الوعي والأشياء في جدلية الزمن

الوعي والأشياء في جدلية الزمن


د علي محمد اليوسف



يشير برجسون في معرض علاقة الوعي بالذات والاشياء قائلا " اننا لا ننقطع عن التفكير في ذاتنا الا لكي نفكر بالأشياء. وكذلك فإن هجر الاشياء يعني حكما العودة الى ذاتنا" 1 ويضيف " الفكر كوجود دائم كهيولي زمني " 2. التفكير بالذات تجريدا هو تفكير في جوهره ماديا، اذ لا يعي الوعي التفكير بغياب موضوعه من الاشياء المادية أو من الاشياء الخيالية، والتفكير الذاتي هو تفكير تعاقبي ضمن سيرورة دائمية لا انقطاع فيها مطلقا. التفكير الذاتي بالأشياء هو ليس لإثبات الوجود بالمغايرة الإدراكية...بل تفكير الذات بالأشياء هو تفكير قصدي يبغي المعرفة وليس الادراك الشيئي فقط.

الأهم الذات لا تتكافأ مع مدركاتها من الاشياء المادية ولا مع المواضيع التي مصدرها الذاكرة الخيالية، ليس من حيث أن مدرك الذات الانسانية لا يمتلك قابلية الجدل مع الذات التي تدركه، بل ومن خلال انعدام المجانسة الماهوية بين الذات كتجريد واع مع الاشياء كوجود مادي غير تجريدي مستقل في العالم الخارجي.

الخاصية الماهوية للذات هو وعي إدراكي تجريدي في معرفة الاشياء المادية والتعبير عنها بالفكر واللغة. في حين تبقى مدركات الذات موجودات مستقلة لا تمتلك قابلية التعبير عن نفسها من دون ذات تدركها. وحين يتموضع الادراك الفكري اللغوي الذاتي بمدركاته الشيئية يبقى تجريدا منفصلا عنها.

الوعي الذاتي هو تجريد فكري يجسد موضوع إدراكه، والفكر توليد الوعي التفكيري، ولا يمكن تصورنا وجود فكر لا يعيه الوعي بأية وسيلة وعلى أية صورة كانت. الذات لا يمكنها التحكم اللاإرادي أنها بداية عملية تفكيرية. الذات ليست وجودا ماديا لكنها بالضرورة الادراكية ملكة تفكير عقلي تدرك نفسها كما تدرك المادي وغير المادي على السواء. ولا يتوقف تفكير العقل لحظة واحدة حتى اثناء النوم واللاشعور..

الذات لا يمكنها التخلي عن خاصّيتها الماهوية بالتفكير بالأشياء في الانفصال عنها لإدراك ذاتها مجردة عن الاشياء. علاقة الذات بالأشياء علاقة مغايرة بالإدراك وليست عملية تخارج ادراكي جدلي بينهما. وفرضية برجسون التفكير المنكفئ نحو إدراك الذات الجوّاني لنفسها بمعزل عن الاشياء عملية لا يمكن حدوثها حتى في حال تفكير الذات تجريدا مستمدا عن موضوعات مخّيلة الذاكرة.

الفكر هو ملازمة دائمية تستوعب وعيها الاشياء أو المواضيع الخيالية وغير المادية في كل لحظات توفر الوعي الذاتي بنفسه. والفكر لا يكون وجودا بالزمن، الفكر تجريد يدركه الوعي به في تعالقه مع موجود تفكيره الذي يعرف بدلالة الزمن، الوجود المادي للأشياء وليس للأفكار لا يدرك من غير وجود يحتويه الفكر ويكون حركة مادية لشيء داخل الزمن.

أفلوطين ومغادرة الذات للجسد

حين يتم التعبير عن أهمية تحرر الذات من سجن الجسد، ما يعني عودة الذات إلى نفسها، الى حقيقة ذاتها خالصة، لكن في كل أحوال تحرر الذات من عبودية الجسد لا تكون الذات خالصة عارية تماما من مواضيع الجسد الذي كانت الذات متموضعة فيها بتفكير شعوري قبل تحررها من ارتباطها بكل ما هو مدرك عقلي واقعي أو خيالي. الذات في تحررها لا تفقد خاصيّتها الماهوية أنها ذات إدراكية لأشياء العالم الخارجي، وليست ذاتا تفكيرية في عوالم خيالية تتبادل الاجترار الاستبطاني الداخلي معها بصمت لا تعبيري لغوي.

الذات إدراك مادي جوهره متعيّن تفكيريا تجريديا وليس لدينا ذاتا متحررة من الجسد تكون متحررة تماما بشكل لا يصدق أننا يمكننا أن نجوهر الذات كخاصّية يمكنها إدراك نفسها وتعالقها مع الاشياء المادية الى ذات خالصة تماما كجوهر خالص تدرك ذاتها بذاتها ولذاتها ايضا.

من المتعذر تصورنا ذاتا متحررة تدرك نفسها ذاتيا وتتعامل مع مواضيع إدراكها خياليا على أنها في تحررها من الجسد تحولت من ذات تدرك المادة الى (روح) تدرك ما وراء المادة كما فعل ذلك أفلوطين الفيلسوف الصوفي الهلنستي. الحقيقة التي تتجاهلها الصوفية هي أن الذات لا تدرك سوى ذاتها فقط وليس الذات الالهية. لافتقاد المجانسة الماهوية من جهة وافتقاد النديّة المتكافئة مع الذات الالهية.

حين يعبّر أفلوطين بنبرة صوفية تتلبسه العودة الى الذات المجردة عن كل محدودية إدراكية مادية متموضعة في التفكير بالأشياء قائلا " غالبا ما أجدني، وأنا أغادر جسدي عائدا الى نفسي، خارج كل الاشياء لكني أكون داخل أناي رائيا جمالا إلهيا أكثر إدهاشا، وكوني أصبحت شيئا مماثلا مع الالهي مستقرا فيه فوق كل موضوع فكري آخر" 3

ما سبق لي تقديمه حول فكرة تحولات الذات قبل تثبيت رأي أفلوطين يغنينا عن التكرار لكن هذا لا يعفينا تثبيت التالي:

-         الذات بوصفها ماهية إدراكية يحتويها الجسم هي نفسها الذات الادراكية المتحررة من الجسم نفسيا داخل الجسم أيضا لا خارجه ودليل هذا تعبير أفلوطين حين أجدني أغادر جسدي عائدا إلى نفسي.. خلاص الذات من سجن الجسد داخليا لا يمنحها هوية روحية هي غيرها داخل الجسم غير واردة ولا متحققة ابدا الروح داخل الجسم هي الروح خارج الجسم ولا فرق بينهما. الذات ماهية ثابتة لا تتغير تبعا لإدراك موضوعاتها.

-         الذات هوية ثابتة لا تتحول من خاصّية التفكير المادي كذات تدرك ذاتها والوجود الى خاصّية هووية خارج ارتباطها بالجسم منزوعة المادة الادراكية والخيالية، تدرك الذات الالهية بروحانية متعالية. الذات التي تدرك الوجود المادي وتعيشه هي الذات الروحية التي تدرك الذات الإلهية. الذات الاغترابية في قصدية تحررها الروحي عن الجسد في الصوفية هي الذات نفسها التي تريد القرب من الذات الالهية كتكامل جزئي في الماهية وهو محض وهم لا حقيقة له.. الروح ليست متحققا إدراكيا للأشياء بل هي محض تجريد مفهومي فقط لا تمتلك برهان تحققها بغير وسائل الميتافيزيقا.

الوعي التواصلي والتعاقب

يؤكد باشلار في معرض محاججته النقاشية المتماهية مع برجسون " اقتران الفكرة (التواصل) بفكرة (التعاقب) هو اقتران مجاني لا برهان عليه. يتجاوز دائما وفي كل مجال الاختبار الطبيعي والنفساني على حد سواء"4.

في كل أشكال الوعي الإدراكي يكون الفكر تواصل تعاقبي مجاني، بمعنى التواصل هو الطبيعي الذي لا يحتاج البرهنة على صدقيته الخاصّية في التتابع. الوعي كما المحنا له سابقا هو سيرورة الفكر نحو هدف قصدي يرسمه الوعي والفكر في ملازمة من التواصل التعاقبي.

الفكر هو مضمون الوعي الذي يأخذ شكل تعبير اللغة عن نفسه. ولا يمكن إعتبار الوعي الذاتي هو محطة استراحة يكون الفكر الملازم لها سيرورة فكرية قائمة لوحدها. السيرورة الفكرية هي مزامنة لكل أشكال الوعي. وليس من الممكن فرز تزامني في هذه السيرورة المتعالقة بينهما. زمن الفكر هو زمن الوعي الذي هو زمن إدراكي لكل موجود. وفي غياب الموجودية المادية للأشياء لا يبقى هناك وعيا فكريا يحققه تجريد الزمن.

ويثير باشلار إشكالية أخرى " هل سينقذ المتواصل الزمني بتجريد الزمن كشكل قبلي؟ أن هذا المنهج والقول لباشلار يعني أننا على نحو ما نجوهر الزمن من تحت في فراغه وخلوّه خلافا للمنهج البرجسوني الذي يجوهر الزمان مع مرور الوقت من فوق في إمتلائه"5.

الزمان مطلق جوهري مجرد لا يدركه العقل لا بالصفات ولا بالماهية. وعبارة باشلار الزمن تجريد (قبلي) هي عبارة صحيحة تماما. جوهر الزمان كتجريد ماهوي سابق على جوهر الوجود كثبات مادي.

الزمان جوهر ممتلئ لا ندرك امتلائه ولا خلوّه. الزمان لا يكون خلوّا فارغا لا على صعيد التحقيب الزماني الارضي في إدراكنا موجودات الطبيعة بدلالة الزمان، ولا يكون الزمان فارغا خلوّا وهو يحتوي الكون اللانهائي ولا يحتويه الكون المادي، ولا يوجد قانون فيزيائي أرضي أو قانون فيزيائي على الصعيد الكوني لا يدخل فيه الزمان معادلة علمية لا قيمة لها في إلغاء تجريد الزمان منها.

الزمان جوهر ثابت مخلوق لا يتعالق امتلائه الافتراضي ولا خلوه بدلالة جوهرة غيره من الاشياء. لا يوجد هناك حتى على المستوى الميتافيزيقي امتلاء زمني تحتاني يختلف أو يتكامل مع اختلاف امتلاء زمني فوقاني. فيزائية الزمان لا تقبل التجزئة على صعيد ماهيته الجوهرية لكنه يقبل التجزئة الافتراضية على صعيد تحقيبنا الزمان ارضيا لتوفير إمكانية ادراكنا ومعرفتنا تغيّرات الطبيعة ورصد حركة سيرورة الاشياء في العالم الارضي المحيط بنا في معرفتنا الوقت وضبط تغيرات المناخ.

الحقيقة التي تحكمنا هي أننا ندرك الموجودات مكانا بدلالة زمانيتها، في نفس وقت أننا ندرك محدودية الزمان كتحقيب وليس كمطلق بدلالة إدراكنا المكان وموجودات الطبيعة والوجود زمكانيا مشتركا متداخلا..

الزمان والعدم

بضوء ما ذكرناه ربما يبرز تساؤل ما الفرق بين الزمن والعدم في حالتي الفراغ وفي حالة الامتلاء التي قال بها باشلار؟ إجابتنا تتحدد بالتالي:

-         الزمان يلتقي العدم في واحدية الامتلاء كليهما، فلا زمن بلا إمتلاء وجودي يحتويه ولا عدم بلا إمتلاء وجودي يفنى فيه. الزمان يحتوي الوجود كاملا، والعدم يزامن الوجود ولا يحتويه.

-         الزمان يحتوي الوجود ادراكا لمعرفته، والعدم يلازم الوجود لإفنائه بالموت. لذا من أفدح الأخطاء على صعيد الفلسفة أن نعتبر الزمن مكافئا (العدم) بعلاقتهما المتباينة بالوجود، فعلاقة الزمن بالوجود هي علاقة إدراك توكيدي للوجود، بينما يكون العدم لاشيء يمكننا الدلالة على أنه يمتلك استقلالية موجودية خارج ملازمته الوجود لإفنائه وليس لتوكيده الادراكي كوجود. ومن الأخطاء الأكثر فداحة فلسفية ايضا هي اعتبارنا امتلاء الزمان يشابه ويكافئ امتلاء العدم. العدم لا يكون ممتلئا أبدا في جميع الحالات. فالعدم ليس فراغا احتوائيا ليمتلئ. العدم وهم وجودي يدرك بدلالة إفنائه الاشياء والكائنات الحيّة.

-         الزمان والعدم كلاهما يلتقيان بخاصية أنهما لا يدركان كجوهرين متمايزين مختلفين بمعيارية الفراغ، ولا يمكن إدراكنا زمانا تحقيبيا ارضيا ولا كونيا فارغا بمعنى الزمان لا يتوسط إمتلائين، ونفس الشيء ينطبق على العدم في استحالة توسيطه كفراغ لوجودين أحدهما سابق عليه والآخر لاحق عليه.

جدل المجانسة والاختلاف

عن باشلار قوله ما معناه لا يوجد جدل منطقي حقيقي على صعيد مباحث الميتافيزيقا، وهي عبارة ذكية صحيحة تماما. إذ نحن غالبا ما نوظف الجدل الافتراضي على صعيد الفكر بدلالة المادة وهما لا يرتبطان بنوع من المجانسة النوعية. أبجدية التفكير المادي الجدلي أن الوجود يسبق الفكر الذي هو ناتج الوجود المستقل للأشياء المادية في العالم الخارجي. وعبارة باشلار أراد بها التنبيه أن الجدل الحقيقي إنما يكون على صعيد المادة في امتلاك التضاد داخلها بالمجانسة النوعية بين قطبي التضاد. أي جدل صراع تناقض الاضداد يتم داخل مجانسة نوعية تجمعهما معا.

الشيء الآخر أن الجدل الذي يتم في وحدة المجانسة التي تجمع بين نقيضين يشتركان بالصفات والماهية، والجدل الذي نتصوره يحدث خارج وحدة المجانسة النوعية أو خارج المادة على صعيد الميتافيزيقا كما عبّر باشلار هو نوع من الجدل غير القائم حقيقة وجدل زائف لا قيمة له لأنه غير حادث أصلا ولا تتوفر إمكانية حدوثه..

أكثر من مرة تحاشيت الإجابة عن كيفية حدوث جدل ديالكتيكي حقيقي غير ميتافيزيقي بين المادة والفكر وهما كيفيتان غير متجانستان لا بالصفات ولا بالماهية. فالمادة جوهر وجودي مستقل تدركه الحواس، والفكر تجريد تصوري تمّثلي في التعبير عن الإدراك المادي بوسيلة اللغة.

ليس هناك من وجهة نظري جدلا ديالكتيكيا منطقيا يخرج على مجانسة النوع الواحد الذي يجمع بين نقيضين داخله. والتناقض والتضاد وصراع الطبقات على مستوى التاريخ يكون بين قطبين متنافرين تجمعهما المجانسة النوعية الواحدة التي لا يمكن تجزئتها وتوزيعها بين المتناقضين.

والتناقض والتضاد على مستوى المادة والصراع بين الطبقات الاجتماعية على مستوى جدل المادية التاريخية، هو تضاد وصراع بين قطبين يعتملان داخليا لا يخترعهما الانسان ولا يمكنه التدخل في نصرة أحدهما على الآخر. كما أنه صراع ينبثق للعلن بعد توافر العوامل الموضوعية الخارجية التي تعمل على تسريع وتنضيج هذا التضاد الداخلي في إنتاج الظاهرة المستحدثة الجديدة أو ما يعرف بالمرّكب الثالث.

بعد بروز الظاهرة المستحدثة الجديدة يلعب الفكر دوره الايجابي في الانتصار لما هو تقدمي يخدم الانسان ويتطور به الى أمام. وهو في طريقه نحو حتمية التناقض الجدلي والانحلال في استحداثه الظاهرة الاخرى الجديدة وهكذا. بمعنى الجدل هو قانون الحركة المتضادة الدائمية داخل المادة والتاريخ.

بضوء ما تم شرحه هل من الممكن اعتبار التناقض الجدلي المادي، هو عملية انقطاع مؤقت لوعي الفكر في ثبات الادراك؟ لا علاقة تقاطع مباشرة بين الوعي الذاتي المستقل عن حدوث التضاد الداخلي الذي لا يتوقف بفعل عوامل ظرفية مساعدة مستقلة هي الآخر عن إرادة ورغبة الانسان.

الزمان القبلي

هل الزمان قبلي كما يشير له باشلار "ارتقاب مجرى الزمان مكتوب في الذاكرة وقبلية الزمان لا تظهر إلا لاحقا كضرورة منطقية "6

 قبل الدخول في مناقشة باشلار أود تثبيت ما يلي:

-         الزمان جوهر كيفي ثابت لا يمكن التلاعب في ماهيته غير المدركة للإنسان. بمعنى الزمان جوهر غير متعالق مع رغبة الانسان مطلقا، ولا يوجد هناك قدرة انسانية يمكنها التحكم بالزمان في أي شكل من الاشكال لسبب انعدام المجانسة الماهوية بين الزمان وبين كل شيء موجود يتعالق مع الزمان إدراكيا فقط.

-         الزمان جوهر غير ديالكتيكي وهذه حقيقته الانفصالية المطلقة عن الاشياء خارج علاقته إدراك الاشياء وليس التداخل الجدلي الديالكتيكي معها.

-         الزمان وحدة كليّة وجوهر ماهوي مطلق تجريديا لا يمكن تجزئة الزمان ولا تحديده ويقول أرسطو في عبارة رائعة (لا يمكننا حد الزمان بزمان) فأنت عندما تريد محدودية زمانية يتوجب عليك أن يتوفر لديك زمان آخر يمتلك ماهية زمانية مغايرة أخرى تحّد بها زمانا لا يشاركه المجانسة الماهوية النوعية وهو محال فالزمن جوهر واحد في مجانسة ماهوية واحدة. وما يحكم العالم والانسان والطبيعة والكون زمان واحد يمتلك كيفية ماهوية واحدة لا تنقسم على نفسها ولا تتجزأ ولا يمكن حدها.

-         السؤال هل من الممكن حد الزمان بالمادة؟ كتحقيب أرضي وليس كمطلق ازلي زماني.؟ ايضا هنا الجواب في منتهى الإحراج. الزمان يدرك بحسب مقدار حركة الاجسام داخله على الارض. لذا فالزمان من خواصه أنه يتمدد ويتقلص كما هي خاصيّة المادة لكن من غير فقدانه لماهيته الزمانية التي لا يمكننا ادراكها بغير دلالة حركة جسم يحتويه الزمان.

-          إننا نستطيع تحديد الزمان بحركة الاجسام داخله في توازن ماهوي جوهري لهما متصلان في دلالة أحدهما إدراك الاخر، ومنفصلان بالخصائص الذاتية المختلفة بين الزمان والاجسام التي يحتويها. لا الجسم يفقد خصائصه في حركته داخل الزمان ولا الزمان يفقد خصائصه الماهوية كزمن لا يمكن إدراكه إلا بدلالة حركة غيره ماديا.

-         الزمان قبلي على الإدراك بعدي على الوجود، علما أن الوحدة الزمانية لماهيّة الزمان لا تتغير في الحالتين. كون الزمان جوهر لا يقبل التجزئة والانقسام لا على نفسه ولا بعلاقته بموجود مدرك بحركته داخل الزمن.

-         المشكلة الميتافيزيقية التي أثارها سبينوزا هي في اعتباره الطبيعة مخلوق قبلي على بعدية الزمان، فالوجود أولا والزمان ثانيا. سبينوزا من المدهش حقا انطلاقه تحت تأثير لاهوتي أن الخالق خلق المكان والمقصود بها الطبيعة بنظام ثابت في قوانينه الفيزيائية التي تحكمه، والطبيعة بنظامها هذا هي التي أسبغت على عشوائية الزمان نظامه. لذا اعتبر سبينوزا إدراكنا الوجود والزمان إنما يتم بدلالة ازلية الجوهر الذي هو الله.

-         لما كان الانسان يدرك ويحّس الزمان بخلاف الحيوان الذي لا يدرك ذاته ولا يدرك نظام الطبيعة والأهم أنه لا يدرك الزمان. لذا نجد الحيوان متكيّفا انقياديا سلبيا ذاتيا مع الطبيعة في إدامة حياته يعيش ليأكل، في حين العلاقة التكيّفية عند الانسان مع الطبيعة لا تقوم على الانقياد لها من دون وعي منها. فالطبيعة لا تعقل نفسها من جهة ولا تعقل وجود الانسان من جهة أخرى.

التعاقب الادراكي

برجسون يخرق حقيقة علمية فيزيائية تقول إدراك كل شيء هو (زمكانيا) وهي الحقيقة التي ارساها كانط ومن جاء من بعده. يعبر برجسون قائلا " أن امتلاء المادة للزمان هو الاكثر كثافة من إمتلاء المادة للمكان، وما تزال المادة تملأ الزمان بشكل مؤكد أكثر مما تملأ المادة المكان"7.

من المعروف جيدا أن كل امتلاء مكاني هو في نفس اللحظة من الحين والوقت يكون امتلاء زماني، وإدراك الامتلاء لا يخضع لتعاقب تسلسلي في الأسبقية لتعذر إمكانية معرفة فصل امتلاء المكان بمعزل عن امتلاء الزمان. إدراك أي شيء لا يتم وفق تراتيبية أسبقية بين إدراك المكان عن إدراك الزمان. وعندما يفصل برجسون الإدراك في الامتلاء بين المكان والزمان كلا على انفراد حسب مرجعية الامتلاء، فهذا الفصل ميتافيزيقي وهمي تصعب البرهنة على حدوثه وإمكانية تحققه سوى في تصور ميتافيزيقي.

ومن البديهيات التي لا تحتاج نقاشا هي حضور المادة زمانيا في احتواء الزمان الطبيعة أكثر كثافة من محدودية المكان في احتوئه الامتلائي للأشياء. ولا ينتج عن كل هذه السفسطة ما يستوجب الايهام أن برجسون وباشلار يناقشان قضية عالقة من مباحث الفلسفة جديرة بأهمية الامتلاء الزماني بالمقارنة مع الامتلاء المكاني.

هل من المتاح تصور أن كلا من الزمان والمكان حيّزان فارغان لاستيعابهما امتلاء المادة لهما.؟ المادة وجود زمكاني مدرك مستقلا ولا يحتاج امتلاء فراغات زمانية أكثر منها امتلاء فراغات مكانية. ما هو أبسط تعريف للمادة هي كل شيء يشغل حيّزا من الفراغ، والمقصود بالفراغ هنا الحيّز المحدود الذي يناسب موضعة المادة أو الشيء فيه، لذا الفراغ المكاني لا يسبق المادة في موضعتها المكانية، وكذا المادة موجود مكاني يسبق إدراك الزمن له. لا يوجد وعائين فارغين زماني - مكاني لاستيعاب امتلاء المادة بهما الا في تفكير باشلار الميتافيزيقي.

الهوامش:

 1 – 7، جاستون باشلار، الجدل والزمن، ترجمة خليل احمد خليل، الصفحات 41- 45


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس