تأويلية بول ريكور وشعور السعادة الزائف

 

12 غشت 2020

تأويلية بول ريكور وشعور السعادة الزائف



د علي محمد اليوسف



تقديم:

المقال تعقيب نقدي على مبحث الشعور الفلسفي عند بول ريكور في كتابه (فلسفة الإرادة /الإنسان الخطاء)، تناول فيه الشعور من جنبة فلسفية صرفة تقوم على ربطه – الشعور – بكل من الوعي القصدي في نشدان السعادة من جهة، وتعالي الشعور على كل من العقل والفكر في جموحه إشباع تحقيق اللذة بمعزل عن جميع المؤثرات والعوامل الموضوعية من جهة أخرى. وليس القصد من عرضنا النقدي أن بول ريكور تعامل مع الشعور النفسي السلوكي القصدي نحو تحقيق السعادة بنوع من الاستباحة الفوضوية التي يصادر فيها الشعور العقل والوعي، بل ستكون مناقشة موضوعة الشعور بمنطق فلسفي يتعالق مع منظور علم النفس الفرويدي والسلوكي الحديث وليس على مستوى التجريد التأويلي اللغوي.

الأبيقورية ونشدان السعادة

يرى بول ريكور أن الشعور هو مصدر التحقق الذاتي المشخصن، وأنه الوسيلة والغاية في الوصول إلى السعادة. ما يلفت الانتباه أن تأويلية ريكور الفلسفية حول الشعور ابتعدت جدا عن أي من منطلقات أبيقور الفلسفية كميراث عالج أهمية إشباع اللذائذ الغريزية عند الإنسان بحكمة العقل ومن غير ابتذال أخلاقي. الأبيقورية قامت على ركائز ثمانية وردت في تعاليم أبيقور الفلسفية 341- 270 ق. م، صاحب الشذرات الفلسفية البليغة مثل: عندما أوجد لا يوجد الموت، وعندما يوجد الموت لن أكون موجودا / ولا شيء خلق من لاشيء بفعل قدرة الهية/. وأن الكون مؤلف من جسم وفراغ ومكان/... إضافة إلى مرتكزات أبيقور وتعاليمه الفلسفية الثمان في بلوغ السعادة وهي: لا تخف من الآلهة، لا تخف من الموت، لا تخف من الألم، عش ببساطة، أبحث عن المتعة بحكمة، أبحث عن الصداقة الحقّة، كن مخلصا بعملك وحياتك، أبتعد عن الشهرة والطموح السياسي. هذه التعاليم الابيقورية جميعها لم تستثر انتباه ريكور الاشارة لواحدة منها على الأقل. رغم أنها لا تبتعد عن طموح الانسان الاستمتاع بالحياة الآمنة السعيدة عمليا...

يربط ريكور بين الشعور النفسي وسيلة تحقق الحياة السعيدة، باعتباره وسيلة زائفة ومخاتلة في قصديتها المعلنة التي تخفي في الكامن فيها القصدية الحقيقية التي يتوجب علينا فك رموزها كي نتعرف أصالة الشعور فيها من الزيف، وأعتمد أفكار كانط في تجاهله الأبيقورية التي كانت واضحة في توصياتها المتماسكة أشد ما يكون الوضوح قبل إغراق ريكور تأويليته الفلسفية في مبحث الشعور بميتافيزيقا الفهم الاستعصائي الفلسفي الذي كان هو الاخر- الشعور -  مبحثا كلاسيكيا في علم النفس الفرويدي ومن سبقه أو جايله أو جاء من بعده.

من المفروغ منه أن الشعور القصدي في فلسفة ريكور هو المرادف لمعنى الوعي المتعالي في مصادرة العقل الاخلاقي كضمير. وهذا التعالي المفتعل لا يضيف شيئا أمام رغبة توضيح كيفية الحصول على السعادة بوسيلة الشعور. تعاليم أبيقور تنطلق من مبدأ تحقيق اللذة والسعادة بحكمة العقل الأخلاقية من غير ابتذال مسرف وسلوك منحرف لا يقوم على التزامات أخلاقية نظيفة في السلوك الانفرادي والجمعي على السواء.. ولم تعتمد الأبيقورية الشعور النفسي وسيلة تحقق وإشباع النزوع الفطري الغرائزي عند الإنسان كما ذهب له ريكور... نحن في مناقشتنا أطروحة ريكور الفلسفية حول الشعور لا نحتكم إلى مرجعية الأبيقورية كنموذج قدوة رغم أنها كانت أنضج وأكثر وضوحا عملاتيا تطبيقيا أخلاقيا من فلسفة ريكور المغرقة في التجريد الفلسفي الغامض.

أكتفى ريكور بأسلوبه الفلسفي المعقد وفي منهجه التأويلي الميتافيزيقي الذي لم يكن يخلو من متناقضات بائنة ينسف ما بعدها ما قبلها، بمعالجة مبحث الشعور نحو قصدية تحقيق السعادة بعيدا عن كل المفاهيم الأبيقورية القديمة وعن مفاهيم علم النفس السلوكي الحديث والمعاصر... حيث جعل ريكور من الشعور النفسي وسيلة إدراكية ميتافيزيقية متقدمة تمتلك الإرادة القصدية في سعيها تحقيق السعادة والعيش الخالي من الألم والكبت والحرمان في بلوغ الامتلاء النفسي والاكتفاء الذاتي  وتحقيق عوالم من اللذة المتتالية التي هي سلسلة مترابطة لانهائية من اللذائذ المتصاعدة التي ينشدها الشعور في ملازمته الانسان كوعي ذاتي حقيقي أصيل غير زائف... ريكور يشكك في إفصاحات الشعور التعبير عن نفسه بصدق كما سنورده لاحقا. شأنه شأن اللغة في مخاتلتها التعبير عن المعنى بوضوح.

تداخل مفهوم الوعي مع الشعور في فلسفة ريكور

مبحث بول ريكور في الشعور اتخذ من بعض فقرات كانط مسندا يعتمده في معرض الاستشهاد بأفكاره في اجتزاءات من كتابيه (أسس ميتافيزيقا الأخلاق) وكتاب (نقد العقل العملي) حول الشعور القصدي في نشدانه السعادة ويورد ريكور مايلي: (الذات كشخص تعطى أولا في القصد، عند طرح الشخص كغاية موجودة. فإن الوعي يعي ذاته، والوعي مشروع الذات، ووعي الذات هو كوعي الشيء، وعي قصدي) 1.. هنا نجد ريكور يتعامل مع الشعور من منطلق المرادفة في تطابق الشعور مع مفهوم الوعي القصدي كدلالة لمعنى واحد، متجاهلا أن الشعور يتعالق برابطة قوية بالمنظومة العقلية للإدراك النفسي غير المحسوس، وتكون مرجعية الشعور هو النفس والسلوك الانفرادي في نشدانه تحقيق السعادة ومجتمع خال من الحزن والالم والخوف والاكتئاب. فالترادف المتطابق بين الوعي والشعور في تفلسف ريكور مقصود متعسف في معاملة الشعور كبنية منفردة متعالية على العقل وعن كل ما عداها ليس لعدم درايته الفرق بينهما وإنما كي يخلع ريكور على الشعور صفات التعالي في مصادرة منظومة العقل الادراكية بضمنها الوعي القصدي الذي يعوّضه ريكور بالشعور الذي هو عنده تمام الوعي..

وعي الذات في كل الحالات الادراكية هو وعي الكليّة الشمولية لوجود الشخص كينونة تعي استقلاليتها المشروطة أنسنتها مجتمعيا، في امتلاكها الوعي القصدي وحرية الارادة في التفكير والسلوك المسؤول أخلاقيا. وبغير ذلك لا يعي الشخص وجوده الحقيقي كذات إنسانية وليست ذاتا سلبية منعزلة انانية متحررة من قيود التفكير بالآخر بحقه الطبيعي في إشباع غرائزه المكبوتة المحروم منها بتواضعات المجتمع الأخلاقية والسلوكية العامة التي تقاطعها...

وعندما يعي الوعي ذاته فهو بشكل وآخر يعي قصدية كينونته كمشروع أنساني متطور في صنع الحياة على أسس أخلاقية محكمة لا تدور حول مركزية الذات المنغلقة بسلبية وجودية... وعي الذات بهذا المعنى المؤنسن أخلاقيا ليس حالة عرضية للشعور تختلف عن قصدية وعي الذات للأشياء في العالم الخارجي وتعامله معها بحس وشعور المسؤولية والالتزام، والوعي لا يكون وعيا شغّالا ألا عندما يكون وعيا ضمن عالم بشري مؤثر في الوعي القصدي الذاتي وإعطائه معناه الحقيقي حسب هيدجر.

وعي الذات عند بول ريكور هو (وعي قصدي عملي) كما يقول... أي بمعنى هو مشروع علاقة إنسانوية مسؤولة جدليا تتحقق فيها قصدية وعي الذات في تداخلها مع قصدية وعي العالم الخارجي بموجوداته وتكويناته من ضمنها كليانية المجتمع، وبذلك لا يكون وعي الذات سلبيا عندما يكون وعيا يجعل من الشخص كائنا منفردا معزولا عن الآخرين. فيكون الوعي بهذه الحالة الانفرادية هو نوع من الانفصام المرضي العقلي أكثر منه وسيلة اشباع غرائزي شعوري يحتكم للأخلاق الطبيعية في نشدانه تحقيق اللذة والسلام والطمأنينة بالحياة في مجتمع يسوده السلام.

طبعا مفهوم المرجعية الأخلاقية المجتمعية بنية نسبية رغم امتدادها الشمولي الكليّاني لا يمكن الاحتكام لها في نزوع الانسان إشباع رغائبه الغريزية بحكمة الوازع الاخلاقي الانفرادي لأنها أي مرجعية الاخلاق مفهوم غائم ممتد يحمل تأويلات ووجهات نظر متباينة مختلفة لا حصر لها تقاطع رغبة إشباع الحاجات البيولوجية الفطرية والمكتسبة للفرد والمجتمع في مقدمتها (تابو) محرمات التدّين. وفيتو اختلاف الامم والشعوب في نظرتها المبدئية لمفهوم الاخلاق.

يؤكد كانط (أعمل بطريقة هي أن تعامل الإنسانية في شخصك، كما هي في الشخص الآخر، وبنفس الوقت كغاية وليست وسيلة) 2 هذا تعبير يستند الى مرجعية موعظة أخلاقية ليست عملانية بل هي دعوة طوباوية تعارض التكوين الانفرادي النرجسي للإنسان، فالإنسان الأناني بالفطرة ليس من السهولة دعوته التخلي عما يعتبره حقا مشروعا مكتسبا يجب على السلطة والمجتمع توفيره للفرد وليس العكس توفيره للمجتمع على حسابه كفرد. لكننا نجد أنه لا فكاك ولا خلاص من اللجوء الى الدعوة الطوباوية الاخلاقية في شرط كينونة الانسان الأصيلة تحقيق وجودها الحقيقي في أن يكون وعي الذات هو غاية ووسيلة متداخلتين معا بحكم الضرورة النفعية التبادلية مع حرية ومصالح الاخرين.

إنه عقد اجتماعي ملزم يفرضه الوعي الذاتي الأصيل على نفسه كالتزام طوعي متحرر الإرادة بمسؤولية أخلاقية لا تنفصل عن سعادة وحرية المجتمع، والانسان في حال إحساسه أنه وسيلة لتحقيق مصالح غيره على حساب غمط مصالحه فهو يفقد ذاتيته في وجوده الحر الأصيل الذي يمتلك الارادة والحرية في السلوك والاختيار. وامتثالا لقوانين الأخلاق الوضعية مجتمعيا مطالبة الانسان السوّي أن يكون هو قيمة عليا من وعي الذات النوعي في أن يكون وسيلة مركبّة مع قصدية عامة كغاية لبناء الذوات المجتمعية إنسانويا في سعيه تحقيق ذاتيته بتعالقها معيشيا مجتمعيا بما يجعله يشعر بمساهمته في تحقق ما يجده متحققا بذاته من إشباعات أنه يمثل في نفس الوقت ما يصبو تحقيقه الاخرون إشباعا لحاجاتهم. وتبقى محصلة لا جدوى موعظة الأفكار قائمة في اللاعملانية التطبيقية في الحياة، كون الاخلاق مبحثا تركيبيا يدخل فيه العقل والضمير الاخلاقي والعرف الاجتماعي وقانون العقد الاجتماعي مع السلطة في محاولتهم تحقيقه كل من وجهة نظره التي يجدها صائبة بالمطلق.

فردانية الانسان المتمايزة عن غيرها في وجود أصيل لا تكتمل ولا قيمة لها أن لم تكن متكاملة إيجابيا في سعيها تحقيق وجود الاخرين المتعايشين بسلام كما هو سعي الشخص بناء شخصيته الفردية في عالم تسوده العدالة والنظام في تحقيق الامن والسعادة والسلام. وكل هذه الدعوة هي معايير أخلاقية مجتمعية تفرض نفسها بقوانين العقد الاجتماعي الوضعي الذي تحكم به السلطة فوضوية السلوك الانفرادي من الجنوح في تخريب العلاقات المجتمعية الاخلاقية السليمة في تنظيم الحياة.

الخيال المتعالي

يشير أفلاطون الانتقال الحي من البيوس الى اللوغوس، بمعنى الانتقال من الحياة الى العقل. كما يشير بول ريكور (الخيال المتعالي هو عقلي وحسّي في آن واحد. غير أن الخيال المتعالي وهو النقطة العمياء للمعرفة، كان تخّطى ذاته قصديا في مقابلة الشيء)3.

أفلاطون في عبارته الانتقال من الحياة الى العقل أراد الافصاح أن الخيال قرين العقل المفكر وإحدى خصائصه الجوهرية ولا يلتقي ولا يشابه شعور ما هو مدرك حّسي بالحياة, بخلاف ريكور الذي أراد بصريح عبارته إفقاد وتجريد العقل من ميزته الخيالية كخاصية عقلية لا تلزم الواقع المادي بالتبعية لها وفق منهج  ريكور التأويلي في اعتباره الخيال هو عقلي وحسي معا، العقل لا يتعامل مع أدراكه الواقع بمنهج الخيال المتعالي عليه المجرد من غير جدل تخارجي بينهما، والخيال العقلي لا يلتقي مع مواضيع الادراك الحسي للأشياء، فما يدركه العقل حسّيا لا يطاله الخيال أدراكا خياليا. فمواضيع الخيال العقلي تفكير صوري لا ينتج عنه بالضرورة ما هو حسّي مادي يدركه العقل واقعيا، وأنما خيال العقل ينتج ما يمكن أن يتاح له أن يكون تفكيرا واقعيا معيشا في الحياة. تموضع الخيال المتعالي كوعي ذاتي في موضوعه يتخطى ذاتيته قصديا في مقابلته الاشياء ولا يكون النقطة العمياء للمعرفة كما ذهب له ريكور.

يكون خيال العقل متعاليا كوعي يعي ذاته من جنبتين هما أولا أنه إدراك عقلي تجريدي بالتفكير بمحسوسات مادية موزعة متنوعة كموجودات، وثانيا يكون هذا الخيال المتعالي هو التفكير بمواضيع غير مدركة حسّيا تمليها الذاكرة التي تستحث الخيال على الإبداع في نوع من التفكير غير المألوف كما في خلق عوالم الادب والفن في تصنيع عوالم متخيّلة لكنها من الممكن أن تكون عوالم يمكن تحقيقها واقعا معيشا في الحياة، وبعض تلك الاعمال الادبية والفنية في عوالمها هي نوع من التداعيات التشكيلية الخيالية التي يمتزج فيها الشعور باللاشعور في تداعيات من الافكار والتعابير التي لا علاقة حقيقية تربطها بالمألوف اليومي. لكنها في المحصلة هي نتاج خليط من مشاعر نفسية تقوم على رؤى غير منظورة من الوعي الخصب كما هي في ضروب الاجناس الادبية في مقدمتها الشعر، وكذلك في ضروب الاجناس الفنية في الفنون التشكيلية يتقدمها الرسم.

هذا التعالي العقلي الخيالي تفكيريا بموضوعيه الاثنين الحسي والخيالي هو في حقيقته فعالية ذهنية واحدة متكاملة لا يمكن الفصل بينهما فالعقل يدرك الموضوع الحسّي كما يدرك الموضوع الخيالي في لغة تجريد صورية منطقية واحدة. ولا يكون الخيال المتعالي نقطة عمياء في المعرفة حسب تعبيربول ريكور، ألا فقط عندما يكون الخيال المتعالي لا يخضع لتجربة التحقق منه بما ينقذه من تعاليه المجرد تفكيريا فوق منظومة العقل الملازمة لكل مدركاته من موجودات ومواضيع باستثناء الشعور القصدي كما يراد له.

وكل تعالي خيالي للعقل التفكيري المجرد سواء كان تفكيرا بموضوع خيالي أو بموضوع مادي حسي فهو بالالزام الضروري يكون مشروطا بعاملين، هما التفكير بموضوع معيّن مدرك أولا، وتوفر الرغبة القصدية في الاختيار لموضوع تفكير العقل المتعالي ثانيا...أي لماذا أختار العقل هذا الموضوع لإدراكه التفكيري دون غيره من الموضوعات.

الشعور واللذة

نجد في فلسفة بول ريكور خلاصة معمّقة لمعنى الشعور بوصفه وسيلة العقل في الوصول الى اللذة والسعادة، ولما كانت مفاهيم مثل اللذة والسعادة هي مفاهيم شمولية كليّانية منفتحة لا تحدها حدود في لا تناهيها الامتدادي بحياة الانسان، يصبح الشعور عند ريكور هو بنية نسقية فكرية كليّانية تتجاوز العقل يصفها بقوله ( العقل كانفتاح على الكليانية فهو الذي يولد الشعور بما هو انفتاح على السعادة – هنا يأتي مصطلح الشعور عند ريكور اعتباره الشعور قصديا في رغبة السعي نحو تحقق اللذائذ المتتالية المحرومة المحرّمة في الحياة التي توصل للسعادة والمكبوتة في اللاشعور -  كما يعتبر ريكور الشعور يظهر ما هو عقلي الذي به أمتلك عقلي.)4، وبلغة كانط المستعارة من قبل ريكور (فالعقل هو تعيّني ومصيري القصدي, الذي به أستطيع متابعة وجودي, فالشعور يظهر تطابق الوجود والعقل ويشخصن العقل.)5

يلاحظ الاتفاق التكاملي الفلسفي غير المعلن بين كانط وريكور في إضفائهما التعالي الشعوري فوق خصائص منظومة العقل الادراكية في تعبيرها عن الواقع، فريكور يعتبر الشعور يظهر ما هو عقلي الذي يمتلك به عقله، ونجد تماهي ريكور مع هذا الفهم حين يعتبر الشعور هو تطابق الوجود والعقل الذي يشخصن العقل كما عبّر عنه كانط... والصحيح أن العقل خلاف ذلك هو الذي يشخصن الشعور ولا قدرة للشعور شخصنة العقل. الوعي القصدي لا يكون عمليا حسب رغبة ريكور في امتلاك الشعور الذاتي قصدية متحررة بعيدا عن وصاية وتوجيه العقل.

الشعور النفسي رغم كونه نابعا معبّرا عن دواخل النفس فهو بالمحصلة والنهاية منتج صادر عن العقل في الوصاية عليه وتنظيمه كعاطفة سيكولوجية هادفة قصديا لا يمكن فصلها عن أرادة العقل رغم ارتباطها بالنفس التي هي نوع من نزعة الميتافيزيقا التي تأبى معاملتها بالمنهج المادي بيولوجيا لكنها لا تخرج عن وصاية العقل عليها... ويبقى الشعور واللاشعور كليهما نتاج سايكولوجي – عقلي مشترك رغم التباين بينهما من وجهة نظر علم النفس. بعبارة أخرى العقل والنفس جوهران متعالقان غير منفصلين الا بعد فناء الانسان بالموت. العقل كيان مادي فيزيائي والنفس جوهر روحي ميتافيزيقي.

أن محاولتنا رد اعتبار أسبقية تراتيبية العقل في أولويته وأسبقيته المهمة على الشعور والنفسية والسلوك تكون عقيمة حين يكون الشعور هو الرغبة الكليّانية المجردة عن وصاية العقل في الوصول الى اللذة والسعادة تعويضا عما يعجز عن تلبيته قصور العقل الذي يستوعبه الشعور وليس العكس في منظور ريكور، رغم حقيقة العقل دائما ما نجده يمثل الكليانية الشعورية النفسية والسلوكية لادراك الافضل بالوجود والسعي الحثيث لتحققه. وبهذا المعنى يعقل العقل ما هو قصدي في اختياره الارادة الحرة بالقرار الصائب، وشخصنة العقل للأشياء تتم بوسائل عديدة منها تشييء الشعور في موضعته بقصدياته المتحققة بالحياة، والقصدية التي أشار لها كانط كمنهج ابستمولوجي يعلو فوق الوعي والعقل، هو ما عبّر عنه في تطابق الوجود والعقل.

بالتأكيد نذهب بالخطأ إذا اعتبرنا التطابق بين الوجود والعقل هو قصدية مطلوبة بذاتها لفهم العالم من حولنا، بل هي قصدية تتجاوز التطابق لما هو أسمى منه في تحقيق السعادة واللذة والسلام بالحياة. الحياة لا يكفي أن نفهمها بل أن نعيشها.

ما نحاول ترديده أن التطابق المنشود المتحقق بين الوجود والعقل ليس هو التكامل الساكن الثابت بينهما بل هو العلاقة الجدلية الحركية المتخارجة بينهما. وهذا ما يجعل الوجود يرتهن العقل ويصادره حسب ريكور عكس المطلوب الحقيقي في ارتهان العقل للوجود. أي وصاية العقل القصدية في وعيه الوجود ضمن نظام معرفي نسقي منظّم... العقل لا يطابق الوجود كغاية له بل كوسيلة لمعرفته وتفسيره.

(الشعور حسب تعبير كانط يشخصن العقل)، ولا يشخصن العقل الشعور، والشعور هو شخصنة العقل للذات والوعي بها، ونفهم من كانط أن شخصنة الشعور للعقل هو في اكتسابه الفرادة الاستقلالية دون وصاية العقل عليه، والثانية أن الشخصنة هي امتلاك الذات الواقع والرغبات المكبوتة في تفعيل الارادة المتحررة نشدانها تحقيق السعادة واللذة في متوالية متناسلة لا تنتهي من الرغائب واللذات المتعاقبة التي تستحدثها الحياة بلا توقف وباستمرار دائم.

يذهب ريكور الى (أن الشعور لا يكون نفسه كليّانيا الا بوعي الكينونة الشخصانية، والشعور هو أكثر من هوية الوجود والعقل في الشخص، هو انتماء الوجود نفسه الى الكائن الذي يكون فيه العقل هو الفكر).6 يمكننا استخلاص عدة نقاط بضوء التعبيرات التي مررنا بها لدى كل من كانط وريكور منها حسب عبارتيهما السابقتين ولا يعني هذا الاقرار بصحة هذه الاستنتاجات التي لنا عليها ملاحظات نتناولها لاحقا وهذا تلخيص لفكرة كانط وريكور عن الشعور:

-         الشعور أسمى مرتبة من الوعي في الاهمية المتعالية على العقل، بدليل أن الشعور في نشدانه اللذة لا ينتظر ترخيص العقل له في شموليته الكليانية الاستيعابية التي من ضمنها تجاوز الشعور للوعي.

-         الشعور بنية فكرية كليانية تتجاوز العقل في شخصنتها الوعي الفردي.

-         الشعور هو سلوك العقل في الواقع بدليل أن الشعور أكثر أهمية من هوية الوجود والعقل حسب تعبير ريكور.

-         الشعور يعلو على العقل بوصفه فكرا حسب تعبير ريكور...

هنا بدءا علينا تأكيد وجهة نظرنا أن الشعور تكيّف سلوكي يقوده الفكر عقليا. ولا يعلو الفكر على العقل في كل الاحوال لأنه أي الفكر نتاج عقلي ولا أمكانية للوعي أو للشعور مصادرة العقل في استقلاليتهما الموهومة المنفصلة عن العقل كموضوعين ندرك بهما معنى السعادة بالحياة..

إعطاء بول ريكور الشعور في تنقيباته الفلسفية أهمية استثنائية متعالية راديكالية تجاه تجاوزه العقل في اعتباره الشعور هو المتحقق الوجداني في حصول اللذة والسعادة بما يركن العقل والوجود في الظل. يقودنا الى توكيد نزعة إيروسية فرويدية ترى في مركزية اللذة في الشعور الذي يقود العقل ولا ينقاد له في التحليل النفسي باعتبار مبدأ اللذة هو اللامتناهي غير المحدود وغير المتحقق باكتفاء ذاتي يتوقف في مرحلة عمرية معينة دون مرحلة لاحقة بعدها تليها في السعي لإشباع متوالية لا نهائية من اللذات المتعاقبة على طريق السعادة...ولا يغفل تحليل علم النفس الفرويدي أن اللاشعور أيضا هو مكمن السعي الدائمي نحو تحصيل اللذة وإشباع غريزة الجنس وكل لذّة مكبوتة لا يتاح للشعور إشباعها وصولا للسعادة الحكيمة غير الفوضوية بالفهم الابيقوري. بل ذهاب علم النفس مع اللاشعور أنه مكمن ومستودع الكبت الغرائزي الجنسي وغير الغرائزي كحاجات بيولوجية الذي في تحرر اللاشعور من كبتهما لأسباب موضوعية تقاطع تطلعات النفس المتحررة، يجعل من تحقيق السعادة والسلام للفرد غاية يمكن أدراكها وتحصيلها من خلال السعي عمليا اليها.

الشعور والمخاتلة المزدوجة

يثير بول ريكور في مبحثه ازدواجية الشعور(على أنه في سايكولوجيا الأعماق، يرد الشعور المعاش ما يعطي معنى ظاهري فقط للحياة, مما يتوجب حل رموز الشعور بتأويل خاص, فالمعنى الكامن هو المعنى الحقيقي الذي لا يكون معناه الظاهر بالنهاية سوى العرض, فالشعور موضوع كل الأقنعة، كل الاخفاقات وكل المخاتلات ) 7 ربما يجوز لنا القول بضوء هذه الازدواجية للشعور، أنه نسخة مكررة بالعودة الى التحليل الفرويدي كمرجعية جاهزة في الفهم التقليدي المباشر باعتبار اللاشعور وليس الشعور هو مكمن الرغبات المكبوتة والتوترات الدائمية في عدم التوافق والاختلاف مع المحيط الخارجي والمعيش بالحياة وهو ما لم يأخذ ريكور به. والشعور هو القرين الواقعي لتفكير العقل بخلاف اللاشعور الذي تكون مدياته القصدية المكبوتة غير المتحققة أكثر شمولية وكليّانية تتجاوز مخاتلة عجز الشعور التعبير عنها..

مخاتلة الشعور التي يراها ريكور إنما هي انفصامية مخاتلة غير معلنة بالسلوك في تحرره الافتراضي المتعسف عن وصاية وهيمنة العقل، ومن المتعذر معرفة الشعور الحقيقي عن الشعور غير الحقيقي من خلال وصف الثاني بأنه إفصاح لأعراض هامشية لا قيمة حقيقية لها، بالقياس لما هو غير بائن ولا مفصح عنه مدّخر في مخاتلات كامنة غير معلنة خفية في الشعور يجب الوقوف عندها وتحليلها حسب ريكور للوقوف على صدقيتها من عدمه. وهذا الكمون الازدواجي غير الإفصاحي للشعور هو في حقيقته لا يكون سوى في اللاشعور وليس في الشعور الذي هو قرين العقل لا كما يرغب ريكور تصوير الشعور المخاتل الذي لا يبيح لنا معرفة حقائقه في عرضه ما لا قيمة له من إخفاءات يعتمد الشعور أخفاءها وعدم البوح بها. الشعور قرين العقل بالتبعية واللاشعور قرين النفس غير العملية في التبعية.

من المتعذّر علينا إقرار ازدواجية الشعور المخاتلة خارج المنظومة الادراكية المتناغمة للعقل في استقلالية الشعور عنه. ولما كان الشعور بهذه الازدواجية التي أشار لها ريكور أنما هو في حقيقته نزوع استبطاني انفرادي مكبوت لا ندركه بغير تحققه في قصدية السلوك التي هي ممارسة المعيش واقعيا، وهذا الفهم يحيلنا الى بقاء الشعور لغزا ميتافيزيقيا تتقاذفه المخاتلة المزدوجة بلا حل حقيقي طالما نحن نتعامل معه وفق ما يمليه علينا الشعور بما هو فكر يحمل قصدية سلوكية غير معلنة مكبوتة لا نعرفها بالعرضي من الإفصاحات الشعورية الكاذبة.

فلماذا لا يكون اهتمامنا فرويديا باللاشعور أنه مستودع كبت الرغبات الغرائزية الفطرية منها والمكتسبة. وهي حقيقة علمية قارة تعيد مكانة الشعور المرتبط بالعقل الى وضعه الطبيعي فتكون الازدواجية في تعبيرات اللاشعور وليس في إفصاحات الشعور الزائفة التي يتوجب علينا افتكاكها تحليليا... قد يكون قولنا الشعور لا يمكن أن يكون مخاتلا مخادعا خارج وصاية العقل عليه مقارنة باللاشعور الذي هو تداعيات كل المكبوتات المحرمة الغامضة التي تحتاج الكثير من التفسير والتحليل في بلوغ حياة سعيدة.علما أن اللاشعور لا وصاية للعقل عليه في تنظيم رغائبه الغرائزية واشباعها ,فالعقل يقاطع اللاشعور في كبت ومنع رغائبه من الاشباع. كون العقل السوي ضمير اخلاقي يقاطع رغبات اللاشعور الجنسية وغير الجنسية المنحرفة بوصاية أخلاقيات المجتمع على أخلاقيات الفرد.

إن في تشكيكنا بعدم صدقية الشعور يحيلنا بالتعاقب الضروري المتلازم معه إلى لا حقيقة القصدية التي ينشدها، وهو ما يقاطع ما سبق لنا الاقرار به هو أن حقيقة الشعور تكمن في قصديته تحقيق ما هو غير محزن ولا مؤلم ولا كئيب ولا كاذب ولا متوتر بالحياة التي يتوجب أن تكون خالية تماما من منغصات المعيش لبلوغ السعادة.

كان الحري بريكور وضع التضاد الجدلي بين الشعور واللاشعور على بساط مناقشة أمكانية تحقق اللذة والسعادة بدلا من اعتباره الازدواجية أنما تقوم في مخاتلة وازدواجية الشعور فقط في تضليلنا عن لا أهمية اللاشعور في تفكير الانسان إشباع رغائبه المكبوتة كما يذهب له علم النفس علميا.

هذا التناقض الذي أثاره ريكور في ازدواجية الشعور نجده يتراجع عنه بعد أسطر قليلة قائلا: (أن المعنى الكامن غير المعلن عنه في الشعور, لا يمكن أن يكون سوى تاويل للمعنى الظاهري كالبحث عن أفضل مفهوم يتحرك في داخله الشعور من المعنى الاقل دلالة باتجاه المعنى الاكثر دلالة .)8 واضح هنا الاقرار بأن ما يخبؤه الشعور حسب ريكور نستدل به على مقاربة معرفية في البحث عن الكامن فيه في تحليلنا ما يظهره الشعور من إفصاحات غير موثوقة هي بالتأكيد يجب أن تكون غاية التحليل في الوصول لأفضل تعبير مفهومي(كاذب من قبلنا) الاكثر دلالة أمام عجزنا معرفة حقيقة الشعور المخاتلة... .

وبهذا المعنى المتقاطع في تحديد ازدواجية الشعور غير المشخصّة وفي وجوب فبركتنا أفضل المعاني كي ننقذ الشعور من ورطته في انقسامه المخاتل على نفسه، علينا التسليم أن ما يظهره الشعور من متناقضات هي مجمل الإخفاءات والتوترات التي يحملها الشعور والتي تحتم علينا البحث والتفتيش في ما وراء هذه الافصاحات الشعورية الخادعة السطحية التي هي بتعبير ريكور عنها التفتيش عن ( تأويل المعنى الكامن للشعور لا يمكن أن يكون سوى تأويل المعنى الظاهري فقط الذي يمثل البحث عن أفضل مفهوم للامعنى أو المعنى الاخرق ).9

بهذا المعنى التأويلي الذي يرشدنا ريكور اتباعه نصل محطة وقوف حرجة هو أن الشعور بمجمله هو نوع من الزيف الإفصاحي الذي يتوجب علينا التسليم به في معالجتنا لازدواجيته الخفيّة، وفي أحالة تأويلنا التحليلي لهذه الازدواجية في وجوب خلعنا أفضل معاني تسويق اللامعنى الكاذب بأفضل ما نمتلكه من تخريجات وتصورات انفصامية في تسويقنا الاخرق من صفات الشعور الكاذب الذي لا يقودنا الى تحقيق سعادة من أي نوع كان يرغبها الشعور...

الهوامش :

1.     بول ريكور فلسفة الإرادة، الانسان الخطاء، ترجمة عدنان نجيب الدين/ المركز الثقافي العربي ص 120

2.     نفسه ص 121

3.     نفسه ص 123

4.     نفسه ص 160

5.     نفسه نفس الصفحة

6.     نفسه نفس الصفحة

7.      نفسه ص 140

8.      نفسه ص 145

9.     نفسه ص 160

 

 

 


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس