مسألة المعنى في السيميائيات: دوسوسير، بيرس وبنفنست

 

مسألة المعنى في السيميائيات: دوسوسير، بيرس وبنفنست

                                                    04 أكتوبر 2020
 ابن الحاج عزالعرب                  



تعريف السيميائيات

    يعرفها فردناند دوسوسير بأنها "هي دراسة حياة العلامات داخل الحياة الاجتماعية"[1]، وقد جاء هذا العلم الجديد الذي ظهر في نهاية القرن 19م وبداية القرن 20م، لفهم الرموز داخل الحياة الاجتماعية للإنسان، وبالتالي فهو يتحدد داخل هذا المثلث: الذات، العالم، الرمز." لأن الإنسان كائن ينمو ويكبر في الرمز"[2]، أي بمعنى لا يدرك العالم بالحواس الخمس فقط، بل يحولها إلى رموز، فيمكن للرائحة، أن تعني معاني متعددة، وكذلك الألوان، وعلامات التشوير التي توجد على جنبات الطرق، كالإيحاءات الجنسية والسلوكات... لذلك يمكن القول بشكل عام بأن السيميائيات "هي دراسة تهتم بمجموع ما ينتجه السلوك الإنساني ويصنف ضمن المضاف الثقافي في حياة الناس، ويدخل ضمن ذلك كل شيء، كالنصوص بكل أنواعها وكذا المفاهيم المعزولة والأحكام المسبقة ومرويات التاريخ، وما نسجته الذاكرة الفردية والجماعية من حكم وأمثال وأقوال مأثورة، وبما فيها أيضا أشكال العمران وحالات العيش والطقوس الاجتماعية[3]."

    إذن فالإنسان كائن ينتج اللغة التي هي عبارة رموز التي بدورها تؤدي معان مختلفة، كما أن هذه المعاني ليست بثابتة، بل يمكن أن تتغير حسب سياقات معينة، فكل مجتمع لديه تصوراته حول طقوس معينة، ودلالات لرموز، كما لديه تصوراته الخاصة للمتعة والألم والموت والسعادة.

  ومع مطلع القرن العشرين بشر عالم اللسانيات السويسري فرديناند دوسوسير بميلاد علم جديد أطلق عليه اسم " السيميولوجيا"، وكانت غايته هي فهم الحياة الرمزية المعلنة والضمنية للإنسان، والتي كانت مهملة قبل ذلك من دائرة الدراسات والتصنيفات. وفي نفس الفترة التاريخية تقريبا كان الفيلسوف الأمريكي شارل سندرس بيرس، يدعو الناس إلى تبني رؤية للتعاطي مع الشأن الإنساني لما يحيط به، وقد أطلق على هذه الرؤية الجديدة اسم السيميوطيقا (وهو الاسم المعرب المتبنى في اللغة العربية ـ السيميائيات ـ). ومنذ ذلك الحين سيخترق هذا المجال الجديد من البحث جميع المجالات التي تبنت نتائجها النظرية والتطبيقية عدة علوم، كالأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا والتحليل النفسي والتاريخ، والخطاب الحقوقي وكل ما له صلة بالآداب والفنون البصرية وغيرها. كما فتحت أمام النقد الأدبي مجالات متعددة في التعاطي مع قضايا المعنى[4].

   فماذا نقصد بالمعنى؟ وكيف نظرت السيميائيات إلى مسألة المعنى؟ وهل هناك نموذج واحد أم نماذج متعددة؟ وإذا كانت السيميائيات تخترق جميع المجالات الإنسانية، فكيف يمكن تحديد موضوعها بدقة لكيلا تتداخل مع مجالات أخرى؟

معنى العلامة

 العلامة signe   باللغة الفرنسية، مأخوذة في أصلها الاشتقاقي من الكلمة اللاتينية Signum   وهي تعني الإشارة أو الرمز أو كل ما يسمح بالمعرفة، والوقع أو التنبؤ، أو هي حركة أو إيماء... يسمح بالتعرف على شيء ما والتوصل إليه[5].

Un signe est une marque, naturelle ou conventionnelle, désignant pour quelqu'un, un objet ou un concept, et destinée à être interprétée par un tiers[6].

  والعلامة Signe   بشكل عام هي كل شيء يكون بمثابة إشارة تدل على شيء آخر، بحيث تذكر به وتعلن عنه كالحمى التي تعتبر عادة علامة على المرض، أو هي كل ما يستعمل اصطلاحا بغرض التمثيل، الإشارة والتحديد، أو هي حركة تسمح لشخص ما بالتعرف على شيء ما كما هو الحال بالنسبة لعلامات عدم الرضا، كما أنها تدل على كل موضوع أو ظاهرة ترمز لشيء آخر، والعلامة تكون إما لفظية أو غير لفظية[7].

معنى المعنى

    إن أي محاولة لتحديد مفهوم المعنى، ستصطدم بمجموعة من التساؤلات مثل": الإنتاج والتداول والاستهلاك والقراءة والتأويل والموضوعية والذاتية والإمساك الحدسي أو الانطباع بالوقائع إلى غير ذلك."[8] إذن فالمعنى لا يوجد خارج هذه العمليات، كما أنه لا يوجد إلا ضمن سياق معين، كما أنه غير محايث للشيء أو منبثق منه بمعنى آخر هل تدل الدموع على الحزن، أو الجو الغائم على الكآبة، أو احمرار الوجه على الخجل، فنحن لا نفهم معاني هذه العلامات إلا من خلال سياق معين كما أن معناها ليس كامنا فيها، فمثلا احمرار الوجه قد يكون من شدة البرد وندرك ذلك في سياق أن الشخص يوجد على الثلج، أما إذا كان في جو معتدل ويوجد في وضع محرج نفهم على أنه خجول، فهذا المقصد من أن المعنى ليس محايثا للشيء ولكن فهو بناء إنساني انطلاقا من سياقات ودلالات مختلفة. إذن يمكن الحديث عن المعنى من زاويتين: الأولى زاوية العلامة أو الشيء أو الواقعة فالرمز أو الدلالة أو الواقعة لا تحمل دلالاتها في ذاتها، أما الزاوية الثانية فهي تعود إلى طبيعة المعنى، بمعنى كإعادة تنظيم الدلالات والبحث عن المعنى العميق أي مختلف المعاني التي ترمز إليها الواقعة أو العلامة.

 مثلا: "أكلت من ثمار هذه الشجرة"[9].

   هذه الواقعة تشتمل على ما نسميه عادة بالمعنى المباشر، ولا يستدعي أي جهد للكشف عنه، بمعنى أن الذات قامت بالفعل ويمكن أن نسميه المعنى الموضوعي الذي اتفق عليه الجميع وينطلق منه الجميع، ولكن المعنى العميق ينفتح على عدة تأويلات فمثلا: قد تكون الشجرة وطنا أو امرأة أو تدل على ألم وحسرة أو على النقيض فقد تدل على السموم والآلام، وهذا المعنى يمكن أن نسميه معنى ذاتيا لأنه يعيد بناء الدلالات وفق سياقات مختلفة.    

فردناند دوسوسير

  يعتبر دو سوسير مؤسس علم اللغة الحديث. وهو سويسري الأصل، درس ببرلين وليبزيج ثم بدأ حياته العملية في باريس حيث درس علم اللغة ثم انتقل إلى جامعة جنيف. وقد طور سوسير مفهوما للغة بوصفها نظاما متكاملا مغلقا على نفسه يمكن أن ينظر إليه وظيفيا وبنائيا. وكان من أوائل من دعا إلى نشأة علم مستقل سماه سيميولوجيا، يدرس حياة العلامات داخل إطار المجتمع. وقد نشر كتاب سوسير بعد وفاته وسمي دروس في علم اللغة العام، ويعتمد هذا الكتاب على المذكرات التي دونها طلاب سوسير أثناء إلقاء محاضراته في علم اللغة في جامعة جنيف ما بين 1909 و1911. [10]

  سنركز في هذا النموذج على المواضيع التالية: التمييز بين اللسان واللغة والكلام، وبين الدال والمدلول، وتعريف العلامة اللغوية عند دوسوسير... لأن هذه الأفكار هي التي قامت عليها الدراسات اللغوية الحديثة.

موضوع علم اللغة

يتطلب فعل اللغة على الاقل توفر شخصين على الأقل وهو أدنى عدد مطلوب. والخطاطة أسفله توضح دائرة الكلام، بحيث يمكن أن نستنتج من دائرة الكلام ثلاث أقسام أساسية وهي:

أ: قسم خارجي يتكون من ذبذبات الصوت وقسم داخلي أي العمليات النفسية.

ب: قسم نفسي: يتشكل مما هو نفسي كالوعي وغير نفسي أي الأحداث الفيزيولوجة.

ت: قسم فعال: أي التفاعل بين الأفراد الذين ينتمون لنفس النظام اللساني أي لغة مشتركة.

 

 

    يفصل فردناند دوسوسير اللغة عن الكلام، فالكلام شأن فردي أما اللغة هي شأن اجتماعي سابقة عن الفرد والذي بمفرده لا يمكن أن يصنعها أو يغير فيها، كما أن اللغة لا يمكن أن توجد إلا بميثاق عقد بين أفراد الجماعة الواحدة، كما يحتاج المرء إلي نوع من التدريب حتى يدرك قواعد اللغة، أما الطفل فلا يستوعبها إلا عبر مراحل. وزيادة على ذلك فاللسان غير متجانس بينما اللغة متجانسة فهي نظام من العلامات تمثل فه الوحدة بين المعنى sens والصورة السمعية[11].

أهمية اللغة داخل المجتمع

   تختلف اللغة تختلف كما قلنا سابقا عن اللسان لكونها قابلة للتصنيف وأنها مؤسسة مستقلة عن غيرها من المؤسسات، ولكي نفهمها أكثر يعرفها دوسوسير: هي نظام من العلامات التي تعبر عن أفكار ومن هذه الناحية فهي مماثلة للكتابة وأبجدية الصم والبكم والطقوس والرمزية ولأشكال وصيغ الاحترام والإشارات العسكرية إلخ...ورغم هذه المماثلة تعتبر اللغة أهم الأنظمة المذكورة."[12] 

  نفهم من خلال هذا التعريف الذي يضعه دوسوسير أن اللغة تتجاوز الكلام والكلمات إلى الرموز بجميع أشكالها، لذلك فهو يحاول أن يدخلها ضمن علم قائم بذاته إلا وهو السيميولوجيا، فهو علم مستقل بذاته يدرس الرموز على شاكلة بقية العلوم، كما أنه يعارض الرأي القائل بأن اللغة هي مجرد نظام للتسمية أو تصرف الي للفرد. لأن اللغة حسبه تخرج عن نطاق ما هو فردي.

العلامة، الدال والمدلول عند دوسوسير

العلامة حسب دوسوسير هي العلاقة الترابطية بين المفهوم والصورة السمعية، والعلاقة بين الدال والمدلول هي علاقة اعتباطية بحيث يقول: "إن الرابطة التي تجمع بين الدال والمدلول هي رابطة اعتباطية. وبما أننا نعتبر العلامة هي المجموع الناتج عن اقتران الدال بالمدلول، فيمكننا أن نقول نتيجة لذلك إن العلامة اللغوية اعتباطية. وحجتنا على ما سبق أن ما يفهم من ـ أخت ـ لا تربطه أية علاقة مع الأصوات المتتابعة (أ ـ خ ـ ت) التي تشكل دالة."[13]

 فما نفهمه من خلال اعتباطية الدال والمدلول لدى دوسوسير هو أن اللغة قائمة على الاتفاق داخل جماعة بشرية معينة وبالتالي فهذا الاتفاق لا يخضع لأي علاقة منطقية وعقلانية بين الدال والمدلول، لكن يمكن للرمز أن تكون له علاقة طبيعية بسيطة بين الدال والمدلول، بحيث يمكن للميزان أن يرمز للعدالة وهذا نوع من النظام العقلاني، بحيث أن الرمز يدل على معنى معين. وعلى رغم اعتباطية الدال والمدلول فهذا لا يعني أن المجتمع في كل مرة يختار معاني جديدة، بل هي مفروضة على الجماعة اللغوية لان اللغة موروثة من الأقوام الغابرة.

تشالرز ساندرز بيرس

 يعرف بيرس (1849 ـ 1914) على أنه أحد مؤسسي علم السيميوطيقا، فقد ولد في كمبردج في ولاية ماستشوستس الأمريكية ودرس في جامعة هارفرد، وكان غزيرا في كتابات بحيث كتب في العلوم والطبيعية والمنطق والرياضيات والفلسفة والأدب.

 العلامة عند بيرس

  العلامة هي شيء ما ينوب لشخص ما عن شيء ما، من وجهة ما وبصفة ما. وهي توجه لشخص ما، بمعنى أنها تخلق في عقل ذلك الشخص علامة معادلة، أو ربما، علامة أكثر تطورا، وهذه العلامة التي تخلقها أسميها مفسرة interpretant للعلامة الأولى."[14]

  مثلا شارة النصر توجه لشخص ما ليفهم معنى ما، فإذا كان دوسوسير اعتبر أن العلاقة بين الدال والمدلول اعتباطية، فإن بيرس أيضا اعتبر أن هناك دال ومدلول، لكن على خلاف دوسوسير. بحيث اعتبر أن هناك علاقة بين الدال والمدلول لذلك فهو يقسم العلامة إلى ثلاثة أنواع: الأيقون والمؤشر والرمز.

فالأيقون Icon هو العلامة التي تشير إلى الموضوعة التي تعبر عنها عبر الطبيعة الذاتية للعلامة فقط. أما المؤشر Index فهو علامة تشير إلى الموضوعة التي تعبر عنها عبر تأثرها الحقيقي بتلك الموضوعة. أما الرمز  Symbole فهو علامة تشير إلى الموضوعة التي تعبر عنها عبر عرف، غالبا ما يقترن بالأفكار العامة التي تدفع الى ربط الرمز بموضوعته، أي هو علامة عرفية[15].

   نفهم من خلال هذا التمييز الذي يضعه بيرس أن الأيقون الدال فيه يشبه المدلول أو يتطابق معه مثلا الصورة تدل على الشيء، فصورة أحمد تدل على أحمد وصورة السيارة تدل على السيارة وتشبهها، كما أن هناك علاقة بين الدال والمدلول. أما المؤشر فالدال فيه يشير إلى المدلول، وهذه العلاقة قد تكون سببية فيزيقية مثلا الدخان يشير إلى النار، أو تجاور مثلا السهم يشير إلى مكان قريب. وأخيرا العلامة الرمزية فالدال فيها يرمز إلى المدلول ولا يشير إليه ولا يشبهه، وهذه العلاقة تعاقدية أو عرفية أو اصطلاحية، كعلامة النصر التي هي علاقة تعاقدية، فمثلا: الأصبعين على شكل غلامة V يرمزان إلى النصر.

إميل بنفنست (1902 ـ 1976)

 يعتبر إميل بنفنست الفرنسي الأصل من أهل علماء اللغة العالميين في مجال علم اللغة الهند أوروبي، غير أن اهتماماته تجاوزت إطار هذا التخصص الضيق نوعا ما حتى أصبحت فلسفة اللغة هي شغله الشاغل في نهاية حياته العلمية. ومن بين أهم مقالاته والتي جمعت في مجلدان عنونت بمشاكل في علم اللغة 1974[16].

      يطرح إميل بنفنست سؤالا جوهريا وهو ما موضع اللغة بين نظم العلامات؟

 نجده يعترض على تصور بيرس في تقسيمه للعلامة إلى ثلاثة أنواع: الأيقون والمؤشر والرمز. ويعتبر هذا التقسيم أكثر عمومية. لأنه بنى كل شيء على العلامة وجعل الإنسان دخل العلامة بكليته حتى مشاعره وافعاله، واعتبر أن نوع العلامة لا يمكنها أن تقوم بدور آخر. لكن بنفنست يعتبر أن العلامة الواحدة خصوصا اللغوية يمكن أن تقوم بأكثر من دور، يقول في هذا الصدد: " إن الصعوبة التي تواجه من يحاول تطبيق مفاهيم بيرس ـ بخلاف تقسيمه الثلاثي المعروف الذي يظل إطارا بالغ العمومية ـ هي أن بيرس يضع العلامة أساسا للعالم بأسره، إذ أن العلامة هي نقطة الانطلاق التي يبني عليها كل عنصر على حدة، وهي ـ أيضا ـ المبدأ الذي يحكم تفسير مجموعات العناصر، سواء كانت هذه المجموعات مجردة أو ملموسة. إن الإنسان، فيما يراه بيرس، في كليته علامة وفكره أيضا علامة وكذلك مشاعره، ولكن هذه العلامات في نهاية المطاف لا تحيل إلى علامات اخرى."[17]  

  وفي الجهة المقابلة يعتبر دوسوسير أن كل شيء يرجع إلى اللغة، فهذه الأخيرة تدرس في حد ذاتها ولذاتها. لذلك وجب على عالم اللغة المهام الثلاث:

1 ـ وصف جميع اللغات المعروفة سياقيا وتزامنيا.

2 ـ استكناه القوانين العامة التي تحكم جميع اللغات.

3 ـ تحديد مجال علم اللغة نفسه وتعريفه[18].

   لذلك يطرح السؤال نفسه، هل يمكن لعلم اللغة أن يعرف نفسه وأن يقوم بالمهمتين الأوليتين؟ لذلك يعتبر بنفنست أن جدة دوسوسير تتمثل في هذا الاقتراح الاخير وهو أن على علم اللغة أن يعرف نفسه وأن يحدد موضوعه. إذن فماهي مادة علم اللغة؟

  نحن نعلم أن سوسير يفصل بين اللسان واللغة، فاللسان صعب الحصر ويختلف من أمة لأخرى ومن شخص لآخر، كما أنه مجال فيزيقي، وأما اللغة فهي ثابتة ووحدة تخضع لقواعد. لذلك كان هم دو سوسير هو اكتشاف القاسم المشترك الذي يشكل الوحدة داخل الخبرات اللغوية. وبالتالي سنعيد طرح السؤال: من أين تستمد اللغة وحدتها؟

    إنها تستمدها من خاصيتها السيميوطيقية، لان دوسوسير يعتبر العلامة مفهوم لغوي، واللغة كما عرفها دوسوسير هي نظام من العلامات وبالتالي فعلم اللغة يحتاج إلى السيميوطيقا وأن العلامة اللغوية اعتباطية. وهذا المبدأ حسب بنفنست هو أساس علم اللغة لذلك نجده يقول في نفس السياق: "إن المبدأ الذي يربط بين علم اللغة والسيميولوجيا هو أنها دراسة للعلاقات الاعتباطية، وهذا المبدأ هو أساس علم اللغة. ومن ثمة نستطيع أن نقول بصورة عامة إن المادة الأساسية التي تتناولها السيميولوجيا هي مجموعة الأنظمة التي تقوم على اعتباطية العلامة[19].

  إذن ما فهمناه من هذا القول هو أن موضوع السيميوطيقا دراسة العلامات الاعتباطية، لأن اللغة لا تتوقف على الكلمات والكتابة فقط،، بل تتعداها الى لغة الصم والبكم والطقوس الرمزية وأشكال التحية والعادات...الخ.

  وبناء على ما سبق سنعيد طرح السؤال الذي طرحناه في البداية وهو: ما منزلة اللغة من علم العلامات؟

   إن دور العلامة هو التمثيل، أي أن تحل محل شيء اخر، وأن يستدعى هذا الشيء باعتباره بديلا عنه. وكما يعتبر بنفنست أن العلامات توجد في شتى مناحي الحياة: أولا علامات اللغة، ثم علامات التحية، والعلامات التي تنظم المرور، وأخرى تنظم الحياة الاجتماعية، والعلامات النقدية التي تشير إلى القيم والمؤشرات الاقتصادية، وهناك أيضا علامات العبادات والشعائر والعقائد، وعلامات الفن بكل أشكالها، وعندما نتمعن في حياتنا نستنتج بأن حياة الإنسان تنبني كلية على العلامات، كما أنها متماسكة، فهي تشكل نظام متماسك، وأي إلغاء لعلامة من العلامات يشل النظام، كما أنها تتكاثر وتتطور داخليا.

 يقسم بنفنست أربع خصائص لهذا النظام السيميولوجي:

 1 ـ كيفية تأدية الوظيفة.

2 ـ مجال الصلاحية.

3ـ طبيعة علاماته وعددها.

4ـ نوعية الوظيفة.[20]

  مثلا إشارات المرور تؤدي هذه الوظائف المذكورة أعلاه، فهي:

1ـ تؤدي الوظيفة بطريقة بصرية وفي الهواء الطلق.

2ـ مجال صلاحيتها هو تنقل العربات.

3ـ طبيعتها تنوع الالوان وتعارضها، وكل لون يرمز الى فعل..

4 ـ نوعية التوظيف هو علاقة التعاقب وليس التزامن...

    يعتبر بنفنست أن اللغة هي النموذج السيميوطيقي الأعلى بالمقارنة مع نظام العلامات الأخرى كالفن والرموز الاجتماعية ...الخ، فهي التي تسمح بوجود مجتمع. يقول في هذا الصدد:" تقوم اللغة بدور خاص بالنسبة للأنظمة الاخرى، فهي تدخل هذه الأنظمة في القالب السيميوطيقي، إذ لا يمكن تصور هذا الدور خارج نطاق اللغة. وهكذا فإن طبيعة اللغة الخاصة، ووظيفتها التصويرية، وقدرتها الديناميكية، ودورها في حياة العلامات تجعل منها النموذج السيميوطيقي الأعلى، والبنية التي تشكل الأنظمة الأخرى التي تستقي منها هذه الأنظمة سماتها ونوعية فاعليتها."[21]

  فمن خلال هذا القول نستنتج أن بنفنست يعطي للغة دورا مركزيا، لأنها هي التي تجعل الأنظمة الاخرى ممكنة وموجودة، وليس لأنها الأكثر انتشارا ولكن لأنها تجمع بين دورين: سيميوطيقي sémiotique وسمنطيقيsémantique .

    فالسيميوطيقي يتلخص في الدلالة، أي العلاقة بين الدال والمدلول. أما السيمنطيقي فيتلخص في الخطاب أو الرسالة، لأن اللغة قادرة على إنتاج خطاب مفهوم. كما أن الرسالة أو الخطاب لا يمكن استخراجه فقط من وحدات سيميوطيقية كالشجرة أو الدب، ولكن من الكل، فالخطاب يستشف من مجمل الخطاب وليس من الجزء.

لذلك نخلص إلى أن في السيميوطيقا يجب التعرف على العلامة، أما في السيمنطيقا فيجب فهم القول. ومن هنا نستشف أهمية اللغة، لكونها تنبني على مجالين هما السيمنطيقا والسيميوطيقا، أما المجالات أخرى فهي لها جانب واحد.

خلاصة

    نستخلص من نموذج بنفنست أن للغة أهمية قصوى في البحث السيميولوجي، لذلك فهو يرجع إلى دوسوسير مؤسس هذا البحث، وينتقد موقف بيرس الذي يؤسس كل شيء على العلامة، فهذا الاخير حسب بنفنست قام بتقسيمات أكثر عمومية لأنه جعل الرمز والعلامة والايقون، منفصلين.

   لكن رغم رجوعه إلى سوسير فهو يتجاوزه، لأن هذا الأخير. توقف فقط عند الكلمة ولم يحلل الجملة. وهذا ما دفع بنفنست إلى إضافة مجال جديد سماه السيمنطيقا أي دراسة معنى الجملة أو الخطاب، بمعاونة اليسيميولوجيا.

 

الهوامش

[1] سعيد بنكراد، السيميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها، مكتبة الادب المغربي، دار الحوار،سوريا ـ الاذقية، الطبعة الثانية 2012،ص9.

[2] سعيد بنكراد، سيميائيات النص، مراتب المعنى، دار الأمان، منشورات الاختلاف وضفاف، الرباط، الطبعة الأولى 2018،ص17.

[3] نفسه.

[4] سعيد بنكراد، السيميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها، نفسه، الصفحات 9 ـ 10 ، بتصرف.

[5] https://www.cnrtl.fr/etymologie/signe

[6] https://fr.wikipedia.org/wiki/Signe

 

[8] نفسه، ص223.

[9] نفسه ص232.

[10] سيزا قاسم، نصر حامد ابوزيد، مدخل الى السيميوطيقا، مقالات مترجمة ودراسات، دار الياس المصرية،القاهرة،ص144.

[11] نفسه،ص148.

[12] نفسه،ص149.

 المقصود بالصور السمعية ليس صورة السمع او ذبذباته ولكن الاثر النفسي الذي يتركه الصوت في المتلقي.

[13] نفس المرجع ،ص154.

[14] نفسه،ص 138.

[15] نفسه، بتصرف،ص 142 .

[16] سيزا قاسم، نصر حامد أبو زيد، مدخل إلى السيميوطيقا، مرجع سابق،ص171.

[17] المرجع نفسه،ص172.

[18] نفسه ص174

[19] نفسه،ص176.

[20] المرجع نفسه،ص178.

[21] نفسه،ص187.


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس