أفلاطون والزمان التاريخي

أفلاطون والزمان التاريخي


د علي محمد اليوسف



أفلاطون يفسّر الزمان بمنهج العود الأبدي الذي كان متداولا معروفا عند فلاسفة الإغريق قبل سقراط من قبل الرواقيين وهيرقليطس، ولم يأت به نيتشه فتحا فلسفيا جديدا اخترعه. فهو أي أفلاطون يفهم الزمن دوائر متعاقبة تطورية في التقادم الزمني الذي يعيد نفسه بنفس الوتيرة. إعادة الزمان نفسه ضمن تكرار دائري نسقي ثابت. وما كنا عشناه بالماضي ونعيشه حاضرا يعود إلينا بنفس الصيغة لنعيشه وهكذا.. حتما يبدو غريبا إذا قلنا أن الديالكتيك التطوري في المادية التاريخية يقوم على صورة التناقض الجدلي دائريا تطوريا صاعدا متقدما كالعود الأبدي الدائري الذي يعيد نفسه، بفارق أن ديالكتيك الدائرة التطورية في المادية التاريخية لا تعيد نفسها كما في العود الأبدي بل إن الدائرة اللاحقة في المادية تلغي جدليا الدائرة التي سبقتها بتطور نوعي إضافي جديد يتجاوز ما قبلها. بما أطلق عليه كييركغارد قبل ماركس معنى التطور التاريخي هو جدل ديالكتيكي يقوم على شكل (طفرات نوعية) لا تعيد نفسها، بل تستحدث طفرة جديدة من رحمها قبل اندثارها وموتها.

بضوء هذا التحليل لا نجد أفلاطون كان مخطئا بشأن التطور الدائري للزمان وليس التاريخ لكنه لم يكن يدرك ما جاء به لاحقا سورين كييركغارد أن التطور التعاقبي الدائري الديالكتيكي هو نوعي وكيفي يكون على شكل طفرات وقفزات خارجة على الامتداد الخطي- الدائري لمسار التاريخ ... وهو المعنى الحرفي الذي تبنّاه بعده كلا من هيجل وفيورباخ وماركس. حيث يكون الديالكتيك في وحدة وصراع الأضداد في المجانسة داخل النوع الواحد دائريا، بنفس وقت ينتج طفرات نوعية في امتداد تطوري خطّي متقدم إلى أمام.

أفلاطون يفهم الزمان التاريخي دوائر متعاقبة يعيد ما بعدها سابقها في تقادم زمني لا يخرج عن الرؤية التي يقول بها العود الأبدي في التكرار اللانهائي وهي نفس النظرة التي أخذ بها نيتشه عنه. هنا يوجد لدينا استطراد في فهم كيفية حصول التطور التاريخي، كي يستقيم التحليل معنا علينا تنحيّة تطور التاريخ بإعادة نفسه ذاتيا وفق نظرية العود الأبدي كون ما كّنا عشناه يعود لنا وما نعيشه حاضرا يندثر في المستقبل وسيعود لنا نعيشه ثانية وثالثة وهكذا، إذن التطور النوعي الانثروبولوجي للتاريخ يصبح معدوما ولا يمكن للتاريخ أن يتقدم في تكرار العود الابدي في الدوائر المتعاقبة التي تعيد نفسها على الدوام دونما تحقيق تبدلات كيفية نوعية في مسارها الذي يبدو خطيّا أفقيا. وهو ما يعتمده أرسطو اعتباره قطوعات الزمان تسير بخط مستقيم وهو خطأ بضوء فهمنا الديالكتيك يتم بصيغة الدوائر ألمتطورة التي تتخللها الطفرات النوعية كما أشرنا له قبل أسطر. أرسطو لم يكن يفهم التطور التاريخي على وفق مبدأ الديالكتيك الذي جاء من بعده بقرون طويلة.

نذهب الآن لمناقشة أفلاطون من حيث أن تعاقب الدوائر زمنيا لا ينتج عنه تغيير نوعي بالحياة والتاريخ. وفق هذا التصور لم يكن يدرك افلاطون التطور التاريخي يسير على وفق مسار خطي ديالكتيكي تحكمه الضرورة ألإلزامية في التقدم الى أمام وهو ما تعتمده المادية التاريخية ماركسيا في حاضرها المعاصر الذي لم يكن افلاطون مطّلعا عليه. كما ذكرنا افلاطون فهم تعاقب الدوائر هو عود أبدي يكرر نفسه برتابة غير كيفية دونما تتخلله طفرات نوعية ملزمة له في تقدمه الى أمام. وهو ما قام بتصحيحه سورين كييركغارد مثاليا وأورثه لهيجل من بعده. لتأتي أفكار الماركسية وتقلب الطاولة على التفسير المثالي بمجمله في تاريخ الفلسفة..

الحقيقة التي تقّر بها المادية التاريخية ماركسيا أن التاريخ يتطور ديالكتيكيا على شكل من التناقض الدائري المتعاقب الحلزوني الصاعد الذي تتخلله الطفرات النوعية التي تنقل التاريخ من مرحلة إلى أخرى أكثر تقدما. والتاريخ في توالي الدوائر المتعاقبة ديالكتيكيا إنما هو يبني التاريخ التطوري الخّطي في المسار. أي أن التطور التاريخي على وفق تعاقب الدوائر لا يتطور عموديا تراكميا بل يتطور كيفيا أفقيا. رغم أن الديالكتيك في وحدة وتناقض الأضداد إنما يكون ضمن تطور دائري تصاعدي عمودي وليس أفقيا محكوما بالتراكم ألكمّي الذي يخلو من طفرات نوعية ما لم ينضج عاملي التراكم الكمّي بوجوب حصول الطفرة النوعية، وعامل الظروف الموضوعية في تسريع الجدل داخل الظاهرة كي تنبثق عنه ويستحدث الظاهرة النوعية الجديدة التي لن تلبث أن تعيش التناقض وهكذا.. ديالكتيك التاريخ لا يسير بمسار خطي مستقيم نتصوره أفقيا كما ذهب له أرسطو وفي حقيقته ديالكتيك دائري يتطور نوعيا تصاعديا بطفرات نوعية ناتجة عن تراكم كمّي وصل حدود نهايته في وجوب الانتقال النوعي لمرحلة متقدمة..

التساؤل إذن ما الفرق بين مسار التاريخ الدائري الذي يعيد نفسه في العود الأبدي، وبين التطور التاريخي ديالكتيكيا الذي يقوم على توالي تعاقب الدوائر أيضا؟

أفلاطون يفهم التطور التاريخي ثبات دائري من التكرار المستمر لا يتخلله طفرات نوعية تنقل التاريخ من مرحلة الى أخرى متقدمة تتجاوز سابقتها، وهو نفس الاقتباس الذي استعاره نيتشه بالعود الأبدي. بعكس الفهم المادي الذي كان قال به كييركغارد قبل هيجل وفيورباخ وماركس أن الديالكتيك هو طفرات نوعية وليس مسارا خطيّا تراكميا لا ينشأ عنه تغيير نوعي كيفي.. علما أن الماركسية تجاوزت الفهم المثالي الهيجلي أن التاريخ يحمل بأحشائه العقل الروحي الذي يقود التاريخ، بينما ترى الماركسية أن إرادة الانسان بالتغيير هي سيدة الموقف كما يقال في قيادة التاريخ.

أن مسار التاريخ الذي يقوم على جدل دائري حلزوني صاعد هو مسار خطّي كونه محكوم بإلزام النقلات النوعية، التاريخ حسب التحليل المادي يسير خطيّا أفقيا في دوائر تعاقب ديالكتيكية لكن ليس بأسلوب انعدام الطفرات النوعية فيه. وهذا هو الفرق الجوهري بين مفهوم تعاقب الدوائر في إعادة نفسها على أساس أن ما حدث سيحدث لاحقا في العود الأبدي، وبين ديالكتيك الدائرة التي تتخللها الطفرات النوعية الكيفية المتقدمة دوما في ملاحقة التجديد الذي يندثر القديم خلفه. ليستحدث نفسه ثانية في الظاهرة الجديدة التي يحكمها الديالكتيك بقانون نفي النفي لها ايضا.

الحاضر الوهمي للزمان

قلنا افلاطون يفهم الزمان على أنه عود أبدي في التكرار الذي يخلو من التنوع الكيفي في طفرات نوعية، وميزة عبقرية افلاطون رغم اعتماده تعاقب الدوائر زمانيا إلا أنه لم يفهم الزمان مسارا أفقيا خطيّا جرى تقسيمه التحقيبي الى ماض وحاضر ومستقبل من أجل تيسير فهم الزمان كيف يعمل في تعالقه بنظام الطبيعة والاشياء وحركة القمر والارض والكواكب الاخرى. بارتباطها فيزيائيا بحركة الارض حول نفسها وحول الشمس وحركة القمر، وفي تعاقب الليل والنهار والفصول الأربعة وغيرها من أمور.

أفلاطون يوضّح فهمه للتحقيب الزماني أن الحاضر هو افتراض وهمي خارج سلسلة التعاقب الزمني من الماضي الى المستقبل، والحاضر تحقيب مؤقت بضوء ماض متشّكل وجودا لا نفهمه إدراكيا بغير الحاضر، وبين مستقبل يندغم به الحاضر حتميا إلزاميا زمانيا في بناء ملامح مستقبلي يسعى الانسان حضوره وتحققه. والحاضر الزمني لا يمكننا إدراكه كونه تغيير حركي مؤقت لا يتّسم بالثبات المقارن مع الماضي ولا يمتلك كينونة زمنية استقلالية تفصله عن المستقبل. لذا اعتبر فلاسفة اليونان الحاضر نقطة ليست زمانية ينتقل عبرها تجسير الماضي الى المستقبل في تجاوز الحاضر كقطوعة زمنية لا نمتلك إدراكها.

من الخطأ بضوء هذا المعنى أن نفهم الحاضر حلقة وصل بين ماض انتهى وبين مستقبل يتشّكل منهما سوية أي يتشكل من ترابط الماضي مع الحاضر. وبتعبير افلاطون (من الخطأ أن نستعمل الحاضر وصورة ما هو كائن، لما هو متغيّر متحّول من الماضي الى المستقبل )1، فهو يعتبر الحاضر لحظة قصيرة جدا عابرة لذا لا يجب معاملتنا لحظة الحاضر المؤقتة كزمان تجسيري يربط الماضي بالمستقبل وهذه حقيقة لا غبار عليها من جنبة فهمنا الحاضر زمانا وليس تاريخا..

والسبب في غمط الحاضر كتحقيب زماني غير مدرك زمانا رغم حقيقة كونه مدرك موضوعيا فيزيائيا لا يكون بدلالة إدراكه الحسّي المباشر كزمن بل بدلالة تحقيبه تجسير ربط الماضي بالمستقبل كتاريخ. الحقيقة التي سبق لي تكرارها في أكثر من مقال لي أن الزمان في تحقيبه الارضي كزمان مجرد عن تاريخانيته الى ماض وحاضر ومستقبل هو حدس يدرك بدلالة غيره من حركة أجسام يحتويها ويتمايز عنها بالمواصفات والكيفية. فنحن ندرك الزمن الماضي بدلالة وقائع ما يحتويه من تاريخ، وندرك المستقبل بدلالة سيرورته التاريخية المتشّكلة على الدوام وليس في زمانية مجردة نطلق عليها لفظة مستقبل.

هنا في تداخل بسيط نناقش به افلاطون يعتبر ألحاضر وهما غير موجود زمانا من حيث أن ما يفعله الانسان في كل حركة من حركاته هي بنية مستقبل غير منظور وليس حاضرا غير منظور فقط لا يمتلك زمانية سكونية كافيّة لبقائه كي يدركه العقل. وكذلك يصبح ماضيا حين يجري اندغامه كحاضر بالماضي. فاللغة مثلا التي يتكلمها الانسان هي لغة مستقبل زمانيّا وليست لغة حاضر غادر زمانيته وأصبحت تعبيرا عن ماض انتهى لحظة الانتهاء من تعبير الجملة. لذا نجد افلاطون يعبّر عن هذا المعنى (الحاضر لحظة غير معقولة لأنها تفترض البقاء ولو أقصر مدة فيما ليس هي بكائن على الإطلاق )2 بمعنى الحاضر ليس بكائن يدرك زمانا على الإطلاق حسب تعبير افلاطون نصّا. وهنا لا يمكن تخطئة افلاطون بتعبيره هذا كونه يتعامل مع زمان حاضر لا يحتويه تاريخ.

الحاضر الزماني حسب تفسير افلاطون هو لحظة لا يعقلها العقل لتعّذر إدراكها، فهي بقاء مؤقت زائل لذا لا يكون الحاضر كائنا مدركا كمفهوم زماني. ولو أننا تماهينا مع افلاطون مع هذا التصور الزماني الميتافيزيقي الذي يبدو لنا صحيحا منطقيا، سوف نسقط في نفس الاستحالة الإدراكية في فهمنا للماضي، على ضوء فرضية أن الحاضر وهمي غير معقول وكذا نفس الحال مع المستقبل ما يجعل من تحقيب الزمان ماضيا وحاضرا ومستقبلا محض عشوائية لا معنى لها سوى في أذهاننا فقط ولا تحمل مدلولاتها الادراكية. وهذا التحقيب العشوائي الزماني كقطوعات تحقيبية هي موضع شك لا يمكننا البرهنة المنطقية العقلية عليها. كون هذه السلسلة من التعاقبات الماضي والحاضر والمستقبل جميعها ترجع الى أصل المشكلة أن الزمان ليس موضوعا مدركا للعقل لا بالصفات الانفرادية ولا بالماهية... كما أن الزمان وحدة زمنية واحدة في عدم إدراكنا ماهية الزمن كموضوع مدرك فهو سرمدي أزلي لانهائي.. قطوعات الماضي والحاضر والمستقبل تعبيرات مجازية لزمن مجرد يستحيل إدراكه، لكن ألمدرك الحقيقي لنا اننا ندرك هذه القطوعات الثلاث ليست زمنية بل قطوعات تاريخية فقط نعيشها في ماضيها وفي حاضرها وفي سيرورة مستقبلها.

العلاقة الادراكية بين الزمان والتاريخ

هل ندرك الزمان بدلالة التاريخ أم العكس ندرك التاريخ بدلالة زمانه؟

 ما يشير عكس هذا الفهم الميتافيزيقي لأفلاطون منطقيا أنما نجد الرد عليه في المادية التاريخية، كون الماضي موجود كتحقيب لا يطاله التشكيك بعدم حصوله كتاريخ، من جنبة أخرى نحن من المحال فهم وجودنا في الحاضر من غير إلأستناد على مرجعية الماضي في أسبقيته على الحاضر لتكون أسبقيته حاضرا مندغما في مستقبل يحتويه لا ندركه تحقيبا واقعيا كونه سيرورة غير منظورة.

الحقيقة المشتركة بين المادية التاريخية والزمن أنها لا تأخذ الزمن كمفهوم تعالجه فلسفيا كما ذهب له افلاطون بل هي تدرس تطور تأريخي يحكمه زمن ولا تدرس زمانا يحكمه تطور تاريخي خطأ. بعبارة ثانية التطور التاريخي المادي لا يعير للزمان كمفهوم تجريدي أي نوع من الاهتمام الذي يعيق دراسة التاريخ كوقائع واحداث جرت وتجري بلا توقف.

ولا ضير أن يكون المستقبل هو توقيت مؤقت لثبات نسبي للزمان، والحاضر في لا معقوليته الوهمية الإدراكية لدى افلاطون صحيحة، من جانب شد الماضي له ومحاولة تذويته فيه، ومن جنبة ثانية شد المستقبل للحاضر في تذويته فيه واحتوائه له. فلا يبقى للحاضر زمنية آنية مستقلة يمكننا إدراكها ما لم نتمّثل الماضي والمستقبل ذهنيا فقط.

الحقيقة التي نخلص بها هي أن الحاضر بمقدار وهميته غير المعقولة إدراكيا إلا أننا نعيشه فيزيائيا كتاريخ بمعزل عن زمانية الماضي والمستقبل، لكن ما يبعث على عدم صدقيته الزمانية واعتباره وهما حسب تعبير أفلاطون، هو أن الماضي يسحبه من جهة والمستقبل يخاصره من جهة مقابلة. وإذا نحن عملنا المحال في إسقاطنا الحاضر في اعتباره لحظة زمنية عابرة تصل الماضي بالمستقبل بالإدراك، ومن دون حضور الحاضر كوسيط يتوسطهما، إنما نكون بهذا أعدمنا بأنفسنا قابلية وإمكانية الاستدلال في فهمنا الماضي بدلالة الحاضر، وكذلك إعدام أن يكون للمستقبل حضورا متخّلقا عن الحاضر الذي أعدمناه بترسيخ حقيقة وهميته وآنيته الوقتية الزائلة، وهو صحيح بالمنطق الفلسفي لكنه غير متحقق في التحقيب الزمني تاريخا. الحاضر بمقدار حضوره الوهمي كزمن إلا أن حضوره الدلالي والاستدلالي الفيزيائي كتجسير زمني يتوسط الماضي والمستقبل الذي من غيره لا نفهم كيف نفسّر تحقيب الزمن قطوعات تاريخية بمنطق الفلسفة وليس بمنطق فيزياء الكون علميا. ولو أن التحقيب التاريخي للزمان ماضي وحاضر ومستقبل لا يتوقف العلم عنده في اعتباره من مقومات فهمنا قوانين الطبيعة التي تحكمنا كوجود وكإنسان أرضي. والتشكيك بمعقوليته ألإدراكية يكون مضيعة لجهد لا يتوفر عنه البديل. الحقيقة النهائية التي تجعل هذا التداخل ألإدراكي للزمان معقّدة جدا في عدم الإقرار أن الماضي والحاضر والمستقبل تحقيبات زمانية تحمل السكون والحركة في نفس الوقت.

الهوامش

1.      عبد الرحمن بدوي، الزمان الوجودي، ص 55

2.      نفسه ص56

 

  


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس