أفلاطون وأسبقية المكان في تنظيمه عشوائية الزمان
د علي محمد اليوسف
تقديم
"يرى افلاطون أن الزمان ليس أزليا، لأنه مخلوق من
صانع، أفلاطون لم يعتن العناية الكافية بالزمان كمثل عنايته بالمكان، ولم يضعهما
في مرتبة متساوية متكافئة في تعالقهما الإدراكي، كما يرى أفلاطون أن الزمان مظهر
من مظاهر نظام العالم، بينما المكان إطار موجود – يقصد إطارا للزمان- موجود
بالضرورة منذ الأزل، مستقل عن الصانع أي أن – المكان – مستقل عن الصانع وغير مخلوق
منه " 1
وما يبدو مفارقة لنا أن أفلاطون "يعتبر الزمان
بخلاف المكان شرط ضروري سابق على فعل الصانع وهو عامل ثالث يضاف إلى الوجود والصيرورة
ولولاه لم يستطع الصانع أن يحدث النظام الظاهر في العالم." 2
نستنتج فلسفيا من عبارات أفلاطون المار ذكرها ما يلي:
1.
المكان بخلاف تصوراتنا المأخوذة عن فلاسفة محدثين بدءا
من كانط ما بعد الفلسفة اليونانية يرون حقيقة أسبقية المكان على الزمان أو
تلازمهما التزامني بينهما جدليا على الأقل فيزيائيا بما يقبله العقل، والمكان بلا
تأطير زماني هو موجود لا يدركه العقل.
نجد حسب رأي أفلاطون
المكان تأطير أزلي لزمان مخلوق سلفا من صانع لجعل هذا التأطير المكاني للوجود يقوم
على وجود زمان نظامي له، وينعدم المكان وجودا تأطيريا بغير هذه العلاقة التي ترى
الزمان وجودا أزليا من صانع ولا يرى في المكان(الطبيعة) كوجود نفس النديّة
التكافؤية بينها والزمان. الطبيعة أو المكان هي ليست مخلوقا من صانع فالطبيعة معطى
أزلي عشوائي بلا نظام من غير صانع، لا كما هو حال الزمان المصنوع بقدرة صانع ليس
للقيام بمهمة تنظيم عشوائية المكان بل العكس في تكييف الطبيعة نفسها لمدركها
الزماني وتنظيم نفسها بدلالته...
لذا يكون كل مدرك مكانا
هو موجود بعدي على الزمان لا قبلي دونما زمن قبلي يزامنه ويلازمه الوجود حسب تفسيرنا
لأفلاطون، وهو فهم قريب من فلسفة كانط بعيد جدا عن فهم برجسون، فكانط يجد الزمان
والمكان هما قالبا الإدراك العقلي الفطريان للأشياء وليس هناك تراتبية افضلية في
اسبقية أحدهما على الاخر كونهما قالبين فطريين مزروعين بالدماغ بالولادة.
بينما ينكر برجسون أن تكون
مدركاتنا المكانية هي في حقيقتها زمانية صرفة كما يدركها العقل لا كما يفترضها
المنطق كموجودات. وأن المكان لا يدرك من غير زمان يلازمه.... وهنا يرفض برجسون
حقيقة لا مكان لموجود يمكن إدراكه بلا زمن يلازمه ويزامنه حيث يعتبر برجسون هذه
الشرطية الزمانية للمكان أن يوجد بها إدراكيا بدلالة الزمان ليست صحيحة حتى من
الناحية الفيزيائية العلمية.. ويفهم برجسون المكان مدركا حسّيا عقليا معطى جاهزا
لا يحتاج زمانا يحتويه ويؤكد وجوده الادراكي احساس الحواس له فقط بداية قبل أن يأخذ
سلسلة المنظومة الادراكية للعقل مثل الجهاز العصبي والوعي والتفسير الذهني ومن ثم
ردود أفعال العقل التي تأخذ مضمون الفكر وشكل اللغة التعبيرية عن كل مدرك عقلي.
برجسون هنا يقترب كثيرا من افلاطون ويبتعد جدا عن مفهوم كانط.
فالطبيعة موجود أزلي
يقوم على تنظيم ذاتي مسبق تحكمها قوانين ثابتة، وليس الزمان معطى غير مدرك ماهويا
يقوم على حفظ إدراكاتنا المكانية بنفس أهمية أنه يحفظ للطبيعة قوانينها العامة
الثابتة التي تحكمها وتحكم الإنسان معها. هنا نجد نظام الطبيعة الزماني المقترن بأزلية
وجود الطبيعة لا علاقة للزمان المخلوق أزليا بها لا من قريب ولا من بعيد.
فأزلية نظام الطبيعة غير
المصنوع سابق على أزلية نظام الزمان المخلوق من صانع حسب أفلاطون. المفارقة
العجيبة الأخيرة حسب العبارة المقتبسة الثانية تؤكد أن الزمان سابق على الصانع،
وبهذا يكون المكان والزمان كلاهما غير مصنوعين (قصديا) من صانع بل كلاهما مفروضين
قبليا عليه من مجهول يتعالى على الصانع نفسه. بمعنى أن العالم الطبيعي والإنسان
وجدا منذ الأزل هكذا ولا دخل لصانع في صنعهما وخلقهما. هذا الفهم تعبير يلتقي
فلسفة كانط بالمضمون فيما وراء معنى تعبير اللغة فقط.
2.
على العكس مما نتصوره أن الزمان هو نظام الأشياء في
الطبيعة والكون، وعليه لا تكون هناك قوانين طبيعية ثابتة تحكم الطبيعة والكون والإنسان
لا تكون زمانية مطلقة أزلية. بمعنى أكثر وضوحا أن الطبيعة لم تكن نظمّت نفسها
بقدراتها الذاتية التي تحكمها قوانين ثابتة من حيث أن أفلاطون يري أسبقية الزمان
على الوجود المكاني الذي هو تأطير زماني نظامي لاحق على الطبيعة بعدي عليها وليس
قبلي لها ينظمها. فالطبيعة هي التي تمنح عشوائية الزمان نظامه المتجانس مع مدركاته
المادية التكوينية لها. وليس العكس أن الزمان هو الذي يقوم على تنظيم الطبيعة
والمكان عشوائيتهما الوجودية غير المنتظمة.
بمعنى الطبيعة في قوانينها
الأزلية هي التي تحكم تأطير الزمان من العبثية واللانظام وليس العكس أن الزمان هو إدراكنا
تنظيم الطبيعة في قوانين ثابتة زمانية لا تتغير. الشيء المهم في هذا التفسير أن
الطبيعة مخلوق منّظم بمعزل عن الصانع وعن فكرة الزمان مخلوق لتأطير الطبيعة له وليس
العكس مما يذهب بنا التفكير أن الزمان الذي هو نتاج صانع قام به، هو عشوائي بما يجعل
الطبيعة في نظامها غير المخلوق عن صانع تقوم بتنظيم الزمان مخلوق الصانع في
عشوائيته العبثية.
الفهم المسبق الراسخ تداوليا هو كنا نرى تنظيم
الطبيعة انما هي خاصية الزمان في حفظه قوانين تنظيم الطبيعة الثابتة لها من
الانتهاك وهو خلاف ما ذهب له أفلاطون. فالطبيعة عنده مالم تنّظم نفسها في تأطيرها
هي الزمان سيكون ادراكها المنّظم معدوما. هنا يمكننا القول ان الطبيعة تعقل نفسها أكثر
من إمكانية الزمان يعقل ذاته. وتبدو الفرضية الثانية أكثر مقبولية بالقياس الى
الطبيعة التي لا تعي ذاتها ولا تعي الموضوع فكيف يمكنها تنظيم الزمان كمدرك موضوعي
لها.
3.
والمكان عند أفلاطون ليس (مخلوقا) منظمّا من صانع يسبق أزلية
الزمان المفروضة على الصانع بلا إرادة قصدية منه في مهمة تنظيم الطبيعة والعالم..
وحسب فهم أفلاطون للزمان الأزلي المخلوق تكون الطبيعة وجودا اعتباطيا غير مخلوق من
صانع إنما وجودها مقترن بالضرورة الأزلية في احتواءها الزمان السابق عليها وتنظيمها
لنفسها زمانيا بدلالة لانظام الزمان نفسه. بمعنى الطبيعة هي تكيّف زماني وليس
الزمان تكيّف ادراكي لها.
بعبارة ثانية الطبيعة لم
توجد تنظيميا كمعطى ازلي وجد هكذا بنظامه ويبقى هكذا، يدهش العقل البشري قبل شرط إلزامية
وجود الطبيعة من أجل تأطيرها هي لزمن الإدراك لوجودها. بمعنى يشوبه الغموض أن
الزمان هو قلب الطبيعة ومحتواها وليس هو تشكيل إدراكاتنا للطبيعة خارجيا بصفاتها
الخارجية البائنة المحسوسة والمدركة. وبالطبيعة المنتظمة ندرك لانظامية الزمان
العشوائية في تعامله معها في تأطيرها الزماني له. بمعنى عشوائية الزمان هو ما تقوم
الطبيعة تنظيمه، وليس عشوائية المكان هو ما يقوم الزمان تنظيمه. بضوء تفسيرنا
لمفهوم أفلاطون حول علاقة المكان بالزمان.
4.
المفارقة الغريبة في مطلق
وازلية الزمان المخلوق من صانع عند أفلاطون، هو أن تكون الطبيعة وجودا عشوائيا من
دون زمن سابق على موجوديتها الطبيعية المكانية أنطولوجيا وهي موجود ازلي من غير
الصانع للزمان.. حيث المكان يؤطر الزمان وليس الزمان يؤطر المكان. لذا فالزمان
ينظم الموجودات ليس بقوانين الطبيعة العامة الثابتة التي نتعامل بها فيزيائيا
علميا، بل الطبيعة والموجودات تؤطر نفسها توافقيا متكيّفا مع الزمن الادراكي لها
في تبعيتها هي للزمان لا في تبعية الزمان للطبيعة.
5.
المكان عند أفلاطون كما ذكرنا لا يسبق الزمان ولا يوازيه
وجودا ولا يكافئه ولا حتى يداخله تزامنيا- مكانيا. بمعنى الزمان لم يخلقه الصانع
لعلة وسبب تنظيم المكان (الطبيعة).. بل أن المكان حسب تعبير افلاطون موجود
بالضرورة الازلية والذي لم يخلقه الصانع انما دوره تأطير الزمان في نظام الاشياء
والطبيعة.. مما يرتب على هذا استنتاجنا أن المكان وجود غير موجود ولا يكتسب
موجوديته إلا بتأطيره هو لنظام الزمان الذي تخلعه الطبيعة عليه وليس العكس، وليس
اسبقية تنظيم الزمان على المكان. فالمكان خلق من أجل إعطاء الزمن معناه الفيزيائي
وليس الزمان خلق من أجل إعطاء المكان تعينّه الانطولوجي المنّظم.
6.
أخطر الأمور التي تترتب على فهم افلاطون لمعنى علاقة
الزمان بالمكان هو قول افلاطون أن الزمان غير ازلي لأنه مخلوق من صانع – يقصد
الزمان فان زائل بينما هو في فهمنا ازلي ابدي لا يفنى - وهو ما يضعنا امام محنة أن
ازلية الصانع المرتبطة بلا ازلية الزمان تكون قائمة بالملازمة الإفنائية العدمية
لكليهما معا، والصانع يفنى بفناء محدودية خلقه لزمان غير أزلي. كون ما ندركه من
الزمان هو تنظيمه لمدركاتنا ليس في زمنها الإدراكي عقليا بل في وجودها الأنطولوجي.
وبعدم ازلية الزمان تنعدم معه أزلية الصانع له. أي في انعدام ازلية الزمان ينعدم
معه بالضرورة السببية عدم ازلية الصانع. وبذلك يكون افلاطون خرق ايمانه الديني
بالخالق الذي اوجد الطبيعة والزمان أنه فان زائل وليس سرمدي باق. لارتباط وجوده
بوجود سرمدية الزمان الفانية كون الزمان مخلوقا وليس خالقا لشيء.
7.
أن النظرية الكانطية التي تذهب الى عدم امكانية ادراكنا
لموجود مكانيا من غير ملازمة زمانية له، تصبح لا قيمة حقيقية لها، لانفقاد حقيقة
التكافؤ الوجودي بين الزمان والمكان. من حيث أننا لا ندرك الأشياء والوجود عموما إلا
في زمانيته فقط حسب الفرضية الكانطية، وكل موجود لا يدرك مكانا- زمانيا لا وجود
ادراكي حقيقي له. وأننا نذهب مع الرأي الذي يرى في حقيقة إدراكنا الموجود مكانا أنما
هو مدرك موجود زمانا، والمكان الذي لا يلازمه زمن إدراكي لا يعقله العقل كموجود.
ولا يبقى معنى لأفضلية أسبقية الزمان على المكان وبالعكس لأن مناقشة هذه الفرضية
المعقدة هي من مهام الميتافيزيقا التي يتقاطع ادراك العقل في مناقشتها. والمكان
يكون لا وجود مادي من غير زمان يلازم ادراكنا له.
التطور الدائري للتاريخ
أفلاطون يفسر الزمان على منهج العود الأبدي الذي كان متداولا
معروفا عند فلاسفة الإغريق قبل سقراط من قبل الرواقيين وهيرقليطس، ولم يأت به نيتشه
فتحا فلسفيا جديدا اخترعه. فهو أي أفلاطون يفهم الزمن دوائر متعاقبة تطورية في
التقادم الزمني على أعادة الزمان نفسه ضمن تكرار دائري نسقي ثابت وماكنا عشناه
يعود الينا بنفس الصيغة لنعيشه وهكذا.. حتما يبدو غريبا إذا قلنا أن الديالكتيك
التطوري في المادية التاريخية يقوم على صورة التناقض الجدلي دائريا تطوريا صاعدا
متقدما كالعود الأبدي الدائري الذي يعيد نفسه، بفارق أن ديالكتيك الدائرة التطورية
في المادية التاريخية لا تعيد نفسها كما في العود الابدي بل أن الدائرة اللاحقة في
المادية تلغي جدليا الدائرة التي سبقتها بتطور نوعي اضافي جديد يتجاوز ما قبلها. بما
أطلق عليه كيركارد قبل ماركس معنى التطور التاريخي هو جدل ديالكتيكي يقوم على شكل
طفرات نوعية لا تعيد نفسها، بل تستحدث طفرة جديدة من رحمها قبل اندثارها وموتها.
بضوء هذا التحليل لا نجد افلاطون كان مخطئا بشأن التطور الدائري للزمان وليس
للتاريخ لكنه لم يكن يدرك ما جاء لاحقا به كيركارد أن التطور التعاقبي الدائري
الديالكتيكي هو نوعي وكيفي يكون على شكل طفرات وقفزات خارجة على الامتداد الخطي-
الدائري لمسار التاريخ ... وهو المعنى الحرفي الذي تبناه بعده كلا من هيجل وماركس.
حيث يكون الديالكتيك في وحدة وصراع الاضداد في المجانسة داخل النوع الواحد دائريا،
بنفس وقت ينتج طفرات نوعية في امتداد تطوري خطي متقدم الى امام.
أفلاطون يفهم الزمان دوائر متعاقبة يعيد ما بعدها سابقها
في تقادم زمني لا يخرج عن الرؤية التي يقول بها العود الابدي في التكرار اللانهائي.
هنا يوجد لدينا استطراد في فهم كيفية حصول التطور التاريخي، كي يستقيم التحليل
معنا علينا تنحية تطور التاريخ بإعادة نفسه ذاتيا وفق نظرية العود الابدي كون ما
كنا عشناه يعود لنا وما نعيشه حاضرا يندثر في المستقبل وسيعود لنا نعيشه ثانية
وثالثة وهكذا، اذن التطور النوعي الانثروبولوجي للتاريخ يصبح معدوما ولا يمكن
للتاريخ أن يتقدم في تكرار العود الابدي في الدوائر المتعاقبة التي تعيد نفسها على
الدوام دونما تحقيق تبدلات كيفية نوعية في مسارها الذي يبدو خطيّا افقيا. وهو ما
يعتمده ارسطو اعتباره قطوعات الزمان تسير بخط مستقيم وهو خطأ بضوء فهمنا
الديالكتيك يتم بصيغة الدوائر التي تتخللها الطفرات النوعية كما أشرنا له قبل اسطر.
نذهب الآن لمناقشة افلاطون من حيث أن تعاقب الدوائر
زمنيا لا ينتج عنه تغيير نوعي بالحياة والتاريخ. وفق هذا التصور لم يكن يفهم
افلاطون التطور التاريخي يسير على وفق مسار خطي ديالكتيكي تحكمه الضرورة الالزامية
في التقدم الى أمام وهو ما تعتمده المادية التاريخية ماركسيا في حاضرنا المعاصر الذي
لم يكن افلاطون مطلعا عليه. كما ذكرنا افلاطون فهم تعاقب الدوائر هو عود أبدي يكرر
نفسه رتابة غير كيفية دونما تتخلله طفرات نوعية ملزمة له في تقدمه الى امام. وهو
ما قام بتصحيحه سورين كيركارد مثاليا واورثه لهيجل من بعده. لتأتي الماركسية وتقلب
الطاولة على التفسير المثالي بمجمله في تاريخ الفلسفة..
الحقيقة التي تقر بها المادية التاريخية ماركسيا أن
التاريخ يتطور ديالكتيكيا على شكل من التناقض الدائري المتعاقب الحلزوني الصاعد
الذي تتخلله الطفرات النوعية التي تنقل التاريخ من مرحلة إلى أخرى أكثر تقدما.
والتاريخ في توالي الدوائر المتعاقبة ديالكتيكيا انما هو يبني التاريخ التطوري
الخطي في المسار. أي أن التطور التاريخي على وفق تعاقب الدوائر لا يتطور عموديا بل
يتطور كيفيا افقيا. رغم أن الديالكتيك في وحدة وتناقض الاضداد انما يكون ضمن تطور
دائري تصاعدي عمودي وليس افقي. ديالكتيك التاريخ لا يسير بمسار خطي مستقيم نتصوره
افقيا كما ذهب له ارسطو وفي حقيقته ديالكتيك دائري يتطور نوعيا تصاعديا بطفرات
نوعية ناتجة عن تراكم كمي وصل حدود نهايته..
التساؤل إذن ما الفرق بين مسار التاريخ الدائري الذي
يعيد نفسه في العود الأبدي، وبين التطور التاريخي ديالكتيكيا الذي يقوم على توالي
تعاقب الدوائر أيضا؟
أفلاطون يفهم التطور التاريخي ثبات دائري من التكرار
المستمر لا يتخلله طفرات نوعية تنقل التاريخ من مرحلة الى أخرى متقدمة تتجاوز
سابقتها، وهو نفس الاقتباس الذي استعاره نيتشه بالعود الأبدي. بعكس الفهم المادي
الذي كان قال به كيركارد قبل هيجل وماركس ان الديالكتيك هو طفرات نوعية وليس مسارا
خطيا تراكميا لا ينشأ عنه تغيير نوعي كيفي.. أن مسار التاريخ الذي يقوم على جدل
دائري حلزوني صاعد هو مسار خطي كونه محكوم بإلزام النقلات النوعية، التاريخ حسب
التحليل المادي يسير خطيا افقيا في دوائر تعاقب ديالكتيكية لكن ليس بأسلوب انعدام
الطفرات النوعية فيه. وهذا هو الفرق الجوهري بين مفهوم تعاقب الدوائر في اعادة
نفسها على اساس ان ما حدث سيحدث لاحقا في العود الابدي، وبين ديالكتيك الدائرة
التي يتخللها الطفرات النوعية الكيفية المتقدمة دوما في ملاحقة التجديد الذي يندثر
القديم خلفه. ليستحث الظاهرة الجديدة التي يحكمها الديالكتيك بقانون نفي النفي لها
ايضا.
الحاضر الوهمي للزمان
قلنا افلاطون يفهم الزمان على أنه عود أبدي في التكرار
الذي يخلو من التنوع الكيفي في طفرات، وميزة عبقرية افلاطون رغم اعتماده تعاقب
الدوائر زمانيا الا انه لم يفهم الزمان انه مسار افقي خطي جرى تقسيمه التحقيبي الى
ماض وحاضر ومستقبل من أجل تيسير فهم الزمان كيف يعمل في تعالقه بنظام الطبيعة
والاشياء وحركة القمر والارض والكواكب الاخرى. بارتباطها فيزيائيا بحركة الارض حول
نفسها وحول الشمس وحركة القمر، وفي تعاقب الليل والنهار والفصول الأربعة وغيرها من
أمور.
أفلاطون يوضح فهمه للتحقيب الزمني أن الحاضر هو افتراض
وهمي خارج سلسلة التعاقب الزمني من الماضي الى المستقبل، والحاضر تحقيب مؤقت بضوء
ماض متشّكل وجودا، وبين مستقبل يندغم به الحاضر حتميا إلزاميا زمانيا. والحاضر
الزمني لا يمكننا أدراكه كونه تغيير مؤقت لا يتسم بالثبات المقارن مع الماضي ولا
يمتلك كينونة زمنية استقلالية تفصله عن المستقبل. لذا اعتبر فلاسفة اليونان الحاضر
نقطة ليست زمانا (ينتقل عبرها الماضي الى المستقبل) في تجاوز الحاضر كمقطوعة زمنية
لا نمتلك إدراكها.
من الخطأ بضوء هذا المعنى أن نفهم الحاضر حلقة وصل بين
ماض انتهى وبين مستقبل يتشّكل منهما سوية أي يتشكل من ترابط الماضي مع الحاضر. وبتعبير
افلاطون (من الخطأ أن نستعمل الحاضر وصورة ما هو كائن، لما هو متغير متحول من
الماضي الى المستقبل )3، فهو يعتبر الحاضر لحظة قصيرة جدا عابرة لذا لا يجب معاملتنا
الحاضر كزمان.
هنا في تداخل بسيط نناقش به افلاطون يعتبر الحاضر وهما
غير موجود زمانا من حيث أن ما يفعله الانسان في كل حركة من حركاته هي مستقبل منظور
وليس حاضرا غير منظور لا يمتلك زمنية سكونية كافية لبقائه كي يدرك. وكذلك يصبح
ماضيا حين اندغامه بالمستقبل. فاللغة مثلا التي يتكلمها الانسان هي لغة مستقبل
زمانيا وليست لغة حاضر غادر زمانيته واصبحت تعبيرا عن ماض انتهى لحظة الانتهاء من
تعبير الجملة. لذا نجد أفلاطون يعبر عن هذا المعنى (الحاضر لحظة غير معقولة لأنها
تفترض البقاء ولو أقصر مدة فيما ليس بكائن على الإطلاق)4 بمعنى الحاضر ليس بكائن
يدرك زمانا على الاطلاق.
الحاضر حسب تفسير افلاطون هو لحظة غير معقولة لتعّذر إدراكها،
فهي بقاء مؤقت زائل لذا لا يكون الحاضر كائنا مدركا كمفهوم زماني. ولو اننا
تماهينا مع افلاطون مع هذا التصور الزماني الميتافيزيقي الذي يبدو لنا صحيحا
منطقيا، سوف نسقط في نفس الاستحالة الادراكية في فهمنا للماضي، على ضوء أن الحاضر
وهمي غير معقول وكذا نفس الحال مع المستقبل مما يجعل من تحقيب الزمان ماضيا وحاضرا
ومستقبلا محض عشوائية لا معنى لها سوى في اذهننا فقط. وهذا التحقيب العشوائي
الزماني كقطوعات تحقيبية هي موضع شك لا يمكننا البرهنة المنطقيقة العقلية عليها.
كون هذه السلسلة من التعاقبات الماضي والحاضر والمستقبل جميعها ترجع إلى أصل
المشكلة أن الزمان ليس موضوعا مدركا للعقل لا بالصفات الانفرادية ولا بالماهية... كما
ان الزمان وحدة زمنية واحدة في عدم إدراكنا ماهية الزمن كموضوع مدرك فهو سرمدي أزلي
لانهائي..
لكن ما يشير عكس هذا الفهم الميتافيزيقي الاعتباطي
منطقيا أنما نجد الرد عليه في المادية التاريخية، كون الماضي موجود كتحقيب لا
يطاله التشكيك بعدم حصوله كتاريخ، من جنبة أخرى نحن من المحال فهم وجودنا في الحاضر
من غير الاستناد على مرجعية الماضي في أسبقيته على الحاضر لتكون اسبقيته حاضرا
مندغما في مستقبل يحتويه لا ندركه تحقيبا واقعيا.
ولا ضير أن يكون المستقبل هو توقيت مؤقت لثبات نسبي
للزمان، والحاضر في لا معقوليته الوهمية الإدراكية لدى أفلاطون صحيحة، من جانب شد الماضي
له ومحاولة تذويته فيه، ومن جنبة ثانية شد المستقبل للحاضر في تذويته فيه واحتوائه.
فلا يبقى للحاضر زمنية آنية مستقلة يمكننا إدراكها ما لم نتمثل الماضي والمستقبل
ذهنيا فقط.
الحقيقة التي نخلص بها هي أن الحاضر بمقدار وهميته غير
المعقولة إدراكيا إلا أننا نعيشه بمعزل عن زمانية الماضي والمستقبل، لكن ما يبعث
على عدم صدقيته الزمانية واعتباره وهما حسب تعبير أفلاطون، هو ان الماضي يسحبه من
جهة والمستقبل يخاصره من جهة مقابلة. واذا نحن عملنا المحال في اسقاطنا الحاضر في
اعتباره لحظة زمنية عابرة تصل الماضي بالمستقبل بالإدراك، ومن دون حضور الحاضر
كوسيط يتوسطهما، انما نكون بهذا اعدمنا بأنفسنا قابلية وإمكانية الاستدلال في
فهمنا الماضي بدلالة الحاضر، وكذلك إعدام أن يكون للمستقبل حضورا متخلقا عن الحاضر
الذي أعدمناه بترسيخ حقيقة وهميته وآنيته الوقتية الزائلة، وهو صحيح بالمنطق
الفلسفي لكنه غير متحقق في التحقيب الزمني تاريخا. الحاضر بمقدار حضوره الوهمي
كزمن الا أن حضوره الدلالي والاستدلالي الذي من غيره لا نفهم كيف نفسّر تحقيب
الزمن قطوعات تاريخية بمنطق الفلسفة وليس بمنطق فيزياء الكون علميا. ولو أن
التحقيب التاريخي للزمان ماضي وحاضر ومستقبل لا يتوقف العلم عنده في اعتباره من
مقومات فهمنا قوانين الطبيعة التي تحكمنا كوجود وكانسان ارضي التشكيك بمعقوليته
الادراكية يكون مضيعة لجهد لا يتوفر عنه البديل. الحقيقة النهائية التي تجعل هذا
التداخل الادراكي للزمان معقدة جدا هو في عدم الاقرار ان الماضي والحاضر والمستقبل
تحقيبات زمانية تحمل السكون والحركة في نفس الوقت.
الهوامش
1. عبد الرحمن بدوي /الزمان الوجودي/ ص 55
2. نفسه ص56
3. نفسه ص 59
4. نفسه ص 59
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية
0commentaires:
إرسال تعليق