تموضع الوعي العقلي

تموضع الوعي العقلي
فيلوبريس

                                                       21 ماي 2020

د علي محمد اليوسف



بداية
بضوء الاقرار بحقيقة اننا نعجز عن تعريف ما هو الوعي الإنساني وكيف يعمل وماهي ماهيته ومن المسؤول عن وجوده في منظومة العقل الإدراكية الخ؟؟ نطرح التساؤل التالي:
هل يستنفد الوعي الإنساني ذاتيته الإدراكية في تموضعه بعالم الأشياء كما هو الشأن مع الفكر واللغة في تموضعهما التعبير عن موضوع إدراكي للعقل؟
إجابة بول ريكور المقاربة عن تساؤلنا هي (أن الوعي يستنفد ذاته بتأسيس وحدة المعنى والحضور في الموضوع، والوعي ليس وحدة الشخص بذاته ولذاته، ليس لأحد الأشخاص، فالأنا أفكر هي فقط صورة لعالم هو بعامة مجرد مشروع لموضوع ). 1
نفهم من هذا أن الوعي الفردي يتحول في تموضعه بالأشياء المدركة عقليا الى فعالية جماعية ويفتقد ميزته أنه فعالية فردية كما في طبائع علاقة الوعي الانفرادي بالأشياء. والوعي الفردي حين يستنفد ذاتيته في تموضعه بالشيء يصبح ويتحول الى وعي جمعي من حصّة المتلقي الاستقبالي للشيء أو النص من بعد التعبير عنه لغويا.
إذن الوعي بشيء معيّن هو خاصية انسانية فردية منفردة وهذا لا يمنع تكرار فرديتها مع عدد لا محدود من الناس. لكن عندما يتحول الوعي من إدراك تجريدي لشيء يموضعه العقل في عالم الأشياء كينونة مستقلة بصفات عقلية معينة عندها يتحول الوعي من تجريد إدراكي إلى جزء من موضوع مادي ويستنفد الوعي ذاتيته كوعي مجرّد. وكذا نفس الحال مع اللغة في فقدانها خصوصيتها الفردية حينما تتحول إلى تموضع في الأشياء، فهي بهذه الموضعة تخرج عن فرديتها المملوكة لشخص الى فضاء التداول الجمعي غير المحدود.
 ونقول حين يستنفد الوعي ذاتيته الادراكية العقلية في موضعته بشيء كموضوع مدرك عقليا فهو يفقد الذاتية فكريا تجريديا بمعزل عن فيزيائية ارتباطه العضوي الفسلجي بالعقل التي لا تفنى ذاتيته المدركة في موضعته الأشياء في التعبير عنها بالفكر واللغة ويصبح الوعي بالشيء هو في تموضعه التأويلي جماعيا ولا يكون الوعي بعد موضعته وعيا منفردا يهم شخصا بعينه دون غيره.. ويخرج عن وصاية ومسؤولية الفرد عنه.
الوعي الإنساني جوهر تجريدي لا فيزيائي من حيث مصدره التخليقي المرتبط به العقل كجوهر فيزيائي بالمعنى البيولوجي.. الوعي يتموضع في عالم الاشياء بلغة التجريد والفكر المجرد معا بنفس وقت الوعي هو غير عضو بيولوجي يتبع المنظومة الإدراكية العقلية الفسلجية التي هي بمجموعها تمثل العقل كجوهر مادي خاصيته الماهوية الوعي الذكي في توليد الافكار والتعبير اللغوي، فالوعي يبقى ارتباطه بمنظومة العقل تجريدا لغويا في المعنى هو أقرب علاقة بالفكر واللغة التعبيرية منه الى قربه من العقل كجوهر بيولوجي مادي. وإذا كانت مقولة ديكارت تذهب الى أن العقل جوهر منفصل عن الجسم ماهيته التفكير، فهذا يسمح لنا القول أن تفكير العقل الواعي لا يأخذ حّيز التنفيذ حين لا تكون ماهيته اللغة.
وفي الوقت الذي نجد العقل يحمل خاصيتي التجريد والبيولوجيا معا فأن الوعي والفكر واللغة تبقى حلقات تجريدية في منظومة العقل الفيزيائية. فيزيائية العقل تبدأ بالحواس وتنتهي بالدماغ مرورا بمنظومة الجهاز العصبي في تخليقه الوعي الذهني للأشياء. والوعي والفكر واللغة تجريد ماهوي لجوهر العقل المادي في كل الأحوال التي يعي بها الشخص ذاته كموجود حي.
ويبقى تبادل موضعة الوعي للأشياء دونما انفصاله عن منظومة الادراك العقلي البيولوجية أو التجريدية.. فحيثما يكون العقل تكون ملازمة الوعي القصدي له ولا يتبّقى أثرا للوعي بعد تموضعه المادي في الشيء كمثل اللغة المتموضعة في الشيء الذي عبّرت عنه فهي تصبح لغة القارئ المتلقي وليس لغة العقل المجرد في التعبير قبل موضعة العقل لها بالأشياء أو الخطاب..
 الوعي في تموضعه بالشيء إنما يتوسل اللغة ولا اختلاف هنا في تموضع اللغة بالشيء عن تموضع الوعي لنفس ذلك الشيء فاللغة التموضعية تبقى وعيا مفتوحا مفصحا عن احتمالات تأويلية تواصلية على مستوى تعدد القراءات. تموضع الوعي يتلاشى بالشيء لأنه نشاط فردي متموضع مثل تموضع اللغة بالشيء... وتموضع اللغة بالشيء تبقى تأويلا جماعيا في التلقي المفتوح المتعدد رغم انبعاثها الصادر عن الوعي الفردي لشخص بعينه دون غيره..
من الخطأ تصورنا انعدام معنى الوعي في تموضعه واستنفاد ذاته الماهوية الحاملة للمعنى بأشياء العالم الخارجي وفي مواضيع الإدراك داخل النفس على أنه تجريد وعوي ذهني إدراكي فائض عن حاجة منظومة الادراك العقلي التي تحتويه ولا أهمية ضرورية له في شان حضوره عن غيابه.
يذهب بعض الفلاسفة مع خطأ اعتبار الوعي لا يمثّل شيئا على الاطلاق وهو من مباحث الميتافيزيقا التي لا طائل من وراء الدخول بمناقشتها.. والوعي بنظرهم مصطلح تداولي لا معنى محدد له شأنه شأن العقل غير الفيزيائي فهو جوهر لا يمكننا تعريف ماهيته خارج توليده اللغة والافكار المجردة. ما جعل جلبرت رايل يطلق عبارته الصادمة العقل ليس شيئا على الاطلاق.
نفس تموضع الوعي التجريدي يطال تموضع تجريد الفكر واللغة ايضا بتعالقهما بالوعي والعقل فكليهما يفقدان ذاتيتهما في موضعتهما في موضوع الادراك العقلي بخلاف العقل فهو جوهر لا يفقد ذاتيته في تموضعه الإدراكي للأشياء تجريدا صوريا كما هو الحال مع الوعي واللغة. العقل ليس واسطة تموضعية بذاتها كما هو الحال مع الفكر والوعي واللغة فهي وسائل تموضع تفكير العقل ولا ينوبون عنه لا في الادراك التفكيري ولا في التموضع الشيئي.
طاقة العقل التوليدية للفكر واللغة تستنفد نفسها في تموضعها لغويا في موضوعها، ويبقى العقل جوهرا فيزيائيا في علاقته بالجسم وليس علاقته بتجريدات الفكر واللغة في استخدام العقل لهما وسيلة تعبير واحدة مندمجة مع بعضها. وتصبح الاضافات لمعنى الموضوع أو الخطاب أو النص فعالية جماعية في التلقي الاستقبالي وليست فعالية فردية كما في تموضعها لأول مرة في نص أو موضوع أو شيء.
الوعي توسيط ضروري وحاجة ماسة تتوسط بين العقل والأشياء لا يفقد حضوره الدائم تجريدا في ملازمة العقل وسيلة موضعته الأشياء ويبقى الوعي في كل الحالات في تموضعه وفي تجريده عالقا في فضاء التفكير العقلي وهو لا يكتفي بمهمة توسيل تجريدي في نقله لمدركات العقل كونه حلقة منظومية غير بيولوجية في جهاز العقل الإدراكي. الوعي تجريد لغوي قصدي هادف لمعنى معيّن يكون تموضعه بالأشياء بوسيلة اللغة في التعبير.
فالوعي تفكير لغوي حضوري تجريدي يلازم العقل سواء أستنفد ذاتيته التعبيرية التواصلية في المنظومة العقلية الادراكية في تعبير الفكر واللغة وموضعة الاشياء به كوسيلة تنفيذ اجراءات العقل الصادرة عنه، أم بقي تفكيرا صوريا تجريديا لغويا صامتا معلقا بالذهن غير متموضع بالأشياء، ويبقى حلقة حاضرة على الدوام في تلك المنظومة العقلية كتجريد يتوسط كلا من العقل والموضوع في تعبير اللغة والفكر عن موضوعات الوعي الذهني. وكما يتوسط الانسان كجوهر مادي - روحي بين الطبيعة والله، يتوسط الوعي العقل واللغة. والعقل والاشياء أيضا.
ميزة الوعي في ملازمته العقل هو في لامادية الوعي في وقت هو وسيلة العقل في التعبير عن مدركاته التجريدية للأشياء. ويفقد الوعي الفردي تجريده في تموضعه بالأشياء، ويبقى محتفظا بتجريده كما هي خاصية اللغة التجريدية في إفصاحهما (الوعي واللغة) عن ماهية العقل المادية في التفكير الإدراكي الهادف قبل موضعتهما بالأشياء.
أهم ميزة للعقل أنه منظومة إدراكية مزدوجة وتركيبة متناقضة كما تبدو لأول وهلة فهو يجمع بين الجوهر المادي البيولوجي كدماغ من جهة والجوهر غير المادي غير البيولوجي التجريدي كنظام لغوي ماهيته التفكير من جهة أخرى. يحمل العقل صفتين متداخلتين هما أنه اولا جوهر مادي بيولوجي من ناحية ارتباطه بالمنظومة التي تبدأ بالحواس وتنتهي بالدماغ عبر الجملة العصبية الناقلة والمصدّرة للأفكار واللغة. والصفة الثانية للعقل المتكاملة المتداخلة مع الصفة الأولى التي ذكرناها هي أنه جوهر لا فيزيائي ولا مادي فهو تجريد في تعامله مع الفكر واللغة كتعبير تجريدي عن المواضيع والاشياء المادية والخيالية على السواء، والعقل مادي حين يكون جوهرا بيولوجيا فيزيائيا يرتبط بالجسم في منظومة الحواس والجملة العصبية... والعقل جوهرا لا مادي حين يكون تعبيرا تجريديا بالفكر واللغة عن الاشياء. ميزة العقل كجوهر مادي ماهيته الفكر واللغة والوعي ومجموع هذه الفعاليات العقلية هي تجريدات علاماتية واشارية صادرة عن جهاز بيولوجي فيزيائي عضوي يشّكل جزءا من تكوين جسم الانسان هو الدماغ أو العقل بمفهومه التجريدي اللافيزيائي.
فكيف يصدر ما هو مادي من تجريد لغوي واع قصديا عن جوهر لا مادي هو العقل والعكس صحيح كيف يصدر ما هو تجريد لا مادي عن عقل هو جوهر مادي بيولوجي مسؤول عن الجسم بكل شيء؟؟ مقولة ديكارت العقل جوهر ماهيته التفكير تعبير اختزالي ناقص فالعقل ليس كل ماهيته وجوهره التفكير بالوعي والفكر واللغة.
ويعبّر جوزيف ليفني عن هذه الإشكالية أن ميزة العقل هو الوعي ولمّا كان الوعي هو غير فيزيائي فكيف يستطيع العقل اللامادي ادراك المادي من الاشياء والمحسوسات في العالم الخارجي؟ وأطلق على هذه الاشكالية مصطلح (الفجوة التفسيرية) التي بقيت بلا حل.
الوعي في الوقت الذي نتصوره فيه جوهرا توسيليا متميزا متعالقا بجوهر العقل المتعالي على الاشياء والواقع والمتعالق بها لا يكون تجريدا خارج موضعة ذاته في الأشياء، بل هو يكتسب ماديته شأنه شأن الفكر واللغة في تموضعهما في موضوع أو خطاب أو نص، ويبقى الوعي والفكر واللغة خاصية ذكية شغّالة ملازمة للعقل تجريديا على الدوام, بمعنى هذه الماهيات الثلاثة لجوهر العقل (الوعي، الفكر، واللغة) تكتسب ماديتها في موضعتها في الأشياء ولا تكتسب ماديتها في صدورها عن العقل القائم على التجريد فقط بعلاقته التعبير الصوري اللغوي عن مدركاته .
والوعي تجريد لا يعمل في فراغ خارج منظومة العقل الإدراكية. الوعي توليف عقلي من نوع خاص في تعاليه على الموضعة الادراكية حين يصبح الوعي كما هو شأن الذهن العقلي جوهرا فيزيائيا بيولوجيا لا تستنفده اللغة في تعبيرها عن مضمونها التوصيلي وعن محتواها التموضعي، وبتعبير مقارب لريكور (فإذا كان الانسان – المقصود الوعي العقلي – توسيطا بين الوجود والعدم، فهو اولا يجري توسطات في الأشياء، والتعالي هو شرط كل تحول من أسطورة الخليط ومن بلاغة البؤس في الخطاب الفلسفي). 2 بالحقيقة أن اللغة تستنفد ذاتيتها وتستنفد وعي العقل التجريدي معها في موضعتها للأشياء مع نهاية وصاية العقل عليهما.
الوعي بهذا المعنى هو الجوهر الذي يتوسط العقل ومدركاته (المواضيع) لكنه لا ينوب عنه في الوظيفة التعبيرية المتموضعة.. فالوعي شغّال في وصاية العقل عليه وتوجيهه كيف يريد ويفقد الوعي هذه الخاصية التوسيلية حينما يتموضع  بالأشياء لغويا.
وكما هو الانسان الذي يتوسط الوجود والعدم، لا يمكن لوعي الانسان القيام بالتوسيط بين الاشياء دونما تحقق وعيه الاشتراطي في تعاليه على التموضع في الوجود قبل أن يفقد ذاتيته الخاصة في تذويته الاشياء من خلال موضعته لها وتموضعه فيها (وفائض هذا التذويت التموضعي يكون مجرد تفكير متعال لا يسمح لبلوغه مستوى العقل) 3.
من المهم التذكير أن خاصية الفكر واللغة هما توليد عقلي في كل الاحوال ومختلف الظروف. الوعي ليس مصدر العقل في التفكير بل هو وسيط في موضعته لتفكير العقل بواسطته واللغة. وكل فائض في تذويت الوعي المتموضع بالأشياء هو فائض متناسب نسقيا في تعبير اللغة... وتعالي الوعي على موضعته لموضوعه لا يكون مجرد تفكير لا يبلغ مستوى العقل، من حيث أن الوعي هو فكر متموضع لغويا تجريديا وهو إنابة عن تموضع عقلي بالأشياء قبل تموضعه الشيئي فكريا في متعينات الادراك.
تموضع الوعي يكون ماديا كما هو تموضع الفكر واللغة فهما يصبحان ماديان في تعبيرهما عن الأشياء ولا علاقة تبقى لهما ولا وصاية عليهما خارج المعنى اللغوي والمعرفي في التلقي.
توليفة الوعي العملي
التوليف العملي حسب بول ريكور هو الانتقال (من أنا أفكر إلى أنا أريد، أنا أرغب، أنا أقدر، هذا هو المملوء الضخم الذي نريد إدماجه بالفكر) 4
مادية الوعي المتموضعة في الأشياء إنما تقوم على تنفيذ إرادة الوعي الذاتية وانتقاله من التجريد اللفظي الى مرحلة تذويت الاستيعاب الكليّاني لما ترغبه الذات في تحقيقها الارادة الواعية بمقصودها، بول ريكور لا يعير اهتماما ويتغاضى عن التفكير الوعوي التجريدي بقوله (تجريد الوعي هو تجريد المرشد، الخيط الموصل الذي أعطاه لنفسه، فالتفكير المتعالي – الذي هو وعي تجسيدي – هو تفكير انطلاقا من الشيء، تفكير بمقتضيات أمكان تحقق موضوعية الشيء، وعالم الاشياء ليس سوى البنية التجريدية لعالم حياتنا) 5
تأرجح وعي الإرادة الذاتية أن يكون متعاليا تجريديا يحمل خصوصيات الفكر واللغة اللذين يمليانهما على واقع العالم الخارجي ينطلق حسب فهم ريكور من الأشياء المتموضعة وعويا تذويتيا من حيث يعتبر ريكور العالم هو بنية تجريدية في حياتنا، قبل أن يكون عالما ماديا نستقي منه معاييرنا ونمتحن فيه اراداتنا وقدراتنا في محاولتنا تطويعه للفهم والاستيعاب أن لم يكن محاولة فهمه على الاقل. لم يعد الوجود الواقعي لأشياء العالم الخارجي يمتلك أدنى قيمة مثيرة تجلب انتباه الاهتمام الفلسفي التي تتمحور اليوم في الفلسفة الاولى نظرية المعنى في اللغة.
نرى من المهم التنبيه إلى مسألة وردت عرضيا في تعبير ريكور السابق على أن الوعي بالشيء مستمد من نتاج وجود الشيء باستقلالية إدراكية، ولا يعتبر ريكور الوعي هو قاسم مشترك وحصيلة تكاملية بين مثيرات الحواس ومفاعيل الدماغ الاسترجاعية عن موقف العقل من الشيء المدرك.. الوعي ليس رد فعل يأتي عن طريق الاحساسات بالشيء بمعزل عن فاعلية التداخل مع العقل أو الذهن تحديدا.
فوعي ما تدركه الحواس لا قيمة حقيقة له من غير استقبالية الذهن العقلي لما تدركه الحواس وينقله الوعي الادراكي للعقل، بهذا المعنى لا يكون الوعي منتجا عقليا صرفا ولا يكون رد فعل نقل الاحساسات الصادرة عن الحواس للذهن فقط ايضا بل هو الحصيلة الجدلية التي تتوسط بين الفعاليتين اللتين ذكرناهما.
صحيح تعبير ريكور العالم هو بنية تجريدية في حياتنا وقوله هذا هو مرجعية عدم استعداده الفلسفي الهيرمينوطيقي مغادرة أننا ندرك ونفهم ونفسر العالم من حولنا على أنه بنية تجريدية بالوعي والفكر واللغة وخارج هذه البديهة ليس هناك من عالم خارجي جدير أن يثير انتباهنا معرفته، وبغير هذه الوسائل ليس هناك قيمة نعتد الأخذ بها أن العالم وجود مادي سابق قبلي يمنحنا الوعي والتفكير العقلي في محاولة فهمه، ويقر ريكور في عبارته السابقة أولوية العالم من حولنا على بعدية التفكير به وليس قبلية أدراكه ومعرفته على أسبقية وجوده.
بضوء ما مررنا به نتساءل: هل من الممكن أن يكون تعالي الوعي المرتبط بالواقعي في الاشياء هو مصدر تعالي التفكير المجرد عليها؟
لا نعتقد الاشكالية القائمة بين تعالي الواقع على الفكر أو بالعكس تعالي الوعي على الواقع من السهولة التي يراد حسمها في ظل مغادرة الفلسفة لكلاسيكية الطروحات التي استنفدت نفسها في تبادل أرجحية الفكر على الواقع أو العكس وأيهما يؤثر تأثيرا انقياديا أو قياديا للآخر. قضية مستحكمة عالقة في تاريخ الفلسفة اثارها هيجل ليستلمها من بعده تلامذته كلا من وجهة نظر خاصة به (ماركس، انجلز، فيورباخ، وشتيرنر) وعدد لا يحصى من بعدهم.
فلاسفة البنيوية والتفكيكية وأخيرا التأويلية التي ينتمي لها ريكور جميعهم يجمعون على أن وعي المعنى اللغوي الفكري أصبح مبتدأ ومنتهى فهمنا العالم من حولنا، وهذا يقودنا حتما الى تلك التناسبات المتعاكسة في تعالي الوعي ليس بمقايسة أهمية الوقائع والاشياء بل في مصادرة تلك الأهمية. وكيف لنا فهم تعبير ريكور بضوء ما أشرنا له سابقا قوله (نسق الفلسفة ليس هو تكرار الحياة، تكرار الوجود والممارسة العملية – براكسيس – أو أي ما نرغب قوله) 6
هذا النسق السكوني في الفهم التأويلي الفلسفي لدى ريكور في محورية نظرية المعنى بعيدا عن الانغماس في ظواهر الحياة اليومية الذي ترى فيه التأويلية الفلسفية تكرارا مملا لتصنيع الحياة في رتابتها التكرارية في الممارسة العملية اليومية Praxes أنما هي بالحقيقة مرجعية بحث تأويلي (هيرمينوطيقي) لإيجاد نظام وعوي لغوي يبني ويشيد نسقا تراكميا من البحث في ملاحقة المعنى داخل اللغة وليس الاهتمام بمنهجية واقعية مفروضة من خارجها. وهذه الملاحقة التتابعية في البحث عن المعنى داخل موضعة اللغة في النص ليست على ارتباط جدلي في موضعة اللغة الواقع في تجديد صنع الحياة.
بول ريكور لا يقيم وزنا فلسفيا للواقع اليومي المعيش الرتيب كما وليس من مهام الفلسفة المعاصرة اليوم بعد التحول اللغوي التعبير عن حياة الانسان الاستهلاكية المتكررة التي تتوزعها رغبة العمل اليومي وإشباع الغرائز البيولوجية للإنسان. قضايا الانسان في فلسفة العقل واللغة أصبحت خارج اهتمامات مباحث الفلسفة اليوم التي تقوم بمجملها على نظرية المعنى.
ما يهمنا هنا أن تموضع الوعي اللغوي في عالم الأشياء إنما هو اندثار الوعي في موضعة الشيء وتلاشيه كجزء منه وليس كطاريء خارجي يستهدفه في هذا التذويت داخل موضعة أشياء العالم الخارجي.
الهوامش
1.بول ريكور، فلسفة الارادة – الانسان الخطاء، ت عدنان نجيب الدين ص 85
2. المصدر نفس الصفحة
3. المصدر نفس الصفحة
4.المصدر ص 84
5. المصدر ص 88
6. المصدر ص89



تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس