إلحاح، بضع قارورات من صباغة زيتية، وحُزمةَ أوراق
عليها منمنماتٌ، يبدو أنّها بُتِرَتْ بترا من مخطوطات عربية قديمة.. قال له الرّجل
بهمس: (لقد أفتى الفُقهاء بحِرمتها فاشتراها جدّي من السّوق السّوداء، وإليها يرجع
الفضل في لُقمة العيش التي تراها الآن..)
بعدما عاد إلى البيت - ممتطيا صهوة أمله-
اختلطت عليه الألوان والصّور، ولاحت لذاكرتك المُتعبة فتوى التحريم، ولعنةُ
الأجداد... فلم يجد أمامه من مخرج غير البحث عن "الموناليزا"، الأشهر
بين اللّوحات التي خلّدتها ذاكرة الفنّ.. فكّر في مُتحف اللُّوفر.. فانقطع للتّوّ
حبل تفكيره، بانقطاع السُّبُل إلى تحصيل هذه اللّوحة التي لا شَكَّ في أنّها تحمل
في ذاكرتها تاريخ حضارة بكاملها... أراد محاكاة الموناليزا المصوّرة في إحدى
المجلاّت.. "أن تُقلّد التّقليد، فهذه حتما بداية غير موفّقة..."(قال
لنفسه)
حين أتى إلى نهاية عمله، خرجت سيّدة
الجيوكاندا تواسيه وتدعوه إلى تكرار المُحاولة.. قالت له: إنّ ليوناردو ظلّ
يُراودُني عن نفسي أزيد من أربع سنوات، فلا تيأس.. قال: "معاذَ اللهِ..."
هَمَّ بالمُعاودة تلو المُعاودة، ففشل. وقرّر بعد حين أن يُلمْلِمَ فشله بتغيير
الوِجهة هذه المرّة، لكن داخل دائرة الحُلُم بمُعانقة المُطلق..
قرّر إذن أن يصير شاعرا.. فلقد سمعَهُم
يقولون: « من لم يكُن له محفوظ غزير من أشعار السّابقين، فاجتناب الشعر أولى به..»
أو هكذا قالوا. عزمَ على حفظ ألف بيت مستعينا بلوح جدّه عسى أن يأخُذ بيده لأن يصير
شاعرا، ولم يكد يكملُ الألف حتّى أصابه اليأس والضجر.. فَهِمَ أنّهم بهذه الوصايا
يضعون بينه وبين قلعتهم المُحصّنة سدّا منيعا.. يجعلون دونه والخوضَ في فنّهم خرط
القتاد كما يقول المثل، بل ربّما فهمَ –فيما بعد- أنّ الشعر قرينُ اليأس من
العالم والناس.. فبعد العجز عن إتمام الألف سئمَ من القول والقائل، وأخذ يصنعُ من
اللاّشيء أشياء ومن الكلمات جملا... "ها قد شيّدتُ خمسة أبيات وقصُرت بي آلتي
عن السادس.." أخذت الأبياتُ الخمسة تتردّد على شفتيه دون أن يأذن لها. يعلَمُ
أنّهُ لم ينبس ببنت شفة، كَانَ مُسخّرا من لدُنِ القدماء، استعاروا لسانهُ وشفتَيه
وذاكرته لينبعثوا من أجداثهم ويُطلقوا صرختهم في الرّاهن، لم يكُن هو المتكلِّم
كانوا هُم...
ومهما يكُن فقد طرِبَ للصّوت المتردّد
على لسانه بالأبيات الخمسة التي كانت لغيره، فداهمَهُ خاطر يقول: أنت لن تكون إلاّ
مُغنّيا ناجحا... وكانت رحلته مع الغناء كرحلته مع زميليه، فعاد إلى مبدإ أمره يُشارك
الفنّانين – بتحفّظ كبير- مشاعرهم ويَطْرَبُ لما يصنعون ويُبدعون... فلا
الفنّ انصاع له ولا المطلق أبدى له بعضا من سوءاته، كي يدخُله من باب آخر.
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية