تجربتي مع هيدغر



بقلم: مصطفى بدوح  

 كم من مرة تساءلت عن الكينونة، عن كينونتي أنا، عن كينونتك أنت ومحلها من كينونة العالم، أغترب بفكري، بعقلي إلى ضفة ليس كمثلها ضفاف أخرى، إنها مسألة وجودية أكثر منها خيالية، ضياع ليس كمثله ضياع آخر، أعتنق أفكاري وأتألم من سبل اجتراحها لي، وغالبا ما أجدها جزء لا يمكن عزله عن وجودي الذاتي، أتذكر ذكريات طفولتي وانتظر لعلي أجد في هذه الذكريات، ذكريات الماضي الذي ينقلب ليصبح مستقبلا فاسحا، يأخذ في عتباته كل رونق يبوح للأنا بقيمتها الدفينة والدائمة، إنها اللحظة التي انتظرتها بأحر من الجمر حتى أجد ما كنت قاسيا معه رفيق لي ودليل وجودي أنا، وبدونه أكون غريب عنه وعن نفسي أيضا. لكن ما الشيء الذي أتساءل عنه الآن؟ لماذا أكتب؟
            إن هنالك شيء يناديني لا أعرف لماذا يناديني، لكنه يعترف بوجود موجودي، أبحث بطموح وبحماس في دواعي ميولي وحماستي، رغبة وحس مرهف يبعث في كل مكان صوت أشبه بصوت الرياح العاتية في الفراغ وفي ظلام دامس، أستمر في التفكير ومساءلة الكائن الغريب، وغاية إنسانيته، يستتبع التقاليد ويرقص للأعراف، ويحن إلى تراث ماض صار حاضرا بحضوره الموهوم، يقتبس بكل أنات همومه في تيهان ونسيان للوجود، وجود لا يفتأ ينتهي من ظهوره في صور مغايرة ومتغيرة باستمرار، إنه الظهور الذي يأخذ من الخفاء دليل ظهوره، ينادي ويرقص في أحداث نجهل عللها، فنغترب في غياهب الزمان، اغتراب في زمان فاسح يكتسحنا نحن كذوات، إنه أفول الحقيقة وذوبان في معاني الوجود الشاسع الذي يكبرنا ويستمد منا  كل لمعانه الحقيقية السامية، وجود يسيطر على الزمان الذي نجهله كحقيقة خفية لا تفتأ تحضر، زمان تستعصي عقولنا بلوغه لقوته التي يتمتع بها، إنه الزمان الذي يحتمل أكثر من زمان إنه سيد الأزمان، زمان ليس له مكان، إنه زمان الموجودات، إنه هو الوجود ذاته لا زمان يفوقه، إنه الشيء في ذاته، الوجود الذي هو الزمان، وجود لا علاقة له بالزمان وإنما هو الزمان ذاته، وجود خارج الزمان لأنه هو الزمان نفسه، مجال شاسع مسؤول وخالق للعالم وللإنسان، إنه الوجود الذي يخترق الزمان فعلا، يخترقه في ضبابيته، وظلامه ونهاره، فالزمان هو الزمان الوجودي المنجلي في العالم، خارج العالم يكتسح كل تصوراتنا المحدودة للشيء اسمه الزمان.
     إنه حقا قول يبرهن على نسبية تصوراتنا للعالم وللتصوارت التي تحدثها عقولنا، إننا فعلا سنجد ذواتنا وقد تاهت، صارت في تيهان أحمق، حمق ليست له نهاية ولا بداية، إنه حمق لأنه لا يعرف عن الزمان إلا المكان، ولا على المكان إلا الزمان، فصار يربط الزمان بالكينونة والكينونة هي الاخرى بالزمان، هذا هو الحمق، يعبر عن محدودية فكرية تدفع بصاحبها إلى اغتراب هو المسؤول عنه بحمقه المحدود، لأنه كلما اقترب من الحقيقة إلا واحتجبت عنه واختفت، لأن الحقيقة هي كل شيء، إنها العماء، فهي تعبر عن عجزنا المفهومي للعالم الذي يحتمل أكثر من جواب للحقيقة، فحقيقتها في تحجبها و لاانكشافها، إنها تحتمل أكثر من وجه واحد لأننا لا نرى إلا الوجه الذي يروق لنا أن نراه، إنها موجودة في كل مكان، إنها خلاء، إنها شبح، تفعل فينا ما تشاء، وجود ليس كمثله وجود آخر. وقد صار فيها الإنسان منسيا ومغتربا بحماقته، كلما اقترب إلا وجد نفسه يبتعد، لأنه لا يعرف عماذا يبحث، والموضوع غير مرئي، إن ما لدينا عن الحقيقة في أذهاننا هي  اللاحقيقة، وما نحصل عليه أثناء بحثنا ما هو إلا نتيجة لما لنا من تصورات، إن الحقيقة التي يجب أن نعثر عليها يجب أن تكون مخالفة ومختلفة لما لنا من أفكار على سابقتها، وكذلك نفس الأمر بالنسبة  للأحكام الجاهزة لدينا عنها، إذن لنترك الكينونة تشكل الزمان لا الزمان يشكل الكينونة، لندع الكينونة، الحقيقة، تعيش في زمان ذواتنا، وليقم الابن مقام الأب، حتى يستمد منه قواعد تربيته ونشأته، فبذلك سيتعرف على نواقصه وحاجاته المنسية. هكذا يمكن أن نتخذ من الحقيقة معيارا لذواتنا، فنفهمها ونستقي معالمها.                                                                    

تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس