كيف يكون الزمان الحاضر وهما وحقيقة معا؟

 

كيف يكون الزمان الحاضر وهما وحقيقة معا؟

23 شتنبر 2020

د علي محمد اليوسف

يذهب معظم فلاسفة اليونان القدماء قبل سقراط منهم الرواقيين يتقدمهم هيراقليطس وبارمنيدس أنهم يعتبرون الحاضر هو آنية لازمانية غير مدركة ولا وجود لها كتحقيب زماني أرضي يتوزعه الزمان الماضي والحاضر والمستقبل. بل تحقيب الزمان الأرضي هو الماضي والمستقبل فقط ولا زمن حاضر يتوسطهما.

هذا الفهم قال به بارمنيدس وأيده أفلاطون وأرسطو إذ نجده يقول" الآن – يقصد لحظة الحاضر - هو نقطة ابتداء تغييرين متعاكسين - يقصد بهما شد الماضي للحاضر لموضعته وتذويته به من جهة، وشد المستقبل المعاكس للماضي في محاولته تذويت الحاضر له وإدغامه به من جهة أخرى، علما أن الحاضر لا يحتاج البرهنة على أنه مستقبل حركي غير منظور في حاضر متحرك يحدس زمانا. – وذلك والكلام لبارمنيدس التغيير لا يصدر عن السكون. كما أن النقلة – يقصد النقلة الزمانية - لا تبدأ من الحركة التي لا تزال متحركة، وهذه الطبيعة الغريبة للآن (الحاضر) قائمة في الفترة ما بين الحركة والسكون لذا فهي خارجة عن كل زمان." 1 العبارات المحصورة بين شارحتين هي لكاتب المقال.

بداية طالما كانت الحركة والتغيير هما سمتا كل موجود بالعالم منذ هيراقليطس، فإن حركة الحاضر غير المتعينة كقطوعة زمنية لا إدراكية إنما تنسحب علي كل شيء يحكمه التغيير وعدم السكون وفي المقدمة يكون دلالة الماضي بمقايسته بالحاضر الذي لا وجود زماني له فهو بفهم بارمنيدس الماضي حركة تاريخية يحكمها زمان متحرك وليست سكونا زمانيا مدركا، لأن حركة الماضي تعاكس المستقبل الذي يحاول تذويت الحاضر به وموضعته داخله.

وطالما النقلة الحركية لا تبدأ من حركة كما في تعبير بارمنيدس، فهذا يلزم عنه أن يكون الحاضر هو سكون يمكن إدراكه وهو استنتاج لا يقبله العقل قبل الفلسفة بدلالة الزمان مفهوم كلّي مطلق لامتناهي ليس له صفات إدراكية مستقلة ثابتة ولا نسبية وليس له ماهية يمكن إدراكها. والآنية الحاضرة إدراك زماني بدلالة حركة الأجسام والموجودات في الطبيعة وليس بالإدراك المادي المكاني الساكن لها..

لأن الحاضر قطوعة زمنية تحقيبية من زمن مطلق لانهائي لا تحده حدود ولا يتقبّل التحقيب المحال زمانا في تحديده كمدرك لانهائي سرمدي أزلي. وهذا المعيار لا يستثني الماضي كزمان وليس أنثروبولوجية تاريخية في الماضي ولا يستثني المستقبل بدلالة كونهما قطوعات زمنية وتحقيب تاريخي متحرك أيضا لا يمكن إدراكه كونه يتسم بالحركة التي لا يمكن رصدها وتعيينها بغير دلالة حركة جسم مادي يتحرك في الحاضر. هنا يتوجب علينا الانتباه التفريق بين قولنا الماضي كتاريخ أنثروبولوجي عاشه الإنسان كزمن متوقف أصبح ثابتا فهو يتسم بالسكون أكثر من الحركة، بخلاف فهم أن يكون التاريخ زمانيا حركة لها تأثير مباشر في كل من الحاضر والمستقبل. الماضي كزمن هو دلالة في فهمنا الحاضر وفهمنا الماضي هو بدلالة الحاضر له.

وفي حال ذهبنا مع بارمنيدس اعتباره الحاضر الزماني لحظة تتوسط الحركة والسكون ويتعذر رصدها إدراكا زمانيا لذا فهي نقلة وهمية، فهذا يعني أن الحاضر وجود غير وهمي كلحظة تحقيب زماني زائل، وأهم ميزة لقطوعات تحقيب الزمان الأرضي هو أن الزمان كلية أزلية سرمدية جوهرية تحكم كل شيء بالوجود وهو غير مدرك لا بالصفات ولا بالماهية. أي أن زمان الماضي وزمان الحاضر وزمان المستقبل ثلاثتها تعبيرات عن قطوعات زمنية تحقيبية لا يمكن إدراكها كمفاهيم مجردة عن دلالاتها بغيرها من مواضيع الإدراك، ولا كمواضيع مستقلة بدلالة عدم إمكانية إدراكنا الزمان كمطلق أزلي ليس له حدود ولانهائي ولا يتسم بالماهية والصفات بمعزل عن حركة الأجسام والأشياء... باستثناء أننا ندرك هذه القطوعات الزمانية واختلافاتها بدلالة حركة الأرض حول نفسها وحول الشمس وحركة القمر والكواكب الأخرى وقبل كل هذا حركة الأجسام والمدركات في الطبيعة وفي الحياة التي نعيشها التي بدلالتها جميعا ندرك الزمان في تحقيبه الزماني لا في تحقيبه الوقائعي تاريخيا كحوادث يلازمها زمن حدوثها الذي يجعل من حضورها الآني ماضيا متوقفا...

بارمنيدس" يرى التغيير لا يصدر عن السكون، كما أن النقلة الزمانية النوعية بالدلالة لا تبدأ من الحركة القائمة في الفترة ما بين الحركة والسكون لذا هي خارجة عن كل زمان."2. تعبير بارمنيدس هنا صحيح لكنه يناقض نفسه. فعندما يقول بارمنيدس النقلة لا تبدأ من الحركة، فهو يجعل من ثبات الحاضر وسكون الآنية مقياسا يمكن إدراكه في حركة الأشياء والموجودات وكذلك يمكن اعتباره غير وهمي زمانا بدلالة أن حدسنا له كوسيط بيني ندرك الماضي وبه ونحدس المستقبل. والتناقض مع إمكانية إدراك لحظة الحاضر سكون نجد بارمنيدس يؤكد ليس هناك نقلة حركية لا يسبقها حركة حسب تعبيره، فلماذا لا يكون الحاضر وفق هذا المعيار سكونا مؤقتا حركيا يمكننا إدراكه وليس وهما لا وجود له فهو أيضا حركة ساكنة غير مدركة؟ الشيء الآخر إذا اعتبرنا الماضي سكونا لا ينتج عنه حركة فكيف يتسنى لنا إدراك المستقبل بدلالة توسيط الحاضر وليس بدلالة ارتباط الماضي به؟ لا يمكننا تجسير الماضي بالمستقبل من غير انتقالة الحاضر وتشظيتها الزمانية المنقسمة على نفسها بين ماض ومستقبل وهو ما يرفضه أرسطو تماما كما يتوضح معنا لاحقا..

من المشكوك به أننا نستطيع إدراك المستقبل بدلالة الماضي في إلغاء حلقة التوسيط التجسيري بينهما الذي هو نقلة الحاضر حتى لو كانت لحظة انتقالية لا يدركها العقل زمانيا لكنها موجودة فيزيائيا بدلالة الزمن نفسه.. بارمنيدس الذي لا يرى الوجود بأكمله حركة دائبة من الحركات والانتقالات والتغيرات كما هو عند هيراقليطس نجده يلغي الحاضر الآني لأنه حركة وهمية لا تدرك لا في دلالتها الذاتية ولا في دلالة تذويت المستقبل لها في جذبها نحو تكوينه الداخلي، وهي ليست أكثر من نقطة انتقالية تتوسط الحركة والسكون. لذا هذه نقطة الحاضر خارج حسابات الزمان على حد تعبير بارمنيدس وليست زمنا.

وعليه يكون الحاضر أو الآنية وهما تصوريا لا وجود حقيقي له ويذهب معه أفلاطون وأرسطو بهذا التوجه. هنا يبرز تساؤل كيف يتسنى لنا إدراك المستقبل بغير دلالة الحاضر؟ وكلاهما حركة زمانا وليس حركة تحقيب تاريخي أخذت زمنها الساكن كماض ثابت فاقد حركية الزمن. المستقبل لا يمكن إدراكه بدلالة الماضي دون توسيط الحاضر بينهما. لكن إذا ما كان إجماع أكثر من فيلسوف اعتبار الحاضر آنية وهمية لا وجود حقيقي لها حتى لو كانت تمثل افتراضا أنها حلقة وصل تربط دلالة الماضي بدلالة المستقبل. فكيف يكون الخروج من هذا المأزق؟

نجد من المهم الانطلاق من حقيقة أن كل شيء في الوجود يجمع الحركة والسكون معا زمانا وبذا تكون علة إمكانية إدراك الزمن الحاضر واردة كتحقيب زماني. وفي إسقاطنا هذه الحقيقة الفيزيائية على الماضي والحاضر والمستقبل زمانيا، سيكون معنا تجريد الحاضر من صفة تلازم السكون والحركة فيه، هو إعدام ضمان ربط حركة الماضي بحركة المستقبل. فالماضي لا يمكن أن يكون دلالة المستقبل به دونما انتقالة لحظة الحاضر التوسيط في تجسير العلاقة بينهما.

الحقيقة التي لا يمكننا تصورها بسهولة أن الماضي زمانا لا يلد الحاضر زمانيا لكنه بمستطاعه أن يلد الحاضر تاريخيا مجردا عن زمانيته الماضية، وأن الحاضر لا نفهمه إلا بدلالة الماضي والعكس وارد، والحاضر حين يكون نقلة نوعية وهمية زمانا هو أننا ندرك المستقبل بدلالة الحاضر وليس العكس ندرك الحاضر بدلالة المستقبل.. والسبب بذلك أن الحاضر لحظة زائلة سريعة تحسب للمستقبل والماضي معا في تجاذبهما الحاضر وموضعته كلا لوحده به، وكل حاضر سيكون بعد لحظات ماضيا ايضا. ويكون بداية لمستقبل أيضا، وبهذا نكون نعيش علاقة الماضي بالمستقبل من غير توسيط نقطة زائلة بلحظة تسمى الحاضر وهو محال. وهذا ما لا يمكننا تصوره زمانا فلسفيا لكنه في حقيقته الفيزيائية هو واقعة حاصلة.

الزمان في التحقيب التاريخي ليس تاريخا أنثروبولوجيا متجردا عن زمانيته بل هو تحقيب زمني أصلا ولا علاقة تربطه إلا بتبعية حركة الأجسام بالطبيعة وحركة الشمس والأرض والقمر في المجرة الشمسية درب التبانة. والزمان الأرضي يقاس بمدركاتنا لحركة الأجسام والأجرام. لذا يكون التحقيب الزمني على الأرض هو تحقيب زمني أرضي من أجل تنظيم الحياة وإلا بغير هذا الفهم نصطدم بحقيقة الزمان وحدة كلية لا يمكن تقسيمنا له بالزمن نفسه، تقسيم الزمان أرضيا في تعاقب الليل والنهار والأسبوع والشهر والسنة والفصول. الحقيقة التي نعيشها ولا نستطيع التثبت منها أن كل شيء في الوجود هو سكون ومتحرك معا نحو الزوال والاندثار مخليا موقعه لما بعده، كما يكون كل متحرك مدرك لنا بدلالة سكونه النسبي في طريقه إلى زوال. وقولنا مع بارمنيدس لا تنتج الحركة من سكون سابق عليها بل من حركة أخرى تجانسها سابقة عليها يؤكد ما سبق لنا ذكره أن كل شيء بالوجود هو ساكن ومتحرك زمانيا. وحركة الأشياء تنتج عنها تغيرات حيث يصبح ما هو حاضر هو في حقيقته الحركية مستقبلا زمانيا بمجرد تعبيرنا عنه في الحاضر الذي نعيشه، ويصبح ماضيا بدلالة المستقبل له.

وهذا يرجعنا الى الحقيقة التي أنكرناها على الفلاسفة الإغريق بأن الحاضر آنية غير حقيقية وهمية. لكننا بغير هذه الآنية الوهمية في حاضرنا لا يمكننا معرفة الماضي ولا إدراكنا صنع المستقبل بأفكار الحاضر ومنجزاته المادية بالحياة... بضوء هذا كيف يمكننا التمييز والاثبات في حقيقة التناقض أن الحاضر لحظة وهمية، وبنفس الوقت الذي يكون فيه الحاضر دلالة إدراكية لمعرفة تحقيب الزمان الى ماض وحاضر ومستقبل.؟

كيف يدرك العقل العدم؟

يذهب أرسطو (إلى أن الآن أي الحاضر لا يوجد فيه حركة ولا سكون) 2، أول ما يتبادر في الذهن بضوء تفسيرنا العبارة هو التساؤل كيف يمكننا إعدام الحركة والسكون في الحاضر اللتين هما خاصيتين زمانيتين غير مدركتين كموضوع للعقل؟ أي حينما تكون الآنية الحاضرة وهما غير مدرك عقليا كيف نضفي عليه صفات ما هو مدرك في الاجسام المادية هما صفتي الحركة والسكون؟ بعبارة أخرى كيف يمكننا إعدام عدم غير متعين ادراكا علما أن العدم لا يمكن إعدامه بفاعل ولا يمكنه إعدام نفسه ذاتيا كون العدم خلاء غير موجود مدرك ولا مدرك زماني أيضا. لكنه دلالة موت الكائنات الحيّة واندثارها. ونحن بهذه الحال نذهب إلى أن كل مدرك بدلالة غيره يكون مدركا هو أيضا بالسببية الترابطية بينهما. الإدراك بالدلالة هو شكل ثان من الإدراك المادي المباشر لمواضيع الطبيعة وموجودات العالم الخارجي من حولنا.

إن ما يجعل من عدم إدراكنا الحاضر كونه وهم لا حركة ولا سكون، بل هو آنية انتقالية وهمية حسب بارمنيدس وأفلاطون وأرسطو، سببه أن انتقالة الآنية الحاضرة الى ماض مدرك في نفس وقت اندغامها في مستقبل غير مدرك وتصبح بذلك وهما عدميا متشظيا بدلالة غيره، وهذه التشظية إنما تكون بهذا انتقالة اسرع من إدراك العقل رصد زمانيتها، والشيء المهم أن زمانية انتقال لحظة الحاضر إلى تشظيه المنقسم بين ماض انتهى ومستقبل افتراضي غير مدرك قيد الصيرورة المستمرة، يصبح الحاضر بذلك عدما لا يتحدد إدراكيا بصفات زمانية هي الحركة والسكون. وهذا مناف لبينية الحاضر تجسيره علاقة الماضي بالمستقبل من الناحية الزمانية في نفس وقت أن يكون وهما ادراكيا للعقل من الناحية الفيزيائية. الزمان الكلي كمفهوم مطلق وقطوعات التحقيب الزماني له كتاريخ يمكن ادراكه هي في حقيقته غير مدرك وزائف لأن الزمان لا يدرك بغير دلالة الاجسام المتحركة. والتاريخ دلالة ثابتة فاقدة لحركة تاريخانيتها المطلوبة.

عندما أقول بيدي أحمل كتابا اكون في اللحظة الآنية في قولي تلك العبارة اصبحت خارج ادراكها كحاضر للمتلقي بدلالة انشطار العبارة الى ماض مستقل ومستقبل افتراضي مستقل، وهذه اللحظة الانشطارية لا يدركها العقل كوحدة حاضرة مستقلة بذاتها لأنها محكومة بحركة غير مدركة وسكون غير موجود في وهم عدمي غير موجود. لذا تكون وهمية الحاضر لا يمكن إدراكها لكن الأهم من ذلك أنها تبقى دلالة تتوسط الماضي والمستقبل سواء أدركها العقل أم لم يدركها.

الحركة والسكون صفتا كل شيء مدرك

في التأكيد على أن الآنية لا تقبل القسمة على نفسها حسب افلاطون وأرسطو، وأن الحركة في الآنية مستحيلة كما هو السكون معدوما فيها، فعلى أي أساس معياري أقمنا حكمنا على أن الآنية وهما زمنيا لا يمكننا إدراكه، وهي ليست موضوعا لإدراك حتى خيالي غير فيزيائي كونها في تجريدنا لها من صفتي الحركة والسكون انما جعلناها (وهما عدما) والعدم لا يدرك فهو دلالة افتراضية تلازم إفنائها الموجودات الحية في الطبيعة وحياة الانسان والعدم لاشيء موجود ولا مدرك بغير دلالته الافتراضية الإفنائية للموجودات الحيّة. يورد المفكر عبد الرحمن بدوي ما يلي (الآن هي حدين زمانيين – يقصد الماضي والمستقبل - فاذا أمكن شيئا أن يتحرك في الآن أو أن يسكن فيه، فأن الشيء الواحد المتحرك في الآن متحركا وساكنا معا، متحركا بوصفه في نهاية أحد الزمانيين ساكنا عند بداية الآخر- لكنه بدوي نجده يستدرك في تكملة قوله - الحركة والسكون في الآن غير ممكن).3 سبق لي أن اوضحت اننا لكي نخلص من فرضية اعتبارنا الحاضر أو الآنية وهما زمنيا لكنه واقع فيزيائيا، هو في أن نعتبره على طبيعته الفيزيائية يجمع بين الحركة وبين السكون. وبخلاف هذا الفهم نعود الى نقطة البداية التي تتعامل مع الآنية ك(عدم) غير مدرك وليس وهما غير مدرك ويوجد فرق بين المعنيين. العدم لا وجود مدرك ولا هو وهم افتراضي بل هو دلالة مجردة تلازم افنائها كل حي بالحياة والطبيعة.. بينما الوهم لا يمتلك الصفات الإفنائية للموجودات، وأن نعتبر الوهم عدما هو مجاز لفظي يساوي بين الوهم والعدم وهما مختلفين.

عندما نخلع على الآنية أو الحاضر صفة الحركة لا يعني هذا أنه أصبح مدركا عقليا موجودا، بل أن حركته أصبحت جزءا من ماض انتهى حاضرا، وعندما نقول الآن هو سكون يسبق مستقبلا غير مدرك فإننا ايضا وضعناه وهما وجوديا.. لكن الاهم من كل هذا أن الشيء الذي تجاهله عبد الرحمن بدوي هو أن الحاضر في حال حكمنا عليه زمانية وهمية ونقلة مؤقتة لا يمكن إدراكها، فإنما بهذا نعتبرها ليست وهما غير موجود لأنه غير مدرك عقليا. فهي (الآنية) مرحلة نقلية منقسمة على نفسها بين قطبين متعاكسين هما الماضي من جهة والمستقبل من جهة أخرى، لذا فهي ليست عدما افتراضيا وإنما وهم غير موجود.

فالآنية بعدم إدراكنا التشظي المتعاكس لها بين ماض ومستقبل، إنما تكون الآنية دلالة افتراضية زمنيا في تسهيلها لمدركاتنا بين فهم الماضي وإدراكه وفهم تشكيل المستقبل وإدراكه. لذا فهي أي الآنية تجمع بين الحركة والسكون معا خارج أدراكها العقلي في اعتبارها وهما وهذا لا يلغي وجودها الزماني الفيزيائي، فمدركاتنا ماهية الزمن لا يدركها العقل وغير متوفرة ولكن هل ممكنا اعتبارنا الزمان وهما لعدم إمكانية إدراك العقل لخصائصه وماهيته المنفردة ونعتبره وهما وهو يدخل في دقائق الاشياء التي نتعامل معها في الطبيعة والحياة كون عجز العقل ادراكه الزمن كموضوع؟ لا ليست الحقيقة بهذا التبسيط المخل.

الزمان وحركة الجسم

المعتقد الذي لم يفارق أرسطو هو في اعتباره الزمان هو مقدار حركة الشيء وليس هو حركة. يعود الى برهنة نظريته هذه بمقولته العبقرية (الزمان لا يحدد بالزمان) 4، وهي مقولة صائبة صحيحة مئة بالمئة. ويذهب إلى وجوب التفريق بين حركة الجسم وبين زمانية تلك الحركة، بقوله أن حركة الشيء داخل الزمان، هي سرعة بطيئة وسرعة سريعة وكلتاهما خارج الزمان الذي يحتوي الجسم أو الشيء، معتبرا الزمان هو رتابة من الانتظام الثابت الذي لا يتغير، بينما يكون الجسم أو الشيء داخله هو حركة لا منتظمة ولا رتيبة وبذا يرسي ارسطو مفهوم ان الزمن ليس ما يدرك بدلالة حركة الجسم التي سبق وقالها كون الزمان لا تدرك زمانيته بخلاف الاشياء التي ندرك زمانيتها بدلالة حركتها داخل الزمن. بعبارة ثانية أوضح أراد أرسطو القول أن الزمان ازلي سرمدي وهو كلي وحدة واحدة لا يمكن تجزئتها كمفهوم مطلق، ولا حتى كقطوعات زمنية تحقيبية هي صفات زمنية للأشياء المتحركة بلا انتظام وليست صفات ماهوية للزمن الثابت المنّظم وهو محق.

وفي تعبير بدوي لشرح ما أورده أرسطو نقلا عن المصدر الأجنبي يشير الى أن الزمان لا يكون زمانا إلا في مجانسته الحركة، عندما يكون الزمان والحركة من جنس زمني واحد يحدهما ويجمعهما معا، وبذلك يعود أرسطو إلى أصل مقولته الزمان يقاس بدلالة حركة الاجسام ولا يمتلك الزمان حركة ذاتية مستقلة يمكن ادراكها بغير دلالة حركة الاشياء والاجسام داخله. الزمن مقدار حركة جسم معين لكنما الزمان ليس حركة مدركة بغير دلالة حركة الجسم.

ويذهب أرسطو أبعد من هذا في مخالفته الرأي السائد فيزيائيا المكان يرتبط ادراكه بزمن يلازمه، ليستنتج أن الزمان الملازم للمكان، هو الذي يسير بدلالة المكان وحركته وليس العكس الزمان يقود حركة المكان الذي يعرف بدلالة الزمان.

يشرح ارسطو كيف (يكون الزمان ليس حركة، ولكنه لا يقوم الا بدلالة الحركة التي تتضمن مقدارا أو عددا) 5، وقبل الانتقال لمناقشة العبارة نرى تفسير عبد الرحمن بدوي لها قوله (ثمت نوعين من العدد، عددا موضوعيا وهو للأشياء القابلة للعد، وعددا ذاتيا هو الفكرة التي يكونها العقل وبها يعد الأشياء القابلة للعد وهذا الاختلاف هو ما تقوم عليه الآنية).6

نتساءل هنا بدورنا:

-         هل الزمان الذي هو مقدار حركة الجسم، والذي هو ليس حركة ذاتية يختص بها يقاس بمقدار "كمي" أم بمقدار عددي؟ أرسطو نقل عنه بدوي ذهب نحو الاختيار العددي. ولم يوضح لماذا وكيف يكون تمييز مقدار الحركة بالكم عنها الاختلاف بالعدد؟

-         هل الزمان يمتلك ذاتية عددية خاصة به، تقوم على دلالة عددية منفصلة عن عددية المكان في قياس حركته عدديا داخل الزمان الذي يحتويه؟

-         واضح يمكن تمرير الاختلاف بين العدد الموضوعي وبين العدد الذي هو فكرة مكتسبة يختزنها العقل تجريدا، لكن هذا التمايز ما أوجه تعالقه بالزمن الآني الذي استنتجه عبد الرحمن بدوي؟ كيف يتم ربط العدد كفكرة أو كموضوع بالآنية الزمانية؟ الإجابة لمجرد تدعيم نظرية أن الآنية لا تنقسم على نفسها لا بالكم ولا بالعدد.

الآن بين التوسيط وعدم الانقسام

هل الآن حاضر وهمي أم حقيقي غير قابل للقسمة؟ بحسب أرسطو يذهب الى تحديد الآن بالمحددات التالية:

-         الآن ليس جزءا من كل لأن الجزء مقياس للكل، والكل لابد أن يكون مركبا من أجزاء، بخلاف الزمن ليس مركبا من آنات.7

-         الآن لا ينقسم لذا لا يتركب ما ينقسم مما لا ينقسم 8

-         الآن لا يوجد فيه حركة ولا سكون .9

 الآن بمعنى الحاضر هي جزء من الكل الزماني في المجانسة الكيفية الواحدة، ولو كانت الان جزئية مغايرة الكيفية الزمانية فلا يمكنها التوسيط التجسيري بين حدين زمانيين هما الماضي والمستقبل. صحيح جدا أن الانية هي زمن جزئي بسيط نقطة زائلة لكنها تحتفظ بماهية زمنية ليست متناقضة مع ماهية كلية الزمان الأزلي غير المدرك. ثم لا يوجد ما يدعم أن الزمان كيفية غير قابلة الى تقسيم تحقيبي زماني مدرك ولا إلى آنات لا نهائية. مقولة أرسطو الرائعة (الزمان لا يحدد بالزمان) مقولة النقص بها أنها تتعامل مع الزمان الكوزمولوجي وليس تعاملها مع الزمان الأرضي المختلف عن الزمان الكوني. وهذا كان سابق على معرفة ارسطو أن فيزياء الزمان تضع حدا فاصلا بين زمان ارضي وزمان كوني أزلي مطلق، فهما يحملان دلالة زمنية واحدة كنوع ويفترقان بماهية وكيفية مغايرة وصفات ايضا.

من غير المقبول تمرير أن الآنية ليست جزءا متجانسا مع زمان كلي سرمدي أزلي كقطوعة زمنية مشتركة مع الكلية الزمانية بالصفة النوعية، مما يترتب على عدم المجانسة أن الآنية ليست زمانا وأن تكون ماهية ليست زمانية وزجها ومعالجتها على أنها توسيط لحظة انتقالية غير مدركة زمانيا، هذا غير وارد ولا صحيح. كما أن الانية لا تمتلك مجانسة الزمان خطأ ينسف كلية الوحدة التجانسية للزمان.

الزمان كمفهوم يعبر عن دلالة مطلقة أزلية لا يقبل التجزيء والتقسيم صحيحة جدا كما وردت في تعبير أرسطو العبقري (الزمن لا يحدد بالزمان) هو توكيد أرسطو لحقيقة الزمان كلية موحدة واحدة ازلية كمفهوم مطلق لا يمتلك الانسان معرفة ماهيتها كما لا يعرف آلية اشتغالها. ثم بهذه المقولة ميّز أرسطو بين مفهوم الزمن كمطلق لا يتجزأ، وبين مفهوم الزمن الأرضي الذي يقبل القسمة والتحقيب بدلالة حركة الأجسام بدون معرفته المرجعية الفيزيائية الحديثة التي تؤكد ما ذهب له..

أما تعبير أرسطو نقلا عن بدوي بأن الآن لا ينقسم وبذا لا يتركب ما ينقسم مما لا ينقسم، فهو يحمل تساؤل مررنا به أكثر من مرة هو إذا كانت الآنية لا يتوزعها التوسيط التجسيري بين تحقيبين زمانيين هما الماضي والمستقبل من دون انقسام تجانسي زمني معهما فكيف يمكننا الاستدلال بأن الآنية وهم غير موجود لأنه غير مدرك عقليا، في نفس وقت تجاهل أن الآنية فيزيائيا شغالة دائمية في مهمتها تجسير قطوعات الزمان التحقيبية على الأرض حينما لا يكون الزمان مفهوما مطلقا لا يدركه العقل ولا تحد حدوده الازلية السرمدية. الشيء الذي ينهي اشكال عدم مجانسة الانية الحاضرة مع الزمان هو في التمييز بين الزمان الأرضي باختلافه عن الزمان كمفهوم كوني مطلق لا يقبل المقايسة الاستدلالية به في قول عبارة ارسطو الزمن لا يحد بالزمان وهو يقصد الزمن كمفهوم مطلق غير مدرك.

ختاما علينا التنبيه أن آنية الحاضر هي استدلال لا ضير أن يكون وهميا بالقياس لمدركات العقل، لكنه موجود كدلالة افتراضية غير وهمية زمانيا بمنطوق علم الفيزياء، بدليل كثير من الظواهر وقوانين الطبيعة والحياة العامة التي تحكم الانسان هي قوانين غير مدركة عقليا، لكن عدم ادراكها لا يترتب عليه نزع فيزيائيتها الشغالة الدائمة في تنظيمها حياة الانسان في الطبيعة منها قوانين الفيزياء الطبيعية هي ليست قوانين العقل في ادراكه أو في عدم إدراكه نظام العالم الخارجي من حولنا. فمثلا قولنا الان ليست استدلالا لماضي ولا لمستقبل، ونزع صفتي الحركة والسكون عنها يحتاج اثبات برهاني فلسفيا، لكن الفيزياء العلمية وليس الفلسفة تجعلها موضوعا فيزيائيا بالدلالة قائما لا يحتاج البرهنة الفلسفية له.

الهوامش:

1.     عبد الرحمن بدوي /الزمان الوجودي/ ص 59

2.      نفسه ص 65

3.      نفسه ص 63

4.      نفسه ص 62

5.     نفسه ص 62

6.     نفسه ص 63

7.     نفسه ص 65

8.     نفسه ص 65

9.     نفسه ص 65   

 


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس