التاريخ وفكرة التقدم عند فولتير وكوندورسيه


التاريخ وفكرة التقدم عند فولتير وكوندورسيه
                                          17 يونيو 2020

حسن منصور(*)



مقدمة
لكل مشروع ثقافي شيخه أو شيوخه. ولمشروع الأنوار شيخاه، فما الذي قام به هذان الرائدان؟
         تشكلت فكرة التاريخ خلال القرن السابع عشر، وخصوصا مع عصر التنوير عصر الاعتزاز بالمعرفة والايمان بالعقل والأمل في المستقبل، بيد حمل هذا المفهوم نخبة من المفكرين والمثقفين من أمثال فولتير ومنتسكيو وكوندورسيه وغيرهم من المفكرين الموسوعيين، آمنوا بالتغيير وجعلوه شعارا لهم. مما أدى إلى تبني فكرة التقدم والدفاع عليها بفضل الكشوفات العلمية التي توصل إليها الإنسان خصوصا في مجال العلوم الحقة (الفيزياء، الكيمياء، الرياضيات...). كذلك ما جعل هذا المفهوم يلقى تداولا كبيرا لدى فئة من المثقفين والمفكرين، هو تنامي النزعة الإنسانية التي تعلي من شأن الإنسان وتجعله مركز الكون باعتباره ذاتا عاقلة ومفكرة. فضلا عن هذا أن عصر الأنوار شهد سيادة فلسفة عقلية تجريبية ترفض الميتافيزيقا والدين وتهتم بالرياضة والفلك والطبيعة والكيمياء والتاريخ والجغرافيا والطب، فلسفة تؤمن بالتغيير وتسعى إلى التجديد في كل شيء، تحذوها ثقة مطلقة في العقل والفكر ويدور التفكير فيها حول الإنسان.
         إن الاهتمام بالتاريخ في هذا القرن مظهر من مظاهر الاهتمام بالإنسان، حيث لم يصبح التاريخ مجرد سرد لأحداث معارك وسير ملوك وأخبار، وإنما شمل التاريخ شتى مظاهر النشاط الإنساني، مثلا في الجوانب المختلفة للحضارة من عادات ومعتقدات وتشريع وعلم وفلسفة وفن وتكنولوجيا وتجارة وصناعة. إن الحروب وسير الملوك لا تفصح عن التقدم بقدر ما تفصح عن نشاط الشعب في مجالات العلم والفن والفلسفة والأدب والتكنولوجيا.
         إن مؤرخي نظرية التاريخ وفكرة التقدم في عصر الأنوار تجاوزوا العلاقات السياسية الضيقة وأخبار الحروب، لأن هذه الأخيرة لم تكشف عن شيء من التقدم. فالتاريخ الحق؛ هو تاريخ الفكر الذي يكشف عن تقدم العقل البشري، وعقد أمل بالعقل والفكر في تحقيق السعادة والفضيلة والحقيقة في مستقبله. هذا ما سنحاول التصدي له في هذه الورقة البحثية، من خلال محورين: المحور الأول نسلط الضوء فيه على طرح فولتير، والمحور الثاني طرح كوندورسيه، ثم خاتمة تبرز أهم النتائج المحصل عليها.

التاريخ وفكرة التقدم عند فولتير
         فولتير 1778-1694 مفكر وفيلسوف فرنسي كتب في مجالات كثيرة منها الشعر والمسرح والرواية والتاريخ، من أكبر كتاب عصر الأنوار، حارب الجهل والطغيان ودافع عن الحقوق المدنية وحرية العقيدة. سلك فولتير منهجا فريدا في تتبع تطور حضارات العالم عن طريق التركيز على التاريخ الاجتماعي والفنون.
1-    الفكر صانع التاريخ
         يعتبر فولتير من أهم فلاسفة الأنوار جوهر التنوير، حيث قدم مؤلف رسائل فلسفية تعرض فيه لمجموعة من المباحث الفلسفية، الدين، التاريخ، الفلسفة الاجتماعية، إذ يعد من مؤسسي المدرسة الجديدة للتاريخ التي أقامها على أسس الاستنارة، على غرار أغلب كتب التاريخ التي كانت قبله تدور حول أحداث الملوك والقادة العسكريين أغلب محتواها إبراز معاركهم ومعاهداتهم على أنها هي الأسس التي لعبت الدور المركزي في عملية تشييد وصناعة التاريخ البشري. إن فولتير من بين أشد المثابرين في هذا المشروع، وأول من استخدم كلمة فلسفة التاريخ بالمعنى الحديث للكلمة، من حيث هي فرع جديد من فروع المعرفة الإنسانية، تدرس التاريخ دراسة عقلية ناقدة، ترفض الخرفات والأوهام والأساطير والمبالغات. وتعود أهمية فولتير لتمثيله لعصر الأنوار من قيمة نقدية مهمة وفي أدبه الجاد والساخر، وفي منهجه النقدي العنيف، وأسلوبه اللاذع وقوة أفكاره، كان خير من عبر بعمق عن مزاج عصر التنوير واتجاهاته التقدمية.
         بدأ فولتير مشروعه التأريخي في التاريخ على قلب النظرة التي كان يراها قصيرة على إبراز دور العقل الإنساني وقدرة عقله في التقدم وصناعة الحضارة البشرية، إذ يقول "يمكننا الاعتقاد أن العقل والصناعة سوف يتقدمان دائما أكثر فأكثر وأن الفنون المفيدة ستتحسن، وأن المفاسد التي حلت بالإنسان ستختفي بالتدرج."[1] ويحيل مدلول هذا القول، على أن تاريخ البشر يتجسد في وجهه الناصع في نور العقل، بمعنى تاريخ العقل لا الأشخاص، تاريخ الفكر لا المعارك، تاريخ التطور والتقدم لا تاريخ الحروب والقتل والغزو والدمار... إن فولتير لم يسقط الأهمية التاريخية لكل الأحداث التي حدثت في تاريخ الإنسان، بحجة أن العقل والفكر لا ينتهيا على خلاف الأمور والوقائع والأحداث، فهي مشروطة بالزمان والمكان، لكن هنا تأتي فكرة التقدم في التاريخ من خلال العقل والفكر.
         بالعقـل يرى فولتير أن الإنسان يرتقي ويسمو، "إن الإنسان يتقدم من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية بفضل ما يمتلكه من عقل طبيعي وأن الإنسان خير بطبعه، وهناك أمل في ارتقاءه وبلوغه حد الكمال في حالة المدنية المنظمة تنظيما عقليا".[2] يحيل هذا القول على أن مسيرة التاريخ الحقيقية الموضوعية هي تلك التي تصور مراحل تطور العقل والفكر الإنسانيين، وتتبع مراحله في التاريخ التي خطاها منذ الخطوة الأولى؛ بمعنى من نقطته الأولى حالة الهمجية التي كان عليها إلى حالة المدنية التي ينعم بها في عصر فولتير، فهي تطهير عملي لتغيرات وتعاقدات فكرية. ويضع الأصل في كل الأحداث التاريخية هو العقل والتقدم الفكري.
         بهذا الطرح يعلن فولتير بوضوح شديد، أن العقل هو الذي يقود المسيرة الإنسانية ويحرك عجلة التاريخ، وبالتالي نستطيع القول، بأن وضاع التاريخ الحقيقيين عند فولتير هم المبدعين والمفكرين والعلماء، وليس القادة العسكريين كما كان سائدا من قبل.
         في مقدمة الرسالة الثانية عشر يوضح فولتير: "ليس الأهم هو التاريخ السياسي والحربي، بل تاريخ الحضارة وتاريخ العقل الإنساني، وليس المعارك والحروب والأساطير، التي لا يبقى اليوم إلا أسماءهم، قصص المعارك التي خاضوها والتي لا ثمر يجنيه إنسان اليوم أو المستقبل منها. أما رجال التاريخ العظماء، فقد يستفيد منهم البشر منذ زمنهم إلى اليوم؛ لوحة فنان أو مسرحية رائعة تحكي مأساة في ملهاة، أو حقيقة علمية يكشف عنها اللثام تكون ثمينة على جميع تاريخ الملوك وكل قصص الحروب"[3]. إن التاريخ الحقيقي هو تاريخ تطور الفكر، تاريخ تقدم العقل، تاريخ تقدم وارتقاء الحضارة الإنسانية التي قامت على أكتاف المفكرين والعلماء والمبدعين، وليس تاريخ البشر؛ هو تاريخ أولئك الأشرار الذين كادوا لأكثر من مرة أن يذهبوا بكل منجزات الحضارة الإنسانية.
