سيكولوجيا الذات والزمان

 

سيكولوجيا الذات والزمان

د علي محمد اليوسف

باشلار ومنهج تشييئ الزمان

حين ينعكس الفهم الراسخ لدينا أننا لا نستطيع إدراك الذات ولا النفس ولا الزمان بمنطوق منهجي فلسفي جامع واحد يتقبل أو يلغي فروقات الجمع بين هذه المفاهيم الفلسفية الثلاث (الزمان، الذات، النفس) حتى على صعيد الربط الميتافيزيقي بينهم. فهذا يوجب علينا توّخي الحذر الشديد حين نتعامل مع الذات في تعالقها مع النفس والزمان بالمنطق الفلسفي كتجريد يحمل دلالاته المحمولة في إمكانية التصور الإدراكي للزمان والنفس أنطولوجيا.

لكن هذا ليس كافيا أمام اصطدامنا بحقيقة أن كل موجود ندركه في الطبيعة يمكننا رد كل اشكالياته المتداخلة بعضها مع البعض الآخر إلى مرجعية ميتافيزيقية تحتويه كما تحتوي كل شيء وموجود وظاهرة في الوجود والطبيعة والكوني. وهو ما سار عليه برجسون ومن بعده باشلار. إنهما إن صح التعبير أن الميتافيزيقا من حيث هي تجريد عقلي يعلو الطبيعة والانسان.

وهذه الميتافيزيقا بحسب فلسفة باشلار هي المحدود زمانيا بالمنطق الفلسفي الذي يريد دراسة تعالق الذات والنفس بالزمان كمحدودات متعيّنة وجودا ندركها وليست جواهر يصعب تناولها انطولوجيا أو حدسا إدراكيا، أي الزمان نفسه يصبح متعيّنا بدلالة ما يحتويه من وجودات تعرف بدلالتها الزمانية وليست المكانية فقط.

ميزة الميتافيزيقا أنها تمنحنا القدرة والحرية كاملة في أن نقول ما لا يقبله العقل والمنطق الفلسفي قوله والتعبير عنه دونما رقيب ممانع من أحد يصفنا أننا نحرث في بحر. والصعوبة عندما نعامل مفاهيم أنطولوجية مثل الذات والنفس بمنهج التفكير الميتافيزيقي للزمان بنفس المنهج... أي أننا وبحسب فلسفة باشلار نجعل الزمان مدركا بدلالة إدراك العقل للوجود.

هذه الاشكالية المتداخلة بين الذات والنفس والزمن رغم الفروقات الشاسعة المختلفة المتنوعة بينهم نجد يعاملها كل من برجسون وباشلار على أنها نوع من الحدس الميتافيزيقي الذي يمكننا إدراكه ذاتيا - نفسيا في حدود سيكولوجيا النفس ومطلق الزمان حين تحدّه النفس والذات بالإدراك المباشر خياليا استذكاريا مصدره الذاكرة التخييلية.. على أن الأخير الزمان لا يحضر مطلقا لامتناهيا ولا غير محدود بفضاء وجودي ولا تدرك صفاته الخارجية ولا ماهيته تجريدا إدراكيا لكنه يحضر كمدرك متعيّن انطولوجيا بدلالة غيره مثل إدراكنا النفس والذات كما فعل برجسون ومن بعده باشلار. هنا يتعامل باشلار مع الزمان استذكارا مصدره الخيال النفسي الرومانسي ولا يعامله بمطلقه الازلي.

 ونجد برجسون وباشلار يتعاملان مع الذات والنفس بإدراكية واقعية تقوم على ثيمة ومرتكز الزمان المتداخل معها خارج الصفة المطلقة الماهوية الواحدية للزمان الذي لا ندرك من تلك الإطلاقية الازلية له أبعد من العلاقة التي تربط الذات والنفس كجوهرين متعيّنين إدراكيا بمحدودية الزمان الذي هو في حقيقته وخاصّيته مطلقا غير مدرك الماهية ولا الصفات لا يمكن تجاوز عدم تحققها بالإدراك الأنطولوجي.

التموضع الإدراكي الزماني في الموجودات لا يجعل من الزمان محدودا يدرك بدلالة موجودية الاشياء أنطولوجيا فيه في انتفاء خاصيّة الماهية المطلقه الثابتة التي لا تتغيّر له. علما أن الفيزياء الحديثة باتت تتعامل مع الزمان كصفات مدركة أيضا بدلالة غيرها من جواهر فيزيائية كونية مثل سرعة الضوء وكتلة الجسم والطاقة والاحتكاك وغيرها، فقالوا الزمان ينكمش ويتمدد كما هي خاصية المادة تماما وفق شروط فيزيائية كونية محددة كوزمولوجية خاصة كما ما ورد في النسبية العامة لانشتاين 1915.

 هذه العلاقة الميتافيزيقية في مطلق الزمان يعتمدها باشلار حين تتخذ فيها صفة أن توجد الذات ضمن إمكانية إدراكنا الزمان والنفس ليس كمفهومين تجريديين يعبّران عن نفسيهما إفصاحا كلا بطريقته الخاصة. بل كموجودين تدركهما الذات العابرة لعائق وحاجز مطلق الزمان في محدودية إدراك إفصاحات النفس. ليصبحا الذات والزمان إحدى تجليّات النفس الخيالية الذي يمتزج فيها الادراك الشعوري بمخيّلة الذاكرة في إثارتهما ذكريات الماضي كوقائع تاريخية ثابتة بدلالة الحاضر. وهو ما يرد على لسان باشلار "لا يمكننا تعلم الزمان مباشرة من خلال ماضينا باعتباره كتلة ذات شكل واحد. وحين ننظر من وجهة نظر بيار جانيه سرعان ما نتوصل الاعتراف بالواقع أن الذكرى لا تعرف دون إستناد جدلي الى الحاضر." 1.

نجد من المهم التنبيه أن باشلار لا يتعامل مع استذكارات الزمن الماضي على أنها حوادث تاريخية شبه ثابتة وإنما المخيال التذّكري لديه هو فقط ما تستشعره النفس من ذكريات الماضي المبهجة الرومانسية على صعيد التجربة الذاتية الخاصة بكل فرد وليس على صعيد تاريخي يجعل الماضي مدركا منفتحا للجميع بعيدا عن خلجات النفس الابتهاجية الرومانسية في استذكار الماضي على صعيد تجربة الذات الفردية بكل ما تحمله من خصائص انفرادية.. باشلار امام هذه المهمة التي يرغب بلوغها يعمل على تشييئه الزمان سيكولوجيا وهو ليس بالخطأ الذي يستهجن تمريره..

الذات والمعرفة

يذكر باشلار على لسان بيار جانيه "أنه لا أهمية للاتصال المعرفي من عدمه طالما أن الفكر بذاته هو طريقة مخاطبة الذات في تعليم الذات، المعرفة التي يؤكدها الوعي حقا، أنه مسار التعليم الحقيقي بالذات "2 لا مشكلة أن تكون المعرفة هي تعليم للذات، ولا أهمية للاتصال المعرفي الانتقالي من عدمه. لكن هذا يناقض قول باشلار "المنهج الصحيح لا ينبغي منح حق الكلام عن معرفة لا تكون قابلة للإبلاغ والاتصال "3.

هنا لا ندين التناقض المعرفي التعبيري لدى باشلار على أنه خطأ بائن كبير يلغي النسق الفلسفي الميتافيزيقي الذي يتبعه بخصوص تشييئه الزمان بدلالة كل من الذات والنفس. كما قلنا في أسطر سابقة ميزة الميتافيزيقا هي أنها تفكير يسبح في فضاء منفلت عن كل محدودية منطقية تعبيرية خارجة عليها تماما تحتويه. ليس غريبا ولا غير مكرر ومعاد أنك تجد صعوبة كبيرة في تناولك أفكارا ميتافيزيقية بمنطق الفلسفة العقلانية المحكمة.

رغم أن باشلار يتعامل مع الميتافيزيقا كما أشرنا له سابقا ليس مفهوما مطلقا لا يتقبّل التحديد ولا يتقبل محاكمة العقل ولا المنطق له. بل باشلار يتناوله في محدودية تحكمها الذات والنفس كجوهرين مدركين أنطولوجيا بالدلالة العلائقية التي تربطهما بالأشياء والموجودات والظواهر والسلوك فقط. علما أن مقولة أرسطو (لا يمكن أن نحد الزمان بالزمان) لازالت تحتفظ بعلميتها الفلسفية الي لا مجال إدحاضها.

حين يعبّر باشلار "الوجود يخسر دوريا ويربح في الزمان. ففيه يتحقق الوعي أو فيه ينحل."4، نفهم من تعبيره هذا أن من حقائق المعرفة إدراك الوجود بدلالة الزمان، وتجريد الوجود من محتوى موجوداته المتعددة المتنوعة التي لا حصر لها يحتويها، وتجريدها عن زمانيتها غير ممكن، فالزمان ملازمة إدراكية تزامنية للوجود. بعبارة ثانية إدراك الوجود في حقيقته لا يمكن تحققه إدراكا مكانيا بمعزل عن ملازمة الزمان الادراكية له. كل شيء يدركه العقل زمكانيا مشتركا بين مكان وزمان يلازمه ويحتويه بمفارقة اختلاف المجانسة المادية أو الماهوية بينهما. فخصائص المكان ليست هي خصائص الزمان مطلقا ولن يلتقيا أبدا على هذا التمايز النوعي.

الوعي يتحقق في وجود مادي أو موضوع خيالي سابق عليه، لكن هذا الوعي لا دخل للزمان في انحلاله كعامل سببي بل كعامل تقادم زمني يفقده الكثير من رونقه وحيويته الحاضرة على الدوام. فالوعي يكون قرين مدركات الزمان الحاضر أكثر من صرف اهتمامه أي الوعي نحو الماضي كخزين لوقائع وحوادث وذكريات أصبحت تاريخا وليست زمانا. ولا يفهم من كلامي هذا أن الزمان لا يحكم التاريخ بل يتكامل ويتكافل معه بالمغايرة غير المتجانسة معه. فحقائق التاريخ الواقعية هي زمان في الدلالة لحوادث حصلت وأصبحت خارج الزمان كماهية ثابتة بالصفات التوثيقية لها..

ثبات مطلقية الزمان الميتافيزيقي حتى في حال تحجيمنا لها بمحدودية إدراكات الذات وتعبيرات النفس لا تجعل من الوعي منحّلا بل الوجود كوحدة إدراكية واحدة جامعة هو من يقرر هذا الانحلال.

حتى التقادم الزماني للوعي ليس هو من يقرر انحلال الوعي فيه ولا من يقرر الحفاظ عليه. علاقة الزمان بكل موجودات الوجود وظواهره هي علاقة إدراكية معرفية استدلالية محايدة لا يتداخل الزمان معها جدليا بل استدلاليا. من الممكن تموضع الفكر واللغة بالأشياء المدركة لكن الزمان لا يتموضع مع الاشياء في إدراكها، فخاصية التفكير لا يمتلكها الزمان.

كما نجد في تعبير باشلار "الذاكرة لا تقدّم لنا النسق الزمني مباشرة، فهي بحاجة الى أن تتقوى بعناصر انتظام أخرى ولا يجوز لنا أن نخلط بين ذكرى ماضيا وذكرى زمانيا "5. كما يقول باشلار وهو محق الوجود يربح من الزمان أكثر مما يربحه الزمان من الوجود وهو كذلك فعلا لأننا لا نعرف الوجود من دون ملازمة إدراكية تعريفية له في ملازمة الزمان كعامل إدراك معرفي وليس عامل ديالكتيك جدلي متداخل في مدركاته.. الزمان لا يرتبط بعلاقة جدلية مع المدركات وإلا أصبح الزمان مدركا هو أيضا كما ندرك المكان. ولكن إدراك الزمان تجريديا انطولوجيا بدلالة ماذا؟

تعقيب توضيحي

-         الذاكرة في حقيقتها التجريدية هي تاريخ استذكاري يهتدي بالمخيال الاسترجاعي لوقائع الماضي وذكرياته. وليس من المتاح أن يكون للذاكرة زمانين أحدهما تحقيبا زمانيا مدركا بموجوداته وليس تجريدا زمانيا هو الماضي, والآخر لا يقبل التحقيب الزماني الارضي فيكون مطلقا ميتافيزيقيا لا يلتقي مطلقية ماهية الزمان الكوني ولا يتداخل معها لاختلاف وانعدام المجانسة النوعية بينهما.

بتلخيص العبارة ماهية الزمان الارضي هي نفسها ماهية زمانية الكون بموجوداته في مليارات الكواكب والأجرام والنجوم التي يحتويها زمان كوني وهي لا تحتويه. الزمان في مطلق ماهيته لا يحتويه وجود أرضي ولا وجود كوني.

-         التاريخ يحكمه الزمان كتحقيب وقائعي أرضي جزء من الماضي، ولا يحكم التاريخ زمن ماض هي ذاكرة معرفية استرجاعية بدلالتها نحدس المستقبل في عبورنا الزمن الحاضر الذي هو سيرورة زمنية غير ثابتة ومؤقتة تختلف جدا عن زمانية الماضي كثبات تاريخي فقد الكثير من حيويته الحضورية في تقادم زماني عليه الذي تحكمه حوادثه الواقعية كتاريخ بدلالة الزمن وليس زمنا بدلالة التاريخ كثبات.

-         الملاحظة التي أود الاشارة لها أن الزمن يحكم الماضي بزمانيته المطلقة ويحكم الماضي بدلالة موجوداته وحوّادثه كتاريخ. الماضي يحمل زمانية ثابتة تقريبا لا يحرّكها سوى الحاضر الزماني الذي يكون في حركة لا يحجّمها الزمان بل يلازمها في محاولته استرجاع ذكريات الماضي لتعيش الحاضر بصفاتها الماهوية الماضوية فقط.

ومن المتعذر أن يتداخل أكثر من زمان تحقيبي أرضي واحد مع غيره زمانا تحقيبيا أرضيا آخر وليكن مثالنا الافتراضي تداخل الزمن الماضي مع الزمن الحاضر وكلاهما تحقيبان زمانيان أرضّيان يتصفان بالصفة الماهوية الواحدة بمطلق الزمان لكنهما يختلفان بمحدودية زمانية الماضي باختلافها عن محدودة زمانية الحاضر فهما غير متجانستين بالمحتوى الزماني بينهما لكنهما لا يخرجان عن الوحدة الماهوية المطلقة للزمن الازلي غير المحدود... من المتاح لنا أن نعّبر عن الزمانين الماضي والحاضر على أنهما حوادث تاريخية مختلفة تنتسب بعضها للحاضر وبعضها الآخر للماضي.

-         حين يقول باشلار الذاكرة لا تعطينا نسقا زمانيا مباشرا، وهي حقيقة نستدل على صحتها أن الذاكرة هي تعاقبات تداعية من الانقطاعات الزمنية الافتراضية غير الحقيقية كون الزمان لا يقبل التجزئة ولا القطوعات كزمان تجريدي تحكمه الماهية وليس الحضور المتعيّن، عندما نقول قطوعات الزمان إنما يكون المقصود الحقيقي هو الانقطاعات المادية في الوجود وليس قطوعات ممكن حدوثها في الزمن مجردا عن مدركاته.  

الانقطاعات التي نصفها زمانية هي قطوعات تاريخية قابلة للتجزيء المعرفي والإدراكي ترافق عملية الاسترجاع التذّكري للماضي. الانقطاعات التعاقبية في الزمان هي تحقيب عشوائي طارئ ضمن عشوائية مطلق الزمان الكوني في إحكام قبضته القوية الممسكة بالوجود. نحن لا نمتلك وجودا مجردا عن زمانيته كما لا ندركه من غير تلك الزمانية الملازمة لكل موجود مكاني.

مقولة افلاطون التي تقول الطبيعة بموجوداتها السابقة وجودا سابقا على موجودية الزمان هي التي تنّظم عشوائية الزمان المطلقة تعبير صحيح كوننا لا ندرك نظام موجودات الطبيعة بغير تعالق مرجعية الزمان لها. لكن ما دليل افلاطون أن عشوائية الزمان تنتظم بدلالة نظام المكان إلا إذا كان المقصود بنظام المكان هو القوانين الطبيعية الثابتة التي لم تكن الفلسفة تعرفها علميا وقتذاك.

أما مسألة الأسبقية بين الطبيعة والزمان فلا يمكن حسمها لا علميا ولا فلسفيا. لكنما الترجيح الافتراضي الأسلم هو أن نعتبرهما متلازمين ومتزامنين في الخلق والوجود ولا أسبقية بينهما لأحدهما على الآخر. والاختلاف بالعشوائية بين الزمان والمكان وايهما ينظم عشوائية الاخر بدلالة الاخر مسألة يصعب التسليم بها لمجرد أن قائلها افلاطون لا غيره. الحقيقة العلمية الثابتة أن نظام الطبيعة تحكمه قوانين ثابتة. وهذا مالم يتوصل له العلم أن الزمان أيضا محكوم بقوانين ثابتة لا يحيد عنها. ما أربك الفلسفة هو برهان انشتاين في النسبية أن الزمان حاله حال المادة ينكمش ويتمدد. ولم يقل انشتاين اننا نستطيع إدراك الزمان كما هو إدراكنا للمادة.

-         الشيء الملفت للانتباه ونتجاوزه باستمرار أن تنظيم موجودات الطبيعة للزمان إنما تتم في تكيّف انتظامي غير معلن وغير مدرك من قبلها مع مطلق الزمان في اكتسابها إدراكنا الوجودي النظامي لها, ونستعير عبارة باشلار ثانية قوله ما معناه الوجود يكسب من الزمان ولا يكسب الزمان من الوجود عبارة صحيحة. ليس على الصعيد التجريدي في ضبط علاقة الزمان بالوجود بل على الصعيد الانطولوجي الإدراكي في تعالق المكان والزمان.

-         السؤال لماذا يفقد الماضي على الدوام حيويته الزمانية التي تحاول ربط الماضي بحاضره الاسترجاعي له؟ الماضي يفقد حيويته الزمانية كونه ثبات زمني محكوم بتاريخ أحداثه ووقائعه الثابتة المدوّنة تاريخيا. توضيح الأجابة الأوسع نجدها في الفقرة اللاحقة أدناه.

-         الذاكرة التي تفقد الكثير من نسقها الزماني الانتظامي بسبب قطوعات الاسترجاع التذكرّي لها التي يعتريها النسيان، يريدها باشلار تتقوى بعناصر أخرى خارج محكومية الزمان، ولا يوجد غير الخيال أداة الاسترجاع الذكرياتي للنفس المعيد لذكريات الماضي التي هي في فلسفة باشلار كل ما هو جميل ينسينا مرارة حاضرنا.. الحقيقة التي نتجاهلها في سعينا توكيد البحث عما تتقوى به الذاكرة نسقيا زمانيا، نتناسى عمدا ونتجاوز حقيقة أن الخيال محكوم بزمن يحتويه يتحكم به ولا يستطيع الخيال الإفلات منه.

الحقيقة الاخرى أننا نقع على الدوام في لبس وخلط حين نعتبر ذكريات الماضي هي زمن تذّكري خال من ثبات تاريخانيته وتغليبها على زمانيته، ونهمل حقيقته الاسترجاع الخيالي مستمد من الذاكرة التي يقاطعها التاريخ المدوّن الثابت، مع وجوب الاشارة الى أن برجسون ينكر أن يكون مصدر تخيّلاتنا هو الذاكرة بل يعتبر المخيّلة شيء والذاكرة شيء آخر وفي هذا يكون تأثير برجسون على فلسفة باشلار حاضرة دائما وبقوة. في اعتباره الخيال مصدره المخيّلة وليس الذاكرة.

في مقاربة من هذا الفهم يذهب ديفيد هيوم معتبرا الانطباعات الواردة من العالم الخارجي لا يكون مصدرها تفكير الذهن ولا تختزنها الذاكرة بل مصدرها المخيّلة التي تصدر الخيالات المتراخية بلا حيوية تسمها وتطبعها بها حسب توصيف ديفيد هيوم معتبرا الانطباعات الذهنية أكثر فاعلية من الافكار التي مصدرها العقل..

-         حقيقة الخيال الذي يصفه ديفيد هيوم بالعنصر الخامل مقارنة بحيوية الانطباعات المارة عبر الذهن للدماغ، حكم غير دقيق كون الخيال فرص إفلاته من محكومية الزمان له يكون أكثر من حيوية الذاكرة التي يحكمها الخيال الاستذكاري من جهة وثبات وقائع الماضي كتاريخ تدويني ثابت تستذكرها الذاكرة من الماضي عندما تكون الذاكرة محكومة بمحددات النسيان والزمن والتاريخ من جهة اخرى.

ويبقى الخيال رغم ارتباطه الوثيق بالذاكرة فاعلا حيويا في تنشيط عمل الذاكرة على الاسترجاع التذّكري لحوادث الماضي وذكرياته. من المهم قولنا ولا نخرج خارج موضوعنا في التأكيد على أن المخيال هو أكثر خصوبة إبداعية من تفكير الذهن والعقل معا.

-         الخيال كما أشرنا سابقا محكوم بالزمان لكنه يكون متحررا منه في استذكار وقائع الماضي كوقائع وحوادث تاريخية ثابتة تدوينيا. في تعبير لبيركلي أن الانطباعات الخارجية تدخل الذهن وتخرج منه دونما أي تغيير أو تداخل ينسب للذهن على أنه مصدر التفكير يقاطع مثالية ديفيد هيوم التي تقوم على الشك والتجربة الحسيّة..

-         الخيال الاسترجاعي لحوادث الماضي هو توثيق تاريخي بتعبير مختلف، بينما يكون الخيال في مجالات أخرى غير استذكار حقائق التاريخ يكون إبداعا تخليقيا في إنتاجية الادب والفن حين يكون الخيال منتج اللاشعور النفسي وليس منتج الخيال الاسترجاعي الاستذكاري لتاريخانية الماضي.

-         خيال الذاكرة في عبوره زمانية الحاضر نحو استذكار وقائع الماضي يفقد الكثير من طاقة الاستذكار التي يطويها النسيان وتصبح عدما لا وجودي، بخلاف هذه الخسارة، يكون الخيال هو إمكانية الاضافة الابداعية على ذكريات الماضي ما يجعلها معاشة في حاضر يعيد لها حضورها الأجمل الاكثر تأثيرا. الخيال كفضاء مفتوح يتمتع بقراءات جديدة لم تكن متوفرة عليها لا الذاكرة ولا أحداث تاريخ الماضي عندما تحاول ذاكرة الحاضر استرجاعها بخيال تجريدي.

لذا نجد ما تستعيده الذاكرة بالمخيال هو أكثر صدقية في تعبير النفس عنه حين تم سحب تلك الذكريات من الماضي ليجعلها الخيال حاضرة في الذاكرة والنفس تعيش الحاضر بألق جديد وتأثير نفسي عميق لم تكن تمتلكه كحوادث جرت في الماضي حين تتلبسها الرومانسية..

 

الهوامش: جاستون باشلار، جدلية الزمن، ت:خليل احمد خليل، ص 47


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس