الفلسفة وما بعد الفلسفة

الفلسفة وما بعد الفلسفة
د علي محمد اليوسف
تقديم:
هذا التداخل التعقيبي جاء بضوء عرض الباحث الفلسفي القدير العراقي المغترب حاتم حميد محسن لكتاب ثلاثة باحثين سورين أوفركارد overgard soren ، وباول جلبرت Paul Gilbert ، وستيفن بيوود Stephen Buewood في إجابتهم عن تساؤل ما بعد الفلسفة  post philosophy، المنشور على موقع المثقف آذار 2020.. ولتوضيح عنونة مقالتي هذه أقول لا يمكن القول اليوم في أدبيات الفلسفة الغربية أن ما بعد الحداثة لا يكون وليس حداثة حتى في حال تغيير الخطاب الفلسفي كمضامين ومباحث وقضايا مختلفة كذلك لا يمكن القول ما يعقب ما بعد الفلسفة لا يكون غير الفلسفة كمنهج ومفاهيم ونوضح ذلك في السطور القادمة.
كتاب ما بعد الفلسفة د. محمد جديدي
قبل اطلاعي على مقالة الباحث حاتم حميد محسن الذي أشار فيه عرضيا الى الفيلسوف الامريكي ريتشارد رورتي، لم أكن على علم أن الدكتور الباحث محمد جديدي الجزائري كان أصدر منذ عام 2010 كتابا بعنوان (ما بعد الفلسفة - مطارحات رورتية) نسبة الى الفيلسوف الامريكي المعاصر ريتشارد رورتي صاحب مصطلح ما بعد الفلسفة.
وعن طريق التعريف بكتاب دكتور جديدي على موقعي أمازون وموقع البيان الالكترونيين حصلت على هذا الاقتضاب السريع دونما اطلاعي على الكتاب قراءة كاملا، أذ أعتبر الكاتب جديدي ريتشارد رورتي الفيلسوف المجدد الاشكالي المعاصر في دأبه بعث الفلسفة الذرائعية الامريكية عالميا بلباس جديد أختاره حديثا لها، ورورتي فيلسوف يساري أراد أيقاظ الذرائعية من سباتها وجمودها بخطاب يعبّر عن الفلسفة بخطاب لا فلسفي، في مشهد ثقافي شاعري ميتا فلسفي، ميتا ديني، وما بعد حداثي.
ورغم ذلك حسب تأكيد دكتور جديدي أنه منذ عصر كانط تحولت الفلسفة الى فرع أكاديمي، أحدث تحولا في مفهموم الفلسفة ووظيفتها وصارت الجامعات تعج بأساتذة فلسفة وليس فلاسفة، كما يجد جديدي صعوبة الامساك بموقف رورتي من نهاية الفلسفة كون تصريحاته من جهة أولى لا تعلن عن موت الفلسفة بل أنها تؤكد استمرارها. (انتهى الاقتباس بتصرف).
أود التنبيه أني لا أناقش في هذه المقالة أفكار كتاب محمد جديدي لأني لم أطلع عليه وأقرأه، ولا أعتمد أيضا من بحث الدكتور حاتم حميد محسن غير عنونة المقالة التي جاءت منقوصة (ما بعد الفلسفة) وأكملتها بكلمة (فلسفة) التي وردت عرضا في مبحثه المنشور وتمت إشارتي له، وعبارتين أو ثلاث اقتبستها عنه أشرت لها في متن المقال. وأبدأ بملاحظة سريعة فهمتها من فقرات التعريف بكتاب الباحث جديدي، أن ما طرحه رورتي الفيلسوف الذرائعي المجدد تحت عنوان (ما بعد الفلسفة) أنصرف فيه عن مناقشته مفهوم ما بعد الفلسفة تماما في الانتقال الى معالجة قضايا تخص الادب والانسانيات والعلوم الطبيعية وعلوم اللغة والانثروبولوجيا وبعضا من قطوعات تاريخ الفلسفة مركزا على أسماء فلاسفة منذ ما قبل التاريخ وصولا لديكارت ونيتشه وكانط وليس انتهاءا بفلاسفة البنيوية والتفكيكية وفلاسفة علوم اللسانيات واللغة مختارا منهم قطوعات الاستشهاد بما يخدم غرضه في إخراج الفلسفة من ميدان الفلسفة إلى ميدان (اللافلسفة) كسرد لا يمتلك خصوصية نوعية تماما مثلما فعل ألتوسير في مهاجمة المادية التاريخية في تجريدها من كل مراحل تاريخ الإنسان أنثروبولوجيا.. أي أن ألتوسير حاول كتابة ماركسية جديدة بلا ماركس وكتابة مادية تاريخية بلا تاريخ أنساني... كذلك حاول رورتي خلق ذرائعية جديدة بأسم ما بعد الفلسفة بلا منطق وخطاب فلسفي يوّضح مستقبل الفلسفة.
أراد رورتي تحت وطأة إخلاصه الشديد لميراثه ومرجعيته الفلسفية في الذرائعية تجريد الفلسفة تاريخيا من خصائصها النوعية كسردية منطقية متفردة نوعيا عاشت طويلا لم تحتوها سرديات الاديان ولا الميتافيزيقا ولا الايديولوجيا ولا الانثروبولوجيا ولا مدارس الفنون بل كانت هي الرافد والمعين الذي أستقت منه هذه الاجناس التعبيرية الكثير من مفاهيمها عن الفلسفة... لذا كان لجوء رورتي الى معالجة أجناس سردية بعيدا عن منطلقات تاريخ التجديد في الفلسفة الى عملية تعرية الفلسفة من ملابسها دونما جدوى تحت شعار أورده دكتور جديدي في كتابه (التعبير عن الفلسفة بخطاب لا فلسفي )..أي أراد رورتي أيقاف قطار الفلسفة في محطة أيجاد فلسفة وقوف نهائية عولمية لا تقوم على مواضعات الفلسفة المعهودة..
هنا لا أريد تحميل قطوعات رورتي من تاريخ الفلسفة ما يلائم طروحاته أكثر مما تحتمل لكني أجد فيها طالما كان ماثلا أمامنا رغبة وهدف رورتي بعث الذرائعية عولميا وأقفال مستقبل تقادمها الزمني، في محاولته تماما مجاراة عولمة فوكوياما في محاولته إيقاف قطار التاريخ عولميا أمريكيا ولا من تاريخ يعقب الإنسان العولمي الاخير الذي بلغته الرأسمالية.. نجد هذه المحاكاة التي بدأها فوكوياما تاريخيا استنسخها رورتي على صعيد الفلسفة باسم الحفاظ على بقاء الفلسفة بدون خطاب فلسفي، وخارج أن تبقى تعبيرا سرديا منطقيا بميزات من نوع خاص لم تستطع جميع محاولات جعل الفلسفة علما طبيعيا ملحقا ولا فرعا من الرياضيات النجاح عبر عصور طويلة...الفلسفة منطق سردي نوعي خاص جدا لا يمكن دفنه حيّا بحجة لا بأس من الابقاء عليه كهامش تعبيري متحفي لا يمت للفلسفة وحياة الانسان بصلة. علما أن جوهر الفلسفة كسردية نوعية يكمن في تاريخانيتها كون الفلسفة تاريخا تراكميا نوعيا، فماذا يتبقى من الفلسفة في أخراجها عن مستقبلها التاريخي؟ حين تكون خطابا تاريخيا خارج تاريخ الفلسفة؟
الفلسفة ومفترق طرق
لقد تنبأ العديدون من الفلاسفة على امتداد عصور تاريخ الفلسفة، أنها ضرب مركزي معرفي منطقي سردي في علوم الانسانيات يمتلك خصوصية نوعية متفردة من ضروب السرديات الاخرى الأدب، الدين، الأيديولوجيا، علوم الإنسانيات في مرتكز التاريخ. وتسير تدريجيا نحو استنفاد قمة تألقها الحضاري وصولا الى مرحلة الشيخوخة المبكرة أمام التقدم العلمي بمتواليات رياضية من التسارع الموازي لتراجع الفلسفة عن مجاراتها العلم, وربما كان آخر تحذير خطير صدر عن عالم الفيزياء الشهير ستيفن هوكنج قبل وفاته معلنا فيه أنه لا مستقبل حقيقي للفلسفة في موازاة تقدم العلوم الطبيعية التي سوف تحكم قبضتها على مناحي الحياة حتى المجال الكوني غير الميتافيزيقي الذي شغل الفلسفة قرونا طويلة وعلاقته بالإنسان....وهو رأي يحتمل الكثير من النقاش كونه صادرا عن عالم بالفيزياء الكونية وليس عن فيلسوف.
أمام هذه الحقيقة التي ليست جديدة في عمرها الزمني فلسفيا نجد أنه جرت محاولات عديدة في وجوب جعل الفلسفة ضربا من الرياضيات كانت بداياتها منذ أفلاطون حين كتب عبارته الشهيرة على مدخل الاكاديمية الفلسفية التي أقامها لا يدخل علينا من يجهل علوم الرياضيات وأعقبه عديدون على امتداد عصور تاريخ الفلسفة في تأكيدهم أن يكون للفلسفة منطقها الرياضي والعلمي من بينهم في العصور الحديثة ديكارت وهوسرل وهيوم وبراتراند رسل، ولعل أبرز من ختم ربط الفلسفة بالعلوم الطبيعية جاستون باشلار وغيره عديدون لا تحضرنا اسماؤهم.
لكن خلاصة القول يمكننا أجماله أن ما بعد الفلسفة كمفهوم جديد معاصر سيكون هو الفلسفة ذاتها كنوع أو تجنيس من التعبير النوعي السردي وليس غيرها تماما حالها حال ما يجري مثلما يخلف الحداثة ما بعد الحداثة سيخلف الفلسفة ما بعد فلسفة كنوع من التعبير الإنساني الذي ينأى بنفسه عن لغة العلم وسرديات الميتافيزيقا وأجناس الادب والتاريخ والايديولوجيا محتفظا بحرصه التعبير المتفرد عن الحياة والوجود كاملا بفهم شمولي تنفرد به الفلسفة كتعبير منطقي لا يجاريها فيه كل ضروب الابداع الفكري الثقافي والفني.. وكما لم تستطع ما بعد الحداثة اليوم دفن الحداثة كذلك لا يمكن لما بعد الفلسفة دفن الفلسفة بكل ميزاتها النوعية.
لو نحن أخذنا قليلا جانبا خارج نطاق تعالق الفلسفة مع علوم الانسانيات والسرديات الكبرى بدءا بالدين والتاريخ والميتافيزيقا وليس انتهاءا بالايديولوجيا السياسية وفلسفة اللغة الحديثة وعلوم اللسانيات أنما نجدها في حقيقتها الجوهرية تمثل هروبا الى أمام في عجز تسديد الاستحقاقات التي يمكن أن تحسب على الفلسفة في موازاة سيرها السلحفاتي البطيء أمام تقدم العلوم الطبيعية المتسارع, والثورة العظمى المفزعة التي أطلقها التقدم العلمي في اختراع تكنولوجيا الفضاء والتحكم بالجينات الموّرثة وتشطير الذرة واختراع الانترنيت والحاسوب وعوالم الاتصالات والعالم الافتراضي وانكفاء المطبوع الورقي (الكتاب) في تراجع تداوليته القرائية بما لم يشهده منذ تاريخ اختراع اللغة والكتابة قبل مئات العصور.
أن مأزق انحسار العلوم الانسانية هو ليس مأزق مستقبل الفلسفة بل مأزق جميع ضروب المعرفة الثقافية ما كان منها متسيدا قرونا طويلة قمة العطاء الثقافي عالميا على أنه أبداع معرفي ثقافي تداولي مكتوب ومطبوع ربما يأتي في مقدمتها حاليا احتضار الشعر عالميا – عربيا (لا أقصد هنا ما يهمنا عربيا نوعين من الهبوط مما يسمى شعرا الاول شعر وكلمات الاغاني التي أوصلت اللغة العربية الفصحى للحضيض, والثاني الشعر الشعبي التعبوي الذي يهدم صرح وحدة اللغة العربية الفصحى التي هي القسمة المشتركة الوحيدة الباقية التي تجمع الامة العربية ولو لم يكن القران مكتوبا بالعربية الفصحى التي يتعامل بها مليار وسبعمائة مسلم لاندثرت العربية الفصحى وحلت محلها اللهجات العامية التي لا يفهم فيها اللبناني لهجة المغربي ولا يفهم العراقي لهجة المصري أو الليبي وهكذا ), حتى الفنون التشكيلية التي لا تستعين بالكتاب تعبيرا لغويا فنيا كتابة لها بل تعتمد مساحة وكتل وفراغات اللوحة والالوان والتقنية الجمالية خارج منطوق اللغة التداولي المباشر هي الاخرى بدأت تحتضر في ابتداع فن اللامفهوم الذي تجاوز السريالية في غرائبيته الخارقة لكل مألوف والعودة الى البدائية بالفن واللجوء الى تسويق نوع من الفنتازيا المقرفة الجارحة للذائقة الجمالية لدى المتلقي حين يصل ذوق المتلقي وأصحاب مزادات الصالونات الفنية عالميا أن تباع لوحة فنان بأكثر من مئة الف دولار هي صورة حذاء مرفوع من بقعة مليئة بالأوساخ والقذارة والاوحال العالقة به وبأمثال هذا النوع من الابتذال الفني باسم الفن خرج مفهوم الجمال في فن التشكيل أن يبقى عرفا ومفهوما متفقا التعريف به على أنه ذائقة روحية سامية.
هل ما بعد الفلسفة ما بعد بديهية؟
بالتأكيد أننا نتداول تعريف ما هو بديهي هو ما ليس بحاجة لبرهان يؤكد حقيقته البديهية الصادقة وليس كل قوانين الطبيعة التي تحكم الانسان والوجود بحاجة البرهنة على صحتها بعد اكتشاف الانسان لها. واكتشافها من قبل الانسان لا يعني خلقها بل يعني أنها موجودة فاعلة تحكم حياتنا والطبيعة والكوني حتى قبل أن يكتشف الانسان متأخرا لها ويعي أهميتها في تنظيم الطبيعة وحياة الانسان والكون.
يعبّر الراديكاليون الشكاك عن عدم وجود سبب (للاعتقاد بأن البديهية هي مصدر موثوق للدليل على شيء) نقلا عن مقالة الباحث حاتم محسن المشار لها.
في البحث عن معنى أن تكون الفلسفة ما بعد بديهية شأنها شأن الحداثة وما بعد الحداثة.. ماذا نعتمد حين تكون الفلسفة مفهوما شموليا يستوعب مدارس الحداثة وما بعدها ولا تستطيع الاخيرة استيعابها. الفارق الصعب تجاوزه هنا أن الفلسفة تاريخ معرفي انثروبولوجي رافق الانسان في وجوده منذ عشرات العصور بل الاف السنين على العكس من نظريات الحداثة وما بعد الحداثة فهي حصيلة تاريخية أنثروبولوجية تمثل على حد تعبير أحد الفلاسفة المعاصرين الحداثة وما بعدها هي النتاج المتأخر للرأسمالية الأمبريالية..أي أنهما(الحداثة وما بعد الحداثة) مراحل تاريخية متقدمة حضاريا تخللتها قطوعات من التاريخ (النوعي) الانساني بخلاف تاريخ الفلسفة فهو تاريخ ثابت تقريبا يتغيّر تراكما و نوعيا بطفرات لا تتجاوز فيه التطور المعرفي البطيء ,لذا الفلسفة  تتطور بطفرات نوعية بطيئة لا كما يتقدم العلم الطبيعي ويتطور بقفزات نوعية متسارعة زمنيا بل تتطور الفلسفة تاريخيا كعلم من علوم الانسانيات التي يغلب التراكم الكمي في تاريخها على الكيف لأن الفلسفة هي دوما قراءة في تاريخ ماض لها وليست قراءة في مستقبل تنبؤي أمامها كما هي مسيرة العلم في استشرافه فتوحاته المستقبلية الطموحة.
متى تكون البديهية حقيقة مطلقة؟
التساؤل المتعالق مع العنوان الفرعي أعلاه هو هل أن خطاب الفلسفة فيما بعد الفلسفة لا يكون خطابا تاريخيا فلسفيا بل فلسفة خارج خطابها التاريخي؟
البديهية كحقيقة موضوعية هي أجماع كلّي عن شيء تمت البرهنة عليه في حيازته أسباب منح ثقة الاخرين بحقيقته الموضوعية المكتفية ذاتيا في البرهنة على صدقيتها.. وأصبحت هذه الحقيقة البديهية بمرور الوقت والتداول مسّلمة ممكن الاستدلال بها معرفيا دونما الحاجة الى توفير أسباب دحضها غير المتاحة حاضرا دوما. وتمتلك الاقرار الكافي الاجماعي على عدم الحاجة الى تفنيدها بعد معاملتها بموثوقية ثابتة زمنا طويلا وترحيلها الى مستقبل مفتوح النهايات..
والبديهية بهذا المعنى لا تكتسب صدقيتها بحكم العادة والتكرار (سبب ونتيجة) متلازمتان على الدوام بل بحكم أن البديهية حاضرة دوما كحقيقية معبّرة عن شيء صادق دائما في منطق العلم والتداول العلمي الموثوق بها.
علما عدم وجود بديهيات تعتمدها الفلسفة بيقين قاطع لا يكون مصدرها العلم، فالفلسفة لا تنتج حقائق الاشياء بل تنتج مناهج استدلالية لمفاهيم تفسّر الحياة ووجود الانسان والظواهر الطبيعية والاشياء. والفلسفة لا تلتقي العلم بالتجربة بل تلتقي به بالمنهج الابستمولوجي في المعرفة.
البديهية المتفق عليها اجماعيا أنما هي مصطلح محدود عن شيء معين سبب ونتيجة لشيء أكتسب حقيقته البديهية وليس مفهوما غامضا شموليا يحتمل ما لا يمكن الاحاطة به من الشكوك التي تلازمه، ولا تحتاج البديهية سببا أو أسبابا تجعلها تكتسب موثوقيتها البديهية في كل مرة نحتاج الاستدلال بها أو محاولة التشكيك بصحتها، فالبديهيات ليست قضايا تفكيرية دوغمائية تخلع حقيقة التسليم بها في مصادرة أسباب تحققها البديهي الحاضرة بل هي تمتلك أسباب الوثوقية المطلقة بصحتها البرهانية المتطاولة زمنيا في المستقبل.
فقولنا المعادلة الحسابية 1+1=2، هي بديهية لا تحتاج برهان صحتها اليوم ولا غدا ولا بعد مئات السنين فهي حقيقة مطلقة اكتسبت اليقين القطعي وليست حقيقة نسبية في كل زمان ومكان جديد تحتاج فيه براهين صدقية تؤكد بديهيتها. وهي لا تحتاج سببا برهانيا لها في تداوليتها اليقينية القطعية حاضرا ومستقبلا، ومثل ذلك عندما نقول الارض كروية فهي لا تحتاج براهين تؤكدها غير التي اكتسبتها علميا فيزيائيا منذ عصر كوبرنيكوس 1543وغير ذلك مثلا مع قانون الجاذبية قبل نيوتن أو مكونات الذرة وعلاقاتها البينية فيما بينها داخل الذرة قبل إنشتاين وعديد من علماء فيزياء الذرة والكون وهكذا فهذه حقائق علمية اكتسبت البداهة القطعية ولا يتوفر ما يدحضها لا حاضرا ولا مستقبلا. فكل هذه الحقائق البدهية كانت موجودة كقوانين ثابتة تحكم وجودنا وحياتنا الارضية قبل اكتشافها وتثبيت صحتها من قبل علماء أفذاذ عباقرة أخذت مخترعاتهم واكتشافاتهم مجالها التطوري بما سبقها من منجزات غيرهم سبقوهم..
من المهم التفريق أن ما هو بديهي ثبتت صحته البرهانية العلمية لا يطاله الشك لأنه لم يعد فكرة تنظيرية مجردة تحتاج البرهنة على صحتها، الشك الذي يراود ويلازم ما هو بديهي على صعيد الفكر النظري وارد جدا لكنه لا ينطبق على حقائق علمية اكتسبت المسلمات البديهية بالبرهان القطعي التجريبي عليها كقوانين فيزيائية وعلمية.. فبديهيات العلم حتى وأن كانت في بعضها نسبية فهي تختلف كليا عن مسلمات الفكر التجريدي غير البرهاني في نسبيته المفتوحة النهايات..
فالنظرية لا تمتلك حقيقتها البدهية المطلقة قبل البرهان التجريبي العلمي عليها. ونجد الفلسفة البراجماتية اعتمدت هذا الاختلاف بين النظرية المجردة والنظرية المثبتة صدقيتها برهانيا حين ربطت كل ما هو ناجح تجريبيا يكون نافعا مجتمعيا. وبذلك تكون الفلسفة الذرائعية العملية أبعدت مجال الشك عن النظريات التي اكتسبت برهانها التصديقي العملاني في صوابها وضرورتها في حياة الانسان. وبذلك استبعدت البراجماتية في معاملتها جميع الافكار التي تمتلك نسقها التنظيري الإقناعي المنطقي على صعيد الفكر المجرد لكنها تفتقد التطبيق العملاني بالحياة خارج عدم صدقية تحقيقها المنفعة العامة.
لذا فالبديهية لا تصادر ما هو مدرك حقيقي ثبت برهانه، أو هي لا تحتاج الى برهان سببي مكرر يلازم أعادة نفسه باستمرار.. وحين نقول البديهية صادقة في حاضرها فليس ذلك نابع من حقيقة أن معظم بديهيات الحياة التي نعيشها هي معطى طبيعي لا تحتاج تأكيد حقيقتها في توّفر الاسباب البرهانية الاقناعية على بديهيتها الموجودية كحقائق نتعايش معها لا يمكن التشكيك الجدي بصحتها.. كي لا يرتد التشكيك بها كبديهيات طبيعية لم تعد بحاجة الى براهين على التشكيك بوجودنا نحن البشر الذي حسمه ديكارت في عبارته أنا أفكر إذن أنا موجود، وهنا يمثل الكوجيتو منتهى اليقين وليست بدايته في المعطى الطبيعي للإنسان كموجود هو جزء من الطبيعة التي ليست هي الاخرى بحاجة براهين على تأكيدها كمعطى وجودي غير ميتافيزيقي بغض النظر عن الاستفهام العقيم عمن أعطى وأوجد (الطبيعة) ومكوناتها من ضمنها الانسان...
حين نقول البديهية صادقة في حاضرها مشكوك مستقبلا في صحتها، فالصحيح أن الشك لا يلازم ما هو بدهي حاضرا ولا يلازمه مستقبلا، حيث أن البديهية التي تمتلك حقيقتها الثابتة اليقينية القطعية برهانيا حاضرا لا يمكن الشك في عدم حقيقية صدقها مستقبلا وإلا انتفت عنها ملازمة البديهة الصادقة في حاضرها قبل صدقها في مستقبلها.. فالمعادلة الرياضية س×ص= س ص لا يمكن أن تكون صحيحة اليوم في حاضرها وباطلة خاطئة ومشكوك بها مستقبلا.. أو حقيقة أضلاع المثلث ثلاثة ومجموع زواياه الثلاث 180 درجة. فهذه حقائق بديهية قد اكتسبت صحتها الرياضية القطعية الصائبة الثابتة في كل زمان ومكان ولا مجال بطلانها مستقبلا.. وهكذا نقول عن بديهية مركزية الشمس وكروية الارض ودورانها حول نفسها وحول الشمس أو نظام الجاذبية فتلك حقائق بدهية لا تحتاج البرهنة مجددا عليها وليس واردا الشك بها بعد ألف عام ويزيد من الآن. ليس بسبب اكتشاف الانسان لها والبرهنة عليها وإنما لأنها هي بديهيات كمعطى ميتافيزيقي موجود كقوانين تحكم الطبيعة والانسان والكوني وتعمل في الطبيعة والحياة بمعزل عن أرادة الانسان كحقائق ثابتة وقوانين مطلقة معرفية حتى قبل اكتشاف الانسان لها قبل الاف السنين ومعرفته بها وتسخيرها لخدمة حياته منذ وجدت الحياة على الارض.
البديهية بين العلم والفلسفة
بدءا نقر أنه لا يوجد بديهيات قطعية التسليم بها بالفلسفة كما هي بديهيات ومنجزات العلوم الطبيعية...  معظم بديهيات حقائق الفلسفة المنقوصة التي تحمل بذور شكوكها معها أنما يكون مصدرها منجزات العلوم الطبيعية وعلوم الرياضيات والهندسة وفيزياء الكون ليس بالمنطق والمنهج العلمي وإنما بمنهج الاستعارة الفلسفية لبعض منجزات العلوم الطبيعية، ولا تمتلك الفلسفة بديهيات قطعية يقينية يسترشد العلم بها بل العكس دوما تسترشد الفلسفة ببعض يقينيات العلم الناجزة.
ما تتفوق العلوم الطبيعية به على الفلسفة هو قدرتها على (إعطاء قول عن شيء ما، يكون ذو معنى محدد ومهم للعالم) على حد تعبير الباحث حاتم محسن في مقالته المشار لها.
ولو نحن أستعرنا هذا التعبير العلمي الى لغة الفلسفة نقول العلم الطبيعي بنتائجه المختبرية البرهانية والتطبيقية هي نقطة تنتهي برأس سطر، لا تحتاج بعده براهين إضافية لإعطائها مصداقية الاخذ العلمي المسّلم بها.. في حين حقائق الفلسفة النسبية غير اليقينية بمجملها بالقياس العلمي المقارن فهي تمثل نقطة رأس سطر تحتاج براهين بعدية إضافية وتفسيرات جديدة لها على الدوام.. الفلسفة تعتمد براهين المنطق العقلي لتمرير مصداقية حقائقها التنظيرية في وقت العلم يحتاج براهين العقل التجريبي لتثبيت صدقية حقائقه كقوانين فاعلة دائميا تحكم حياتنا في كل مستجداتها في كل زمان ومكان وفي جميع الظروف.
فالبديهة الفلسفية أي حقيقتها الصادقة لا وجود مطلق لها على خلاف الحقيقة العلمية القارة، وحقائق الفلسفة تلازمها النسبية والنهايات المفتوحة على احتمالات الصح والخطأ.. الحقائق العلمية محدوديتها تكمن في استحصالها برهانها الحقيقي في مسألة محددة لذا تكون شبه ثابتة تطاول الزمن، على العكس من الفلسفة التي تعالج مفاهيم كلية جامعة تتجاوز التحديد في المفاهيم والقضايا التي تتناولها الى المطلق التعميمي...وتكون نسبيتها في ملازمة الشك وعدم التصديق بها منذ ولادتها وحتى زمن الاستغناء الممكن عنها. كما أن النظم الطبيعية والفيزيائية التي تحكمنا قوانينها والمتيسر لنا القبول معرفيا بها في تفسير ظواهر الحياة الحياة وموجوداتها ومحدودية الانسان في وجوده وقدراته أنما هي في المحصلة تكون آنية حاضرة نعيشها في حياتنا ولا ترتقي لزمن مستقبلي نتوقعه كما هو الحال مع منجزات العلوم.
العلوم الطبيعية ومنجزاتها العملانية التطبيقية تلجم جموح الفلسفة وتوقفها عند حدود لا يمكن للفلسفة تجاوزها بالبرهان على صدقية الاشياء وأثباتها كحقائق وقوانين تحكم الحياة وتلازم الانسان طويلا لعدم أمكانية تجاوزها بسهولة وفترات زمنية متسارعة يستطيعها العلم وتعجز الفلسفة عنه.
سلاح الفلسفة الذي يربك العلم هو الشك في قطعية التسليم بوجود حقائق غير نسبية مطلقة في كل شيء يخص الانسان والطبيعة وما يتفرع عنها من تخصصات تحسب للعلوم وليس للفلسفة.. القطيعية الشكيّة الملازمة للوجود الانساني قديما أن مقياس كل شيء الانسان فقط كم ذهب له بروتاغوراس كوجود مطلق الكمال لم تعد صادقة في عصرنا بل الانسان مقياس كل شيء كوجود محدود القدرة والامكانيات ومحدودية فهمه واستيعابه لحقائق وظواهر الحياة المعقدة المتغيرة باستمرار اليوم.. وقصور أمكانية معرفة الانسان كل شيء على أنه يقين قاطع. وهذا المقياس الإنسانوي يصدق على قضايا علمية ولا يتماشى مع أخرى علمية ايضا يمكن لمستقبل العلم دحضها وتفنيدها..
مستقبل العلم ومستقبل الفلسفة
الانسان كموجود نوعي قسمة مشتركة تتوزعها أبعاد ومجالات متعددة لا حصر لها، لكنها في المحصلة النهائية لا يمكن استفراد أحد هذه الابعاد بمصادرة الابعاد الاخرى في فهم الانسان وفهم الحياة.. آخذين بكل الاهتمام الانسان كوجود ومعطى حيوي بلغ شأوا متقدما جدا في تقدمه العلمي والحضاري بما أصبح متعذرا جدا تسييج وجوده الطوعي المتكيف أن يكون انسانا في بعد واحد يحتكره العلم لا غيره ولا معه.
كما من الخطأ الفادح التعويل على أن مستقبل الفلسفة كفيل بحل معضلات الانسان المستعصية التي يعيشها في مرحلة ما بعد العلم الافتراضية حيويتها في تقدمها المتسارع دوما على حيوية الفلسفة فلم ولن يشهد مستقبل الانسان أن تقود الفلسفة حياة الانسان لا في أسبقيتها على العلم ولا حتى بالسير في الموازاة معه وتاريخ البشرية يؤكد هذا كحقيقة مستقبلية ثابتة. فالفلسفة في مستقبل ما بعدها هي الفلسفة في حاضر ما قبلها لا يتغير طموحها القاصر ألا تقود هي العلم بل الحقيقة تشير لقيادة العلم لها مستقبلا كما في حاضرها وماضيها من قبل. لكن موازاة مسيرة الفلسفة لمسار العلم علاقة جدلية لا يمكن الاستغناء عن ترابطها المعرفي على حساب فرادتهما المنفصلة في فهم وتفسير حياة الانسان واستشراف مستقبل قضاياه.
العلم بمستطاعه إعطاء حلول لمستقبل الانسان بما تعجز عنه الفلسفة مستقبلا لكن هذا لا يمنع اصطدام العلم بجدران أبعاد فلسفية للإنسان روحية ضميرية اخلاقية عاطفية نفسية لا يقوى العلم تلبيتها، وتبقى تلك الاحتياجات الانسانية خارج استغلاقات العلم التي تتعامل مع الانسان في بعده العلمي التقني الهائل فقط.
الفلسفة بعد انساني لا يمكن للعلم مصادرته مستقبلا ويلغي بذلك أن الانسان وجود بلا حدود ولا متناهي من ناحية النهايات المفتوحة لوجوده المتطور على الدوام لكن ليس التطور وحيد الجانب الذي يبتغيه التطور العلمي حاضره ومستقبله.
لا يجد الانسان ثقة مطلقة في مستقبل العلم ألا يحد طموحه ويحتويه بما يمليه عليه العلم بعيدا عما يرغبه الانسان هو أملاءه على الحياة التي يقودها العلم. صحيح أن العلم لم يوجد بالتضاد مع طموحات الانسان التي يفتقدها العلم لكنه يصبح عائقا أمام العديد من القضايا التي يجدها الانسان يقودها العلم في غير صالحه ومستقبل سعادته.
يشير ريتشارد رورتي قوله (الفلاسفة يقترحون صورا واستعارات بدلا من أدعاء الحقيقة، ويشير العديدون الى ذكاء رورتي في تعبيره من حيث الاستعارات ليس فيها محتوى ايماني ادراكي.) نقلا عن الباحث حاتم حميد محسن.
رورتي يقر بحقيقة لا يمكن للفلاسفة الافلات منها تلك أنهم حالمون بينما علماء الطبيعة يقظون بما فيه الكفاية وأكثر من اللازم. وبقيت مشكلة الفلسفة مع العلم مشكلة الروح بالجسد عند الانسان، من حيث أرادة فرض التعالي الروحي على مقتضيات ما يرغب إشباعه الجسد من غرائز. ويجد العلم معضلته في أنه غير مباح ولا مقبول محاكمة رغائب الجسد وإفصاحاته الروحية بمنطق العلم.. الفلسفة تقف عاجزة أمام العلم الذي يجدها عبئا عليه ليس مسؤولا أن يتحمّل أوزارها.. وأمام جموح العلم المستقبلي هذا سيجد العلم أن حصيلة نجاحاته المتحققة هي في صناعته (روبوت) أنسان محشو بنشارة منجزات تقنية تكنولوجية علمية آلية ذكية يقوده بها العلم وربما يأتي اليوم الذي يعجز الانسان قيادة الذكاء العلمي المصنّع من قبله..
مقولة رورتي الخاتمة
يطلق رورتي مسألة على جانب كبير من أهمية الوقوف عندها والتعقيد الفلسفي، والتي أطلقها بموازاة أيمانه القطعي بالفلسفة الذرائعية الامريكية التي لا يرغب مقاطعتها في أمور اساسية جوهرية.. مفادها :( ما هو صادق ليس بالضرورة أن يكون مطابقا للحقيقة..(The truth is not the fact) نقلا عن الباحث حاتم حميد محسن. كيلا نشغل انفسنا في الاستطراد نجد أن الحقيقة عند رورتي ليس أن تكون صادقة بل أن يكون صدقها نافعا، والصادق عرضي على الجوهر الذي هو حقيقة الشيء وهذه الاخيرة تكون عرضية أيضا على جوهر ولا قيمة لها ما لم تكن حقيقة نافعة في التطبيق. فليس مهما أن تكون الحقيقة مرتهنة بصدقيتها بل بمنفعتها..
أذن اصبح معنا حسب رورتي أن الصادق ليس حقيقيا في كل الحالات، كما أن الصدق ليس بمستطاعه الاحاطة والالمام بكل الأشياء، فما يبدو لنا صادقا لا يكون حقيقيا من دون امتلاكه وحيازته برهان حقيقته المرتهنة براجماتيا بمرجعية المنفعة الثابتة كمقياس لصدق الاشياء وصدق حقيقيقتها أيضا.
والصدق حالة نسبية تحكم الفكر والمادة على السواء في نسبيتها، لذا يكون الصدق بحكم نسبيته محكوما بالتغيير والتبديل والصيرورة على الدوام أمام ثبات أن الحقيقة النافعة ليس مكمن قوتها في صدقها بل في تعبيرها تحقيق منفعة الجميع فهي تكون غير نسبية مستقرة في المدى ما بعد المتوقع والمنظور..
هنا لا نغفل عند مقارنتنا الصدق والحقيقة كون كل حقائق الحياة هي نسبية وليست حقيقية مطلقة ومن غير هذا الفرز بين نسبية الصدق مع نسبية الحقيقية نقع في خطأ اعتبارنا أن ما هو صادق يكون حقيقيا أيضا لشيء واحد تجمعهما النسبية الافتراضية أو النسبية القائمة حضورا. فالصادق هو موقف متغّير على الدوام في حين تكون الحقائق ثابتة نسبيا على الدوام، فما نعّبر عن صدقه في زمان ومكان معين لا يلزم منه أن يكون حقيقيا صادقا نافعا يمكن التسليم به بشروط وظروف أخرى...

تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس