مجزوءة السياسة
تقديم
يعود
الاهتمام بموضوع السياسة داخل مجال الدراسات الفلسفية إلى بدايات الفلسفة مع
اليونان. وفي هذا السياق نجد أن أهم كتب أفلاطون وهو "الجمهورية" هو
كتاب في السياسة والمدينة، والأمر نفسه بالنسبة لتلميذه أرسطو الذي ألف "كتاب
السياسة".
ومن
بين أهم تعاريف السياسة في أدبيات الفلسفة السياسية وفي علم الاجتماع السياسي على
الخصوص ذاك الذي يعتبرها "فن تدبير الممكن"، والمقصود بذلك أن السياسة
هي تلك الممارسة الإبداعية التي يكون هدفها إيجاد حلول للمشاكل المطروحة في
الواقع. والسياسة بهذا المعنى وباعتبارها موضوعا ومبحثا فلسفيا تطرح عدة إشكاليات
للنقاش، وأهمها تلك المتعلقة بمفاهيم مثل الدولة، الحق والعدالة... وغيرها من
المفاهيم القريبة من هذا المجال.
الدولة
مقدمة:
شغل موضوع الدولة حيزا كبيرا ضمن مجال البحث في الفلسفة وفي السوسيولوجيا
السياسية، وذلك بالنظر إلى ما يثيره هذا الموضوع من قضايا سياسية تتعلق بالسلطة
وكيفية إنتاجها وتوزيعها وتداولها... والدولة من حيث التعريف تنظيم سياسي،
اجتماعي، وقانوني... يتجسد في المؤسسات التي تنظم حياة الأفراد داخل مجال جغرافي
محدد من خلال ممارسة سلطة مشروعة ودائمة. ويعتبر تناول الموضوع فلسفيا مناسبة لطرح
مجموعة من القضايا للنقاش، من قبيل أسس مشروعية الدولة، وطبيعة السلطة التي
تمارسها، وأيضا شروط هذه الممارسة...
المحور الأول: مشروعية الدولة وغاياتها
الإشكال: إذا كانت الدولة تمتلك سلطة وتمارسها بشكل
مشروع ومقبول، فمن أين تستمد هذه المشروعية؟ وما هو الأساس الذي تستند عليه لكي
تكون سلطتها مقبولة من طرف الجميع؟
موقفmax weber: المشروعية التقليدية والمشروعية الكارزمية
والمشروعية القانونية
يميز فيبر- من خلال مجموعة من
المقارنات التاريخية - بين ثلاثة أسس للمشروعية وهي:
-
المشروعية التقليدية: وترتكز على قوة الماضي
والأعراف والتقاليد، وعلى الدمج بين السلطتين الدينية والدنيوية، فالحاكم الأعلى ينتمي
إلى سلالة مقدسة.. ويسود هذا النمط من المشروعية في الأنظمة
الوراثية التي تحصر السلطة السياسية في أسرة أو مجموعة محددة.
-
المشروعية الكاريزمية: وتقوم على الإعجاب
والولاء المطلق لقدسية استثنائية كالنبوة والبطولة.
-
المشروعية القانونية: وتقوم على أساس عقلاني
يفصل بين الأشخاص والمؤسسات، ويفصل بين الانتماءات العرقية والدينية، والانتماءات
السياسية. أي أنه ينبني على الإيمان بالعقلانية والفردانية ويسود في المجتمعات
الغربية الحديثة.
موقف John Locke: مصدر مشروعية الدولة هو العقد الاجتماعي
تمكن مقاربة تصور جون لوك من التأكيد على فكرة "العقد الاجتماعي
" كأساس تقوم عليه مشروعية ممارسة الدولة لسلطتها. ولفهم هذه الفكرة ينبغي
الرجوع إلى فرضية حالة الطبيعة كما يطرحها فلاسفة العقد الاجتماعي. وفيما يخص لوك
فهو يعتقد أن حالة الطبيعة لم تكن كلها فوضى وعنف... (عكس طوماس هوبز)، غير أن
وجود ميل لدى الأفراد للاعتداء على الغير حولها إلى صراع ونزاع مستمر... وهكذا كان
لا بد من تجاوزها إلى حالة المجتمع والمؤسسات والمدنية... لتظهر الدولة – من خلال
عقد اجتماعي بين طرفين وهما: الحاكم والشعب – من أجل السهر على حماية حقوق الأفراد
ومصالحهم المدنية والاقتصادية... وما دام الملك طرفا في العقد فعليه أن يحترم بنود
العقد وإلا وجبت الثورة عليه. وهكذا فمشروعية الدولة تتأسس على العقد الاجتماعي –
حسب لوك- أما غايتها فهي حماية حقوق ومصالح وممتلكات الأفراد.
موقف J.J.Rousseau: مصدر مشروعية الدولة هو العقد الاجتماعي
يعتقد روسو أن مصدر مشروعية السلطة السياسية التي تمارسها الدولة هو العقد
الاجتماعي، لكن هذا العقد لا يقوم على القوة والسلطة المطلقة – كما هو الأمر عند
هوبز – بل على المشاركة والتعاون.. إن الفرد حسب روسو لا يتنازل لشخص معين، بل
يتنازل للجماعة، أي الدولة التي تمثل الشعب، و تجسد إرادته... إن السيادة تمثل
الشعب و هذا ما يعنيه روسو بالقول " إن من يهب نفسه للجميع، لا يهب نفسه
لأحد"، وهكذا يمكن أن نفهم أن أساس مشروعية الدولة هو العقد الاجتماعي، وأن
غاياتها مرتبطة بتحقيق المصلحة العامة، والحرية، والعدالة، والمساواة... كحقوق
طبيعية.
المحور الثاني: طبيعة السلطة
السياسية
الإشكال: ما طبيعة السلطة السياسية التي ينبغي أن
تمارسها الدولة لكي تحافظ على دوامها واستمراريتها؟ وكيف يمكن أن تحافظ على هذه
الاستمرارية؟ ووفق أية شروط؟
موقف machiavel: طبيعة السلطة السياسية هي استخدام جميع
الوسائل المشروعة وغيرها.
يقول ماكيافيل: "على الأمير أن يعلم جيدا كيف يتصرف كالحيوان، عليه أن
يقلد الثعلب والأسد في نفس الآن"
تتيح القراءة المتمعنة للقول الوقوف عند البنية المفاهيمية التالية:
(الأمير، التصرف، الحيوان)، كما تدل صيغة الخطاب على أن الأمر يتعلق بوصية يقدمها
صاحب القول للأمير.. لنحلل إذن هذه البنية المفاهيمية، إن الحديث عن الأمير يقتضي
استحضار الحاكم، السياسي... وبشكل عام الممارس للسلطة. ويعني التصرف ببساطة السلوك
والممارسة، وما دام الأمر يتعلق بالأمير فإن المقصود هنا السلوك السياسي وممارسة
السلطة، وهكذا يصبح مضمون القول هو وصية تحدد طبيعة السلوك السياسي وشروط ممارسة
السلطة، والتي تتأسس على أن يمارس الحاكم سلطته بطريقة حيوانية، أي بطريقة يغيب
فيها البعد الإنساني. ومعنى ذلك أن يتجرد الأمير من قيمه وأخلاقه ومبادئه، فلا يتبقى
حينئذ إلا الحيوانية التي تقوم على الاندفاع والغلبة والقوة... وهكذا ينصح صاحب
القول الأمير إذن أن يكون أسدا شرسا وأن يكون ثعلبا مخادعا في نفس الوقت، أن يكون
قويا وماكرا بارعا. إن مجال السياسة هو مجال الصراع والمنافسة والمؤامرات، وهذا
يتطلب القوة والمكر معا، ويتطلب استعمال كل الوسائل الممكنة سواء أكانت مشروعة أو
غير مشروعة ... وعموما يتلخص مذهب ماكيافيل في الفصل بين الأخلاق والسياسة،
فالحاكم الكفء لا ينبغي أن تعوقه المبادئ الدينية أو الأخلاقية عن تحقيق أغراضه
السياسية، بل إن من حقه ألا يتردد في التخلي عن هذه المبادئ، وأن يتسلح بما يكفي
من المكر والالتواء و القسوة، فذلك ضروري للتمكين لسلطانه... ينبغي أن يتخلى عن
العدل والنظام ويعتمد القوة والإرهاب والحكم المطلق الذي لا يجعله فوق القانون
فحسب بل يجعله فوق الأخلاق أيضا .. ومهما جلبت أفعاله من اللوم والاستهجان فإن
ثمرة هذه الأفعال تشفع له، والغاية تبرر الوسيلة في عالم السياسة.
موقف Montesquieu: طبيعة السلطة السياسية هي الفصل بين السلط
على العكس من ماكيافيل كان مونتيسكيو يهتم بالتنظير للدولة الديمقراطية
والحريات السياسية التي تمكن الفرد من الطمأنينة والأمن والتحرر. لذلك أكد على أن
طبيعة السلطة السياسية ينبغي أن تتأسس على القوانين وليس التخويف والقوة... ففي كل
دولة توجد ثلاثة أنواع من السلطة، وهي السلطة التشريعية، والتنفيذية، والقضائية..
وما يضمن تحقيق القانون والحريات هو الفصل بين هذه السلط حتى لا تتركز في يد واحدة،
فتضيع الحقوق وتخرق القوانين، سواء من خلال صياغة قوانين ظالمة، أو من خلال تدخل
سلطة ما في عمل سلطة أخرى، كأن تتدخل الحكومة في عمل القضاء مما يجعله تابعا فاقدا
لاستقلاليته عاجزا عن إحقاق الحق. وهكذا فالقوة لا تؤسس لسلطة سياسية دائمة
ومستمرة، بل القانون هو الضامن لذلك.
المحور الثالث: الدولة بين الحق والعنف:
الإشكال: هل
يكفي الحق والقانون لكي تمارس الدولة سلطتها؟ أم أنها ملزمة بممارسة العنف والقوة؟
موقف جاكلين روس jacqueline Russ: أساس
سلطة الدولة هو الحق والقانون
تدافع روس عن قضية أساسية وهي اعتبار أن الأساس الذي ينبغي أن تقوم
عليه سلطة الدولة هو القانون وذلك من خلال فكرة فصل السلط (السلطة
التشريعية، التنفيذية، القضائية) باعتبارها آلية عملية لضمان تحقيق دولة الحق
كواقع ملموس مجسد، وليس كصورة نظرية تجريدية بعيدة عن الواقع، كممارسة مادية لا
كشعار أو مسحوق تجميل يغطي الواقع الحقيقي.
ولكي تدافع روس عن هذا التصور انطلقت من نفي أن تكون دولة
الحق مجرد تصور مثالي، لتؤكد من خلال شواهد ملموسة أن لها وجودا واقعيا،
تعبر عنه معطيات التاريخ (القرن العشرين) ومعطيات الجغرافيا (مجتمعاتنا = المجتمعات
الغربية)، هذا الواقع المتجسد بشكل ناجح ومتطور في الممارسة المعقلنة للسلطة، أي
الممارسة التي لا تعتمد الصدف والارتجال، بقدر ما تتأسس على منهج علمي دقيق ومنظم،
اعتمادا على الكفاءة والخبرة والتخطيط الجيد الذي يحدد الهدف والأدوات الكفيلة
بتحقيقه وفق استراتيجيات واضحة ودقيقة.
وحتى يكون تناول الموضوع واضحا تتساءل روس: ولكن ما هي دولة الحق؟ لتجيب
من خلال تعريفها بأنها دولة فيها حق وفيها قانون، وهدفها ضمان الحريات
وتحقيق الكرامة الإنسانية، إنها دولة ترفض العنف والتخويف والإرهاب واعتماد أساليب
القوة والهيمنة. وهنا يمكن أن نلمس حضورا للمثالية الكانطية من خلال بعض معطيات
فلسفته الأخلاقية، يؤكده ربطها بين الحق الوضعي والقانون الأخلاقي من خلال قولها
"إن احترام الحق الوضعي (الذي يكون تابعا للقانون الأخلاقي) ... احترام الشخص
..." إن احترام القوانين ومراعاة الحقوق، يتطلب دون شك تربية تجعل الشخص
ملتزما وليس ملزما...
وفي الختام تستنتج روس أن ما يجعل الأفراد محميون، ويجعل حقوقهم
محفوظة، وكرامتهم مصانة، هو ارتكاز دولة الحق على فصل السلط كأداة إجرائية واقعية
تضمن تطبيق القانون وإحقاق الحق، لأن فصل السلط يمكن القضاء من النزاهة
والاستقلالية والمساواة أمام القانون.. هكذا يبدو أن الأساس الذي ينبغي أن تقوم
عليه الدولة هو الحق والقانون، لكن إلى أي حد يمكن قبول هذا التصور؟ وهل يكفي
القانون أم لا بد من القوة والعنف؟
موقف max weber: أساس سلطة الدولة هو العنف المشروع
أسس ماكس فيبر تصورا مختلفا تماما عن تصور جاكلين روس، مؤداه أن الدولة
ينبغي أن تؤسس سلطتها على القوة، أو ما يسميه " العنف الفيزيائي
المشروع"، لأن الدولة لا تستطيع في تقديره أن تقوم بوظيفتها إلا إذا احتكرت
الحق في ممارسة القوة والعنف. ويستشهد فيبر بتروتسكي من خلال قولته الشهيرة "
كل دولة تنبني على القوة". صحيح أن الدولة تستعمل مجموعة من الوسائل للقيام
بوظائفها وتدبير شؤون أفرادها، إلا أن الوسيلة الوحيدة التي تميزها عن غيرها هي
استعمالها للقوة والعنف.. فالعلاقة بين الدولة والعنف هي علاقة وطيدة وحميمية في
نظر فيبر. لذلك فهي لا تسمح لغيرها بممارسة القوة والعنف نيابة عنها، لأن مصلحتها
تقتضي احتكار العنف لنفسها من أجل نجاحها واستمراريتها.
خاتمة:
يبدو موضوع الدولة موضوعا مثيرا للتساؤلات أكثر منه مقترحا لإجابات كافية،
وهذا طبيعي في إطار الفكر الفلسفي عموما والفلسفة السياسية على وجه الخصوص.. فرغم
ما يبدو من اختلاف قد يصل حد التناقض، إلا أن التصورات التي تناولت الموضوع تجد
بعض تبريراتها في مرجعياتها الفكرية وخلفياتها السياسية، وحتى معطيات الواقع الذي
عبرت عنها. وتبقى منفتحة على التكامل والتقاطع في أحيان كثيرة، فعلى سبيل المثال
إذا كانت بعض الدول مؤهلة لممارسة اللعبة الديمقراطية وتأسيس السلطة على الحق
والقانون، فإن أخرى لم تعمل بعد على تأهيل المواطن وجعله يفرز الحاجة إلى هذا
النمط من الحكم، بل تكون الحاجة إلى القوة أجدى من غيرها...
الحق والعدالة
مقدمة
يعتبر مفهوم الحق من المفاهيم المشحونة بالدلالة والمعنى، بحيث تختلف
دلالته باختلاف مرجعياته... إنه يشغل حيزا كبيرا في الحقل الفلسفي، ويعبر
"ابيستيمولوجيا" عن الحقيقة المطلقة، و"أنطولوجيا" عن الوجود
المطلق، و"أكسيولوجيا" عن القيم المطلقة... إنه يمثل قيمة القيم وأسمى
ما يتطلع إليه الانسان. إن الحق هو كل ما يمكن أن يتمتع به الانسان من امتيازات،
ويفرض على الآخرين احترامها.
ومفهوم الحق يتفاعل مع مفاهيم الواجب، العدالة، المساواة والانصاف...
ويتحدد وفق ما هو مشروع وقانوني.
المحور الأول: الحق بين الطبيعي والثقافي
الإشكال: ما هو الأساس الذي يقوم عليه الحق: هل ما هو
طبيعي أم ما هو وضعي؟ ما هو مصدر الحق: هل هو الطبيعة أم المجتمع؟
الموقف السوفسطائي: أساس الحق طبيعي ويتمثل في القوة
يتأسس التصور السوفسطائي من خلال
التأكيد على أن أساس الحق هو أساس طبيعي، ويتمثل في القوة، وهذا ما يجسده قول
غلوكون: " إننا لا نمارس العدالة إلا رغما عنا لعجزنا عن ارتكاب الظلم"،
إن الحق هنا يتوافق مع القدرة، بحيث يتحدد حسب ما تمتلك الذات من قوة، وهذا معناه
أن الإنسان لديه الحق في التصرف وفق ما يستطيع حفاظا على ذاته وتحقيقا لمصالحه
ودون مراعاة للآخرين... إن الطبيعة لا تعرف حقا سوى حق القوة ولا قانون سوى قانون
الغاب. إنه موقف يتأسس على اعتبار الإنسان كائنا شريرا بطبعه، ميالا إلى العنف
المتأصل في فطرته، وبالتالي فالحق يعبر عن الحرية المطلقة في السلوك والتصرف وفق
إملاءات الغريزة التي لا تنصت سوى لصوت القوة. إن الإنسان يمكن أن يتمتع
ب"حقوقه" بقدر ما يمتلك من قوة.
موقف ج ج روسو: أساس الحق تعاقدي ويتمثل في القانون
يتأسس التصور التعاقدي مع روسو على
رفض نظرية الحق الطبيعي كما تمت الاشارة إليها مع السوفسطائيين، وفي هذا السياق
يقول روسو: " إن القوة لا تخلق الحق، ولا خضوع إلا للقوى المشروعة". لا
يمكن إذن حسب هذا التصور أن نؤسس الحق على القوة، لأن القوة قدرة مادية متلاشية مع
الزمن، ويمكن أن تظهر قوة أقوى منها، كما أن القوة تتطلب وجود من يخضع وينصاع، غير
أن الانصياع هنا لا يكون بإرادة وطواعية، بل يكون بفعل الإكراه والجبر والإلزام،
وبالتالي لا يمكن ضمان ولاء من يكون مكرها. وهذا ما يتطلب البحث عن أساس ثابت يضمن
الخضوع بإرادة وحرية، وهذا ما يمكن أن يتضمنه الخضوع للقوة المشروعة، أي قوة
القانون الذي يكون مؤسسا على التزامات لا إكراه فيها، مما يجعل القانون صالحا
كأساس يقوم عليه الحق، خصوصا عندما يكون القانون خادما للإرادة العامة ومستمدا من
القيم الأخلاقية. إن الحق هنا يتأسس على التعاقد الاجتماعي المبني على قوانين
بعيدة عن القوة والعنف..
المحور الثاني: العدالة كأساس
للحق
الإشكال: هل يمكن تأسيس العدالة والحق على
القانون والمؤسسات؟
موقف شيشرون: القانون لا يؤسس العدالة بل الطبيعة الخيرة
يعتقد شيشرون أن فكرة تأسيس العدالة على
القانون فكرة عبثية، ومبرر ذلك أن القوانين يمكن أن تكون ظالمة في حد ذاتها وكمثال
على ذلك القوانين التي يضعها الطغاة والمستعمرون. كما أن القوانين يمكن أن ترتبط
بمصالح من وضعها وبالتالي لن تحقق العدالة، بالإضافة إلى ذلك فإن القوانين يمكن أن
تظل حبرا على ورق ولا يتم تطبيقها. أما ما يضمن تحقيق العدالة في نظر شيشرون فهو
الطبيعة والمقصود بذلك الطبيعة الأخلاقية أو الفطرة السليمة أو ما يسميه العقل
القويم، أي تلك القدرة العقلية الفطرية التي تجعل الانسان قادرا على التمييز بين
الخير والشر والتصرف على أساس هذا التمييز. إن التصرف وفق هذا المنطق يؤدي
بالضرورة إلى الحق والعدالة، لأن الغاية ليست خدمة مصالح شخصية، بل التطلع إلى
النموذج الإنساني الفاضل المبني على الحب والاحترام والتقدير... وبشكل عام كل ما
هو خير.
موقف ألان- إميل شارتيي: لا عدالة ولا حق بدون قانون
يعتقد ألان أن العدالة يجب أن تجد مصدرها في القانون، إذ لا عدالة بدون
وجود قانون. ويقدم ألان أمثلة لإثبات موقفه. ومن بين هذه الأمثلة حيازة ساعة أو
امتلاك منزل. بالنسبة لحيازة ساعة، لا يمكن أن تكون حقا ووفق مبادئ العدالة إلا
إذا تم استصدار حكم من طرف السلطة القضائية بناء على القوانين الجاري بها العمل،
وإلا فإنها ستكون حيازة وفق الأمر الواقع عندما يتعلق الأمر بالسارق مثلا، والأمر
نفسه يكمن قوله بخصوص امتلاك منزل فالأمر لا يكون حقا ولا عادلا إلا إذا تم وفق
مبدأ قانوني يرتبط بحكم قضائي يصدره قاض أمام الملأ. هكذا إذن يكون مصدر العدالة
وإحقاق الحق هو القانون الصادر عن المؤسسة القضائية.
المحور
الثالث: العدالة بين المساواة والإنصاف.
إشكال المحور: هل ينبغي تطبيق العدالة بين الناس بالتساوي، بحيث
يكون الجميع أمامها سواسية، أم يجب إنصاف كل واحد منهم بحسب تميزه عن الآخرين؟
وبتعبير آخر، إذا كانت العدالة تهدف إلى خلق المساواة في المجتمع، فهل بإمكانها
إنصاف جميع أفراده؟
موقف راولز: الإنصاف أساس
العدالة
أسس راولز موقفه من خلال انتقاد الفلسفة
البراغماتية حيث أعطى قيمة كبيرة للعدالة المؤسسة على قاعدة الإنصاف، فالإنصاف
يتطلب وجود مساواة في الحقوق والواجبات بين جميع الأشخاص كمل يتطلب الاعتراف
باللامساواة على مستوى الواقع: على مستوى الملكية أو السلطة أو غير ذلك من الأمور
المرتبطة بهبة طبيعية أو قدرة سمحت بها الظروف شريطة أن يستفيد غير المحظوظين من
تلك الأمور من خلال شراكة وتعاون اجتماعي يضمن الرخاء للجميع.
موقف ألان: المساواة أساس
العدالة
يؤكد أن الحق لا يتحقق إلا داخل
عدالة تقوم على المساواة ومعنى ذلك أن قوانين العدالة تطبق على جميع البشر بشكل
متساو بغض النظر عن الاختلافات الموجودة على مستوى السن أو الجنس أو اللون... إن
الحق حسب هذا التصور يتأسس على عدالة القوانين التي تجعل جميع الناس متساوين لا فرق
بينهم. ولذلك يقول الفيلسوف الفرنسي آلان Alain: "ما
الحق؟ إنه المساواة (...) لقد ابتكر الحق ضد اللامساواة. والقوانين العادلة هي
التي يكون الناس أمامها سواسية، نساءا كانوا أم رجالا أو أطفالا أو مرضى أو جهالا.
أما أولئك الذين يقولون إن اللامساواة من طبيعة الأشياء، فهم يقولون قولا بئيسا.
خاتمة:
نستطيع في النهاية أن نخلص إلى أن العدالة تربطها
بالضرورة علاقة بالحق
والقانون، وبالتالي يتطلب تحقيقها
تطبيقا للقانون من أجل إحقاق الحق، شريطة أن يكون هذا القانون في خدمة مصلحة
المواطن ويصون كرامته وأن يكون مبنيا على أسس أخلاقية حتى يحترمه هؤلاء
المواطنون.. وينبغي أن يكون هنالك فصل بين السلط واستقلال للقضاء ضمانا لتطبيق
القانون على الجميع، خصوصا وأنه يوجد نموذج دولة الحق والقانون التي تحقق العدالة
من خلال تطبيق القانون.
خلاصة
عامة:
يتيح مفهوم السياسة من خلال التناول الفلسفي تحقيق وعي
بعدد من الإشكالات والقضايا المرتبطة بمفاهيم الدولة والحق والعدالة، وإدراك
الوجود البشري في أبعاده المتعددة، وخصوصا على مستوى القيم الإنسانية المتمحورة
حول الاجتماع البشري وما يفرضه من تنظيم ونظام وعلاقات واعتماد متبادل يشترط وجود
جهاز يسهر على تدبير هذه العلاقات بشكل يتجاوز الاستغلال والتعسف ويقوم على الحق
والقانون والعدالة التي تجعل المواطنين سواسية لهم نفس الحقوق وعليهم نفس
الواجبات.
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية
0commentaires:
إرسال تعليق