الزمن في فلسفتي افلاطون وأرسطو


الزمن في فلسفتي افلاطون وأرسطو


د علي محمد اليوسف



تقديم بدئي: المقال بحث فلسفي للكاتب لا علاقة تربطه بمفهوم علم الفيزياء ولا بعلم الكوزمولوجيا. وخير دليل على ذلك أنه خلو من مصدر علمي أو فيزيائي. سوى مناقشة موضوع الزمن في الفلسفة اليونانية تحديدا. يليه لاحقا مقال آخر في نفس الثيمة هي الزمن من منظور الفلسفة. (سبق لي ونشرت مبحثين عن مفهوم الزمن في فلسفة كانط، آخرهما كانط وقالبا الزمان والمكان في الإدراك العقلي). المقال المرتقب الثاني تتمة هذا المقال ينشر تباعا بعده.  
الزمن والحركة
يقول ارسطو (الزمان هو مقدار الحركة من جهة المتقدم والمتأخر )1. نلاحظ في البدء أن ارسطو يقيس (مقدار) الزمن الذي لا يتغير ادراكا حدسيا بالحركة المكانية المتنقلة للأجسام بالعالم الخارجي من جهة هي كانت موجودات متأخرة(ساكنة) وانتقلت بالحركة فأصبحت موجودات متقدمة بالقياس الى وضعها السابق المتأخر مكانيا. والملاحظة الثانية أن أرسطو يفرق بين الزمن (وحدة) قياس الحركة التي ندرك الزمن بها وليس هو حركة فيزيائية صرفة يمكننا رصدها وتعيينها ومعرفتها منفردة من غير تعالقها بحركة الاجسام مكانيا.
الحركة هي ما يدركه الزمن العقلي مكانيا ولا تدرك الحركة المكانية للجسم هي ذاتها معنى الزمن وماهيته وكيف يؤثر بها.,هل الزمن فضاء ادراكي فوق العقل؟ أم الزمن فضاء ادراكي لا قيمة له دونما وصاية وتفكير العقل عليه.؟ أم لا معنى لأحدهما العقل والزمن في انفراديتهما الإدراكية للأشياء من دون تلازمهما؟ ثم لماذا ومتى نحكم على الزمن متحركا ذاتيا باطراد مع حركة الاجسام أو هو متحركا بقواه وخصائصه الذاتية التي لا ندركها فقط؟ أوهل الزمن ثابتا غير متحرك أم متحركا متغيرا على الدوام؟ وما هو مقياسنا لتأكيد أو نفي هذه المعادلة في الثبات والتغيير؟ وهل الزمن الارضي هو نفسه الزمن الكوني؟ أسئلة تحتاج الكثير للإجابة عنها بعضها علميا لا يتماشى مع الفهم الفلسفي الذي نطرحه.
الزمان هو تلازم تجريدي أدراكي عقلي حدسي يرتبط بيولوجيا بوظيفة العقل الإدراكية، لكنه أي الزمان ليس ماهية بيولوجية مدركة منفردة كجوهر مستقل، بل هو تجريد غير فيزيائي يكتسب معناه الفيزيائي من فيزيائية عمل العقل البيولوجي في معرفة الاشياء. أي الزمن يبدأ ملازمة الادراك العقلي فيزيائيا بدءا بالحواس والوعي والجهاز العصبي ثم انتهاءا بالذهن. والزمن يرافق جميع هذه الفعاليات البيولوجية فيزيائيا لكنه يبقى هو محتفظا بماهيته التجريدية غير المدركة.
ويكون المكان أدراكا عقليا مستقلا تجريديا يرتبط بيولوجيا بعمل العقل وهو موضوع مادي أو موضوع خيالي لا فرق لكنه لا يستطيع الخلاص من ملازمة الزمن له. المكان صورة من ادراكات العقل الزمانية. والعقل يحتاج الزمن في إدراكه الموجودات مكانيا في عالم الاشياء الخارجية... والزمن قرين العقل الادراكي قبل أن يكون قرين الموجودات المستقلة مكانيا في عالم الاشياء.. العقل لا يستطيع أدراك الموجودات مكانا في عدم ملازمة الزمن له.. ونحن ندرك الزمن في مقدار حركة الاجسام ونعجز إدراك حركة الزمن موضوعا مجردا منفردا عن ملازمته حركة موجودات المكان.
والحركة خاصية الزمان الذي هو (ثابت مطلق) غير متحرك حين تكون طبيعته مطلقا فيزيائيا يحكم الكون والطبيعة والأشياء، والزمن يكون محدودا فيزيائيا متغيرا بحدود معرفتنا وجود الاشياء ومدركاتنا لها في ثباتها وفي حركتها المكانية على الارض.. والزمن تحقيب أدراكي مكاني للأشياء محدود ومتغير به ندرك متغيرات مكان الاشياء الحركية حين نفهم الزمن بمنظور ادراكنا له على الارض وليس في مطلق وجوده الكوني في اللانهائي الذي لا تدركه عقولنا المحدودة كائنات  أرضية.. سوى بمقياس مقدار قربنا أو بعدنا الارضي عن الكواكب والمجرات بالسنوات الضوئية بواسطة أجهزة الكترونية متطورة جدا لهذا الغرض.. وليس بتحقيب الزمن التاريخي الارضي بالسنوات التقويمية العادية.
الزمن تحقيب وقتي حركي محدود ومتغير في أدراكه انتقالات حركة الاجسام الأرضية، ويكون الزمن مفهوما مطلقا يحكم الكون والموجودات في ثباته وليس في تغيراته بمفهومنا الارضي له، فالإنسان يحس الزمن متلازما مع كل شيء ثابتا كان أم متحركا محسوسا في عالمنا الأرضي فقط. وهذا يعني ثبات الزمن وتغيّره معا. ثبات الزمن أنه يحكم كل ذرة وجود بالحياة الى أعقد ظاهرة أو موجود كوني.. ويكون متغيرا حين يكون ملازما حركة الاجسام التي ندركها نحن في الطبيعة.
وبالحقيقة الاهم فالزمن ثابت لا يتغير لا في مطلقه ولا في نسبيته الا بتفريقنا نحن لمدركاتنا الارضية والكونية. هنا تعبيرنا الفلسفي عن عدم تغير الزمن غير مستمد من قانون النظرية النسبية التي تربط تغيرات الزمن بالسرعة وكتلة الجسم، في النظرية النسبية لإنشتاين حيث يتغير الزمن أو تقل سرعته ولا تتغيير صفاته الماهوية الثابتة كجوهر لا يمتلك ماهية معروفة لكنه متداخل وجودا في كل شيء يحكم الكون، ويحكم كل مدرك عقلي لنا ارضيا وكونيا معا.
أرسطو في عبارته التي مررنا بها (الزمان هو مقدار الحركة بالأجسام) يفهم الزمان مدركا مكانيا بدلالة (حركة) الجسم وانتقالته بمقدار معين عما كان عليه وضعه المكاني الثابت السابق. وبهذا المعنى هو يقصد الزمن الارضي وليس الزمن الكوني.
ومقدار الزمن عند ارسطو هو (مقدار) حركة الشيء أو الجسم المكانية ومقدار زمن انتقالته من موضع لآخر مكانيا. يلاحظ أن ارسطو حاول تفسير الزمن بالمقدار (وحدة قياس) وعجز عن تفسير الزمن بالماهية التي لا يمكن أدراكها عقليا. كما فسّر الزمن بحركة الجسم مكانا ولم يفّسر الزمن كحركة ذاتية منفردة يتصف بها ماهويا يمكننا أدراكها بمعزل عن حركة الجسم... 
أصبح من اليسير اليوم معرفة قياس (مقدار) زمن الحركة فيزيائيا في رصد حركة الشيء مكانا وانتقالاته. ويصبح من السهل معرفة مقدار الزمن بدلالة مقدار حركة الجسم أو الشيء. مثال ذلك توقيت مقدار جري المتسابق الرياضي في قطع مسافة 100 متر مثلا بعدد الثواني، هنا في هذا المثال يكون الزمن تحقيبا متغيرا لقطوعات زمانية جزئية ندركها حركيا لكنها لا تصلح لمعرفة الزمن كجوهر ثابت مطلق كونيا، ولا يمكن أدراك مطلق الزمان في جزئية تحقيبية محدودة من الوقت.
وهو دليل دامغ حول حقيقة التسليم بأن الزمن يقاس (بمقدار) حركة الجسم (مكانيا) ولا تعرف ماهية الزمن في تعذّر قياسه ومعرفته في خواصه الصفاتية فقط وليست الماهوية متعالقة في معرفة مقدار حركة الاجسام...الزمن تجريد إدراكي يعرف بالعقل وحركة الاجسام وليس تجريدا لغويا يعرف بتجريد العقل لمدركاته من الأشياء، ولا هو تجريد ماهوي يحدس منفصلا لوحده, بل الزمن هو تجريد وظائفي للعقل الفيزيائي.
والزمن ثابت في مطلقه كمفهوم يحكم كل شيء بالوجود والكون، ومتغير في ملازمته حركة الاجسام التي يدركها عقلنا الارضي.... جزئية أي شيء مدرك متعيّن عقليا لا يعطي الزمان مطلقه بل يعطي الزمان (آنيته) المدركة عقليا في حركة الجسم أو في سكون الجسم الذي هو في حقيقته ثبات زائف.
وبانعدام حركة الجسم مكانا لا يتوقف أدراك الزمن العقلي له على أية صورة كانت حتى لو كانت حركة الجسم نوعا من الصيرورة غير المستقرة التي ترتبط بعلاقات غير ثابتة غير مستقلة كموجودات غير متعينة ماديا كعلاقات تحكم وتتفاعل داخل الاشياء أو الظواهر. لكنها لم تكتسب صفة التعيّن الإدراكي مثل جسم أو غيره من الاشياء. فمثلا في علم الفيزياء تفهم العناصر المساعدة فيزيائيا وكيميائيا في تشّكل الشيء أو الظاهرة كعناصر تدخل في تركيب مادة ولا تدرك العناصر كمادة في متعيّن انطولوجي لوحدها منفردة.
لكن الشيء العبقري الذي يحسب لأرسطو هو أدراكه الزمن مفهوما ميتافيزيقيا مطلقا غير محدود بالتناهي الكوني حين لا يحدد للعقل ادراك الزمن ولا يعرف ماهيته الا بحركة المحدودات والمتعينات من الاجسام على الارض, والمكان هو متعّين وجودا مكانيا – زمانيا متلازما محدودا في زمانية حركة الشيء مكانا التي هي قطوعت زمنية متغيرة بتغيرات حركة الاجسام وليست قطوعات زمنية مطلقة ثابتة. وهذه القطوعات الزمنية هي جزء من الزمن المدرك ولا تمثّل الزمن كمفهوم مطلق ثابت لا يتجزأ يحكم الكون والطبيعة الارضية وموجوداتها وتكويناتها والانسان.
لذا لم يقع ارسطو في خطأ أن الزمان حركة مستقلة بذاتها يمكن معرفة مقدارها في قياسها مجردة لوحدها عن حركة الاجسام, بل الزمن ندركه عبر(مقدار) انتقالات الاجسام الحركية الملازمة لشيء متعيّن ثابتا مدركا مكانيا أو مدركا متحركا مكانا، فالمكان موجودا هو استدلال فيزيائي للزمن لكنه لا ينوب عن الزمن بالإدراك العقلي... ومثال ذلك أن الزمن نعرف محدوديته الزمنية بحركة جسم الرياضي في قطع مسافة معينة له، وبغير حركة الجسم لا يبقى موضوعا للعقل يدرك به معرفة مقدار الزمن بغير دلالة حركة الجسم ولا يدرك العقل ماهية الزمن ومقداره منفردا ذاتيا.
ونظرية انشتاين الزمان نسبي محدود وليس مطلقا لا متناهيا هي نظرية صحيحة في منطق معادلة الفيزياء الكونية التي تذهب الى أن الزمن يتباطأ كلما زادت سرعة الجسم لقطع مسافة معينة على مستوى سرعة سنوات ضوئية وليس على مستوى سنوات طبيعية بطيئة على الأرض. والزمن الارضي ليس هو الزمن الكوني ليس من حيث الماهية وانما من حيث القياس الكمّي فقط.
إذن ما ندركه نحن من زمان أرضي ليس هو مطلق الزمان الكوني بل محدوديته التي نعيّها في حركة الأجسام مكانا، العقل يعقل الزمان تجريدا كمفهوم ميتافيزيقي مطلق على الصعيد الكوني، ويعقله نسبيا متغيرا غير ثابت في حركة الاجسام على الارض.
الحقيقة التي ليس سهلا تصورها أن الزمن مطلق ثابت نسبيا في رصده كل موجودات الطبيعة والحياة، والمكان جوهر متغير بسلطة الزمن عليه كمتغير يلازمه بنفس الوقت، يجب ألا يفهم من هذا خطأ التصور أن الزمن يحرك الاجسام بل هو يكون ملازما لحركتها على الدوام. ويمكن ملاحظة ذلك أن الزمن لا ندرك حركته إلا بدلالة حركة الجسم المكانية، والزمن يحمل صفتين اثنتين متلازمتين تبدوان متناقضتين فهو نسبي ومطلق معا أي متغير وثابت بالاختلاف بين النسبي والمطلق الزماني الذي يحدده طبيعة ونوع المدرك العقلي أي موضوع الزمن المدرك, فالجسم المتحرك مكانا على الارض لا يفلت ولا يتخلص من سطوة أدراك الزمن عليه كتحقيب أدراكي زمني محدد متغير بوجود جسم وموجود في جميع انتقالاته الحركية.. فيكون بهذا المعنى الزمن يتغير طرديا مع تغيير حركة الجسم ويكون الزمن محدودا في ملازمته محدودية موضوع إدراكه، وعندما لا يمكننا إدراك الاجسام مكانا سواء في ثباتها أو في تغيراتها وفي كل الظروف والامكنة فيكون الزمن بهذا المعنى ثابتا مطلقا وباقيا ملازما لكل شيء بالحياة يدركه العقل أو لا يدركه على صعيد الكون وليس على صعيد موجودات الاجسام في الطبيعة وعلى الارض. فالزمن الارضي هو غير الزمن الكوني وهذه حقيقة مثبتة علميا.... وإدراكنا الحدسي لمطلق الزمن مرهون بعدم وجود مدركاته المكانية التي تجعل الزمن قطوعات مكانية في تحقيبه لها وتسهيل عملية إدراك العقل لها... ادراك الزمن للأشياء يسبق ملازمة العقل لإدراكها... والسبب بذلك الزمن لا يفنى بفناء عقل وجسم الانسان.
والزمان يحكم الاشياء بغير دلالة العقل له لكن العقل لا يدرك الاشياء بغير دلالة الزمن، بمعنى الموجود الذي لا يدركه العقل في حركته مكانا يدركه الزمن ويحكم وجوده. وهذا الادراك الزمني لا نفهمه ولا نحس به إلا إذا كان مقترنا بادراك العقل وإدراك الزمن للأشياء تجريدا بمعزل عن العقل وهو ظاهرة ممكن حصولها لكن عقولنا لا تستوعبها من حيث اننا ندرك الزمان في حركة الاشياء المحسوسة ولا ندرك الزمان المجرد في مواضيع غير مدركة للعقل مكانا مثل الفضاء الكوني والكواكب والمجرّات.
أدراك العقل لموضوعه هو أدراك العقل لوجود ذلك الموضوع حتى لو كان وجوده على مستوى التجريد الذهني.. ولا نعرف أسبقية إدراك الاشياء للزمن أم للوعي العقلي بها؟ أم بتداخل بينهما لا نعرف كيفية حدوثه؟ والحال هنا يشبه تماما أيهما أسبق وعي العقل بالشيء أم وعي اللغة بالشيء؟ لا إجابة نستطيعها.
المحرك الذي يتحرك او الذي لا يتحرك
يؤكد الفيلسوف الإغريقي سنبلقيوس (أن كل الحركات في العالم لها علة اولى أو محرك أول، وهذا المحرك الاول قال عنه ارسطو غير متحرك بالعكس من افلاطون الذي قال المحرك الاول متحركا أيضا، لأنه يمثل النفس الكليّة التي هي حيّة ومتحركة بذاتها ولا تحتاج من يحركها)2
يلاحظ من العبارة أن افلاطون أراد الهروب بذكاء من استحقاق فرضية أن المحرك الاول ثابت لأنه لا يتصور شيئا موجودا فيزيائيا لا تسبقه حركة اولية قبله وهو تصور سليم بحكم قوانين فيزياء الطبيعة، فلجأ الى ربط الحركة بشيء غير فيزيائي ولا تنطبق عليه قوانين الفيزياء وهو (النفس) المجردة المعروفة بتجليّاتها العاطفية المعروفة والأحاسيس السايكولوجية، واذا نحن أهملنا الجانب الميتافيزيقي(الديني) في توصيف المحرك الاول الذي لا يتحرك وهو يتحرك حسب افلاطون فتكون مقولته خاطئة تماما أمام مقولة ارسطو المحرك الاول ثابت لا يتحرك التي لا تقاطع المنحى الديني لكنها تقاطع قانون الفيزياء علميا.
وطبيعي أن نعرف مقولة ارسطو المحرك الاول لا يسبقه محرك آخر لم يستمدها من الدين غير المعروفة عنه آنذاك تلك المعلومة في عصره، بل ارسطو اطلق معلومته المحرك الاول ثابت من استلال فيزيائي في الطبيعة كون كل متحرك سابق عليه متحرك قبلي يسبقه وهذه سلسلة لا نهائية لذا يستحيل الثبات فيزيائيا أن يكون هناك متحركا أوليا لا يتحرك.. ولا يسبقه محرّك له سابق على حركته.
فالمتحرك غير الثابت الذي يتحرك يكون يسبقه بالضرورة محرك قبلي له هو الاخر يحتاج الى محرك متغير قبلي آخر يحركه وهكذا تدوم سلسلة المحرك يسبقه متحرك الى ما لا نهاية لذا وضع ارسطو حدا لهذه المتوالية حين قال المحرك الاول لا يتحرك بفعل محرك سابق عليه كي يضع حدا للجدل العقيم في من يكون هو المحرك الأول؟ وكيف جاء المحرك الاول بخاصية الحركة من سابق عليه لا نعرفه ثابتا ولا متحركا ولا موجودا..؟
أفلاطون طرح موضوعة ارتباط المحرك الاول بالنفس وليس بالجسم أو الموجود ماديا. التي- أي النفس- هي جوهر غير فيزيائي تتحرك ذاتيا دونما الحاجة لمن يستثير نزعة الحركة فيها خارجيا ويبعثها فيها أي أخرج النفس من صفة المادة في الحركة والامتداد، وهذه العبارة رغم انغماسها التام في الميتافيزيقا فهي لا تمنحنا أقناعا بها، وافلاطون لم يكن يعلم في عصره أن النفس ليست جوهرا غير منفصل عن الجسم كما وقع ديكارت بنفس هذا الخطأ واعتبر خلود النفس سببه كونها هي والعقل جوهران لا فيزيائيان خالدان باقيان منفصلان عن الجسم بعد فنائه.. في حين نجد أن علم وظائف الاعضاء وعلم النفس الحديث يعتبرون النفس مكوّنا بيولوجيا مرتبطا بمنظومة الإدراكات العقلية والجهاز العصبي والدماغ، ولا يمكننا التحقق من مادية النفس الفيزيائية لذا يكون فناء الجسم الفيزيائي ملزما فناء النفس اللافيزيائية معه...
ما عدا ما يؤمن ويبشر به لاهوت الاديان خاصة التوحيدية في خلود النفس بعد فناء الجسم الذي لا تقول به غير الاديان والفلسفات المتعالقة بها. كما هي عند ديكارت وبيركلي وباسكال وتوما الاكويني، ولايبنتيز، ومالبرانش وغيرهم من الفلاسفة المؤمنين بخلود النفس.
من جهة أخرى تعبير افلاطون حركة النفس حركة ذاتية لا تحتاج محركا يحركها هي الأخرى خاطئة من جانب ثان حيث أن النفس هي لا فيزيائية لكنها جوهر من تكوين بايولوجي مستمد من منظومة العقل الادراكية لكنها تتمايز عنها أنها سلوك سايكولوجي تعتمد في حركتها على ردود الافعال التي تستثيرها الاحاسيس التي يشعر بها جسم الانسان داخليا ويعمل على تلبية اشباعها سواء بتعبيرات النفس أو تعبيرات إشباع غرائز بايولوجيا الجسد.
بايولوجيا النفس غير المتحققة لنا فيزيائيا مستمدة من يايولوجيا منظومة الجهاز العصبي والدماغ لكنها تجريد لافيزيائي منفصل عن نظام بايولوجيا العقل... والنفس في هذا التجريد والانفصال عن بيولوجيا العقل والجسم يشبه تماما موضوعة انفصال الوعي غير الفيزيائي المرتبط فيزيائيا ببيولوجيا العقل لكنه جوهر لافيزيائي متمايز عن فيزياء العقل والجسم لا يمكننا ادراكه بيولوجيا.
من المعلوم في علم الفيزياء أن الحركة الذاتية بالأشياء بدءا من الذرة وصولا الى الكون جميعها مرتبطة بسبب ومسبب، سبب ونتيجة أي أن كل حركة يسبقها ويليها حركة، حتى داخل تركيب الذرة نجد حركة الالكترونات ترتبط بحركة النيوترونات، وهذه السلسلة اللانهائية من الحركة يتوجب حتما وقوفها عند محرك سببي لا يتحرك يستطيع تحريك غيره. هو عند ارسطو المحرك الاول الذي لا يتحرك وعند أفلاطون المحرك الاول الذي يتحرك.
كيف تصور فلاسفة اليونان الزمن؟
بالحقيقة شيء مذهل أن نجد عند فلاسفة اليونان في القرن الخامس والرابع ق.م هذا التعبير الفلسفي المعجز عن الزمن ليس بمقاييس عصرهم فقط وإنما بمقاييس زمننا المعاصر، ماهي دلالة الزمان وكيفية ادراكه؟ فلاسفة اليونان قبل ارسطو حددوا الاجابة بالتالي في اعتبارهم الزمن ليس جوهرا ميتافيزيقيا يتعذر إدراكه ولا قالوا الزمن جوهر فيزيائي من المتاح ادراكه كباقي الأشياء والموجودات بل قالوا التالي الذي لا نجد بديلا أفضل منه في عصرنا هذا غير هذه الثوابت المعرفية عن الزمن:
-         ارتباط الزمان بالحركة
-         الزمان هو مقدار حركة الشيء وليس هو الحركة نفسها
-         الزمان في الوقت الذي هو مقدار الحركة ومقياسها فانه في نفس الآن يقاس هو ذاته – الزمان -  بالحركة 3
 نناقش الميزة الاولى أن الزمان يمّثل حركة الشيء وليس هو الحركة بذاتها، والزمان هو مقدار تلك الحركة التي هي حركة انتقالات الجسم مكانيا، وهنا تكون حركة الشيء المكانية لا يمكن أدراكها الا بسبق إدراك زمني عليها يلازمها، بمعنى كل حركة هي تداخل مكاني زماني لا يمكن الفصل بينهما كظاهرتين تحكمان حركة الاجسام كما لا يمكن الاستدلال بأدراك أحدهما بغير دلالة تكاملها وتلازمها مع الاخرى.
فعندما نقول هذه منضدة وهي مدرك عقلي مكاني فالمقصود الحقيقي هو مدرك زماني أيضا معا. وعندما يقول أحدنا هذه يدي فوجودها في أي شكل من الوضع الحركي تكون عليه اليد فهي مدرك زماني ايضا. وتبقى الحركة خاصية مكانية تلزم الزمان بها لكنها ليست حركة ولا تدرك مكانا من غير ملازمة الزمان لها، فحركة الزمن مطلقة لا تتحدد أبعادها بأشياء مدركة مكانا.
المسألتان الثانية (الزمان هو مقدار حركة الشيء وليس هو الحركة نفسها) والعبارة الثالثة (الزمان في الوقت الذي هو مقدار الحركة ومقياسها، فأنه بنفس الوقت يقاس هو ذاته بالحركة) سأتناولهما بالتعقيب المتداخل بينهما.
أجد في العبارتين منتهى العبقرية بالتعبير الفلسفي بالقياس لذلك العصر، إذ لو قالوا فلاسفة الاغريق الزمان هو (حركة الشيء) لكنه ليس هو الحركة بذاتها والزمن ليس حركة بل هو (مقدار)، فيكون الزمن بهذا المعنى هو حركة الشيء وليس مقدار حركته، مما يرتب على الزمن أن يكون سببا ماديا في تحريك الأجسام، وأنه هو سبب وباعث الحركة المكانية بالأشياء والاجسام وهو خطأ فضيع في التعبير القاصر... فالزمن لا يحرك الاجسام.
الخطأ هو في التعبير بين أن يكون الزمن هو حركة فيزيائية مستقلة بذاتها، أو يكون حركة ترافق حركة الاجسام لكنه ليس علّة وسبب في حركتها فهذا لاخلاف عليه رغم أمكانية تخطئته، عندما يكون الزمن هو (مقدار) الحركة وليس هو الحركة أي الزمن الذي ما نركه منه لا اكثر من كونه (وحدة) قياس كميّة حركة الاجسام والاشياء وليس هو حركتها أو سبب حركتها، وهذا يختلف جدا أن نقول الزمن هو حركة الاشياء أو هو حركة ذاتية مستقلة، فكلا هذين التعبيرين خاطئين.
فعندما نقول الزمن (مقدار) حركة الشيء لا يعني هذا الزمن أصبح هو (حركة) الشيء. بل الزمن هو مقدار قياس حركة الشيء وليس هو حركة الشيء بذاته. والذي يحرك الجسم هو محرك من نوعه المادي وليس من نوعه الذي لا يجانسه بالصفة المادية حصرا، فلا يشترط أن يسبب حركة جسم الإنسان انسانا من نوعه بل مادة أخرى من غير جنسه لكنها تشترك مع الانسان في الخاصية المادية والفيزيائية.
فالزمن هو مقياس لحركة جسم مادية خارجية تفترق معه بالصفات والماهوية، لذا جعلوا فلاسفة الاغريق صفة الحركة هي من صفات الجسم المادي وليس من صفات الزمان غير المادي...شيء آخر الزمن ماهية غير مادية فكيف يكون بمقدورها تحريك ما هو مادي كالأجسام؟ وهل صيغة التساؤل صحيحة وفي محلّها من حيث المبدأ قبل مناقشتنا الاحتمالية في تخطئتها باعتبار لا مادية الزمن لا تمتلك قابلية تحريك الاجسام المادية أصلا كون الزمن جوهرا غير فيزيائي فلا مبرر للسؤال.
يتبع في مقال قادم

تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس