فلسفة اللغة وتغييب الواقع

philopress

فلسفة اللغة وتغييب الواقع
                                                      16 يونيو 2020

د علي محمد اليوسف




تقديم
بعد بروز ظاهرة التحول اللغوي منتصف القرن العشرين (فريجه، دي سوسير، فينجشتاين، رورتي)، وفلسفة العقل والوعي واللغة ونظرية المعنى (رايل، سيرل، شومسكي) والعديد من الفلاسفة الذين يحسبون على الفئتين المتداخلتين، نتساءل:
هل باتت اللغة في فلسفة المعنى تجريدا تعبيريا (شكليا) بلا موضوع يحتوي قصدية مضمونية دلالية واقعية خارج نظام اللغة الخاص؟ وهل الاشياء والموجودات المستقلة بالعالم الخارجي أصبح لها نظاما نسقيا منطقيا مستقلا ليس بحاجة اللغة الصورية الذهنية التعبير عنه؟ وهل كل شيء ندركه في معرفتنا موجودات العالم من حولنا أنما تجري معالجته في تجريد اللغة الذهني داخليا بعيدا عن تعالقه بوجوده المادي الواقعي بحياتنا؟ بمعنى هل أصبح فهم العالم من حولنا هو تجريد لغوي صرف يخص نظام اللغة داخليا بما هي لغة تلزمها قواعد نحوية وضوابط رمزية وعلامات واصوات تشكل صفاتها وماهيتها، وأنه لم تعد اللغة وسيلة تواصلية مجتمعية معرفية لفهم وتفسير العالم من حولنا ولا هي قابلية نوعية وملكة خاصة بالإنسان وحده في تواصله مجتمعيا بما لا يستطيعه الحيوان ولا الآلة الصناعية؟
موضعة اللغة والهوية
يقول فتجنشتين (القضايا التي لا يكون لها استخدام في اللغة لا يكون لها معنى)، إذا حاولنا تفسير معنى العبارة فهي تحتمل تداخلين من القراءة التأويلية، فأما أن تكون القضايا التي تعجز اللغة التعبير عنها لا معنى لها وباطلة ولا فائدة من الاهتمام بها، وهذه قراءة نمطية كلاسيكية غير سليمة ولا صحيحة فلا يوجد موجود متعيّن انطولوجيا لا معنى له في غياب أدراكه أو في حضور إدراكه على السواء.
وأما قراءة الوجه الثاني للعبارة أن القضايا التي لا تجد في اللغة استخداما يخدمها تكون لا معنى لها. وهذا تعبير غير دقيق ايضا فالقضايا الموجودية التي نعيشها ونعايشها لا تبحث هي عن لغة تحتويها، بل اللغة تبحث عن قضاياها التي تثير الاهتمام في التعبير عنها.
أي بمعنى محايد ثالث يتوسط التداخلين اللذين ذكرناهما ليس هناك من وجود لا يصله إدراك اللغة العقلي وما لا يقع تحت طائلة الادراك العقلي في تعبير اللغة عنه لا أهمية له ولا وجود له يستحق الاهتمام. وهو رأي تداخلي التباسي ثالث يزيد المشكلة تعقيدا بدلا من محاولة أيجاد طرق حلها لما يحمله من منطق تعبيري يبدو سليما في ظاهره فقط ويعتمل تناقضه بداخله في لامعناه بالتطبيق. فليس كل ما لا يدرك ليس له اهمية ولا قيمة؟ فما لا تدركه انت ويصبح عندك بلا قيمة يدركه غيرك ويعطيه قيمته.
كلا التفسيرين والثالث غير المرفوع بينهما يحملون جميعهم تناقضا يستحق المناقشة المستفيضة. كون اللغة حسب هذه المغالطة المنطقية في التجريد اللغوي تكسب الأشياء معناها ولا تكتسب اللغة من الاشياء معنى مضافا لها في تموضعها كوعي عقلي ادراكي هو جزء من موجودات الواقع بعد تموضعها بالأشياء وفقدانها خاصية التجريد الذهني الانفرادي..
تموضع اللغة في تكوين مواضيعها المدركة تعبيرا عقليا عنها يستهلكها (التموضع) كهوية ذاتية لها خصوصية استقلالية كفكر تجريدي لتكون اللغة في التعبير المتموضع في الاشياء جزءا ماديا متداخلا في صلب التكوين الشيئي التي تموضعت اللغة فيه. ثم أن اللغة ليست وسيلة تعبير ميكانيكية محايدة لا تتأثر بموجوداتها المدركة فهي تتطور جدليا من خلال تعالقها التعبيري عن مدركات العقل.
في التموضع الفكري بالأشياء تتحول اللغة من صيغة ماهوية تجريدية تعبيرية انفرادية مصدرها العقل الى صيغة ماهوية مادية صفاتية مصدرها الاشياء والموجودات التي تموضعت فيها وأصبحت اللغة جزءا من تكويناتها في نظام الواقع وخرجت اللغة على نظامها الفردي الذي يراد له الاستقلالية المتوازية فلسفيا مع الواقع وليس الاحتدام المتضاد معه بغية تغييره حسبما ترفضه نظرية المعنى..
تموضع اللغة بالأشياء يعني خروجها وفقدانها خصائصها التجريدية الانفرادية التي تمثّل ماهيتها الهووية وتتلاشى في موضوعها الذي عبّرت عنه كصفات للأشياء وليس كجواهر وماهيات. فاللغة تعبير شكلي عن الاشياء كصفات خارجية ومضمونية أكثر من اهتمامها العاجز التعبير عن الماهيات كجواهر ذاتية.
من غير المسلم به ولا مسوّغ له يمنحنا تفويضا أن ننطلق من مقولة خاطئة مفادها كل عالمنا هو وجود صوري لغوي تجريدي تتم معالجته بالذهن فقط كما تذهب له المنطقية النقدية المثالية التجريبية (جون لوك, ديفيد هيوم , بيركلي) الموروث عن الفلسفة المثالية عموما بدءا من كانط، فخته، وهيجل وصولا مرحلة التمهيد لعصر التنوير والحداثة شوبنهور، اوجست كونت، نيتشه، وصولا الى البنيوية والتفكيكية، متجاوزين جميعهم قيمة أحقية الاهتمام بالعالم المادي المستقل في الطبيعة بوجوب تعالق اللغة التعبير عنه وليس الاستدلال به كوجود مادي فيزيائي أو لا وجود موجود أصلا الا في أذهاننا فقط، كما أشاعه (باسكال، جون لوك، ديفيد هيوم) أن الواقع هو العلاقات التصورية في اذهاننا عن العالم فقط ولا وجود مادي خارج إحساساتنا، وهو رأي مقبول الى حد ما من حيث أن وسيلتنا الوحيدة في أدراكنا العالم الخارجي هو تصورات وتمثلات الذهن للأشياء تجريدا في تعبير الفكر واللغة عنها. فالواقع موجود مادي مستقل لكن ادراكه ومعرفته هي تجريد لغوي تتم بالذهن لا في غيره. ولا تتوفر للإنسان وسيلة إدراك وفهمه العالم غير وسيلة تجريده باللغة.
يوجد فرق كبير بين إدراك اللغة الاشياء بالذهن والتموضع في التعبير عنها خارج الذهن في وجود تلك الاشياء باستقلالية سابقة على الادراك واللغة معا. تصوراتنا وتمثلاتنا العالم تجريديا باللغة لا يعني أن تلك الموجودات فقدت وجودها المادي الحقيقي المستقل في العالم الخارجي وأصبحت عالما من الموجودات الذهنية فقط. اللغة وسيلة تعبير عن مدرك عقلي موجود قبل تفكير العقل واللغة فيه تجريديا. وتجريد التفكير بلا موضوع ماثل بالذهن (خارجيا أو داخليا خياليا) لا يتوفر عليه العقل. فالعقل لا يفكر تجريديا في فراغ. الفكر هو موضوع ومن غير الموضوع لا فكر ولا لغة بعدية تعبّر عنه.
الموجود المادي لا ينفي وجوده عدم الادراك الفردي له
  ويبقى الاهم من إدراك الوجود في لغة التجريد هو لا إمكانية نفي الوجود المادي الموجود القائم في استقلالية انطولوجية تامة سواء أكان مدركا لغويا أم لم يكن.. ولا خلاف حول هذا الامر أن اللغة هي حمولة لمعنى إدراك الاشياء تجريديا في معرفتها ولا تكون اللغة حمولة تحمل معنى انطولوجيا تلك الاشياء والموجودات في العالم الخارجي كوقائع موجودة مستقلة عن الانسان لا أهمية موجودية لها من دون الادراك العقلي لها والتعبير الفكري اللغوي عنها. ما لا يدرك وعيا فرديا لا يعني انتفاء الموجود ماديا وأنه أصبح لا أهمية يحملها أدراكه من قبل ذوات جمعية أخرى. انعدام وعي فرد واحد في عدم ادراكه لموضوع لا يعني انعدام الوعي به وإدراكه من آخرين.
والحقيقة التي تفرض نفسها هي ليس كل شيء تتم معالجته في معنى اللغة التجريدي للعالم من حولنا تمثلا لغويا صوريا نعجز عن تخليقه لغويا وليس خلقه أو الاستغناء عن فهمه خارج نطاق فلسفة اللغة المجردة ذهنيا صوريا في ذات الوقت. الفرق بين تخليق الشيء وبين خلقه، هو في مقدرة الفكر واللغة تخليق الشيء بمعنى تغييره كموجود أنطولوجيا، أما الخلق فيعني ايجاد شيء لم يكن له وجودا انطولوجيا.
اللغة قبل التعبير التموضعي لها خارجيا في الاشياء تكون تجريدا صامتا لتفكير العقل لا علاقة تربطه بالموجودات قبل الوعي العقلي بها في ارادة العقل التعبير عنها باللغة، فالوعي الادراكي العقلي لموجود لا أهمية له خارج إدراك الفرد الواحد، يصبح ذلك الموجود مشتركا جمعيا بإدراكه حينما تتناوله اللغة بالتعبير عنه وتتموضع به. وفي تموضع اللغة بالأشياء خارج إدراك العقل تكتسب اللغة هويتها المادية الجمعية عوضا عن هوية التجريد الفردي اللغوية التي كانت تحملها قبل تموضعها بالأشياء كتجريد فكري لغوي داخل الذهن.
الواقع كموجودات وظواهر مستقلة لا حصر لها هي التي تخلق الوعي بها ولا يمكن للفكر والوعي خلق واقع مادي بتفكير مجرد لا يتقدمهما واقع موجود مستقل مدرك سابق عليهما، بل من الممكن للفكر الخيالي خلق وقائع وعوالم مادية بالفن والادب تبدو لنا في منتهى الواقعية لكنها في حقيقتها عوالم افتراضية لا تعيش ولا تمتلك الحياة على الارض قبل تناولها الفني باللغة في الادب أو تناولها الفني بالألوان والكتل والخطوط والفراغات في التشكيل الفني أو تناول تلك العوالم الخيالية حياة الانسان في الحركة والعلاقات الاجتماعية والنفسية وعلاقاتها مع الوقائع والموجودات الخارجية.
تدوير ملاحقة المعنى اللغوي في دورة تحليل مقفلة على نفسها كنظام خاص مستقل تجريدي باللغة، في تعدد المتراكم الاستقبالي له من القراءات المتعددة على الدوام لا يغيّر من حقيقة أن الواقع لا يتغير بالفكر المجرد الذي يوازي الواقع ولا يداخله في التقاطع والاحتدام معه كما تذهب له نظرية المعنى في فلسفة اللغة، بل تكون الافكار المصاغة على شكل نظرية نسقية متكاملة هي التي تمتلك قدرة تغيير الواقع العملاني الذي يقوم على الاختبار الحقيقي لتلك النظرية في ملازمتها اداة تنفيذها تلك الافكار النظرية التي هي وسيلة ارادة الانسان ونزوعه الدائم الذي يراوده ويلازمه في ضرورة التغيير المستمر للواقع والفكر كليهما معا.
بمعنى حتى النظرية المتكاملة كنظام لغوي في العلم وفي الايديولوجيا ليس بمقدورها تغيير الواقع أو التأثير به من غير إرادة الانسان الخلاقة كوسيلة تحويل النظرية الى واقع مدرك تصبح جزءا منه.
هذا ينطبق على البراجماتية أو الذرائعية العملانية الامريكية، وينطبق على الماركسية كإيديولوجيا سياسية، كما ينطبق على مختلف علوم الفيزياء والكيمياء والرياضيات والهندسة فالنظرية العلمية الصحيحة المكتوبة على الورق من غير تطبيق عملاني لها لا قيمة ولا معنى تحمله.
وعي اللغة وتوازي الواقع
حسب الفيلسوف الامريكي جون سيرل يعتبر الوعي تمثيل واقعي للأشياء محايث للعقل بيولوجيا كحلقة جوهرية داخل منظومة العقل الإدراكية التي تبدأ بالحواس ولا تنتهي بالدماغ, والوعي ليس تجريدا فلسفيا خاصا مرتبطا بسايكولوجيا النفس غير الفيزيائية فقط وإنما يرتبط ايضا بيولوجيا بمنظومة العقل الادراكية في الجملة العصبية والدماغ، فالوعي القصدي لا يمكن حصره في حيّز استثارة بيولوجية تهم دواخل الانسان الباطنية النفسية فقط تليها وتعقبها استجابة بيولوجية لإشباع بواعث الغرائز التي يستثيرها جسم الانسان على شكل احاسيس يستلمها الجهاز العصبي والدماغ ليتداخل في اشباعها كردود الافعال الارادية وغير الارادية في تعالقها مع منظومة الجهاز العصبي والعقل المتداخل مع نفسية الفرد وما ينتابه من مشاعر داخلية. (شعور الانسان بالجوع مثلا، العطش، البكاء، الفرح، النوم، الألم، الجنس، الافراغ وهكذا). ومن جنبة أخرى الوعي أيضا حلقة وصل بين استثارات موجودات العالم الخارجي التي تنقلها الحواس للعقل كإحساسات خارجية وليس أحاسيس داخلية التي هي مثيرات حاجة جسم الانسان داخليا بضرورة اشباع مثيرات تلك الغرائز كما ذكرنا. والاحساسات مثيرات الحواس لجسم الانسان.
استطراد بين قوسين
وتعقيبنا التواصلي مع هذا الفهم الصحيح لبيولوجيا الوعي المرتبط فسلجيا توظيفيا مع منظومة الادراك العقلية وليس بالنفس فقط, الذي يمكننا تشبيهه بكيمياء تصنيع مادة الكلوروفيل (المادة الخضراء) في النبات التي تدخل في صناعة النبات لغذائه في استهلاكه الضوء واشعة الشمس وحاجته ثاني اوكسيد الكاربون ليطرح النبات الأوكسجين، فهذه العملية هي فعالية بيولوجية صرف لكننا نعجز عن ادراكها حسّيا ظاهراتيا كصفات حسيّة بائنة يمكن ملاحظة تصنيعها داخل اوراق النبات بل نتأكد من حصولها البايولوجي تجريبيا علميا في دراسة الظاهرة مختبريا فيزيائيا.
من جانب آخر تعتبر هذه العملية من أهم عوامل حفظ التوازن البيئي في الطبيعة وإدامة حياة الانسان بمقدار ما تمثله من ضآلة ادراكية لا يهتم بها الانسان في علاقته بالطبيعة. فتعويض النبات للأوكسجين بدلا من ثاني اوكسيد الكاربون تجعل الانسان يرتاح لبيئة الطبيعة الخضراء في أدامة حياته وضرورة استهلاكه الاوكسجين لإدامة بقائه. لذا يكون قطع الأشجار بلا مسؤولية بيئية متوازنة تعويضية تنشر الخلل البيئي في التصحر وارتفاع درجة حرارة الارض.
هذا المثال يمكننا سحبه إسقاطيا على أن الوعي ضرورة حياتية نلمس تأثيرها وأهميتها لكننا لا نستطيع إدراك وظيفتها حسيا. فالعقل ذاته يمارس الوعي كوسيلة ادراكية لكنه لا يستطيع إدراك الوعي وظيفيا كما هو الحال في عمل ووظيفة الجهاز العصبي.
اللغة بين البيولوجيا والتجريد النفسي
الوعي هو لغة عقلية مجردة في التعبير عن فهمنا ومعرفتنا العالم في حقيقته المادية. واللغة هي وعي بيولوجي في منظومة الادراك العقلي قبل أن يكون وعيا لغويا وحلقة المعنى التجريدي في معرفة الاشياء. والدليل أن اللغة تفقد خاصية التجريد في موضعتها داخل بنية الأشياء التي تعبر عنها ماديا وتنتهي كلغة صادرة عن وعي عقلي فردي لتصبح لغة استقبالية لوعي عقلي جمعي هي جزء من موضوع وليس جزءا من نظام لغوي تجريدي يحمله فرد في تفكيره العقلي الصامت بدلا من وجوده متموضعا ادراكا جمعيا في معرفة الاشياء.
التموضع اللغوي هو استهلاك هوية اللغة كخاصية انفرادية لتكون تموضعها في تكوينات الاشياء تعبيرا إدراكيا جمعيا لموضوع متعيّن انطولوجيا يتعامل معه الاخرين قراءات لغوية ايضا وغير لغوية حسب الحاجة.
علاقة اللغة بالأشياء ليست علاقة منفصمة تقوم على معنى نظام اللغة بذاتها في استبعاد مواضيع أدراكها وعدم مداخلتها مع معرفة مدركاتها، فاللغة تدخل بعلاقة تخارجية في الاستعمال الوظائفي وإعطاء المعنى التعبيري المطلوب مع الأشياء، وهو ما ينفي نظرية أن يكون كل شيء تجري معالجته بتجريد اللغة ذهنيا فقط قبل تموضع اللغة الشيئي في الموجودات وفقدانها خاصيتها التجريدية في تعبيرها الفكري عن الأشياء. أننا نتلقى اللغة في الاشياء ولا نتلقاها داخل تجريدات الذهن.
اللغة بلا عالم خارجي تتموضع فيه يحتويها في تعبيرها عنه، تكون (لا معنى) مطلق من الالفاظ الصوتية أو المكتوبة التي لا حمولة دلالية لها ولا تمتلك أهمية ولا قيمة حقيقية لها. والاشياء وقائع حضورية في العالم الخارجي تعطي لغة الادراك العقلي أهميتها وبغير وجود الاشياء في علاقاتها البينية فيما بينها وعلاقتها بالإنسان يصبح لا أهمية للغة في حياتنا، واللغة حضور تجريدي صوري للأشياء بالذهن ولا يكتسب أحدهما (الموجودات أو اللغة) معناه الحقيقي من دون تعالقه المتخارج مع الاخر في تكامل الافصاح عن المعنى القصدي لهذه العملية الجدلية بينهما.
اللغة في كل الاحوال هي إفصاح تعبيري عن معنى وعي فكري قصدي سابق بالذهن عن موضوعات ادركها العقل، وتغييب هذا الافصاح الهادف في التركيز على العناية باللغة كبنية تمتلك نظامها الخاص ولا علاقة لها بنظام الاشياء والموجودات في العالم الخارجي هو وجهة نظر لا تحمل حق التسليم بها الا في الثرثرة النظرية التجريدية الفلسفية التي ترى في اللغة ميدانا يحمل كل التناقضات التأويلية التي تسمح بالحرية الفائضة في أعادة تدوير اللامعنى تنظيريا ومحاولة البحث عن المعنى المزعوم المطلوب في نظام اللغة المغيّب حضوره في الحياة كما تروّج له نظرية المعنى فلسفيا.
أزمة اللغة في الفلسفة المعاصرة هي أزمة ملاحقة المعنى في نظام اللغة والتحقق من انفصال تعبير اللغة عن العالم في تعبير اللغة عن ذاتها وخصائصها. ونجد هذا في تعبير فينجشتين (تاريخ الفلسفة هو تاريخ نقد معنى اللغة) وليس تاريخ نقد معنى الوجود الانساني بالحياة، وتعبير نقد المعنى كدلالة تعبيرية عن اللاتحقق في مدى عدم تطابق التعبير اللغوي مع معناه القصدي المراد منه. لا يمكننا البحث عن الواقع في نظام اللغة المستقل لكننا نستطيع البحث عن نظام نسق اللغة المادي في تنظيم الواقع على اساس من فهم لغوي.
في هذا التأكيد على أصرار فلسفة المعنى في اللغة هو اعتبار اللغة واقعة إنشائية نحوية مستقلة بنظام داخلي علينا اكتشافه قبل البحث المتحقق عن دلالاته وتأثيراتها في نظام الاشياء التي ندركها. واللغة كنظام منفرد حسب نظرية نقد المعنى اللغوي التجريدي، لا تقاطع الواقع ولا قضاياه ولا تتخارج جدليا معه ولا تحتدم مع متناقضاته بل توازيه كنظام مجتمعي طبيعي مستقل لا علاقة للغة به، ولا علاقة تربطه بمعنى اللغة. وهذه نظرية غارقة في تجريد لغوي لا معنى حقيقي له حتى على الصعيد الفلسفي.
كل هذا يقودنا الجزم أن غالبية مباحث فلسفة اللغة هي تجريدات تراكمية بلا هدف ولغو فارغ لا معنى حقيقي يقصده ولا معنى مؤثر يمّثله على المستوين النظري، والواقعي المغيّب حضوره المطلوب بالحياة.. وما علينا سوى عرض تلك الافكار أنها آخر ما توصلته الفلسفة من فتوحات لغوية ما يتوجب الترجمة له وتأليف كتب الهوامش واستعراضات العناوين عن حقيقة افتراضية غير موجودة في وجوب فهمنا العالم في ملاحقة المعنى اللغوي.

تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس