"وجع الحياة"

"وجع الحياة"

بقلم: أحمد الوكيلي

كالعادة، كان جالسا في المقهى، يرتشف من قهوته  السوداء، ويدخن سجائره الرديئة. فجأة داهمه ساعي البريد !!
- السلام عليكم،
- وعليكم السلام، الله يسمعنا خبر الخير ...
- خيرا إنشاء الله، لديك رسالة، من جمهورية الصمت !!..
سلمه الرسالة، عبارة عن ظرف أبيض عليه طابع بريد  لتمثال الحرية، شكر ساعي البريد، ساعي البريد قال له انه دائما في الخدمة وانصرف في هدوء ..
وضع الرسالة في جيب معطفه الرمادي جهة اليمين، جمع أشياءه الموجودة على الطاولة،  ووضع جريدته اليومية تحت إبطه، ترك خمسة دارهم على الطاولة. قال له النادل :
-          صافي هل انت ذاهب ؟
قال الاستاذ مع نفسه " كم هو فضولي هذا النادل" وأردف بصوت مسموع :
- سوف أعود في المساء...
- إنشاء اللهّ، إلى بقينا فالحياة .. وعيونه تدور في أركان المقهى، يراقب الصغيرة والكبيرة، إنه النادل .. !!
عادة، الأستاذ يمكث في المقهى الى منتصف النهار لكنه اليوم غير عادته !! . لا ضير، هذي هي طبيعة الحياة، فالناس معرضون لرياح التغير في أي لحظة وبدون سابق إنذار. وصل الى باب العمارة التي يسكن فيها، وتسكن فيها  قبيلة من الناس أفرادا وجماعات. يسكن هناك أكثر من ثلاثة عقود .. رغم كآبتها ومنظرها المقزز ورائحتها الكريهة، إلا أنه مرتبط أشد الارتباط بهذا الكهف الدنيوي. هكذا هو الإنسان يرتبط بشيء ما بدون مبرر مقنع، إن الكبار كالصغار يحبون ويرتبطون هكذا وبدون تعبير. إننا تلك الصفحات اليومية التي نشترك في كتابتها، كالمجلة الحائطية التي يشارك الجميع في كتابتها...
عند باب العمارة يجلس رجل خريفي العمر على كرسي خشبي وبجانبه مذياعه القديم المثبت على الإذاعة الوطنية، إنه "العساس" ابا المهدي، في الحقيقة، يتضامن معه سكان العمارة فهو لا يستطيع أن يراقب حتى نفسه .. هو الآخر يعرف قدره ويتعامل مع الجميع على قدر من الاحترام، كما أنه يؤدي واجب وطني عظيم وهو توصيل أخبار العمارة إلى المقدم. فهو يعرف الداخلة والخارجة... لكن الأستاذ يشكل  له لغزا لم يستطيع أن يحله .. من هو؟ وماذا يفعل؟ وماذا يوجد داخل منزله؟ .. الأستاذ كذلك لا يفتح له باب التواصل أو التعارف، فهو يعرف هاته المخلوقات من أيام الجامعة ..!! .
وقف العساس هو يقول :
- على السلامة أسي الأستاذ ...
- الله يسلمك ... شكرا...
- إلى احتجت لشي حاجة أنا موجود...
- وخا... شكرا..
صعد إلى الطابق  الثاني حيث توجد شقته، فتح الباب، دخل، أخرج الرسالة من جيب معطفه ووضعها على الطاولة التي توجد في وسط المنزل، هذه الطاولة المتسخة والمعفونة أول شيء يصادفك عندما تدخل إلى منزل الأستاذ... علق معطفه المهتريء على باب الغرفة الخشبي المشقوق. دخل إلى المرحاض، خرج من المرحاض، أخرج شيئا من الثلاجة، وأشعل سيجارة، جلس إلى الطاولة، شرب شيئا من الشيء الذي أخرجه من الثلاجة، أحس بالدفئ يسري في جسده النحيل المسحوق، المهلوك من ضربات الزمان والمخزن .. رفع الرسالة بيده اليمنى وهو يتصفحها مكتوب على ظهرها باللغة الانجليزية :
-          من حميد إلى أستاذي العزيز إدريس !!
فتح الرسالة، نعم إنها لحميد إنه يعرف خط يده كما يعرف الأشياء التي تحيط به في هذا المنزل الجميل والقبيح في نفس الوقت .. مرة كتب الأستاذ يصف منزله فقال في حقه:
- إن هذا المنزل هو الماضي الذي ينمو يوميا ويكبر معي بكل تناقضاته، إنه يحمل ذكريات رائعة وأخري سوداء قاتمة .. انتهى كلامه.
الرسالة :
-أستاذي العزيز إدريس، إن هذا العالم شاسع وكبير جدا وأكثر مما نتصور، إنه متنوع شكلا ومضمونا، إنه صعب، قاس، ببساطة لا يرحم. ولأنه كذلك يجعل منا أناسا نعيش في كثير من الأحيان بدون قلوب... كم هو بشع و رديء !!. الاجتهاد، العمل، الدراسة!! النجاح والالتزام بالواجب ... ما فائدة كل هذا، إذا كنت مجرد متشرد ومرمي في اللامعني، وشارد لا أهمية لك .. ما الذي يجعلنا نبني  حياتنا على أوهام و أشياء لا معنى لها، مثل الحب، الاحترام، المال، الشهرة، المكانة ... أليست هاته الكلمات تعيد نفسها...؟  ما الفائدة من نسخ أنفسنا مرات ومرات؟ ... ما الغاية في الارتباط بهذا العالم البارد والرتيب؟ تقضي حياتك وأنت تبحث عن شيء ترتبط به، والنتيجة التيه والدوران والمعاناة .. لا فرق بيننا وبين أطفال الشوارع. الفرق الوحيد هو أننا منافقون بما يكفي... أغلبنا وقبل خروجه من منزله في الصباح يضع رابطة العنق ويلبس لباسه الرسمي، ويخرج ليمارس عملية النفاق الاجتماعي... لكن عندما نجلس إلى ماهيتنا وإلى ذواتنا .. نصطدم بالحقيقة الموجعة... إننا متشردون، نفتقد لمعنى البيت والعائلة والحب والأشياء  الجميلة.
دائما أستاذي العزيز أتساءل، هل سبق أن تكلمنا مع أنفسنا وجلسنا إلى ذواتنا ونمارس عملية الإنصات الذاتي. طبعا، الجواب بالنفي، إننا أنانيون و أشرار بما فيه الكفاية حتى مع أنفسنا، نشبه  و بشكل  كبير الكتب العلمية المليئة بالحقائق، وليس فيها ذرة واحدة من المشاعر !!.
إننا ماكينات يجب أن تنتج وباستمرار، لهذا الآخر، المجتمع. في المقابل هذا المجتمع لا يرحم .. كل ما يقدمه لنا هو الشعور بالإحباط، و أننا لا شيء وليس هناك ما يدعو إلى العيش، إذا لم نمتثل لقوانينه الحديدية!! . المجتمع يمارس علينا العنف النفسي كل يوم وباستمرار، كل ما نحصل عليه منه هو أيام كالضوء الخافت، والأمل المنكسر، وشمس الشتاء. نستيقظ في الصباح ونتناول وجبة الفطور، ويجيئ الزوال ونتناول وجبة الغداء، ويليه الليل فوجبة العشاء، وننام ونستيقظ ثم نعاود العملية كل يوم، كل سنة، وهكذا... ونقول: يوم جديد !! يا للعجب !!في الحقيقة، أين الجديد في كل هذا !!.. المشي والدوران والهرولة إلى حفرة البداية.
أستاذي العزيز، أنا الآن أعاني من ثقل الساعات والأيام... وثقل الأشياء التي أقوم بها يوميا، الأكل، الشرب، النوم، الصباح، المساء... أجلس في المكان الذي جلست فيه السنة الماضية .. سئمت من كل هاته السخافات اليومية. الكتابة هي كل ما تبقى لي، كل شيء مسلوب مني، أعاني الاختناق والضعف والوهن .. لقد  مر علي وقت طويل وأنا أحاول التكيف مع هذه المغارة التي  تسمي الحياة .. إنني مقيد المعصمين والرجلين ومرمي داخل هذا الكهف  .. فهل من خروج ؟؟!
أستاذي، أكتب لك و أنا مقيد ومن داخل المغارة، و أعرف أن كل ما يحيط بي هو وهم. لقد أثقلت عليك و أعرف أنك تتأسف وتشفق لحالي ولحال الانسان الذي ألقي به ليواجه الآخرين وذاته... فكان بالإمكان أن أقذف بهاته الرسالة إلى النفايات، كما فعلت مع العديد من الكتابات فأريحك وأريح الآخرين من كل هذا العذاب الذي يعبر القارات... ما يدفعني لأكتب لك، هو قوتك على الفهم وقهر الزمان وتكسير الفوارق بين المكان والمكان!!... باختصار إنك " اجتماعي منفرد" كما يقول كييركجرد .. كلما اشتدت الأزمة و بلغ وجع الحياة أوجه، تأتي صورتك إلى مخيلتي عندما تخاطبنا بقولك " يا صغاري الأعزاء، تعلموا القراة والكتابة، سوف تكبرون وتتغيرون كلحيتي هاته – و أنت تمرر يدك على لحيتك الكبيرة المشعة المرشوشة بالبياض - عندها سوف تحتاجون إلى الكتابة، كما تحتاجون إلى اللعب الآن " كنت رائعا !!  و كنا نضحك دائما خصوصا عندما كنت تمسك بلحيتك، كم كنا نتمنى أن تكون لنا لحية مثل لحيتك... كنت أذكي من الزمن، تخاطب عقولنا الباطنية وترسم وتنقش الأشياء الجميلة على صخورنا الباطنية التي كسرها فأس الحياة. حقا كنت رائعا يا أيها الرائع والأكثر من رائع .. انتهت الرسالة.
كانت قسمات وجهه تتغير وهو يقرا الرسالة، لقد عاد إلى الماضي عندما كان يقرأ كتاباتهم على المجلة الحائطية للمدرسة. لقد كان مدمنا على قراءة المجلة الحائطية للمدرسة و مجلة العندليب الورقية...
أخرج قلمه الأسود من جيب سرواله المهترئ، وأخرج  ورقة  بيضاء من رزمة الأوراق التي كانت على يمينه. وكتب الى تلميذه !!
- عزيزي حميد، لا تتوقف عن الكتابة، فمن خلالها تستطيع أن تتصالح مع الوجود والموجودات ،مع الذات و الآخرين، مع الماضي والمستقبل، إنها الباب المفتوح ودائما .. عندما تحس بالدم يختنق ويتجمد في عروقك، وتفقد القدرة على الحركة، اهرب إلى الورقة البيضاء وخذ قلما واضرب بقوة واكتب بعنف واصرخ إلى أن يغمى عليك، لا تلتفت، اكتب وبدون توقف، فالكتابة سلاحك ضد الوجود، زادك لمواجهة وجع الحياة وقسوة سكان الارض، ارم العالم بكلماتك. هذا العالم الذي يجهل أبناءه ويمارس القتل  البطيء المتجلى في  عدم الاكتراث وقلة الاهتمام. اكتب عن حماقات العالم، وسوف يصفونك بأنك الأحمق و أن العالم على ما يرام .. لا ضير فلهم قلوب لا يعقلون بها. فالكتابة هي الحقيقة التي لا يمكن تجاوزها إنها المعنى في اللامعني والشيء في اللاشيء. انتهى الجواب.
وقف الأستاذ ولبس معطفه ووضع الورقة التي كتبها في الجيب الأيمن من معطفه، وتوجه إلى مقر البريد، من أجل أن يراسل تلميذه في منفاه الاختياري و القاطن في جمهورية الصمت، وراء بحر الظلمات.
- عفاك هذا الرسالة إلى أمريكا...
- وخا ،، خمسة واربعين درهما...
- بزاف... خذ .
شكر الأستاذ الموظف، شكر الموظف الأستاذ، وانصرف. أحس برغبة في المشي في الشارع العام، أثناء ممارسة عملية المشي، لمح تلميذه يوسف يخيط الشوارع... ياسين ناذل في مقهى شعبي صغير... هاجر تجر قافلة من الأولاد الصغار واحد فوق ظهرها والباقي وراءها، لقد تزوجت وأنجبت وهي الآن مطلقة... المعطي أصبح مقدم الحومة... قال الأستاذ في نفسه: منذ صباه وهو يحب "التبركيك"، فالتلاميذ كان يلقبونه بالصحفي... هنا وهناك جماعة من المعطلين، كلهم كانوا تلامذته...
أحس بالضيق في الشارع العام، وهرول إلى منزله، فعلى الأقل هناك لا عين شافت ولا قلب يتوجع ...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
NC, 2013
*أحمد الوكيلي، طالب باحث في علم النفس الاجتماعي، جامعة نورث كارولينا ، بالولايات المتحدة الامريكية.

تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس