إشكالية
الإدراك: الأصل والصورة
د علي محمد اليوسف
تقديم
جرى احتدام شديد بين كلا من ديكارت وجون لوك وجورج
بيركلي حول حقيقة الإدراك للواقع المادي هل هو إدراك تطابقي تام حقيقي في التعبير
التجريدي عن الأشياء في وجودها الواقعي، أم أن الإدراك التجريدي لا يتعدّى أن يكون
الصورة الفوتوغرافية ألمستنسخة عن الشيء المادي ألموجود المدرك في صورته الخارجية،
وهذه الصورة من الإدراك تمّثّل الزيف الإدراكي في عدم نقله المدرك الواقعي الشيئي
في تمام حقيقته الموجودية كما هي في الواقع وعالم الاشياء.
هذه الإشكالية تشبه الى حد بعيد تداخل إدراك الشيء مع
تعبير اللغة عن الشيء الموجود حيث يكون متعذّرا علينا ترجيح مصداقية الإدراك
الحسّي للشيء عن مصداقية التعبير اللغوي عنه.
ومن الفلاسفة مثل ديكارت وجون لوك اعتبرا الإدراك ألقائم
على أي نوع من التعبير اللغوي التجريدي ألمتداخل مع تجريد اللغة الذي يجرى فيه
التعبير عن الأشياء هو في حقيقته لا يحمل ألأصل والصورة الإدراكية معا في وحدة
متداخلة لا يمكن التفريق بين زيف الإدراك عن أصالة الإدراك الحقيقية.
من الملاحظ أن الاختلاف بهذه القضّية الفلسفية لا يدور
حول الاختلاف الفلسفي بين الوجود بذاته فينامينالوجيا في إدراك الجوهر، الذي يعبّر
عنه أحيانا في عدم إمكانية إدراك الجوهر المحتجب خلف الصفات الاولية المدركة. فذاك
موضوع خلافي فلسفي آخر يختلف عما تتناوله هذه المقالة عن حقيقة أو زيف ألمدرك في
وجوده ألواقعي.
الإشكالية الفلسفية الإدراكية
نتساءل ما هو جديد بيركلي حول الإدراك؟ بيركلي على العكس
من ديكارت وجون لوك اللذين يعتبرهما خاطئين " في اعتبارهما الفكرة ألمجردة عن
الموضوع في حقيقته الواقعية مختلفين، وأثارا إشكالا مهمّا، هو كيف يمكن للأفكار أن
تتطابق بصورة صحيحة مع وجود موضوعات العالم الخارجي التي هي ليست أفكارا بل مدركات
مادية مستقلة؟ وقد اتخذ بيركلي منهما موقفا مضادا سمّي بالواحدية الإبستمولوجية
وليس الثنائية الإبستمولوجية التي قالا بها كلا من ديكارت ولوك، التي هي
أننا لا ندرك الموضوع ألواقعي بالفعل بل ندرك صورة ذلك الواقع) 1
كما وجد ديكارت وجون لوك أن بيركلي كان مخطئا في اعتباره
الموضوع فكرة ذهنية في حين أن الموضوع الواقعي المدرك هو فكرة مادية ليست ذهنية
بمعنى الذهن يخلق وجودها الواقعي بالفكر كما يذهب بيركلي، (يعني أن الموضوع ليس
ذهنيا على الأطلاق كون الذهن هو وظيفة مجردة محايدة يدخل فيها الموضوع الواقعي
ويخرج منها كما هو دون أن يتغّير ألمدرك الذي يمّر فيه على الإطلاق، والنظر لأي
موضوع لا يغّير منه شيئا). 2
تعقيبنا التوضيحي لهذا التضاد نجمله بالاختصارات
التالية:
-
بدءا نقول كل إدراك هو فكرة ذهنية مجردّة صادرة عن
إحساسات الحواس معبّرا عنها تجريدا لغويا، والذهن ليس مصدر التفكير النهائي بالمدركات
الواصلة اليه كما هو ألشائع المتداول بالفلسفة، والتعبير ألمنسوب لبيركلي أن
الموضوع المدرك يدخل الذهن ويخرج منه بلا أدنى تغيير عليه تعبير صائب موفق...فالذهن
لا ينوب عن الدماغ ولا يمتلك قابلية التفكير بالمدركات وإعطاء ردود الأفعال الانعكاسية
عنها التي هي خاصّية الدماغ وليس الذهن.
-
واحدية الإبستمولوجية لدى بيركلي صحيحة أننا ندرك
الموضوع الواقعي كموضوع بالفعل ولا ندرك فقط صورة ذلك الواقع مجردا من حقيقته الواقعية،
رغم أن حقيقة الإدراك لصور الأشياء إنما هو تجريد صوري - لغوي يجمع مقولتي
الواحدية الإبستمولوجية ألكليّة بالإدراك عند بيركلي والثنائية الإبستمولوجية عند
ديكارت وجون لوك الفكرة لا تعبّر عن حقيقة الموضوع المدرك واقعيا تماما في حالتي واحدية
وثنائية الابستمولوجيا. وتوضيح هذا أكثر في السطور القادمة.
-
نعود تكرار الفقرة
الأولى من التعقيب حسب بيركلي قولنا الذهن لا يقوم بمهمّة التفكير الإدراكي بمعنى
الذهن لا ينوب عن العقل المصدر الأعلى للتفكير. بل يقوم بمهمة توصيله إحساسات الإدراكات
للدماغ واستلامه مقولات الدماغ الانعكاسية العقلية الواردة له، وقول ديكارت وجون
لوك أن الفكرة تختلف عن موضوعها الذي ليس هو الموضوع بذاته ليس خاطئا, فالإدراك
الحقيقي للأشياء هو فكر تجريدي لا يعبّر تعبيرا تطابقيا عن الموجود في حقيقته المادية
تماما ولا عن الموجود بذاته، فالإحساسات الصادرة عن الشيء لا يمكنها التعبير التام
عن حقيقة الشيء، وإلا لما كانت الإحساسات المنقولة عن موجودات العالم الخارجي
تحتاج الانتقال عبر الجهاز العصبي والذهن وصولا الى الدماغ للبّت في تفسيرها
وإعطاء ردود الافعال الانعكاسية عنها الذي هو مرتكز فعالية العقل في تحليل وتفسير
كل مدرك يصله ويعطي مخرجاته عنه بما أطلق عليه كانط مقولات العقل.
-
لا يمكن للأفكار المجرّدة التعبير عن الموضوع الواقعي
المدرك تماما. فالإحساسات عن الشيء منقولة عن قصور طبيعي ثابت في كل من الحواس
واللغة المعبّرة عنه معا. وهذا التقصير محال الخلاص منه أن الفكرة تمثيل حقيقي
صادق تماما بالتعبير عن موضوعه. ولا يتوفر للمنظومة الادراكية العقلية آلية أخرى
تستطيع بها أدراك موجودات الواقع بغير دلالة الفكرة الصوريّة المجرّدة لغويا عن
الشيء أو الموضوع.
كما أن الشيء المتعيّن
أنطولوجيا وصورته التي تدركها الحواس وتعبير الفكر عنها هي دلالة صورية تجريدية عن
الشيء ولا بديل أفضل منها يستطيعه إدراك العقل. أن الإدراك هو تجريد الفكر عن
موضوعات إدراكه موجودات الأشياء في واقعها. أما مدى مطابقة الفكرة مع المدرك الشيئي
في حقيقته فليست ممكنة لسببين ذكرناهما هما خداع الحواس في عجزها الطبيعي الثابت
علميا أولا، وقصور اللغة التعبير التام عن حقيقة الشيء والإلمام ألتام به ثانيا.
بما يوحي عدم خطأ كلا من ديكارت وجون لوك في تعبيرهما أن الشيء في واقعه ليس هو
الشيء في تصوره الإدراكي والتي هي صحيحة. دليل ذلك عجز الإدراك واللغة مهما امتلكا
من قدرات كفؤة يستطيعان التعبير المتطابق مع الشيء في وجوده الإدراكي. ويترتّب على
هذا الاستنتاج الترجيحي توضيح أن التفكير الذهني بالشيء يختلف تماما عن لغة
التعبير عنه بالفكر واللغة. وتفكير الذهن مستمّد من القشرة الدماغية.
-
قول بيركلي إننا في حالة الإدراك ندرك الموضوع الواقعي
بالفعل ولا ندرك صورة ذلك الواقع أو الشيء، هو صحيح يحمل محذوره معه إذا أقررنا
توافر مشروطية أن حقيقة إدراكنا لأي شيء في الواقع وعلى أية صورة كانت هو لا يعني
إدراكنا ذلك الشيء كما هو في وجوده المستقل في عالم الموجودات الخارجية، كون إدراكاتنا
للأشياء بالوجود وفي العالم الواقعي من حولنا هو إدراك صوري تجريدي لغوي في
حقيقته. وتلعب مخاتلة ومخادعة الحواس وتمثّلات اللغة المستمّدة منها عن الشيء
المدرك أمر مسّلم الشك القاطع بحيازته الصواب ألتام ألكامل كما يرغبه الإدراك
العقلي..
-
لا توجد صورة محسوسة عن شيء لا تعبّر تلك الصورة عن
صفاته ذلك الشيء الخارجية البائنة المدركة فقط من جانب أحادي هو ما تدركه منها
الحواس. وسبب ذلك تناقض فكرة التعبير عن صورة الشيء المدرك. الإحساسات ومنظومة
العقل الإدراكية بحلقاتها جميعها لا تتمكن معرفة الشيء على حقيقته أكثر من الصورة
الخارجية المتمّثّلة تجريدا تصورّيا في الصفات الخارجية التي تنقلها الحواس، والتي
تدركها المنظومة العقلية كصفات للشيء وليست ماهيّة غير مدركة له. وبهذا المعيار لا
يوجد تناقض سببه الأفكار في عدم استطاعتها التعبير عن حقيقة الشيء بذاته بدلا من
صورته الخارجية بالصّفات فقط.
ثم آلية الإدراك تقوم
على نقل الصّفات الخارجية عن الشيء وليس نقل حقيقة ماهيّة الشيء بذاته ولا توجد
آلية إدراكية متاحة غير هذه. لذا يكون بيركلي صائبا وليس مخطئا اعتباره إدراك صورة
الشيء هو إدراك الشيء كما في وجوده المستقل في عالم الاشياء وليس كما نريده أن
يكون في حقيقته الذهنية كاملا تماما.
هذا التفسير الذي ذهبنا
له يؤكده كانط وهوسرل في منهج الفينامينالوجيا... وما يرغبه العقل من عملية الإدراك
لا تستطيع الافكار المتعالقة باللغة والحواس تلبيته، لأنه يمّثل إعجازا إدراكيا
لهذه الحلقات الإدراكية التي يكون العقل عاجزا عن إدراك أكثر مما تنقله له حلقات
عملية الإدراك بدءا بالحواس والجهاز العصبي والإدراك الذهني الذي هو غير إدراك
العقل والوعي وإن كانوا جميعا حلقات مترابطة ضمن عملية الإدراك ألمتجانسة الواحدة
في مرجعية العقل.
-
كذلك قول بيركلي الموضوع ألمدرك ليس ذهنيا لم يكن مخطئا
أيضا. باعتبار الذهن حسب العبارة الواردة لنا قبل أسطر هو علاقة توسيط وليس ماهية
تفكير يتساوى فيها الذهن والوعي والدماغ بوظيفة واحدة معا بنفس الأهمية الفيسيولوجية
الوظائفية.
العبارة التي مررنا سابقا بتثبيتها تذهب الى
تأكيد ذلك بأن المواضيع التي تدخل الذهن تخرج منه كما هي لم يطرأ عليها أدنى تغيير
أو تبديل. فماذا يكون الذهن إذن؟ غير أنه توسيط نقل المدركات التي ترسلها ألمحسوسات
عبر الجهاز العصبي ليقوم بإيداعها الدماغ. وهو الأرجح بدلالة أن رقابة الدّماغ
عقليا على جميع حلقات منظومة الإدراك العقلية لا تكون خارجة عن مهام تفكير العقل
بمواضيع إدراكه.
الذات والإدراك
يعتبر بيركلي (الأنا) أو الذات المدركة للأشياء محورا ارتكازيا
في إدراك الموضوعات والموجودات والأشياء من حولنا، والمدركات التي لا تكون الأنا
مرتكزا بها لا يمكننا إدراكها كما وليست موجودة باستقلالية في العالم الخارجي،
والمدركات التي لا تزامنها وتحتويها الذات لا قيمة وجودية لها في الواقع.
هذه المثالية المفرطة في إلغاء الوجود المادي الخارجي
الذي لا تداخله الأنا أو الذات، لا تغّير من حقيقة وجود العالم المادي من حولنا
كواقع مستقل سواء أدركناه أم لم ندركه، ولا يتوقف وجود الأشياء في استقلاليتها على
ذات تلزم الموجودات المزامنة لها الاحتوائية معها كي تكون مدركا واقعيا. فتخطئة
مثل تلك الأفكار الفلسفية أصبحت من مهملات دراسة إدراك الوجود... لكن ما يهمّنا
خارج مناقشة هذه الأخطاء حول الإدراك هو أن بيركلي يعتبر الذهن مصدر التفكير في
مصادرة باقي وظائف حلقات الإدراك العقلي المترابطة العديدة بخلاف عن جون لوك ومن
قبله ديكارت. وناقشنا ذلك بمقارنة وظائفية فسلجية ما هو عمل الذهن وبماذا يختلف عن
كل من عملية الوعي وعمل الدماغ في عملية الإدراك.
إن أفضل الفروضات مقبولية هو أن الذهن كحلقة ضمن منظومة
وظيفة الإدراك هو ليس عضوا بايولوجيا وإنما هو حلقة إدراكية حقيقية وظائفية إدراكية
لكنها مجردّة عن ميزّتين الأولى أن الذهن ليس هو مستودع التفكير في ألمدركات
ألواصلة له عبر الحواس ولا يمتلك خاصّية الدماغ في الحكم على تلك المدركات.
والثانية أن الذهن حقيقة افتراضية تجريدية بلا ماهيّة
فيزيائية ولا صفات يدركها العقل كموضوع مستقل...وأهمّية الذهن هي أهمية كل
الموضوعات التي نتعامل بها تجريدا فلسفيا لكنها في حقيقتها الجوهرية ليست موضوعات
مدركة عقليّا وإنما هي موضوعات استدلال تجريدي في معرفة غيرها من موضوعات فقط..
الذهن قيمته الوظائفية الاستدلالية أنما هو حلقة تداخل
توسيطي مع بعض أجزاء عضوية من تركيبة الدماغ في معرفة وتفسير مدركات العقل. من غير
المتاح المقبول أن نجعل من تفكير الذهن بديلا حقيقيا عن تفكير مناطق محددة بتركيبة
الدماغ. بل من الاحتمالات الواردة أن يكون الذهن هو مستودع مخرجات تفكير الدماغ
وترجمة تلك المخرجات من قبل الذهن في خلق الوعي الفكري التعبيري عن تلك المدركات
لغويا.
هنا ننجّر قسرا إلى التباس تعالق كلا من الذهن و
(الذاكرة) في عمل الدماغ، فإذا ما كان الذهن مستودع تفكير الدماغ، فما هو وأين يقع
مستودع الذاكرة كوحدة وحلقة مركزية في منظومة الإدراك العقلي بارتباطها بعمل
التخليق الإدراكي للدماغ في تعبيره عن مخرجاته؟ من غير الدخول في تفاصيل علم وظائف
الدماغ التي أصبحت اليوم حقائق علمية تركن الفلسفة جانبا كما سبق للعلم أن ركن
الدين جانبا من قبل، يمكننا التمييز بين تعالق الذهن بالدماغ أنما يقوم على تفسير
مدركات الواقع الخارجي المادي المدرك، بينما تبقى علاقة الذاكرة بالدماغ هو على مستوى
(الخيال) لموضوعات تستحدثها الذاكرة من مخزونها الخيالي الكبير جدا الخاص بالماضي،
ويكون تعالق الذاكرة بالدماغ على مستوى التفكير بمواضيع تأريخية ماضية وخيالية لا
وجود واقعي لها في عالم الموجودات المحسوس. ويكون البّت بمخرجات الدماغ عنها ينتظم
الجهاز العصبي وصولا الى تشكيل الوعي حول الموضوع، ولا يمكن أن يكون بهذه العملية
الإدراكية لموضوعات الخيال من الذاكرة المرور بمرحلة الإدراك الذهني لها إلا فقط
على صعيد تشكيل الوعي بمخرجات الدماغ. فقد أستمّد كلا من الذهن والذاكرة مخرجات
الدماغ النهائية عن ألمدركات العقلية في التقائهما بصناعة الوعي التعبيري عنها.
بهذا المعنى يكون فرق الذهن عن الذاكرة هو في فرق الموضوع ألمدرك إذا كان ماديّا
خارجيا، أو يكون الموضوع مصدره الذاكرة استذكارا استبطانيا خياليا. ولا يلتقي
الذهن بالذاكرة إلا على مستوى تشكيل الوعي بالأشياء بدلالة العقل لهما.
الذهن والإدراك
الحقيقة التي لا يمكننا العبور من فوقها أن نتصور تفكير
الذهن بديلا عن تفكير الدماغ في إعطائه مقولاته النهائية ومخرجاته التفكيرية بالمدركات.
والحقيقة التي تصدم التلفيقية التي تسعى مساواة مهمة تفكير الدماغ مع نفس تفكير
الذهن ليس في تلازمهما الوظائفي بل في اختلافهما الفيزيائي – الفيسيولوجي. ممثّلا
بحقيقة أن الدماغ عضو بيولوجي من أعضاء جسم الانسان الأخرى وهذا ما لا ينطبق على
ماهيّة الذهن إطلاقا كتجريد إدراكي معرفي لا عضوي من تكوينات ملحقات الدماغ من
ضمنها القشرة الدماغية الجبهية الامامية في الجمجمة.
الدماغ جهاز عضوي معقّد في تركيب الجسم يضطلع بمهام خاصّة
لا يمتلكها أي جزء من أجزاء جسم الانسان العضوية منها وغير العضوية الأخرى، بخلاف الذهن
أنه وسيلة تفكير توصيل مخرجات الدماغ إلى الوعي والفكر وتعبير اللغة عنهما. خلاصة
في كلمتين الذهن لا ينوب عن القشرة الدماغية في التفكير العقلي.
الهوامش
1. وليم رايت، تاريخ الفلسفة الحديثة ص 189.
2. نفسه ص 199
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية
0commentaires:
إرسال تعليق