فضلا عن هذا، يبرز فولتير في نفس الرسالة عن أجواء نقاش دار بين مجموعة من المفكرين وكان هو حاضر. محور النقاش أي رجال تاريخيين هو أعظم من الأخر، أي الشخصيات التاريخية الأكثر عظمة "هل القيصر أو الاسكندر أو تيمورلنك أو كرومويل... أجاب بعضهم بقوله إن اسحاق نيوتن هو أعظمهم لاريب، والحق بجانب صاحب هذا القول، بأن العظمة الحقيقية إذا كانت تقوم على تلقي عبقرية خبارة من السماء، وعلى الانفتاح بهذه العبقرية لتنوير الإنسان نفسه وتنوير الأخرين، فإن رجلا مثل السيد نيوتن، الذي لا يكاد يظهر مثله في عشرة قرون يكون هو العظيم، وليس هؤلاء السياسيين الذين لا يخلو منهم قرن ليس سوى أشرار بالحقيقة، فترانا ملزمين بإجلال ذلك الذي يسيطر على النفوس بقوة احترامنا إلى ذلك الذي يعرف الكون، لا أولئك الذين يشوهونه."[4]
         يفيد هذا القول أن العظمة الحقيقية في العبقرية التي تعود بالنفع على الناس، وتدفع حضارتنا إلى الأمام وتنور أجيالنا القادمة، على هذه المقاييس فإن نيوتن رجل رسم التاريخ أحسن رسم، على خلاف السياسيين والمحاربين الذين لا يخلو منهم قرن، وحقيقتهم إلا أشرار لا هم لهم سوى الغزو والتدمير والحروب وبناء مجدهم الشخصي.
         يضيف فولتير مفارقة، بأن الناس ومنهم المفكرون يقدرون ويبجلون الذين يسيطرون على الناس بالقوة ويستعبدوهم بالإكراه والقهر، ولا يقدمون نفس الاحترام والإجلال للذين سيطروا على النفوس والقلوب والعقول بالفكر والعلم وقوة الحقيقة. إذ كان لزاما علينا أن نقدم الاحترام   إلى أحد يستحقه إلا هؤلاء الذين عرفوا الكون وعرفونا عليه، "أعمالهم العظيمة الممتدة تتعالى على التفاصيل المحلية ويمكن أن تترجم عالميا،"[5] وليس الذين مازالوا مستمرين في تشويه العالم. نستشف أن فولتير ينظر إلى التاريخ بأنه ليست هناك حقيقة يعتد عليها وتنفع منها سوى حقيقة انجازات العلماء والمفكرين والمبدعين، هذه الانجازات في نظره هي صانعة التقدم في تاريخنا كبشر وليس الحروب والمعارك وحتى الانتصارات التي حققها القادة، وهذا ما يسميه فولتير بالتاريخ الجاف. "الذي هو سوى مجموعة من الأباطيل والخدع التي لعبت بها على الأموات، وحولت الماضي ليتناسب مع رغباتها في المستقبل"[6].
         إن المعرفة التي نستخلصها من قراءة الأحداث والوقائع التاريخية لا تساهم أبدا على أي تقدم، تطور الفكر والعلم. هذه الأمور هي التي تساعد على تقدم زهي في الأساس التي جعلتنا بشر وأصحاب حضارة، ما أوجده العلماء والمفكرين؛ لم يكن ذو فائدة ذاتية عليهم فقط، بل كانت منفعته لتصل إلى كل الجنس البشري. على غرار ذلك، مثلا معرفة قائد انتصر على شعب معين، فهذه معرفة وفائدة محصورة على ذاته وشعبه فقط. بمعنى آخر فائدة لا تتعدى زمانها ومكانها، ويمكن أن نشكك في مدى صحتها لأننا لا نملك دليل حسي على وجودها أو على بعض تفاصليها التي تروى. بينما التاريخ الحي التاريخ الحركي المفيد الذي أراده فولتير متجسد مثلا فيما أوجده العظيم اسحاق نيوتن، بمنجزاته التاريخية التي مازالت حاضرة اليوم وستعيش ربما إلى الأبد مع الجنس البشري.
         إن إنجازات العلماء هي ذات فائدة تدوم مع البشر وتدفع عجلة التقدم إلى الأمام، حتى الأعمال الإبداعية لازالت خالدة إلى اليوم، وتثير فينا حس التفكير وإعمال العقل ونخرج منها بموعظة وحكمة وفكرة معينة، بالتالي كل هذه المنجزات هي التي تعبر عن هذا التاريخ الحركي النافع الحقيقي الموضوعي. ومن هنا كانت مقولة فولتير الشهيرة "أن التاريخ هو تاريخ الحضارة والفكر لا تاريخ الأشخاص وأمجادهم الفردية، إن التاريخ لا يمكن أن يطاق إلا حين يكون تسجيلا للحضارة."[7]    
         مادام العقل هو صانع التاريخ، فإن فلسفة التاريخ عند فولتير تدعو إلى توسيع دائرة التاريخ فلا تكون محصورة فقط في تاريخ منطقة معينة، بل يجب أن تشمل كل الشعوب والحضارات التي كانت منسية من لدن المؤرخين. فهذه النقطة انتقدها فولتير وبقسوة، فقال "هناك حضارات وشعوب قامت بشروخ حضارية كثيرة لا يمكن إغفالها أو القفز من فوقها كحضارة الشرق القديم التي يصفها بالمجيدة، ويراها كانت هي الأساس لقيام صرح الحضارة الإنسانية كمثل حضارة بابل والحضارة العربية القديمة، وكذلك حضارة الصين والهند وغيرها من حضارات الشعوب المختلفة"[8]. من هنا كان نقد فولتير اللاذع لمؤرخي التاريخ الذين كانوا يدعوا بأن كتبهم التاريخية هي كتب عالمية أو كتب تشمل تاريخ العلم، فاعتبرهم في أسوء الأحوال هم مزورون للتاريخ وفي أحسن الأحوال هم مقصرون، ليس لنا أن نفهم التقدم مسألة أساسية أخرى يثيرها فولتير في التاريخ، بأنه يسير بشكل تقدمي تصاعدي دائما في حركة مستمرة إلى الأمام بفضل العقل، إذ يقول "التقدم هو السيطرة على الفوضى بالعقل والغاية، وعلى المادة بالصورة والإرادة."[9] واستشراف المستقبل بأنه مسيرة العقل والعلم والفكر وحتى الصناعة لن تتوقف بل ستتقدم إلى أماكن بعيدة. وأيضا أن الفنون والآداب ستتطور وتكون مفيدة أكثر للوعي وللنفس والعقل في المستقبل. ومن خلال كل هذه الأمور ستصل البشرية إلى حضارة متقدمة على الصعيدين الفكري والعلمي، وستنعكس على مجمل حياتهم السياسية والاجتماعية والإنسانية.
         يفضي هذا القول، أن التاريخ حسب فولتير هو حركة نمائية تقدمية. ولكن أن حالة التاريخ المتقدمة ليست دائما حركة منتظمة التقدم، بل كانت العكس، لأنها تتعرض لهجمات من قوة الظلام والتعصب فتعرقلها عن التقدم وتجبرها أحيانا على الارتداد إلى الخلف. يضرب مثال، كما حصل للإمبراطورية الرومانية التي كانت تشهد ازدهار وتقدم فكري وأدبي وفني... لكن شاهدنا أن بعد الامبراطورية الرومانية ارتدت أوربا إلى ما يعرف بفترة عصور الظلام، الفترة التي تسيدت فيها الدوغمائية. بالتالي كان العقل مقيدا ومحاصرا في ظنون زنازين وسجون لا تسمح له بالانطلاق خارجه. نخلص إذن، أن حركة التقدم ليست حركة متصلة مسترسلة، وإنما تحدث مفاجئات في التقدم، لكن في النهاية يبقى خط سير رغم العراقيل التي يتصادم بها يستكمل المسيرة بفضل العقل الذي حاولت الأسطورة في الأزمنة السحيقة التي تحط من تقدمه، لكن حاربها وقضى عليها. يقول فولتير "ليس من الضروري كي يكون الواقع واقعا أن يكون متصلا، فقد توجد هضبات في الواقع، وعصور مظلمة، وتراجع مخيب للآمال. ولكن إذا كانت المرحلة الأخيرة هي أسمى المراحل، فلنا أن نقول إن الإنسان يتقدم."[10]
         إذا نظرنا بمقياس المقارنة بين حياتنا الحديثة على الرغم مما فيها من نقص وفوضى، وبين جهل البدائيين وما عندهم من خرافات وقوة وتوحش وأمراض، ارتاحت أنفسنا بعض الشيء. بمعنى أننا قطعنا أشواطا طويلة في التقدم والسمو في مختلف مناحي الحياة.
إذن، "أن التاريخ يصنع بأيدي البشر، كذلك يمكن للعقل الإنساني فهمه، وأن يفهم مبادئ تطوره، إن التاريخ وغايته قائمان في قدرة العقل على تحسين شروط الإنسان، ويجعله أقل جهلا وأكثر سعادة. من هذه الناحية فإن التاريخ في حالة تطور وتقدم، ولا يدور في دوائر كما كان يبدو للقدماء."[11]إذن، التاريخ بأفق مفتوح على المستقبل لا في دوائر تبدأ بالنشوء ثم النضج لتنتهي بالاندثار.
         قضية أخرى ينتبه لها فولتير، علاقة التاريخ بالمقدسات بأن فلسفة التاريخ تبدأ بتوحيد التاريخ الكوني وتفسره على أساس مبدأ أو جملة مبادئ، بأنها نظرية فلسفية وليست لاهوتا تدور في دورات العصور القديمة تبحث فيها عن علامات الخطيئة والخلاص والثواب والعقاب، ونهاية التاريخ. كما يدعو "إلى تنقية وتخليص التاريخ من الخرفات والأكاذيب، التي نسجتها عقول الرهبان في العصور الوسطى وإعادة كتابته على أساس من نور العقل وهدايته."[12] يفضي هذا إلى دراسة التاريخ من خلال منهج فلسفي عقلاني مستقل، يستند إلى النقد والتحليل للمرويات والأخبار التاريخية من أجل تنقيتها من الخرافات والأساطير والمبالغات. صعودا إلى تسمية هذه الدعوى في فلسفة التاريخ لفولتير إلى فلسفة العلم، وهو فرع صحيح كامل للدراسة الفلسفية.
         من هنا يقدم فولتير نقدا للكتابات التاريخية التي تعتمد على ما ورد في الثورات، مثل كتابات أوغسطين وبوسويه، لأن هذه الكتابات "أعطت قيمة مبالغة فيها لليهود العبرانيين، ونظرت إليهم بصفتهم شعب الله المختار الذي يتمتع بعناية إلهية خاصة. بينما تجاهلت شعوب الشرق القديمة كالبابليين والآشوريين والكعنانيين والمصريين القدماء، مع كل ما قدمته هذه الشعوب من معطيات حضارية كبيرة للبشرية. وأن كثير من الأخبار والقصص التي وردت في الثورات هي موضع شك ولا تصمد أمام النقد التاريخي."[13]
         عمل فولتير على إعادة تقويم التاريخ الأوربي استنادا إلى مكانة العقل في كل حقبة من حقب التاريخ، حيث يكون العقل قادرا على طرد عتمة الجهل والأهواء والغيبيات وأحقاد التعصب يتم التقدم نحو الكمال. ومن تم فإن أكثر عصور التاريخ تدهورا وركودا في نظر فولتير؛ هو العصر الوسيط نتيجة التعصب الأعمى من البابوات ورجال الكنيسة، التي تولد عنها تلك الأحقاد. "أما أزهى عصور التاريخ الأوربي تشمل عند فولتير التاريخ اليوناني القديم، ثم تاريخ الدول الرومانية إبان ازدهارها الحضاري، ثم عصر النهضة، وأخيرا عصر التنوير الذي كان يعيش فيه، الذي قدم جديدا لم يسبق إليه على تاريخ الفنون والعلوم والصناعة والتجارة والثقافة بصفة عامة."[14]
         نستشف مع فولتير أن التاريخ الحقيقي هو الذي يصنعه العظماء، أصحاب الفكر والعلم والثقافة. هذه الأمور هي الوحيدة التي تأخذ بزمام التقدم، وتدفع بعجلة التاريخ البشري إلى الأمام في وجه الجهلاء والأغبياء والدوغمائيين والسياسيين المستبدين، الذين لا دور لهم سوى وضع العراقيل أمام عجلة التقدم.
2-    الجانب النقدي للتاريخ عند فولتير
         انتهينا في المقام الأول أن فولتير يؤمن أن التاريخ يصنع ويبنى بأيدي البشر، هذا ما ينجم عنه امكانية فهمه من لدن العقل الإنساني وفهم مبادئ تطوره، كما آمن بمعنى التاريخ وغايته قائمان في قدرة العقل على تجويد شروط حياة الإنسان بجعله أقل جهلا وأكثر سعادة. من هذا المنظور فإن التاريخ خط تطور وتقدم، ولا يدور في دوائر كما يبدو للقدماء. والتعامل مع التاريخ تقليد حضاري وأفق مفتوح على المستقبل، لا في دوائر تبدأ بالنشوء ثم النضج لتنتهي بالاندثار.
         إن سهام النقد التي يقدمها فولتير للتاريخ ولمؤرخيه، سوف نحاول بسطها في نقطتين مزعومتين؛ أولا الفكرة القائلة بالمركزية في التاريخ، ثانيا فكرة العناية الالهية وصولا إلى الفكرة الجديدة، فكرة التقدم العقلي في التاريخ. نقد فولتير لمفهوم التاريخ الذي كان شائعا في عصره، نقدا عقليا موضوعيا قائما على رفض كل ما ليس معقولا، خاصة المفهوم الديني للتاريخ آنذاك الذي يتعارض بالإطلاق بالمعقولية التاريخية. زيادة على هذا يشكل نقد التاريخ الديني، أو التاريخ كما فهمه وقدمه رجال الدين يشكل حجر الزاوية في أعمال فولتير، في رأيه أن التاريخ اختلط بالخرافة والأباطيل، ومن علاقة الدين بالخرافة تكونت علاقة الدين بالتاريخ، إذ يعتقد فولتير أن التاريخ عموما ليس مرشدا كافيا للسلوك الأخلاقي، وعرفه بقوله "حيل ومكائد يدبرها الأحياء للأموات."[15]وفي نقده للكنيسة وتاريخها "رفع شعار أمح العار، يقصد بالعار كل ما حمله تاريخ الكنيسة من وساوس وشعوذة كهنوتية، كبل بها رجال الدين لقول الناس."[16]من هنا فالمفهوم الكلاسيكي للتاريخ، مفهوم غير عقلاني، كونه موجه من طرف رجال الدين، فبالتالي فهو خال من الموضوعية، بحجة أن التاريخ لم يكن يتعلق بما خلقه الإنسان من آثار نقرأه من خلالها، بل شمل كل الأباطيل والخرافات، وهذا بالذات ما شوه مفهوم التاريخ، فكان من الضروري نقده وكشف عيوبه.
         إن المفهوم الذي أسسته اليهودية للتاريخ لم ينجو من النقد الفولتيري، لأنها تنظر للتاريخ بنظرة توحيدية، بمعنى "أن التاريخ لشعب الإسرائيلي فقط."[17]وهذه النظرة التعصبية دفعت به إلى ضرورة انتقاد مفهوم التاريخ بالاعتماد على الكتب اليهودية التاريخية. لم يترك فولتير كذلك الديانة المسيحية التي أعطت بدورها مفهوما خاطئا ومحرفا للتاريخ، "ولاسيما لدى فئة الكهنة التي كانت ترى أنهم وسطاء بين الإله والناس، فيشرعون قوانين ويحرفون ويحكمون بالموقف. فهم بذلك أضاعوا التاريخ لمفهومه وطبيعته."[18]لعل هذا الطرح جعل فولتير يقف موقف الناقد، على اعتبار أن هذا المنظور للتاريخ بالأبطال والملوك ويعتبرهم المحركون لتاريخ البشرية والمتحكمون في مساره. هذا عين الخطأ لأن هؤلاء يصنعون تاريخ خاص يشيد بإنجازاتهم مليء بالأغاليط والأكاذيب والانتهاكات. "إن الخير الحقيقي للإنسانية ليس في قوادها، ولكن في فلاسفتها وعلمائها وشعرائها."[19]
أ‌-       المركزية في التاريخ
         الارهاصات الأولى التي شيدت فكرة المركزية في التاريخ، كانت بالتزامن مع رفض النزعة الوثنية، ودخول الكتابة التاريخية اليهودية حيز البحث التاريخي وسيطرتها على الأذهان. إن انتصار المسيحية على الوثنية أفرز عنها تغيرات كلية على جانب الكتابة التاريخية، دافعت في كليتها على فكرة واحدة مفادها احتقار كل ما هو خارج المسيحية واليهودية. هذا الطرح التعصبي الإقصائي أدى إلى جمود البحث العلمي، باعتباره يكرس للمركزية الضيقة والأحادية في التاريخ. مركزية يعتبرها فولتير إقصائية تقصي شعوب وحضارات الشرق ولا تعترف بإسهاماتهم في حقل التاريخ. وفي نظره فإن تاريخ أوربا مركز الغرب وهو تاريخ المسيحيين واليهوديين، إنما هو مشكل من روافد شرقية على الرغم من عدم اعتراف المسيحية بذلك وتوجه اهتمامهم نحو الإشادة بدور اليهود في التاريخ، وفي ذلك يرى فولتير" أن كتابات أوغسطين أعطت اهتماما وقيمة مبالغة لليهود العبرانيين، ونظرت إليهم بوصفهم شعب الله المختار، الذي يتمتع بعناية إلاهية خاصة، بينما تجاهلت شعوب الشرق القديمة كالبابليين والآشوريين والعنانيين والمصريين القدماء مع كل ما قدمته هذه الشعوب من معطيات حضارية كبيرة للبشرية."[20] 
         لهذا دفع بفولتير القول بالتاريخ العالمي الذي يشمل كل الشعوب والحضارات السابقة، على اختلاف الانتماءات العرقية أو الجغرافية.
ب‌-    العناية الإلهية
         إن تأسيس القول بالعناية الإلهية يفضي إلى غياب الموضوعية والعقلانية التاريخية تلقائيا، حيث يظل الإنسان في حقل التاريخ سوى ممثل في مسرحية من تأليف الذات الإلهية، على خلاف أن يكون فاعلا حقيقيا في التاريخ يكون مفعول به. ولهذا السبب عمد فولتير إلى تكسير فكرة العناية الإلهية كأحد الأسس التي تحد مسار التاريخ، إذ تولدت العناية الإلهية تاريخيا من عقيدة الخطيئة الأصلية، وهي عقيدة أبدلت الخير في الأرض بالشر، وكان أوغسطين من الأوائل الذين كرسوها" اعتبر أن الله هو محرك التاريخ ووسيلة اللطف الإلهي، ولقد تعددت القراءات النقدية الموجهة للعناية الإلهية واتفقت في مجملها على أن هذه النظرية ضيقة الأفق، تعكس فلسفات ونظريات جامدة من سان أغسطين إلى فيكو الذين حصروا العناية الإلهية في تاريخ بني إسرائيل محتقرين حضارات زاهرة."[21]
         يفرق فولتير بين نوعين من العناية الإلهية العناية الشاملة أو الكلية والعناية الجزئية، حيث" أجحد العناية الجزئية أو بالجزئيات بدعوى اعتقاده أن تتغير بالدعوات والصلوات التي ترفعها إليك الكائنات الفانية، أما العناية الكلية فيقصد بها وجود نظام كوني قائم على قوانين كلية."[22] رغم المعتقدين بفكرة العناية الإلهية؛ أنها أساس ينبني على مبدأ الإيمان، إلا أن فولتير وجد أنها منطقيا تتعارض مع الإيمان وتتناقض معه، لأنها لا تؤمن بكمال الذات الإلهية وقدرتها المطلقة. وهنا سوف نستدرج مثلا واقعيا قال به فولتير زلزال لشبونة سنة 1755. يرد به على القائلين أن هذا الحدث عقابا إلاهيا حسب رجال الدين الفرنسيين:" ذلك أنه إما أن يزيل الشر عن العالم أم لا، أو أنه يريد الشر أو لا يريده، أو أنه قادر أو مريد، فإذا كان مريدا لإزالته ولا يقدر فذلك ينقص من قدرته، وإذا كان يقدر ولا يريد فذلك نقص من خيرته، وإذا كان لا يقدر ولا يريد فذلك منقص من قدرته وخيرته معا، وإذا كان يقدر على إزالته و يريد ذلك فمن أين جاء الشر في العالم؟"[23] 
         لتوضيح هذا الطرح وكشف تناقضاته، أن هذا الزلزال الذي أصاب لشبونة كان صباح إحدى الأعياد المقدسة لدى المسيحيين، فكانت الكنائس مليئة بالمصلين والمؤمنين والكهنة، وهم ضحايا الحدث. إذن كيف يستقيم القول إن الأمر هو مشيئة إلاهية لمعاقبة مثلا الضالين. هذه أحد الأدلة التي يذهب إليها فولتير بالقول، لا يمكن أن ندخل أية مشيئة غيبية أو أمر غيبي في مسألة علمية عندما نريد تدوين التاريخ ونكشف عن حقائقه، وكل رد لكل حدث لأمر غيبي في نظره فهو ليس عمل منهجي علمي موضوعي.
         كذلك يقدم فولتير نقده الساخر لفكرة العناية الإلهية والخير المطلق في رواية كنديد، أن كنديد بطل الرواية قد تربى على يد معلمه بنغلوس، الذي تبنى مذهب ليبنز، القائل بأن العالم كما هو عليه أفضل ما يكون، وعلى الإنسان أن يرضى وقبل بهذا، لأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وهذا القول ما تكرر كثيرا في سطور الرواية على لسان بنغلوس: "عن المصائب الخاصة ينشأ الخير العام، وإن شئت فقل إن المصائب الخاصة كلما زادت تحسن كل شيء."[24]وكذلك "إن الأمور لم تكن لتحدث على غير ما تمت، وجميع ما حدث هو أحسن ما يكون ومحال أن تقع الأمور في مكان غير الذي وقعت فيه، وذلك لأن كل شيء حسن."[25]يلتقي في مغامراته التي خاض فيها معظم أقطار العالم بشخصية أخرى هي مارتن الذي يمثل رمزا للتشاؤم ومعارضة العناية الإلهية، وهو بذلك يخالف بنغلوس، إذ يلاحظ كنديد وهو في مغامرته التي جاب فيها أنحاء العالم ما يتعارض مع أفكار معلمه المتفائل بنغلوس، "فالعالم شرير ومليء بالحروب والفظائع و المصائب، ومما لاحظه، سفينة تغرق وعلى متنها مئة رجل يرفعون أيديهم إلى السماء تضرعا للنجاة، وتخرج منهم صيحات هائلة، ولم تمضي دقائق حتى ابتلع أليم جميعا."[26]
         هذا النقد الذي قدمه فولتير لفكرة العناية الإلهية، مما أدى بالبعض إلى اتهامه بالإلحاد إلا أنه أعلن في العديد من المرات أنه رجل مؤمن نبع من إعجابه بنيوتن، ولا يشبه أبدا إله المسيحية المخلص. بذلك فهو يرفض كل التفسيرات الغائية مثل تفسير العناية الإلهية، التي تبرر الشر وتناقض مع الحرية الإنسان وتقص الفكر والعقل وآثارهما في العالم، إذن "من الضروري تبديل التفسير العنائي بالتفسير الآلي الميكانيكي الذي يحترم الروح العلمية وانجازات الإنسان ويقيم شأنا لعقله، كما فعل وهو القانون ذاته الذي يمكن أن نفسر به اضطرابات الكواكب في حركتها المدارية."[27]
نختتم هذا النقد للعناية الإلهية بقول لفولتير: "الصلاة الحقيقة في قبول القانون الطبيعي الإلهي لا في طلب اختراقه، وأن مفهوم العناية أفسد العقل وأعاقه على التقدم."[28]
    ج- فكرة التقدم
         سننتقل في هذا المقام من نقد التاريخ إلى بروز فكرة التقدم في التاريخ، وكيف تبلورت في نسق الأنوار عامة ونسق فولتير خاصة. ساهم عصر الأنوار في ظهور نظرية التقدم ظهورا تدريجيا، وهذه النظرية سالفة في مجال الدراسات التاريخية، ومن ناحية المصطلح فإن هذا المفهوم يأخذ معاني متعددة نذكر منها: معنى فلسفي مذهبي، أخذ مفهوم التقدم طابع نظرية شاملة، وفي فلسفة التاريخ، ويندرج فولتير ضمن هذه النظرية.
"معنى حضاري يقوم على استغلال العلم وتقدمه بهدف السيطرة على قوى الطبيعة."[29]
         إن هذا اللفظ الجديد يدل عن الوعي، بمعنى يقوم على أساس رد الاعتبار للإنسان بما هو فاعل في التاريخ، وله طبيعة قابلة للتشكل باستمرار، فيتحرر من الزلة التي تلاحقه نتيجة الخطيئة الأولى كما تتصورها المسيحية. "مفهوم التقدم يتضمن نظرة إلى الزمان يستقطبها المستقبل، زمان تتراكم فيه تجارب الإنسان الذي يتطور دائما نحو الأفضلية بعقله ووجدانه وتحكمه في الأشياء، كذلك يتضمن رؤية للتاريخ تقيسه بالحاضر، وليس حاضر أية حضارة بل حاضر الحضارة الغربية."[30]
نستشف من هذا الطرح، أنه ردا على الفكرة اليهودية التي دعمتها المسيحية، بأن كمال الإنسان كان في ماضيه، وأنه لا خير له في مستقبله، كذلك الحال بالنسبة للمسيحيين الذين رأوا بأنه "ليس للإنسان أن يتوقع دولة مثالية على هذه الأرض، وأن حالة النقاء والطهرانية الكاملين لن يصلا إليها الإنسان إلا في العالم الأخر."[31]
         وعليه، إن نظرية التقدم أكدت على ضرورة التخلص من نفوذ الماضي وسيطرته على الحاضر والتفاؤل بما هو قادم، إذ ينظر فولتير للتقدم بأنه ضرورة اهتمام المؤرخ بتتبع سير العقل البشري عبر حقب التاريخ المختلقة، كما أن التقدم في التاريخ لا يعني الصعود دائما كما لا يعني الاتصال، يحدث ببعض الانتكاسات في تاريخ الشعوب. "ليس التقدم إذا متصلا إذ قد تحدث مفاجآت."[32] هنا يظهر العقل جليا في انقاد الشعوب من هذه الاخفاقات التي تقع فيها. إن التقدمات النوعية على مختلف الأصعدة والمستويات كالمجال الاقتصادي والسياسي والعسكري والعلمي بفضل تقدم العقل؛ لأنه هو الوحيد مقياس التحضر ويعكس فعل الإنسان في التاريخ ويظهر قدراته على التغيير والاستكمال، هذا ما يجب أن نبحث عنه في مسار التاريخ، لأنه من شأنه أن يعطينا مفتاح التقدم في المستقبل.
         يضيف فولتير على هذا، أن التقدم بنفي التعصب، فكل شيء هو موضع تدقيق وفحص لدى كل الحضارات والشعوب في كل الحقب والعصور. يفضي إلى نتيجة مفادها أن التقدم يرتبط برباط العقل البشري، بكونه صانعه. وبالتالي فهو ليس حكرا على حضارة دون أخرى. إذن، تمثل فكرة التقدم عمد أساسي من أعمدة المعقولية عند فولتير، لاسيما أن العقل هو أساس التقدم، الذي يكون دائما نحو المعقول والأكثر معقولية.
التاريخ وفكرة التقدم عند كوندورسيه
         كوندورسيه (1743-1794) فيلسوف ورياضي موسوعي فرنسي، أحد أبرز المشاركين في الثورة الفرنسية سنة 1789، من أشد أنصار فولتير حماسة. تسلم العديد من المناصب الإدارية الرفيعة، يحمل شعارات اصلاحية عديدة على مستوى الدستور والمساواة والدمقراطية، له مجموعة من المؤلفات أبرزها كتاب مجمل صورة تاريخية لتقدم العقل البشري. تنوعت أفكار الرجل ونظرياته وشملت موضوعات عدة، تركزت حول المعرفة والحرية والمساواة والتعليم العام والتقدم، ومستقبل الإنسانية والحضارة العربية، وتأثيرها في النهضة الأوربية، وأخيرا فلسفة التاريخ التي تعد من أهم انجازاته نظرا لأصالتها، هذا ما يهمنا في هذا الصدد، سنحاول بسط طرحه في مسار فلسفة التاريخ وفكرة التقدم.
1-    مراحل تطور التاريخ البشري
         يطرح كوندورسيه نظريته حول مراحل التاريخ في كتابه الأساس المخطط لتاريخ تقدم العقل البشري، هذا الكتاب يدخل كوندورسيه في عداد كبار فلاسفة التاريخ، كتاب يمتاز بالتفاؤل دمجته يد الإنسان، لوحة تاريخية تكونت عن "طريق الملاحظات المتتابعة للمجتمعات الإنسانية في العصور المختلفة التي مرت بها. لذلك وجب رصد ترتيب التغيرات، وتعرض التأثير الذي تحدثه كل حقبة من الزمن في الحقبة التي تليها، وتبين على هذا النحو- من خلال التحولات التي طرأت على النوع البشري في محاولاته المستمرة لتجديد نفسه- الطريق الذي سلكه والخطوات التي قطعها للوصول إلى الحقيقة والسعادة. هذه الملاحظات عما كان عليه الإنسان في الماضي، وعما عليه اليوم، ستوصلنا بالضرورة إلى الوسائل التي من شأنها أن تؤكد أنواع التقدم المنتظرة، وترعى بتحقيقها وفقا لما تقتضيه الطبيعة."[33]
         هذا ما سنحاول توضيحه في هذا المقام، يضع كوندورسيه طريقتين لدراسة الملكات الإنسانية. " الأولى بالملاحظة عن الظواهر العامة وعن قوانين نمو هذه الملكات. أما الثانية تهتم بدراسة العقل البشري من خلال النتائج التي توصل إليها بنشاطه، وتحديد المحصلات المادية والمعنوية التي أضافها كل جيل إلى الأجيال التي سبقته."[34] بمعنى أننا في هذه الحالة لاتهمنا دراسة ميكانيزم التفكير في صورته المجردة بقدر ما يهمنا معرفة مراحل تطوره العقلي.
         إن المرحلة الأولى هي اتحاد الأسر في قبائل لزوم الصيد، "بحث يصرح أن قبل هذه المرحلة لا توجد ملاحظة مباشرة ترشدنا إلى ما سبق عن هذه الحالة، ولكن من خلال الفحص الكلي للفكر والأخلاق والتكوين المادي، يمكن للمرء أن يخمن كيف صعد إلى هذه الدرجة الأولى من الحضارة."[35]إن هذه المرحلة أول "حالات الحضارة التي أمكن ملاحظتها عند النوع البشري، هي حالة مجتمع يتكون من عدد قليل من الأفراد يعيشون على القنص وصيد الأسماك، يمارسون فنا بدائيا في صنع بعض الأسلحة البسيطة والأدوات المنزلية، أو في بناء المساكن أو حفر الكهوف. كان لكل من هؤلاء الأقوام لغة يتفاهمون بها، وعدد قليل من الأفكار الخلقية التي يستخلصون منها قواعد عامة للسلوك، وكانوا يعيشون في نظام عائلي ويخضعون حياتهم لأعراف عامة تحل لديهم محل القانون، بل إن منهم من كان بشكل بدائي من أشكال الحكومة والنظام."[36]
         نستشف في هذه المرحلة، أن الإنسان كان يعيش فترة قلق وصعوبة الحصول على عيشه وتعاقب فترات يومه، بين العمل المضني والراحة المطلقة، هذا ما يؤدي إلى ترك فرصة أو فراغا يخلو فيه لأفكاره ويعمل على تنمية ذكائه باستنباط وسائل عمل جديدة، بل أن وسائل اشباع حاجاته ظلت مدة طويلة تخضع للصدفة البحتة. زيادة على هذا، هناك عامل آخر تأثير الفصول المناخية، التي تفضي بعدم السماح بظهور اتجاه نحو صنفه تنتقل من جيل إلى جيل. واكتفى كل فرد بأن يحسن مقدرته وكفاءته الذاتية في "فن صناعة الأسلحة البدائية واعداد الطعام."[37]
         على هذا النحو، فإن أنواع التقدم التي أحرزها النوع البشري بطيئة جدا في مراحلها الأولى، ولم يتحقق هذا التقدم إلا على فترات متباعدة، حين كانت تدفع إليه ظروف قاهرة ومع ذلك "نجد أن الإنسان بعد أن كان يعتمد على القنص والصيد، وبعض الثمار التي تمنحها الطبيعة، أصبح في المرحلة التالية يستعين في غذائه بنتاج الحيوانات التي استطاع أن يستأنسها و يحتفظ بها ويكثر من سلالتها، ثم ما لبث أن أضاف إلى هذه الوسيلة فلاحة الأرض، ولم يعد يكتفي بالثمار أو النباتات التي يلتقطها مصادفة، بل تعلم بذر البذور ورعايتها بالعمل اليدوي والأدوات البسيطة، وجمع المحصول واختزانه لوقت الحاجة."[38]هذا ما سوف يمهد للمرحلة الثانية مرحلة الرعي والزراعة.
         في مرحلة الرعي والزراعة يعتبره كوندورسيه عصر زراعة، "ابتكر الإنسان بعض الأدوات الزراعية واستعان بالحيوانات المستأنسة في أداء مهنة الزراعة، وحسن طرق المواصلات، نشأت في هذا عملية تتعلق بالزراعة كالحساب والمساحة."[39]بعد الحفاظ على الحيوانات كمصدر بسيط، لوحظ أنها تتكاثر، وبالتالي توفر مزودا أكثر استدامة. أصبحت "منتجات القطيع في البداية مجرد مكمل للصيد، سرعان ما تحولت إلى وسيلة أكثر أمانا وأكثر وفرة وأقل خسارة."[40]بعدما أصبحت الحياة تستقر نوع ما، وتخفيف من القلق في شأن احتياجاتهم الأولى. يقول كوندورسيه في هذا الصدد "أحرزت الفنون بعض التقدم ثم الحصول على بعض التنوير وعلى تغذية الحيوانات الأليفة وتعزيز تكاثرها، وحتى اتقان أنواعها واستخدام صوفها للملابس، بدلا من استخدام الجلود، إذن أصبحت الأسر في المجتمع أكثر لطفا، فهذا نوعا ملحوظا من التقدم والتطور الملازم لكل حقبة في مسار التاريخ."[41]
         اضافة إلى انتشار الأخلاق بشكل نسبي، من خلال توقف عبودية النساء عن العمل الشاق، ومزيدا من التنوع في الأشياء المستخدمة لتلبية الاحتياجات الضرورية، وازدهار التجارة والوفرة في المال بين أسر المجتمع، وتزايدت القبائل أكثر عددا مساكنها واكتسبت الأدوات الزراعية بعض الكمال، أصبحت الزراعة متقدمة. بعد ذلك نصبت كل قبيلة رئيسا لها، قصد ضمان المساواة بين المراعي وبين الناس في مختلف أعمارهم بسبب تشدد النزاعات بين القبائل. هذا أدى إلى فكرة الملكية الخاصة، ولم تعد الاتفاقات الأكثر تكرارا تقتصر على الأشياء البسيطة، بل أصبح المجتمع يتجاوز النظرة الأولى للحياة.
         مباشرة بعد ذلك، أصبحت اللغات أكثر ثراء، دون أن تكون أقل رمزية أو أقل جرأة، واكتساب الأدوات الزراعية مستوى متقدم. في خضم هذا التقدم كمصدر لكفاف أكثر وفرة، وصل الإنسان إلى العصر الثالث، عصر الكتابة الأبجدية.
         في هذا العصر لم يعد الإنسان يهتم بالصيد والزراعة كيف ما كان قبل، بل أصبح ينفتح على الفنون الأكثر اتساعا وتعقيدا، وأن اليد البشرية تزودت بمزيد من السرعة والدقة في الحركة والعمل والفنون، وتوسع التجارة التي احتضنت عددا أكبر من الأشياء. "أنتجت الضيافة والتجارة بين القبائل بعض العلاقات المستمرة بين دول مختلفة الأصل والعادات واللغة."[42] أن الفنون تحولت من عظام الخشب والحجر أو الحيوانات، وتشكل الأقمشة، في العصر الأول والثاني مع الشعوب البدائية، إلى "الانضمام في فنون الصباغة والفخار وحتى بداية الأعمال الأكثر صعوبة في المعادن."[43] مهما كانت سيرورة التقدم في الفنون بطيئة، ولكن فعل التقدم حاضر ومستمر، وتقاسم الفنون بين القبائل عرف نشاطا. "تحمل هذه المرحلة درجة من التنوير والكمال بين الشعوب بعدما كانت سائدة الخرافة والاستبداد وتدهور جميع القبائل البشرية."[44]يوضح كوندورسيه "أن المجتمعات التي كانت أكثر استقرارا، ازدهر فيها علم الفلك والطب، وأبسط مفاهيم التشريح ومعرفة المعادن والنباتات والعناصر الأولى لدراسة الظواهر الطبيعية، والانفتاح على قوانين الحركة والميكانيكا العقلية."[45]مع ذلك كان هذا التقدم طفيفا ولكن حاضر فعل التقدم بفضل مراقبة الطبيعية ونقل عدد صغير من القيم السياسية والأخلاقية من جيل إلى جيل. إن تقدم العلوم بالنسبة لهم مجرد هدف ثانوي، ووسيلة لإدامتهم أو توسيع قوتهم في الطبيعة.
 نخص في هذه المرحلة، أن التقدم رغم ضعفه كان سيصبح مستحيلا لو لم يكن هؤلاء الرجال يعرفون فن الكتابة، بكونها الوسيلة الوحيدة لضمان التقليد والإبداع، بالتواصل ونقل المعرفة. الكتابة الأولى هي الكتابة "الهيروغليفية التي اخترعوها قصد نقل المعرفة."[46]
         قد تم نقل هذه الاكتشافات إلى الإغريق، وهي المرحلة الرابعة التي يرى فيها كوندورسيه أنها تمثل بواكير تقدم الفكر البشري الحقيقي. خلالها ابتكرت الفلسفة ونشأت بعض العلوم كالرياضيات وعلوم السياسة وازدهار الأدب والمسرح وفنون جميلة أخرى، "بيد أن العلوم ظلت محدودة لدى اليونان لولعهم بالفلسفة وتركيزهم على جوانبها الميتافيزيقية.
         إن العلوم في اليونان لم تكن حكرا على فئة معينة، بل في مكنون الكل بعدما استنبطوها من الشرق، ويمكن للجميع اكتشاف الحقائق."[47]هذا ما سمح للعقل البشري بين اليونانيين الاستقلال للسرعة ومدى تقدمه من خلال علمائهم. "الذين سرعان ما أخذوا اسما أكثر تواضعا للفلاسفة أو أصدقاء الحكمة والعلم، أرادوا اختراق طبيعة الإنسان والآلهة، وأصل العالم والجنس البشري، واختزال العالم إلى قانون واحد."[48]كذلك اهتموا بزراعة الهندسة وعلم الفلك واعادة الموروث المشرقي من المعتقدات الراسخة إلى نظريات قائمة. وقيام مشروعين مدافعين عن الحقوق الإنسانية، ومحاولة تكريس مبدأ التفكير العقلاني الحر باعتباره أحد القواعد الأولى للفلسفة، ومن خلال المحاورات الفلسفية والاهتمام باللغة والسياسة ومسألة العدالة، وإنشاء المدينة الفاضلة.
         فضلا عن هذا، نشاط العلوم الرياضية مع مدارس فيتاغورس، وتجديد المنهج مع سقراط وأفلاطون حل مشكلة تكرار المكعب في الحقيقة عن طريق حركة مستمرة، ولكن عن طريق عملية بارعة ودقيقة واتساع صيت الحرية. هذا ما نجم عنه انبثاق الفنون ومبادئ التنوير في تجويد الأخلاق والثقافة، يقول كوندورسيه "في هذه المرحلة كان الإنسان على الأقل يشعر بحقوقه إذا لم يكن يعرفها."[49]
         أما المرحلة الخامسة تنحل إلى قسمين، تطور العلوم ثم تصنيفها. تقدمت العلوم منذ أرسطو، إذ أن هذه العلوم استقلت عن الفلسفة مثلا علم التعاليم والطب. اضافة إلى "المدرسة الاسكندرية، نجد أول آثار للجبر؛ أي حساب الكميات."[50]يفيد هذا أن العلوم تم تصنيفها وترتيبها واستقلالها عن الفلسفة. من خلال "تقدم علم الفلك وعلم الهندسة وعلم الميكانيكا مع أرخميدس."[51] واهتمام أرسطو بالطبيعة ومحاولة فهم عللها من خلال الكتاب الأساس في الطبيعة. كذلك شهد هذا العصر خضوع اليونان للدولة الرومانية التي كانت آخر امبراطورية كبرى، من إمبراطوريات العالم القديم. حيث آل إلى الرومان معظم الإرث الفكري والفني لليونان، إلا أنهم لم يضيفوا جديدا إلى هذا الإرث، إلا في جانب التشريع، نتيجة لمتطلبات الإمبراطورية العسكرية الشاسعة التي أقاموها. قد تزامن انتشار المسيحية بعد اعتناق الإمبراطور قسطنطينة لها مع ضعف الإمبراطورية الرومانية، وتراجع العلوم والفلسفة.
         في المرحلة السادسة سماها كوندورسيه بانحطاط التنوير، انحبست العلوم وشاع الجهل والفساد عقب تدمير البرابرة الاوربيين لحضارة الرومان، واستمرت هيمنة الكنيسة على مناحي الحياة في أوربا خلال ما يعرف بالقرون الوسطى، يقول كوندورسيه "في هذه الحقبة الكارثية، سنرى الروح البشرية تنحدر بسرعة من ذروتها، وتشدد التعصب الديني."[52] رغم ذلك شهدت العلوم تقدما في الشرق على يد المسلمين الذين استفادوا في هذا المجال (التراث اليوناني)، "ذلك سوف يمهد إلى عبقرية العلم والحرية تلمع تحت الخرافات والتعصب الديني."[53]
         المرحلة السابعة، من التطورات الاولى في العلوم إلى اختراع الطباعة. تقدم لنا هذه الحقبة "متظاهرين سلميين على جميع الخرافات."[54]ينتهي هذا العصر الذي عرف انبعاث العلوم على يد المسلمين، باكتشاف الطباعة سنة 1453. يرى كوندورسيه أن هناك أسبابا أيقظت الفكر الأوربي من سباته خلال هذا العصر، أهمها نشأت الجامعات. والحروب الصليبية التي أتاحت للأوربيين الاحتكاك بعلوم الشرق وحضارته، وتقلص نفوذ الكنيسة وهيمنتها على مختلف مناحي الحياة. وظهرت خلال هذا العصر اختراعات عدة، أهمها: الطواحين الهوائية والبوصلة وصناعة الورق والبارود.
         المرحلة الثامنة من اختراع الطباعة حتى الثورة الفلسفية التي أنجزها ديكارت سنة 1637، "بوضع منهج فلسفي جديد وطرق جديدة التي تؤدي إلى اكتشافات علمية."[55]إن كوندورسيه يعتبر ديكارت الفيلسوف العبقري في هذه الحقبة، بعبقرتيه في العلوم ووضع خطوات لقيادة العقل بغية بلوغ الحقائق والتعرف عليها، وتثبيت التطبيق في اكتشاف قوانين ديوبتر، المتعلقة بصدمة الأجساد."[56]
يمتاز هذا العصر على صعيد التقدم فضلا عن اكتشاف الطبيعة بمميزات اكتشاف العلم الجديد 1492، ظهور بوادر انبعاث الفكر الحر الذي تمثل جانب في حركة الاصلاح الديني الذي قام بها مارتن لوثر، وظهور مناهج علمية جديدة كمنهج بيكون التجريبي، ومنهج ديكارت البرهاني. إلا أن الفكر لم يتحرر تماما، كان أصحاب الأفكار الجديدة يلقون اضطهادا لاستمرار نفوذ رجال الدين في مجالي التربية والسياسة.
 يقول كوندورسيه " لم يكن العقل البشري حرا حتى الآن، لكنه كان يعلم قد تم تدريبه على الحرية."[57]
         بخصوص المرحلة التاسعة، لقد رأينا العقل البشري يتشكل ببطء من التقدم الطبيعي إلى الحضارة. إن هذه المرحلة من ثورة  ديكارت الفلسفية  إلى تشكيل الثورة الفرنسية  سنة 1789، التي تجسد ثورة في مجال السياسة و الفكر. مظاهر التقدم في هذا العصر على مستوى التعرف الدقيق على الطبيعة الفزيائية للعالم بفضل إسحاق نيوتن، وتجديد طبيعة المعرفة البشرية على أكتاف فلاسفة لوك وكوندياك، وطبيعة المجتمع بفضل تروغو وروسو. وقد استمر التقدم في العلوم لاسيما في الفلك والفيزياء والرياضيات خلال القرن السابع عشر. أما القرن الثامن عشر، فقد مثلت التقدم فيه شخصيات كثيرة أبرزها فولتير ومنتسكيو، بحيث يستشرف كوندورسيه المستقبل، فيرى أن العصر العاشر المقبل هو "عصر الفكر الحر ويحكم عليه بالتحسن الحقيقي للنوع البشري."[58]
         نستشف منذ البداية وبشكل جلي، أن مبدأ التقدم حاضر في كل مرحلة من التاريخ وصولا إلى عصر سماه كوندورسيه بالتقدم المستقبلي للعقل البشري في مختلف أصعدة الوجود. يقول "آمالنا في الحالة المستقبلية أن تتحقق النقط الثلاثة المهمة: تدمير وكسر التفاوت بين الدول، وتقدم المساواة بين البشر والتحسن الخلقي للإنسان."[59] هكذا يرى كوندورسيه في العصر الأخير بتحسن النوع البشري، من خلال الاكتشافات الجديدة في العلوم والفنون...، ونتيجة هذا وسائل الرفاهية و الازدهار المشترك والتقدم في السلوك البشري وانتشار الأخلاق العملية éthique pratique .
         يخلص أن التجربة الماضية في مراقبة التقدم التي أحرزته العلوم، من أول حقبة حتى الآن، في تحليل تقدم حركة العقل البشري، وتنمية قدراته في مسار التاريخ، وعقد أمل خير في الإنسان المستقبلي.
2-    نظرية التقدم في التاريخ 
         اتخذ مفهوم التقدم طابع نظرية شاملة في فلسفة التاريخ، مثل نظرية هيجل ونظرية كارل ماركس في التاريخ. خلصنا أن كوندورسيه يقارب التاريخ من خلال تعاقب مراحل العصور والمساهمات التي حملها كل عصر في تشكل لبنة التقدم للحياة الإنسانية في مسار التاريخ. "أنها صورة تاريخية لتقدم الروح البشرية، التي حاول رسمها وليس تاريخ الحكومات والقوانين والأعراف والعادات والآراء بين مختلف الشعوب الذين احتلوا العالم."[60] يضع كوندورسيه طرحه في فلسفة التاريخ، من خلال مفهوم التقدم كمفهوم أساسي ومحوري في تطور التاريخ، وأن تاريخ البشر يسير إلى أفق التقدم. هذا الطرح يتماشى مع سابقه فولتير بشكل نسبي، ويختلف معه في مسألة التطلع بفكرة مستقبلية تلوح في الأفق على أمل سيطرة العقل على النشاط البشري برمته. من خلال نقطتين، أن التقدم هو للعقل البشري وللفلاسفة الصلاحية بالتعبير عن روح عصرهم خير تعبير.
         "إن التاريخ يتراوح بين الهدوء والحركة، ويسير دائما ولو بخطوات بطيئة نحول تقدم أعظم."[61]يفيد هذا القول أن التقدم بالذات وضرورة، وأما التدهور أو النكوص فهو بالعرض، والتقدم يعبر عن قانون للتاريخ نفسه، حين أن التدهور يعبر عن الإلغاء المؤقت لهذا القانون، وكل جيل من أجيال الإنسانية يرتبط ارتباطا وثيقا بالأجيال التي سبقته ويعتمد عليها. هذه الحتمية التاريخية هي ضمان التقدم الإنساني.
         لتعزيز هذا التقدم المحتوم، يدعونا كوندورسيه إلى ملاحظة ثلاثة أجزاء متميزة من اللوحة التي يرسمها في مراحل التقدم، "الجزء الأول المتمثل في الحالة الفطرية للنوع البشري، وكيفية تجويد حياته حتى توصل إلى استخدام اللغة، ومبادئ التنظيم الاجتماعي وبعض الأفكار الخلقية التي ميزت الإنسان عن الحيوانات التي كانت تعيش مثله في جماعات. أما الجزء الثاني يتعلق بالوقائع التي يمدنا بها التاريخ، ولكن يجب ان نختار هذه الوقائع، مع الحفاظ على النظرة الشاملة للشعوب رغم اختلافها. لكي نستخلص مبدأ التقدم النوع البشري في مجموعة. أما الجزء الثالث الذي يبرز بصورة واضحة لمبدأ التقدم وأنواعه التي حققتها الأجيال القادمة. هذه الصورة لا تعتمد على التخمين بل على تتبع الأحداث حتى نهايتها، والاعتماد على القوانين الثابتة التي تم الوصول إليها بالفعل."[62] 
         يتبدى جليا أن ما قد نعده اليوم خياليا، سوف يصبح ممكنا بل ومن السهل تحقيقه. كما سيظهر بالرغم من النجاح العابر للأساطير والأفكار المتسلطة التي تشجه الحكومات الفاسدة على بقائها، لابد وأن تحصل الحقيقة وحدها على النصر النهائي. وستبدو واضحة كذلك الروابط الوثيقة بين تقدم المعارف والاستنارة العقلية من جهة، وبين تقدم الحرية والفضيلة واحترام الحقوق الطبيعية من جهة أخرى. "يخاطب كوندورسيه العقل بأن يحارب ثلاثة أشياء بلا هوادة: الأفكار المتسلطة والخرافات والآراء المتعسفة، لأنها تشكل عقبات كأداء أمام الحقيقة ومبدأ التقدم،"[63] وتسيطر على نظرية التقدم البشري. تبرز عند كوندورسيه فكرة الحتمية التاريخية والاجتماعية، وفكرة توجيه العالم عن طريق الذكاء الإنساني، إذ يقول "أن تقدم الأخلاق والنظم يعتمد على تقدم المعارف."[64]  وهذه الفكرة التي كانت غامضة عند تورجو تظهر عند كوندورسيه في تحديد ووضوح لا يقلان عما جاء بعد ذلك عند أوكست كونت، حين أعلن قانون الحالات الثلاث، وهو ذلك القانون الذي يقسم أشكال التطور الاجتماعي بموقف العقل البشري إزاء تفسير مشكلات الطبيعة. فمستوى معيش الإنسان يتحدد بقدر تفكيره، يستطيع عقله أن يعرف المصائر التي تنتظره، لأن العقل هو الحقيقة الذي يحدد هذه المصائر.
         هكذا يعتقد كوندورسيه اعتقادا راسخا، أن إنسان المستقبل سيكون أقوى وأسعد وأكثر ذكاء من إنسان اليوم، وأن الفيلسوف الذي يتألم اليوم من الأخطاء والجرائم وأنواع المظالم التي مازالت تلطخ سطح الأرض، سوف يجد العزاء في مشهد لوحة البشرية المستقبلية، التي ستكون متحررة من كل هذه القيود التي ترسف فيها اليوم، متغلبة على كل العوامل التي تعوق التقدم، وسائرة بخطى ثابتة في طريق الحقيقة والفضيلة والسعادة. وأن هذا الازدهار سيفتح الطريق أمام الناس للإنسانية والإحسان والعدل...، ولا توجد حدود ثابتة لتقدم الملكات الإنسانية، لأن قبول الإنسان للكمال لا حد له على الإطلاق، ولذلك فإن تقدم هذا الكمال وهو أعلى من أي قوة تعوقه، ليس له حد آخر خلاف الزمن الذي تزول فيه الكرة الأرضية التي أسكنتها الطبيعة على ظهرها.                                       
خاتمة
         كان مدار الحديث في هذه الورقة البحثية عن رائدين من رواد المشروع الثقافي التنويري، بصدد إشكالية التاريخ وفكرة التقدم، بداية بفولتير وصولا إلى كوندورسيه. بكون مقصد فولتير يتمثل بشكل صريح في الارتفاع بالتاريخ عما هو إنساني جدا، وعرضي وفردي، فهو لم يسع إلى وصف الخاص والفريد من نوعه، وإنما سعى إلى إبراز روح العصر وروح الأمم. لم يكن يعنيه تتابع الوقائع، بل أطوار الثقافة والارتباط الداخلي بين مكوناتها الفردية. وأن العقل هو المجال الأكبر الذي يشمل كل الأحداث الداخلية، وكامل التحولات التي على البشرية أن تمر بها قبل أن تتمكن من الوصول إلى معرفة حقيقة بذاتها. بهذا يعد فولتير الرائد المتحمس لفكرة التقدم، وهذه الفكرة بالذات هي ما منحه ذلك التأثير القوي في عصره. أما كوندورسيه وكتابه الأساس، مخطط لصورة تاريخية في تقدم العقل الانساني، استكمالا مباشرا لأفكار فولتير ومبادئه. إن استعراض وقائع وأحداث فكرية ومعرفية وفلسفية وحضارية وسياسية، إنما من باب التأكيد على أنه هناك تطور وتقدم يحكم المعرفة التاريخية والعقل البشري، وهذا التقدم يحدث عبر مجموعة من التحولات، التي تحدث داخل التاريخ البشري. مما يفضي بمسألة التطلع بفكرة مستقبلية تلوح في الأفق على أمل سيطرة العقل على النشاط البشري، وأن التقدم هو للعقل البشري وللفلاسفة الصلاحية بالتعبير عن روح عصرهم خير تعبير.
         وختاما، نأمل أن نكون قد وفقنا في بسط التصورين حول هذه الإشكالية على نحو ملائم. وإننا نعتقد أن بلورة مثل هادين التصورين، لا يمكن أن يتحقق بـدراسات عـامة وتعميمية، بل إنه يـفرض القيام بـدراسات جـزئية ودقيـقة.   
         من خلال تدقيق النظر في هذه الإشكالية، تشدنا قضية أو مشكلة حقيقية يجب الوقوف عليها مليا مستقبلا، إذا كان التاريخ والتقدم يحكمهما ويرسم خطاهما العقل والفكر والذكاء الإنساني. فكيف يمكن حصرهما في حقبة أو زمان أو مكان معين، بصيغة أخرى كيف يمكن أن نمسك بهذا التقدم العقلي في التاريخ؟ المسألة ليست بسيطة، لأننا أمام مفاهيم تشي بنوع من الزئبقية، بحجة لا يمكن قياس الذكاء والعقل الإنسانيين، كلما شرعت في ضبطهما وحصرهما بمقياس كلما تطورا وانفلتا.
(*) طالب باحث بماستر تاريخ الفلسفة قضايا واشكالات، جامعة القاضي عياض-مراكش.



[1] أرندري كريسون، تيارات الفكر الفلسفي من العصور الوسطى حتى العصر الحديث، ترجمة، نهاد رضا، منشورات عويدات، بيروت ،ط1، 1962، ص ،152.
[2]  عبد العزيز عزت، فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع، ص، 118.
[3]  فولتير، رسائل فلسفية، ترجمة عادل زعيتر، تحرير دار التنوير 2014، ص،90.
[4]  فولتير، رسائل فلسفية، نفس المصدر، ص، 87.
[5]  فولتير، رسائل فلسفية، مصدر سابق، ص، 23.
[6]  يحيى الملاح هاشم، المفصل في فلسفة التاريخ، دراسة تحليلية في فلسفة التاريخ التأملية و النقدية، دار الكتب العلمية، ط، 2، 2012،ص، 273.
[7]  ول ديورانت، مباهج الفلسفة، الكتاب الثاني، ترجمة، أحمد فؤاد الأهواني، تقديم، سعيد توفيق، القاهرة المركز القومي للترجمة، ط، 2،2016،          ص،15. 
[8]  بشارة عزمي، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء الثاني، المجلد الأول، المركز العربي الأبحاث ودراسة السياسات، ط،1،2015، ص،  551.
[9]  ول ديورانت، مباهج الفلسفة، مصدر سابق، ص، 71.
[10]  نفس المرجع، ص،71.
[11]  بشارة عزمي، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، مرجع سابق، ص، 551-552.
[12]  يحيى الملاح هاشم، المفصل في فلسفة التاريخ، مرجع سابق، ص، 294.
[13]  صبحي أحمد محمود، في فلسفة التاريخ، مؤسسة الثقافية الجامعية بيروت، ص،182.
[14]  يحيى الملاح هاشم، المفصل في فلسفة التاريخ، مرجع سابق، ص،299-301.
[15]  رأفت غنيمي، فلسفة التاريخ، دار الثقافة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1988، ص، 109.
[16]  بدوي عبد الرحمان، موسوعة الفلسفة، الجزء 2،ط، 1، المؤسسة العربية للدراسات و النشر، بيروت، 1984، ص، 207.
[17]  نصر الله سعدون، المدخل إلى علم التاريخ، ط1، دار النهضة العربية، لبنان 2007، ص، 49.
[18]  فولتير، رسائل فلسفية، مصدر سابق، ص،87.
[19]  صبحي أحمد محمود، في فلسفة التاريخ، مرجع سابق، ص، 75.
[20]  يحيى الملاح هاشم، المفصل في فلسفة التاريخ، مرجع سابق، ص، 990.
[21]  صبحي أحمد محمود، في فلسفة التاريخ، مرجع سابق، ص، 184.
[22]  بدوي عبد الرحمان، موسوعة الفلسفة، مرجع سابق، 207.
[23]  صبحي أحمد محمود، في فلسفة التاريخ، مرجع سابق، ص، 184.
[24]  فولتير، كنديد أو التفاؤل، ترجمة عادل زعيتر، ط1، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع بيروت، 2012، ص،31.
[25]  نفس المصدر، ص، 36.
[26]  نفس المصدر ،ص، 111.
[27]  ولتر ستيز، الدين والعقل الحديث، ترجمة إمام عبد الفتاح، ط1، 1988، ص، 87.
[28]  ول ديورانت، قصة الفلسفة، ترجمة فتح الله محمد المشعشع، ط6، مكتبة المعارف بيروت، 1988، ص، 299.
[29]  رأفت غنيمي، فلسفة التاريخ، مرجع سابق، ص، 95.
[30]  أمليل علي، سؤال الثقافة، الثقافة العربية في عالم متحول، ط2، 2011 المركز الثقافي العربي، ص، 15.
[31]  بارنز هاري ألمر، تاريخ الكتابة التاريخية، ترجمة محمد عبد الرحمن برج، ج1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1978، ص، 242.
[32]  صبحي أحمد محمود، في فلسفة التاريخ، مرجع سابق، ص، 185.
[33]  لكوندرسيه، مخطط تاريخي لتقدم العقل البشري، د. السيد محمد بدوى ، ص،26.
[34]  نفس المرجع، ص، 25.
[35]  Condorcet esquisse d'un tableau historique des progrès de l’esprit humain, PARIS, FIRMIN DIDOT FERES, LIBRAIRES ,IMPRIMEURS DE L’INSTITUT, RUE JACOB ,56, 1847 p ,.25
[36]  لكوندرسيه، مخطط تاريخي لتقدم العقل البشري، مرجع سابق،ص،29.
[37]  Condorcet esquisse d'un tableau historique des progrès de l’esprit humain,  Ibid, p ,.26
[38]  لكوندرسيه، مخطط تاريخي لتقدم العقل البشري، مرجع سابق،ص،32.
[39]  Condorcet esquisse d'un tableau historique des progrès de l’esprit humain,  Ibid, p ,.31
[40]  Condorcet esquisse d'un tableau historique des progrès de l’esprit humain,  Ibid, p , 32.
[41]  Ibid.,p, 32.
[42]  Ibid. ,p, 44.
[43]  Ibid.,p,50.
[44]  Ibid.,p,51.
[45]  Ibid.,p,51.
[46]  Condorcet esquisse d'un tableau historique des progrès de l’esprit humain,  Ibid, p ,55.
[47] Ibid.,p ,62.
[48]  Ibid.,p,62.
[49]  Ibid.,p,77.
[50]  Ibid.,p, 82.
[51]  Ibid.,p,83.
[52]  Ibid.,p,109.
[53]  Ibid.,p,124.
[54]  Ibid.,p,127.
[55]  Ibid.,p,140.
[56]  Ibid.,p,169.
[57]  Condorcet esquisse d'un tableau historique des progrès de l’esprit humain,  Ibid, p ,169.
[58]  Ibid., p,.235
[59]  Ibid., p,237.
[60]  Ibid., p,.281
[61] لكوندرسيه، مخطط تاريخي لتقدم العقل البشري، مرجع سابق،ص،26.
[62]  نفس المرجع،ص،32.
[63]  تفس المرجع، ص، 33.
[64]  تفس المرجع، ص، 36.


لائحة المصادر والمراجع
·        فولتير، رسائل فلسفية، ترجمة عادل زعيتر، تحرير دار التنوير 2014.
·        فولتير، كنديد أو التفاؤل، ترجمة عادل زعيتر، ط1، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع بيروت، 2012.
·        ول ديورانت، مباهج الفلسفة، الكتاب الثاني، ترجمة، أحمد فؤاد الأهواني، تقديم، سعيد توفيق، القاهرة المركز القومي للترجمة، ط، 2،2016.
·        ول ديورانت، قصة الفلسفة، ترجمة فتح الله محمد المشعشع، ط6، مكتبة المعارف بيروت، 1988.         
·        لكوندرسيه، مخطط تاريخي لتقدم العقل البشري، د. السيد محمد بدوى.
·        بدوي عبد الرحمان، موسوعة الفلسفة، الجزء 2،ط، 1، المؤسسة العربية للدراسات و النشر، بيروت، 1984، ص، 207.
·        ولتر ستيز، الدين والعقل الحديث، ترجمة إمام عبد الفتاح، ط1، 1988.
·        بارنز هاري ألمر، تاريخ الكتابة التاريخية، ترجمة محمد عبد الرحمن برج، ج1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1978.
·        صبحي أحمد محمود، في فلسفة التاريخ، مؤسسة الثقافية الجامعية بيروت، ص،
·        بشارة عزمي، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء الثاني، المجلد الأول، المركز العربي الأبحاث ودراسة السياسات، ط،1،2015.
·        أمليل علي، سؤال الثقافة، الثقافة العربية في عالم متحول، ط2، 2011 المركز الثقافي العربي
·        يحيى الملاح هاشم، المفصل في فلسفة التاريخ، دراسة تحليلية في فلسفة التاريخ التأملية و النقدية، دار الكتب العلمية، ط، 2، 2012.
·        رأفت غنيمي، فلسفة التاريخ، دار الثقافة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1988.
·        أرندري كريسون، تيارات الفكر الفلسفي من العصور الوسطى حتى العصر الحديث، ترجمة، نهاد رضا، منشورات عويدات، بيروت ،ط1، 1962.
·        نصر الله سعدون، المدخل إلى علم التاريخ، ط1، دار النهضة العربية، لبنان 2007.
·        عبد العزيز عزت، فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع.
·        ­Condorcet esquisse d'un tableau historique des progrès de l’esprit humain, PARIS, FIRMIN DIDOT FERES, LIBRAIRES ,IMPRIMEURS DE L’INSTITUT, RUE JACOB ,56, 1847 


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس