اللغة والتفكير


اللغة والتفكير
                                                                              25 يونيو 2020


د علي محمد اليوسف



اللغة نظام من تشكيل الأصوات في صورة كلمات متنوعة ومفردات منتظمة ضمن قواعد خاصة فلا يمكننا مثلا مراصفة كلمات مختارة لأسماء شيئية في تكوين جملة أو عبارة ذات معنى، لذا عندما نقول لكل لغة قواعد نحوية خاصة بها تكون هذه القواعد ميزتها الأساسية الأولية أنها تسبق معنى التعبير، من غير الممكن فصل تفكير العقل عن لغة تعبيره عن مواضيع تفكيره... لماذا؟ لأن تفكير العقل لا يتم بغير لغة تجريدية تتم في عملية معقدة في الذهن. لذا يصبح التفكير العقلي هو اللغة.
إذن ما الفرق بين لغة العقل في التفكير الصامت داخليا عنها في لغة العقل التعبير عن مدركاته الخارجية؟ سنرجئ الإجابة التوضيحية الى موضع لاحق من هذه المقالة، لكن من المهم معرفة ان العقل في تفكيره الداخلي الصامت في مواضيع الخيال، وفي تفكيره الإفصاحي الخارجي عن مدركاته المادية انما يكون بلغة عقلية واحدة هي لغة تجريد صوري تمّثلي للتعبير عن الاشياء الخارجية كمدركات مادية، وعدم تعبيره لغويا نحو الخارج في صمته التفكيري. تفكير العقل في جميع الأحوال هو تفكير صوري تجريدي بوسيلة ومفردات اللغة كعلامات غير مفصح عنها، او كدلالات مفصح عنها لغة عن موجودات يدركها خارجيا.
الإسم والفعل
في كل لغة هناك تقسيم الكلمات الصوتية اللغوية الى اسماء وافعال وحروف، وأخرى تدل على فاعل ومفعول، والى معرّف ونكرة ومضاف ومضاف إليه، وكلمات ظرفية وأخرى شيئية وكلمات غير شيئية تعطي دلالة معناها في مفهوم عام كقولنا كلمات مثل أمل، فرح، سعادة، حزن، شجاعة، حكمة، وهكذا الى ما لانهاية حصره.
والأسماء من الكلمات جرى تفريقها عن غيرها من الكلمات منذ عصر أرسطو، انها ليست زمنية، اي الاسماء لا تتعالق دلالتها اللغوية مع التوقيت الزمني المعروف، فالاسم هو صوت شفوي يحمل دلالة تواضعية شيئية عن معنى شيء محدد أي يشير الى دلالة متفق عليها مجتمعيا من دون الرجوع الى خلفية للزمن فلاسم الشيئي باللغة لا يحمل معه تزمينه كما هو الحال مع الفعل باللغة... لكن أحيانا نجد خرقا لهذه القاعدة في لغتنا العربية مثل قولنا (حزيران الماضي) فهنا أرتبط الاسم حزيران بتحقيب زمني هو الماضي.
على العكس من الأسماء تأتي الافعال التي هي دلالة لفعل زمني ولا يمكن للفعل أن يكون تعبيرا شيئيا عن شيء كما هو الاسم. فعندما نقول اسم كرة فالكلمة تحيلنا الى شيء معين دون غيره تقصده ولا علاقة زمنية له بمعنى الكرة، لكن عندما نقول فعل (لعب) فهي لفظة تعني القيام بعمل يلازم زمن اللعب هو الماضي، ويلعب يزامنه زمن الحاضر، وسيلعب يزامنه زمن المستقبل وهكذا.
وحين نصف اللغة خاصية انسانية فطرية – مكتسبة (توليدية) فليس معنى ذلك أن اللغة فعل إرادي انفرادي متحرر عن كل التزام معيّن دونما مسؤولية وهدف قصدي، بل اللغة خاصية مجتمعية مسؤولة وملتزمة في التعبير عما تقصده من معنى تواصلي ترغب تحققه، أي يرغبه قائل اللغة كلاما شفاهيا منطوقا أو كتابة لغوية.
تعبير اللغة
القول بما يذهب له التحليل اللغوي التقليدي الذي يقصر وظيفة اللغة تصديرها (الفكر) التحاوري نحو الخارج (المتلقي) يجده البعض من علماء اختصاص تحليل نحو اللغة تعبير توظيفي يختزل اللغة بحدود معينة... رغم أن اللغة في إقرارنا المبدئي انها وسيلة تعلم اللغة والتواصل بها، كقاسم مشترك بين الفرد والمجموع، ولا تكون هذه الخاصية اللغوية شغّالة فاعلة بغير هذا المعنى السوسيولوجي.
من الصحيح أن هذا الفهم التعميمي في اقتصار وظيفة اللغة بتوظيف أحادي يقوم على تبادل الخبرة المعرفية والسلوكية والنظامية من خلال خاصية اللغة كمحاورة مجتمعية يصادر عدد لا محدود من وظائف لغوية غير التحاور التواصلي تتعالق مع الفهم الخصوصي لنحو كل لغة خاصة على حدة لوحدها. لذا فوظيفة اللغة التحاوري العام لا يدخل ضمن منحى تفسيرات نحو اللغة بما هي لغة تعبّر عن المفهوم الفلسفي لها.
لكن من الواضح أن تعبير اللغة يكون مجال تواصلي مصدره توجه المتحدث الداخل نحو المتلقي الخارج, بمعنى اللغة هي تصدير ناطق من فرد لآخر أو مجموع... وهذا الفهم يمكن أن يكون خارج تحليل وظيفة اللغة نحويا، أن (صمت) اللغة تفكير داخلي موجه من الذات الفردية نحو الذات الفردية نفسها وليس خارجها كما هو وظيفة اللغة بالحوار التواصلي, الصمت تفكير بلا اصوات لغوية خارجية تفصح عنه، عندما تكون اللغة تفكيرا صوريا داخل النفس وما يتصل بها من دواخل عاطفية وأحاسيس لا تصلح أن تكون  بهذا المعنى لغة خارجية ميزتها الاساس هي لغة صوتية (من – إلى) نظام صوتي معبّر عن اشياء معينة كموجودات مادية  تشكل حيزا تداوليا تحاوريا توصيليا.
 لغة تفكير العقل الداخلي هي لغة فكرية قوامها تفكير الصمت اللغوي وليس لغة الافصاح المنطوق نحو الخارج الذي هو لغة تقوم على ابجدية الصوت بالحرف والمقطع والكلمة وصولا الى العبارة أو الجملة.
فاللغة الخارجية هي أصوات متناغمة في نظام الدلالة عن معنى محدد مقصود، أما الحوار الداخلي مع النفس استبطانيا فهي لا تسمى لغة صوتية بالمعنى الحقيقي وإنما تسمى تفكيرا داخليا يقوم على تفكير لغوي صوري تجريدي مضمر وليس على تفكير لغوي معلن عنه بلغة صوتية خارجية تحاورية بين مصّدر لها ومتلق لها.
اللغة والفن
لغة الصمت في تفكير العقل ليست ممارسة سلبية غير خلاقة تعّطل قدرات العقل عن الابداع في الادب والفن وضروب الفعاليات الثقافية. فلغة التعبير الفني مثلا في النحت والرسم وفي جميع جماليات الفنون التشكيلية, هي ايضا لغة حوار داخلي صامت معبّرا عنه بوسائط توصيل تأملية هي غير لغة الكلام المنطوق أو الكتابة المقترنة بزمن محدود...وتكون لغة الحوار التواصلي في الفن والادب والجمال في حالة كمون استبطاني يستنطقها الانسان المتلقي ويفهمها حسب ثقافته وتكوينه النفسي والجمالي وذائقته العاطفية والنفسية في تلقيه  ضروب الفنون التشكيلية والاجناس الأدبية غير المتاح الافصاح عنها لغويا ابجديا صوتيا لا بالمعنى الشفاهي ولا بالمعنى اللغوي التواصلي المكتوب.
واللغة الصامتة بالفن منتج عقلي للفكر وتداعيات اللاشعور المنتج ابداعيا...أما لغة التعبير الانساني الكلام أو اللغة المكتوبة فهي منتج مصنع الحيوية العقلية الانسانية المتفردة خياليا أو فكريا تواصليا، وبذلك يصبح الانسان كائنا لغويا يفكر وهو صامت وفي مخياله حضور ووعي الزمن الماضي والحاضر والمستقبل. وهذا النوع من الادراك بالزمن والمستقبل لا يتوفر عليه الحيوان...فالحيوان لا يعي الزمن مثل الانسان، حتى وأن كان هذا الوعي الزمني (افتراضيا) كما يمارسه الإنسان افتراضا تحقيبيا زمنيا وتاريخيا وجوديا لا غنى عنه عندما يتعامل مع الزمن ادراكيا ويجهل ماهيته معرفيا... وعي الانسان وعي زمني وقصدي منظم غير عشوائي ولا هو ردود افعال لا معنى لها...

وعي الذات واللغة
الإنسان كينونة تمتلك فينومينولوجيتها وماهيتها وجوهرها المعبّر عنها في جميع صفاتها وكيفياتها التي تجعل من الانسان كائنا متمايزا في هوية جوهرية ماهوية مستقلة منفردة، وفي هذه الخاصية يتأكد استحالة الاتحاد الانساني غير القابل للتسوية بين الوجود في ذاته, والوجود من أجل ذاته, ومثال هذه الاستحالة تتمثل في محاولة الصوفية الاتحاد الانجذابي الاتحادي المؤقت بين الله الذي هو وجود (بذاته)، مع الانسان الذي هو وجود (لذاته) في كيان مادي ماهوي متعيّن، الله كيفية افتراضية لا معنى يحدها ولا ادراك عقلي يتصورها يمكن أتحادها بكيفية انسانية مغايرة مادية. والله كائن نوراني حسب التعبير اللاهوتي لا يدرك عقليا وغير متعيّن ماديا بالنسبة لإدراك الانسان في محدودية ادراكه في اللانهائي والوجود الكوني. وفي هذا الفارق الجوهري الكبير ممثلا في تغاير واختلاف (كيفيتين) أحداهما روحانية لا يدركها عقل الانسان والاخرى مادية تتمايز ماهويا ذاتيا، كما تتمايز بعلاقتها مع قوانين الطبيعة فيزيائيا التي يتحكم بها مطلق الزمان ولا محدودية المكان...وبهذا فالإنسان كيفية لا تلتقي الا مع كيفيات أخرى تشترك معها بالصفات الجوهرية المادية من نوعها تتجانس معها في كل أو بعض الصفات والماهيات ضمن ضوابط قوانين الطبيعة. أما التعبير عن الحلول التصوفي كدلالة عن حال غير متحقق فعليا فهنا يكون لا اهمية لتلك التمايزات ولا لذلك الاختلاف الماهوي بين الله والإنسان.
لغة التخييل الانساني هو قسمة مشتركة بين وعي ذاتها ووعي مدركاتها المادية وغير المادية، كذلك مفهوم الخيال في وعي الانتاجية الفلسفية او الجمالية، وفي نظم الشعرية الادبية الفنية، وفي أية فعالية فنية جمالية ينتجها الانسان ويلعب الخيال الفاعل دورا مهما فيها، وفي مجمل الفنون التشكيلية والنحت وغيرهما، كذلك الحال في إبداعات الاجناس الادبية الشعر والرواية والقصة ومختلف السرديات التي تعبر عن جماليات الادب والفنون عامة... في كل ما ذهبنا له يكون الخيال المنتج حاضرا.
رغم أني في عدة مقالات فلسفية منشورة لي تناولت فيها علاقة التعبير اللغوي كقاسم مشترك يتوسط التعبيرين الفلسفي والشعري، الا أني أجد في نهاية هذه المقالة المرور السريع بهما. فالشعر بخلاف فلسفة افلاطون عن الشعراء أكثر انواع التعبير الانساني الذي يتعالق تواشجيا ارتباطيا بالتعبير الفلسفي. كما يذهب له نيتشه وهيدجر وغيرهما.
لكنما الفرق الجوهري الكبير مابين الفلسفة والشعر يأتي على صعيد (تجريد) التعبير اللغوي في المنحيين، فتجريد لغة الفلسفة هو من النوع المنطقي القائم على تماسك الشعورالعقلي اليقظ باستمرار، بينما يكون تجريد اللغة في الشعر هو تعبير انسيابي لا يحده المنطق العقلي بل تتلاعب به وتتقاذفه تداعيات اللاشعور الفيضية التي لا يقف خيالها عند حدود معينة. (تفصيل أكثر يجده القارئ في مقالتنا المنشورة الفلسفة والشعر).
لغة الخيال العقلي غير الانفصامي المرضي المنتج ,هو قسمة مشتركة بين الفلسفة والشعر باختلاف أن لغة التعبير الفلسفي تلتقي بالشعر في ناحية انها ايضا تتعامل بمنطق التعبير اللغوي التجريدي الذي يتداخل فيه الخيال مع الفكر، لكن التعبير الفلسفي التجريدي لا يلغي هيمنة العقل ورقابته الصارمة، على العكس من الشعر الذي يطغى فيه الخيال وتداعيات المنطق اللاشعوري في اللغة، الذي لا يتوّسل العقل في التنظيم اللغوي، ولا يستدعي الشعر العقل في لجم الخيال المتداخل في جوهر منطق التعبير الشعري الذي ينتهك اللغة المنظمة ويعمل على جعلها لغة تهويم خيالي يخرج باللغة عن مألوفيتها التواصلية التداولية في ابتداع لغة خاصة خارج التنميط العادي. في وقت ترى الفلسفة لغتها التعبيرية في حضور صرامة العقل على التفكير الفلسفي أن تكون صياغة الافكار فيها تقترب جدا من صرامة علم الرياضيات في المعادلات.
الفلسفة في خروجها على التنميط اللغوي التواصلي، تذهب باللغة الى مجاهيل الفهم الاستعصائي على التلقي المباشر، فهي تستدعي العقل في رقابته الصارمة ألا يخرج التعبير الفلسفي العقلي، عن منهجية اللاشعور في غلبة الخيال في أنتاج تعبير اللامعنى وإعدام نظام اللغة التقليدي كما في الشعر.
أؤكد ما سبق لي ذكره في أكثر من مقال أن عبقرية اللغة سابقة على عبقرية الفكر، كما ان جمالية اللغة أسمى من جماليات التعابير الاخرى التي لا تتوسل اللغة قيمة عليا في التعبير. رغم أن تراتبية انتاجية العقل للغة لا يسبق انتاجية العقل للفكر حسب اجتهادي الشخصي. لكن ثمة تساؤل تعجز عنه إجابة الفلسفة كما تعجز عنه اجابة العلم الوظائفي للأعضاء البشرية هو أيهما يستبق الاخر تفكير العقل لغويا أم تفكير اللغة عقليا؟ وهل تجدي أمكانية افتراض الفصل بين هذين المنحيين؟
ففي حال صمت الإنسان، تكون اللغة هي الفكر ولا تفريق بينهما خارج الذهن كما لا تفريق بينهما داخله أيضا. فاللغة هي الفكر داخل العقل وخارجه في ترابط لا انفكاك بينهما. واللغة والفكر حوار داخلي غير مفارق ولا معلن, وكذلك هما خارج العقل حوار عقلي لغوي معلن لا انفكاك بينهما في فهم احدهما بمعزل عن الاخر. اللغة والفكرة تعبير واحد عن موضوع ملازم واحد في زمنية لحظوية محسوبة، ويفترقان عن الخيال العقلي المنتج لهما، وفي التمايز الدلالي بينهما، متى ما أصبحت الفكرة واقعا ماديا دلاليا معبّرا عنها بلغة يدركها المتلقي في ظاهرياتها، أو يستشعرها بما تستبطنه الفكرة من دلالات وأحاسيس تحمل فائض المعنى بلا نهاية قرائية استقبالية للنص اللغوي.


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس