السؤال الفلسفي : نموذج تطبيقي


اشتهر المنهج التجريبي مع فرنسيس بيكون، و عرف اكتماله كمنهج علمي دقيق و منظم مع كلود برنار ، و ترتبط النتائج الهائلة التي عرفتها العلوم الطبيعية على وجه الخصوص باعتماد هذا المنهج القائم على الملاحظة، الفرضية، التجربة ثم الاستنتاج. و من بين أهم الإشكاليات الابستمولوجية التي يثيرها هذا المنهج الإشكال المتعلق بمدى إمكانية الاستغناء عنه و حدود هذا الاستغناء عندما يتعلق


الأمر ببناء نظرية علمية ما. فهل يمكن الاستغناء عنه؟ و ما حدود إمكانية ذلك؟


هل يمكن الاستغناء عن المنهج التجريبي في بناء النظرية العلمية؟

يحتمل السؤال أعلاه جوابين مختلفين، إذ يبدو المنهج التجريبي ضروري لكن ليس بإطلاق، لا يمكن الاستغناء عنه ضمن أطر معينة، لكن يمكن أن يصبح عائقا في وجه تقدم العلم ضمن شروط و أطر أخرى.
إن المنهج التجريبي ضروري ، و لا غنى عنه عندما يتعلق الأمر بظواهر طبيعية تحتاج ـ بالضرورة ـ إلى الملاحظة و التجريب العلمي… و هذا ما يمكن أن نلمسه من خلال النماذج التي تقدمها الفيزياء الكلاسيكية في هذا الإطار ، إضافة إلى علوم الكائنات الحية، و عموما ما يسمى بالعلوم الطبيعية، حيث يجد العالم نفسه أمام ظواهر مادية تحتاج إلى الإدراك الحسي، و هذا يتطلب أن يكون العالم ملاحظا أولا ، ينطلق في تعامله مع الظاهرة بصريا، أي أنه يلاحظ ثم تتولد في ذهنه فكرة حول الظاهرة ، فيلجأ إلى الافتراض الذي لا تكون له قيمة علمية إلا إذا تم الرجوع مرة أخرى إلى الواقع من أجل إنجاز تجربة تؤيد ما تم افتراضه… هكذا إذن يكون المنهج التجريبي ضروري و لا يمكن الاستغناء عنه في هذا الإطار… و كمثال على ذلك يمكن أن نستحضر ظاهرة سقوط الأجسام ، كظاهرة طبيعية في إطار الفيزياء الكلاسيكية، إذ لا يمكن بناء نظرية مفسرة لهذه الظاهرة إلا إذا اعتمدنا خطوات المنهج التجريبي. فمع غاليلي مثلا ، خصوصا علاقة سقوط الأجسام بالوسط الذي يتم فيه السقوط ، فقد لاحظ أجساما من كتل مختلفة تسقط و تتفاوت سرعة سقوطها، فافترض أن الوسط يلعب دورا على هذا المستوى، ثم قام بتجارب تنويع الوسط ، ليستنتج أن الوسط له تأثير على سرعة سقوط الأجسام، و بالتالي فجميع الأجسام تسقط في الفراغ [ غياب مقاومة الوسط] في نفس الوقت و بنفس السرعة…
و يقدم تاريخ العلم أمثلة عديدة ،في هذا السياق، تؤكد أن المنهج التجريبي لا غنى عنه، ما دمنا أمام ظواهر ووقائع مادية تتطلب أن يكون الواقع هو المنطلق [الملاحظة] و هو المنتهى [التجربة]. يقول كلود برنار في تعريفه للنظرية العلمية: ″إن النظرية العلمية ليست شيئا آخر عدا الفكرة العلمية المراقبة من طرف التجربة″ ، فإذا كان العالم من خلال المنهج التجريبي يلاحظ ثم يفترض فإن الافتراض يظل مجرد تصور لا يرقى إلى درجة العلمية و لا يساهم في بناء النظرية العلمية إذا لم تؤيده التجربة.. و هي الفكرة ذاتها التي نجدها عند بيير دوهايم الذي يرفض تأسيس النظرية الفيزيائية على التفسير العقلي لأنه يجعلها تابعة للفلسفة و كأنه يستعيد مقولة نيوتن ″ أيتها الفيزياء حذار من الميتافيزياء ″ … فحسب دوهايم ″ النظرية الفيزيائية نسق من القضايا الرياضية المستنبطة من عدد قليل من القوانين التجريبية″، إن التجربة حسب هذا التصور هي التي تؤكد مدى صحة أو خطأ ما يستنبطه العالم الفيزيائي. 
يبدو إذن أن التصورات التجريبية عموما تؤكد على أهمية و ضرورة المنهج التجريبي، لكن إلى أي حد يمكن قبول هذه الفكرة؟ ألا يمكن الادعاء بأن المنهج التجريبي ليس ضروريا و بالتالي يمكن الاستغناء عنه؟
نستطيع العثور على الجواب مع اينشتاين من خلال سؤاله التالي : ″ إذا كانت التجربة هي مبتدأ و منتهى معرفتنا بالواقع ، فأي دور تبقيه للعقل في مجال المعرفة العلمية؟″. إنه سؤال يشكل بصيغة لا تقبل الـتأويل انتقادا مباشرا و صريحا للمنهج التجريبي و للأسس التي يقوم عليها. و يتطلب فهم هذا الانتقاد وضعه في سياقه في تاريخ تطور المعرفة العلمية، و يرتبط هذا السياق بتغير موضوع المعرفة العلمية ـ خصوصا الفيزياء ـ من موضوع مادي واقعي إلى موضوع نظري أو على الأقل ميكروفيزيائي لا يقبل تطبيق خطوات المنهج التجريبي عليه. فالإلكترون مثلا لا يمكن رؤيته بالعين المجردة و لا حتى بالمجهر و بالتالي لا يمكن أن تطبق عليه أولى خطوات المنهج التجريبي و هي الملاحظة، و ما دام الأمر كذلك فلا يمكن تطبيق باقي الخطوات الأخرى مما يعني إمكانية الاستغناء عن المنهج التجريبي.و بالفعل فمع التقدم الذي عرفه العلم ظهرت الفيزياء النظرية كتخصص نظري لا يعتبر الواقع مرجعا مهما بالنسبة إليه، بل أصبح الأساس هو العقل من خلال ما يقوم به من عمليات تقوم على الافتراض، الاستنباط، التخيل، الترابط المنطقي و إبداع وقائع جديدة… فالنظرية التي تمتلك صفة العلمية هي تلك التي لا وجود لتناقض منطقي على مستوى بنائها، و ليس تلك المؤسسة على الوقائع التجريبية.إن المنهج المناسب في هذه الحالة ليس المنهج التجريبي ، بل المنهج الفرضي ـ الاستنباطي. في هذا الصدد يمكن استحضار روني طوم الذي يعطي أهمية للخيال العقلي، خصوصا وأن مفهوم الواقع ذاته قد عرف تغيرا كبيرا ، فلم يعد ذلك الواقع المادي المدرك حسيا، بل أصبح واقعا افتراضيا متخيلا يبنيه العالم في ذهنه، و لا يحتاج لأية أداة حسية مادية.
و بعيدا عن النظريات الفيزيائية توجد مجالات نظرية لا يستطيع المنهج التجريبي ولوجها و تستغني عنه بشكل كامل، و هذا ما نجده في ما يسمى بالعلوم الصورية كالرياضيات و المنطق حيث يكون العقل سيد الموقف و لا يعترف للمنهج التجريبي بأية قيمة تذكر. و من هنا فالنظريات في هذه المجالات تستطيع الاستغناء عن المنهج التجريبي كليا، و يكون بناؤها عقليا خالصا، ينطلق من العقل و ينتهي إليه…إن العالم هنا ينطلق من معطيات أو فرضيات أو مسلمات و يستنبط منها نتائج مترتبة عنها منطقيا دونما اعتبار للواقع التجريبي.
و ختاما يمكن القول بأن المنهج التجريبي لا يمكن الاستغناء عنه عندما يتعلق الأمر بموضوع أو ظاهرة طبيعية مادية محسوسة، لكن عندما يتعلق الأمر بموضوع نظري صوري فهذا يتطلب إبداع منهج عقلي يقطع كل صلة بالتجريب العلمي بمعناه الكلاسيكي… إن طبيعة الموضوع إذن هي التي تحدد طبيعة المنهج.  


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس