جون لوك ومثالية المنهج المعرفي

 

جون لوك ومثالية المنهج المعرفي

                                09 أكتوبر 2020

د علي محمد اليوسف


تقديم

جون لوك معروفة فلسفته النظرية المثالية المتطرفة في الاحتكام لمرجعية الحواس والعقل التجريبي الذي يبدأ بالحس وينتهي بالذهن والدماغ وهما البرهان الوحيد في معرفتنا صحة الترابط والعلاقات داخل التفكير العقلي في فهمنا حقائق الاشياء في وجودها الخارجي. ويعتبر لوك أن (الحقيقة تتضمن اتفاق الافكار وتناسقها بعضها مع البعض الاخر وليس اتفاقها مع واقعة حقيقية خارجية) 1. أي ليس هناك رابطة بين الفكر والواقع يعطينا حسما معرفيا قطعيا بصحة كل حقيقة سواء أكانت حقيقة فردية منفصلة عن الواقع أم كانت حقيقة واقعية مستقلة تماما عن الفكر.. والمعرفة عند لوك خبرة تراكمية مكتسبة ولا توجد هناك معرفة فطرية يولد الانسان مزوّدا بها، وهذا بطبيعة الحال لا يشمل المورّثات الجينية البايولوجية الخاصة بشفرة جينات كل انسان منفردا.

تلازم الفكر والواقع في المعرفة

بدءا يتوجب التمييز بين أمرين:

أولا اتساق الأفكار داخل تفكير العقل المجرد لا يعطيها ضمانة صحتها التوافقية المتطابقة مع ذاتها، فتطابق الفكر مع الذات داخليا لا يجعل من موضوع تفكيرهما حقيقة صحيحة عن عالم المواضيع والاشياء. ولا تكون حقيقة الاشياء هو في مطابقة الافكار مع حقائق العالم الخارجي المنفصلة المستقلة عن تفكير الذهن. علما أن تفكير الذهن الداخلي المجرد لا يكون افصاحا فكريا إلا في تعبيره اللغوي بموضوع يلازمه الإدراك به.

 حقائق الاشياء والموجودات في الطبيعة وعالمنا الخارجي لا تكتسب حقيقتها الصائبة بدلالة صحة بعض الافكار مع بعضها الآخر في مرجعية الاحتكام للعقل وحده وما ينتج عنه من معرفة نظرية لا علاقة تربطها بوقائع العالم الخارجي الذي يكون الفكر وحده مصدر أدراكه ولا يكون الواقع أكثر من موضوع أدراكي للفكر لا يتداخل مع مدركه التفكيري العقلي بعلاقة جدلية. بل يتداخل معه بعملية إدراك معرفي منفصل متباين يدرك الفكر العقلي فيه تجريده عن المادة موضوع الفكر.

لا تعرف حقيقة الشيء الا بدلالة الفكر العقلي، كما لا تدرك حقيقة الفكر إلا بدلالة تعالقها الجدلي في التعبير اللغوي عن موضوع مدرك.

ثانيا أن حقائق العالم الخارجي من المتعذر البرهنة على صحتها في واقعها المعزول عن حقيقة معرفة الأفكار العقلية المجردة لها إلا بعد دخول تصورات الفكر بعلاقة جدلية تخارجية مع موجودات العالم الخارجي كي ينتج لنا حقيقة معرفية يكون الاتساق الفكري النظري متطابقا فيها متداخلا جدليا مع حقيقة الأشياء في وجودها الخارجي الواقعي. وبغير هذه الآلية الجدلية تبقى حقائق الفكر معزولة عن حقائق الواقع المستقلة غير مبرهن على أنها تحمل صفة الحقيقة في انعزالها عن مرجعية حقائق العالم الخارجي المادية المستقلة في وجودها. حقيقة الشيء واقعيا لا تعرف بغير حقيقة التعبير الفكري عنه. وحقيقة الفكر لا معنى لها من غير دلالة الواقع.

كذلك من جهة أخرى فأن حقائق الواقع الخارجي من غير تداخلها الجدلي مع الافكار العقلية المتسقة صحتها مع بعضها البعض تبقى مواضيع غير مبرهن على صدقها من زيفها بغير دلالة الواقع وليس دلالة الفكر المجرد في التعبير عنها. والفكر من غير موضوع مادي يتمثله إدراكا عقليا يكون لا معنى له ويتعذر حصوله في التفكير...كذلك أشياء الواقع في موجوداتها بالعالم الخارجي مستقلة تبقى لا قيمة حقيقية لها من غير تناولها حسيا إدراكيا ذهنيا بالفكر.

الحقيقة المعرفية لا تكون متاحة بمجرد أنها تعبّر عن موجود واقعي في العالم الخارجي من غير إدراك التفكير العقلي بها القائم على تجربة برهانية تؤكد تطابق الفكرة مع دلالتها الواقعية، وكذا المعرفة الذهنية تبقى تجريدا خادعا بانفصالها عن جدل الواقع معها. صحيح جدا أن تفكير الذهن الداخلي يتعامل مع إدراكه موجودات العالم الخارجي بالأفكار المجردة التصورية في تمثلاتها الواقع. لكن الأهم هو أن الأفكار المجردة لا تعطينا حقائق الموجودات على الارض بمجرد ادراكها...موجودات الواقع هو مصدر الافكار وتفكير العقل المنهجي بها يعطيها حقيقتها الصادقة من حقيقتها الزائفة الكاذبة. الواقع هو مصدر تفكير العقل لكن تمّثلات العقل للواقع هي تخليق مضاف جديد مغاير للموجودات الواقعية المدركة خارجيا ولا يخلق الفكر مواضيع إدراكه ذاتيا، فمواضيع إدراك التفكير العقلي أما أن يكون مصدرها واقع العالم الخارجي وموجوداته، أو يكون مصدرها الخيال الفكري الذي تكون الذاكرة مصدره.

مثالية جون لوك والمعرفة

النظرة الفلسفية المثالية الذاتية التي يحملها جون لوك حول معرفة الحقيقة هي منهج تجريبي فكري ينكر على الواقع أن يكون له دورا في تشكيل معارفنا عن حقائق الاشياء فكل شيء مادي في عالمنا الخارجي ندركه بالفكر التجريدي داخل المخ. وفي غياب هذا الادراك الفكري لموجودات الواقع وعالمنا الخارجي ليس ثمت عالم خارجي موجود. هذا الفهم هو موجز الفهم الخاطئ في فلسفة جون لوك وبيركلي وهيوم وغيرهم من فلاسفة المثالية.

والمنهج التجريبي المثالي الذي يعتمده لوك أن الأفكار لا تلتقي الواقع إلا عن طريق إدراك موجوداته حسيا ثم معالجتها بالفكر المجرد وحده وليس بدلالة ماهية وصفات الموجودات الواقعية التي يتناولها الفكر تجريدا فلسفيا فكريا من غير ما تداخله معها في علاقة جدلية متخارجة.. بل كل شيء يدركه الفكر التجريدي حسّيا يكون بهذا الفكر الادراكي يتحقق وجوده في عالم الأشياء.. وما لا يدركه الفكر تجريدا حسيّا لا وجود حقيقي له في عالم الاشياء الخارجي..

معرفة صواب حقيقة الشيء عند جون لوك تقوم على اتساق الافكار بعضها مع بعض بالذهن داخليا فقط بمعزل عن وجود الشيء خارجه., وما لا يدركه الذهن لا وجود له. وليس مهما مرجعية معارفنا الذهنية الفكرية المجردة تكون في معرفتنا الموجودات الواقعية المستقلة بالعالم الخارجي. فمرجعية افكار الذهن هي افكار العقل ذاته. كما ليس مهما أن نسعى الى مطابقة صحة الأفكار العقلية بدلالة بعضها مع البعض الاخر مع حقائق الاشياء في العالم الخارجي ومحاولتنا ربط استقلالية الفكر مع استقلالية موجودات العالم الخارجي التي لا وجود واقعي لها إلا بضوء ما يظهره لنا الفكر مجردا ونلتزم به عبر ما تنقله لنا الحواس فقط بصرف النظر عن حقيقة الحواس خادعة لا تنقل موجودات الاشياء على حقيقتها، ولا يؤخذ بما تنقله من احساسات أنها صحيحة وليست زائفة..

ولا يشير لوك الى احتمالية أن يكون ما ينتجه الفكر تجريدا عن الأشياء مخطوءا زائفا ولا ما تحمله حقائق الاشياء المادية في الواقع عن معطيات ودلالات خاطئة لا يمكن الاعتماد عليها بما تنقله الحواس, بل نجد لوك ينحاز الى ما يقوله العقل الذهني التفكيري الواصل اليه عبر الحواس تجريبيا صحيحا بالمطلق في ادراكه موجودات وظواهر العالم الخارجي بعيدا عن ارتباط جدلية الفكر بالموضوع.

وبهذا التفسير يكون الفكر وحده هو الذي يخلق حقائقه على الارض ولا يخلق الواقع حقائقه في الذهن والتفكير. وموجودات الواقع التي لا تدركها الحواس ويعالجها الفكر ذهنيا تصبح لا موجودة ولا أهمية لإدراكها جدليا بتعالقها مع الفكر.

بالتأكيد يضعنا جون لوك في مرجحة فكرية قلقة أمام حقيقة إذا ما وجدنا أفكارنا المتسقة ذهنيا مع بعضها داخليا البعيدة عن أية صلة تربطها بحقائق العالم الموضوعي هي ليست صحيحة وتمثل واحدة من شطحات التفكير غير المتزن. ثم الغاء لوك أهمية المجانسة الذهنية مع حقائق موجودات الخارج الواقعية لا يمنحنا حقائق الاشياء. فما يذهب له تفكير الذهن المجرد يمثل حقائق الارض وليست حقائق الارض تفرز صواب أو زيف حقائق التفكير بها.. من الصحيح أننا لا نمتلك وسيلة لإدراكنا موضوعات العالم الخارجي غير لغة التجريد اللغوي التصورية في تمثّلاتنا، لكن يبقى إدراك وجود الشيء هو غير معرفته الحقيقية.

اليس من الاحتمال الوارد الكبير أن افكارنا المتسقة معرفيا مع بعضها البعض كاذبة وزائفة.؟ أنفصال الفكر عن الواقع لا يمنحه تفويضا أنه صحيح بدلالة محاكمة مرجعية التفكير الذهني للعقل وحده بمعزل عن عالم الاشياء الخارجية.. ثم الا يكون احتمالا كبيرا أن تكون أخطاءنا بالتفكير المجرد يقودنا الى أخطاء بعيدة عن حقائق الواقع والحياة؟ وبذلك يكون تجريد الفكر غير الجدلي مع الواقع لا قيمة حقيقية له؟ لأنه معدوم الدلالة التوكيدية في البرهنة على صحته.

أنه لمن الجدير التأكيد عليه أن حقائق الواقع هي التي تصنع التفكير الذهني المجرد الذي لا يقدر هو بدوره تصنيع حقائقه المادية على ارض الواقع...فالواقع موجود مستقل قبل ادراكه الحسي وقبل إدراك التعبير اللغوي الذهني عنه.

حقائق العالم الخارجي هي ايضا تؤكد صحتها وتفرز حقائقها عن زيفها في مرجعية الاحتكام للعقل في تجريده التعبير عنها. وموجودات العالم الخارجي كمدركات وجودية مستقلة لا تمتلك حقائقها الذاتية بنفسها إلا في تعالق تفكير الفكر جدليا بها. كل موجود مستقل في عالم الاشياء يكون هو مصدر الفكر لكن ليس بمستطاع الفكر خلق حقائقه الارضية بمعزل عن أدراكها واقعيا مستقلة الوجود قبل ادراكها.

أمام هذا التضاد المنهجي الإبستمولوجي يصبح معنا التشكيك المشروع السليم أنه لا حقائق الفكر لوحدها تجدي نفعا في معرفتنا حقائق العالم الخارجي، ولا حقيقة العالم الخارجي تعطينا كفالة ضمان أنها حقائق لا تتعارض صدقيتها مع أفكار العقل التجريدية والتجريبية التي تقوم على الجدل وليس على التسليم القاطع أن الفكر لا يلتقي المادة في معرفة الحقيقة الشيئية له. وبهذا الانفصال التعسّفي لا نفهم الاشياء على حقيقتها بدلالة الفكر المجرد المعبّر عنها، كما لا نستطيع فهم الاشياء في واقعها المستقل عن تفكير العقل.

كل معرفة حقيقية مكتسبة عن الاشياء بواقعيتها الادراكية السليمة المستقلة هي كانت مبتدأ بداية اكتساب المعرفة، بدليل أن الفكر في تفكيره بالأشياء وفي التعبير عنها مصدره اكتساب الخبرة والمعرفة عن موجودات العالم الخارجي المستمدة من الواقع. التجريد الفكري هو في كل الاحوال تعبير عن معارف مكتسبة سابقة مصدرها الواقع ليس في ثباته فقط وانما في تغيراته وتطوراته المستمرة، ويصبح العكس اعتبار أن الفكر يقوم بتصنيع حقائق الواقع رأي لا يكتسب أدنى صدقية معرفية. فمثلا حين نعمل وفق بديهة رياضية هندسية أن المثلث يتألف من ثلاثة أضلاع وثلاث زوايا مجموعها 180 درجة، وهي حقيقة علمية مسلم بها ولا يمكن دحضها بعد الاف السنين، لكن التساؤل هل الفكر أستمد معرفة المثلث وصفاته بالفكر التجريدي أم بسابقة مادية معرفية اكسبت الفكر حقيقة علمية ما هو المثلث منذ عصر فيثاغورس وربما قبله، وهل المثلث ابتداع فكري آني جديد أم هو نتاج مادي تم تصنيعه واختراعه ميدانيا وليس نظريا فقط قبل أن يصبح حقيقة علمية بديهية متوارثة علميا لا تحتاج البرهان عليها بمرور الزمن؟

التفكير النسقي المنّظم والمنطقي المجرد الذي يتم داخل الفكر لا يكفي معرفة حقائق العالم الخارجي بدلالة براهين العقل المجردة بدون خلفية معرفية مادية سابقة عليها أعطت الوجود المادي صفة مصدر الافكار بنفس وقت الواقع يستجيب لنتائج تلك الافكار في معالجة الذهن لها. بمعنى جدل الفكر مع الواقع يعمل ليس فقط على إدراك كلا منهما علميا بل باعتبار الجدل التخارجي بين الفكر والواقع يمنحهما تطورهما التلازمي معا. وكلا بمواصفاته الخاصة بدلالة أحدهما على الاخر في تعالقه الادراكي العقلي.

الفهم المثالي لصواب الأفكار

يدعم اسبينوزا في تطرف مثالي تفكير ديكارت المنهجي في محاولتيهما ارضاء الكل على حساب طمس وتضييع الصائب عن الزائف، في مثل تعبيرات ديكارت السطحية قوله " تكون الافكار الواضحة والمتميزة صادقة. إذا ما كانت واضحة ومتميزة، بخلاف الافكار الغامضة فهي غير كافية أو كاذبة )2.

لا يمكن الركون إلى صواب صحة الاستدلال في فرزنا الافكار صادقها مع زائفها بدلالة الوضوح والغموض في التعبير اللغوي، فمعيارية هذا الفرز لا يقوم على وضوح لغة التفكير من غموضها في التعبير عن مواضيعها المدركة. بل فرز الصواب عن الخطأ يتم بدلالة مخرجات التفكير العقلي في تعبير اللغة عن الأشياء المدركة. التفكير خاصية عقلية تجريدية وتعبير اللغة وسيلة توصيل تفكير العقل. بمعنى نقص وعدم وضوح تعبير اللغة عن الافكار منشؤه الدماغ والذهن.

وعلى نفس منهج ديكارت المثالي يعمد سبينوزا في حكمه على صدق الأفكار بمرجعية الاحتكام لله. قوله (معرفة الله هي الاكثر يقينا في كل ما لدينا من معارف، وما عداها من حيث أنها ممكنة نستمدها من معرفتنا الله، أو يمكن على الاقل أن ننظر اليها على ضوء معرفتنا بالله.)3 وهذا نفس المنطلق الذي ارساه بيركلي بعدهما.

هنا لا نريد نذهب بعيدا في وهم حقيقة أن سبينوزا الفيلسوف الكبير لا يفرق بين الافكار وبين الاخلاق عن غير قصدية مسبقة. فهو يعتبر الافكار هو ما يحتويه اللاهوت الديني من مواعظ ورقية لا رصيد لها في التطبيق وهذا ليس مجال التفصيل به. لكن هنا علينا محاكمة صحة الأفكار بما يقوله العلم والتجارب المعرفية وليس ما يقوله اللاهوت من مواعظ أخلاقية لا رصيد لها على ارض الواقع والتطبيق.. أفكار تعبيرنا عن الحياة في مناحيها كافة، لا يغني عنها دلالة صحتها بمرجعية الايمان الديني بأفكار الاخلاق. الاخلاق ليست هي كل افكار الحياة التي نتعامل بها. رغم بديهة التسليم أن كل فكر يحتوي أخلاقه الانسانية يكون مقبولا لكن لا يكون ما يحمله من أخلاق مستمدة من الدين تجعله صحيحا يمكننا تطبيق أخلاقيته في كل مجالات الحياة.

اسبينوزا في عباراته السابقة يتماهى مع فلسفة باسكال وبيركلي في محاكمتهم إدراك الوجود بأكمله بمنطق اللاهوت الايماني الديني فما يعجز عنه الادراك ولا تستطيعه اللغة والأفكار نجد حلوله جاهزة فيما يقوله اللاهوت المستمد من وحي الله به. فالأخلاق التي تعلو منزلة الافكار المعرفية يكون قبول رفضها أو صحتها هو بالتعالق السببي لها مع الايمان الديني. لكن الاكثر أهمية هو استحالة تطبيق ما نجده صحيحا بأخلاق الدين يكون بالضرورة الحتمية صادقا صحيحا منطبقا على أفكار الحياة خارج افكار الايمان الديني.. بمعنى لا يمتلك الانسان ضميرا أخلاقيا بمعزل عن الايمان الديني كما يريده اسبينوزا وبيركلي. كما يؤكد جون لوك أن الاخلاق المنطقية تقوم على وجود الله، وأنكار ذلك سيقوض جميع الإلزامات الخلقية والمدنية.

لكنما السؤال المحرج الذي يبقى بلا جواب كيف يستطيع من لا يمتلك ايمانا دينيا تمييز افكار واخلاق الصح من الخطأ بغياب مرجعية اللاهوت في دلالة الايمان الديني المنهج الوحيد في إدراك الوجود؟ وما هو معيار الصح والخطأ في تفكير الانسان وفي أخلاقه خارج الايمان الديني؟ هل نعاملها بمنهج الوضوح والغموض التي يقول به ديكارت أم يبقى تعطيل العقل عن التفكير العلمي بالإجابة هو الحل؟ ما لم يتم التسليم مقدما بالاحتكام الى مرجعية الايمان الديني قبل العلم وقبل الوضوح اللغوي الديكارتي؟

هل من المعقول تصديق فرضية سبينوزا أنه يحاكم صحة وصواب الافكار بمقياس مقارنة زيفها بالإيمان الديني معتبرا الأخلاق هي اساس صحة الافكار في كل مناحي الحياة بدلالة لاهوت الأديان؟ اسبينوزا في التماهي مع النزعة الإيمانية الديكارتية القائمة على فوبيا الخروج عما كان سائدا في هيمنة الكنيسة المطلقة الرهيبة التي ارعبت ديكارت في محاكمتها غاليلو وأحراق برونو... ذهب إلى الازدواجية العلمية – الدينية بالفلسفة في اعتباره أخلاق الدين هي مصدر ومرجعية كل صواب تفكير ناجح وصائب بالحياة... وبذلك جعل اسبينوزا ميتافيزيقا الايمان هي جوهر الأخلاق وسلامة الافكار معا... سبينوزا كفيلسوف كبير لا يمكن أن يقع بعدم اقراره أن أخلاق الانسان كفكر وسلوك تطورت انثروبولوجيا تاريخيا رغم ما شابه من عصور همجية ألا أن سلوك الانسان المؤنسن بالتعايش مع الانسان من نوعه كان سابقا على ظهور أخلاق الاديان الوثنية والتوحيدية الذي رافق اختراع الانسان الكتابة والتدوين ثلاثة الاف سنة قبل الميلاد... أخلاق الحياة الانسانية سابقة على أخلاقيات الاديان وسابقة على أنها مستمدة من الدين... وبعدما فقدت الأديان الكثير من مرتكزاتها التاريخية اللاهوتية على رأسها (معجزات) الانبياء التي بدأت الشكوك الجادة تطال نكرانها ولا عقلانيتها، لم يتبق أمام الاديان غير المتاجرة بأخلاق السماء المتعالية جدا على أخلاق رجال الدين الكاذبة على الارض.

من الصحيح الذي لا جدال فيه أن الاخلاق في مرتكزها الايمان الديني تعلو جميع المفاهيم النظرية الاخلاقية الفلسفية وفي علم الاجتماع وعلم النفس الفطرية منها والمكتسبة التي تتماشى مع التطابق المفهومي الاخلاقي الديني. وبغير ذلك يمكننا اعتبار انثروبولوجيا وجود الانسان الى ما قبل ظهور الاديان الوثنية والتوحيدية، كان بلا أخلاق انسانية لا فطرية ولا مكتسبة من تجارب الحياة مهما كانت بسيطة.

الأخلاق فطرة غريزية غير جينية موروثة كان يحملها الانسان بهذا التعبير أو ذاك قبل ظهور الأديان في حياة الانسان. التي لا أحد يفكر اليوم أنها في جوهرها التطبيقي الصحيح لا تعطي الإنسان المكانة الرفيعة التي أرادها الخالق له على الارض. ولا من المنطقي انكار حقيقة العديد من عباقرة العلوم في جميع تخصصات المعرفة انجزوا أعمالا خالدة افادت البشرية بما لا يمكن حصره، ولم ينكروا اولويات هرم الاخلاق هي تلك المستمدة من الدين التي لها دور كبير في تماسك المجتمع، لكن لا يعني هذا أن من لم يأخذ بأخلاق الدين كان فاقدا الضمير الأخلاقي الرادع عن كل ما هو خارج الاخلاق الانسانية العليا السامية.

الهوامش:

1.      وليم رايت/ تاريخ الفلسفة/ صفحات 116، 171

 

 


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس