أُغْرُومْ
"A first
sign of the beginning of understanding is the wish to die."
Franz Kafka
بقلم:أحمد الوكيلي
عند الغبش، وجدت نفسها ممتدة
قرب جثة لحمية ضخمة بشوارب ستالينية، تحاملت على نفسها وغادرت الفراش، غسلت وجهها
ولبست جلبابها وانصرفت بهدوء .. حتى لا يستيقظ ستالين !! ضاغطة على أوراق النقود
التي كسبتها من ليلتها وكأنها تخنقها .. تنتقم منها ..
في طريق عودتها إلى منزلها
مرت بعدد هائل من "الشماكرية"
ذكرانا و إناثا مثلهم مثل النفايات المرمية على جنبات الطرقات. تسلل خيالها
وخرج من جسدها المهلك والمتعب و ارتمى في أحضان الماضي، بدأ ينبش في الذاكرة
المتعبة بقلة النوم والسهر الدائم .. جراح مثخنة .. العمل بالبدن لتوفير الخبز .. الخبز
علة وجودها !! تمنت لو كان الوأد عرفا ساريا في هذا الزمن الجاهلي الذي تموت كل يوم مرات ومرات .. تموت للحصول على
الخبز. أبوها قتله البحث عن الخبز.. أمها الخبز قوس ظهرها، وشيب رأسها، وكمش جلدها
.. وها هي تكمل لعبة البحث عن الخبز ..!!
منذ ظهور علامات البلوغ
عليها وبروز المخفي والمعلن في جسدها، وهي
تعاني من مطاردة الذئاب والثعالب والكلاب ... البشرية !! كانت فتاة ريفية – نسبة
الى منطقة الريف بالمغرب – ذات جمال لائق، شعر أشقر طويل، وعيون سوداء كبيرة مثل
قاع الكأس، وقامة معتدلة يقولون أن أصولها جرمانية !!. الحب والخوف وأشياء أخرى
دفع أمها أن تحرص على إبقائها في المنزل خوفا على شرف ابنتها الوحيدة والوقوع في
العار. ميلودة تحس بأنوثتها .. والثورة تعم جسدها .. تأخر الفارس وتأخرت معه الأحلام .. ما هي إلا شهور حتى تزوجها المقدم الملقب ب "
امحمد الوحش"، كانت الثالثة. تزوجته رغما عن أنفها وقلبها وعقلها وجسدها ...
فهو رجل سلطة !! يتزوج متى شاء ويطلق حسب مزاجه .. مرت الأيام، وانتهت "سبعة
ايام ديال الباكور.." فطلقها !! " إنها بنت صغيرة كلها علل، تمشي الله
ينعل لرباها " .. هكذا كان يعلل لأصحابه قرار طلاقه لميلودة بنت فطومة ..
بكت هي وأمها حتى انتهت
الدموع !! لم يستطيعا فعل شيء سوى الإذعان و التسليم لقدر الله .. " هكذا قدر الله " !! يقولون لهما من أجل التخفيف عنهما
.. فالمقدم من دار المخزن، القانون من تحت رجله، يفعل ما طاب له في الدوار، ليس
فوقه إلا القايد والملك !! حياة البؤساء
جحيم لا ينتهي من قهر إلى أحسن منه، ومن
درك إلى درك، إلى فقدان المعنى ..
في صباح خريفي باكر جمعا
أمتعتهما ورحلا عن الدوار قاصدين المدينة هروبا من الفضيحة وكلام بني آدم، والبحث
عن "أغروم" – كلمة بالريفية تقال للخبز - فالمرأة الثيب " الهجالة" رمز العار
والنقمة وسوء المنقلب ..
لم تستيقظ من حلم يقظتها إلا
بتحية جارتها :
-صباح لخير..و الرباح، ألالة
فاطمة، علا السلامة..!!
ردت التحية رغما عنها، فهي
تعلم ما تحمله هذه التحية من لمز وهمز شيطاني مضمر حتى الوضوح. فتحت باب منزلها
الحديدي الذي رهنته بثمن لحمها .. أمها السبعينية التي أخذ منها الزمن كل شيء، لم
يترك لها إلا هيكلا عظميا وروحا طيبة بداخله تحمل معها العلقم .. ذلك نصيبها من
الحياة الدنيا !!
-صباح الخير ألوليدة..
-صباح الخير
كالعادة، سألت أمها عن ابنها
أمين، ولد المقدم " آمحمد الوحش "، هل ذهب إلى المدرسة؟ هل تناول
الفطور؟.. فأمين هو الزهرة الوحيدة التي بقيت في حقلها وحصلت عليها من الحياة. إنه
يكبر بداخل هيكلها المقهور، فهو نجمتها التي تهتدي بضوئها ؟؟ إنها تنفق من لحمها
ودمها من أجل توفير الخبز لابنها و أمها التي تنتظر وقت الرحيل، فليس هناك ما
يدعوها إلى البقاء !!
الحياة بالنسبة لميلودة وهم أصبح
يقينا مطلقا لا يمكن التخلص منه إلا بقلب الأدوار والتخلص من الماضي ودفنه ولو
مرحليا لإرضاء الذات، والتعايش مع الوهم اليقين فهناك أسرة صغيرة تشكل أركان هذا
التعايش !! إلى حين ..
عندما انتهت من الاستحمام،
وهي تنشف شعرها أمام المرآة أحست أن وجهها بدأ يتغير ويشحب ويفقد جماله .. قانون
الحياة يزحف على مملكتها وعلى وجهها، عنقها، صدرها .. بعض الخدوش من فعل الوحش
الذي قضت الليل معه، سن اليأس يطرق بابها، وما سن اليأس ؟؟ فهل هناك يأس أكبر من
الذي عاشته وتعيشه !! لقد حسم أمرها عندما ولدت بنت فقير كادح هلاكه الزمان والمرض
والبحث عن الخبز .. ألم تكن نتاج لذة عابرة ؟؟ لذلك فهي بدون اتجاه ولا غاية ولا أمل
و لاشيء غير مقاومة المستحيل والإذعان للأيام وقسوتها. الكل يسميها عاهرة ّ!! من
دون نساء العالمين !!.. هل عندما ولدت كتب على جبهتها ميلودة مومسا ؟؟ من تسبب وكان المسؤول في ما هي عليه؟
"الله ينعل لي كان حيلة وسبب " !!
في سن مبكرة تيقنت أن وجودها
يتحدد في جسدها فهو مطلب المطالب ووقود الليالي الحمراء .. لم تستطيع ولو مرة إسكات عواء الذئب في الجنس الخشن .. دائما تفعل
ما يطلب منها للحصول على الخبز المبلل بعرق العار... موقعها الاجتماعي جعلها تعرف
وعن كتب الأقنعة الآدمية وأبالسة الإنس . المسكينة لم تهزها نسمات الحب ولم تعشه بل
مرت من جانبه !! عاشت أوهامه في أغاني المطربين و دندنات السكارى في الليالي "الكحلاء".
لا تعرف من الحب إلا الورود الاصطناعية... تمارس نوع من الاحتيال على ذاتها وعلى
الآخرين لمجابهة الحياة الجافة المخشنة.
حياتها حلم يتحول باستمرار
لا زمان له ولا مكان .. دائمة البحث عن المرجع الذي تأوي إليه من أجل إثبات ذاتها
وتجنب الصراع العنيف بين الأنا والأنا التي ليست أنا.
لترتاح من شدة الإرهاق وتعب
الليل، وازدحام الأشياء في رأسها، تمددت على السرير، وأغمضت عينيها مسدلة الستار
على واقعها وماضيها السحيق، لتصطدم بوجه والدها وهو يرتل القرآن كما كان يفعل أيام
زمان .. قبل أن يتركها في القرية، مات أو قتله البحث عن الخبز .. وخلف الدنيا وراء
ظهره !! و زوجه وصبية وحصير من "السمار" وجلبابا أحمر عليه العديد من
الرقع .. رأته وقد أسند ركبته إلى صدره وظهره مقوس أحدب وعنقه بين ركبتيه، يتأمل
وردة حمراء مرمية على الأرض !! توجهت نحوه وقبلت رأسه الأصلع ويده البدوية الخشنة
.. أعطاها الوردة الحمراء وانسحب في هدوء تاركا الحياة ملطخة بالمأساة والهزيمة
الوجودية.
استيقظت على قبلة ابنها
العائد من المدرسة، ضمته ضمة على غير العادة، والدمع يسقط على خديها الشاحبين،
عادت إلى نومها لتلتقي بالأب مرة أخرى وتخرج جسدها لتنكشف للعدم. للعيش دون انقطاع..
لها وحشة كبيرة للأصل، للتراب .. إنها تعشق رائحته .. عبق البداية والنهاية ..!!
* أحمد الوكيلي طالب باحث في
علم النفس الاجتماعي، جامعة نورث كارولينا، أمريكا
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية