الوجود والموجود... الثابت والصيرورة

الوجود والموجود... الثابت والصيرورة
د علي محمد اليوسف                                                          09 أبريل 2020
تصدير: حين سعى العديد من الفلاسفة تخليص الفلسفة من مستنقعها الميتافيزيقي التجريدي التي غرقت فيه قرونا طويلة فهم قاموا بنفس الوقت تحاشي رميها في مستنقع الايديولوجيا السياسية المبتذلة المعاصرة كما يراد لها اليوم.
الوجود والصيرورة
إذا كان تعبير هيراقليطس كل شيء في الوجود محكوما بالصيرورة، فلماذا تحكم الصيرورة الاشياء التي هي موجودات الوجود وتكويناته المادية ولا تحكم الوجود ذاته كمفهوم ميتافيزيقي لامحدود لامتناهي لا يمكن أدراكه بكليته؟
للإجابة من المرجّح أنه لم يكن غائبا عن تفكير هيراقليطس أن الوجود كمفهوم ميتافيزيقي لا يحد بمحددات زمانية ولا مكانية إدراكية تعّينه كموجود أنطولوجي ولا مفهوم فلسفي – معرفي يمكن أدراكه بمنطق العقل المادي غير المجرد، ولا يمتلك الوجود كمفهوم حضورا ماديا كمثل باقي الموجودات الحسية في الطبيعة..
والوجود كمفهوم شمولي ميتافيزيقي تجريدي يختلف تماما عن موجوداته التي هي متعينات أنطولوجية مستقلة مادية أو خيالية مصدرها الذاكرة يمكن أدراكها والتعامل معها على أساس هذا التفريق أن الموجودات هي مكونات ومحتويات كل وجود مجرد لا يدرك عقليا الا بمحتوياته الموجودية انطولوجيا...
والمحتويات الموجودية لا ينوب أدراكها أو عدمه عن لا أمكانية أدراك الوجود كمتعيّن مفهومي لا انطولوجي ذي دلالة عقلية فكرية واضحة يمكننا معرفتها أبستمولوجيا كحقيقة واقعة كما هو الحال في تعاملنا الحسّي مع موجودات الوجود التي لا حصر لها.. ولا ينوب الوجود في تمثيله موجوداته بغير استقلالية منها تمّثل الموجودات نفسها ولا تمّثل الوجود من خلالها وبها..
فالوجود مفهوم شمولي ميتافيزيقي مجرد غير محدود بخلاف موجوداته من الاشياء المحدودة المتعينة إدراكيا عقليا والتي هي بمجملها تكوينات الوجود ومحتوياته.. الوجود لا يدرك سوى بموجوداته فقط والا فهو مفهوم مجرد لا قيمة حقيقية يمتلكها في عالم الاشياء.
ويعّبر هيدجر عن عدم التفريق هذا بين الوجود والموجود حين يستعمل لفظة وجود بمعنى الرديف الذي يعطينا نفس معنى الموجود قائلا: (أن الوجود أي الموجود ترك كل الصيرورة خلفه إذا كان في الواقع قد كان في أي وقت مضى كان ممكنا أن يكون.. أن ما يعنيه الوجود بالمعنى الاصيل يقاوم أيضا كل عمليات الصيرورة) 1، وسرعان ما سنرى تنازل وتراجع هيدجر عن صواب وصحة هذه المقولة التي هي مأخوذة عن هيراقليطس فحواها معنى الوجود يقاوم كل عمليات الصيرورة كونه مفهوما ميتافيزيقيا مجردا لا يحده الادراك والمعرفة..
وبخلاف رأي هيراقليطس عن تقاطع (الوجود) مع الصيرورة نجد هيدجر يرّوج لعبارة بارمنيدس (أن وجود (الموجود) يكون بالتضاد مع الصيرورة )2,
من الجلي الواضح أن بارمنيدس قال (وجود الموجود) يتقاطع مع الصيرورة ولم يقل (الوجود) يقاطع الصيرورة كما عبر هيراقليطس صحيحا عن ذلك...علما أن هيراقليطس هو الشهير بمقولته الصيرورة تحكم كل الموجودات بما هي متعينات مادية غير ثابتة متطورة على الدوام ولم يقل تحكم الوجود بما هو مفهوم ميتافيزيقي شمولي غير ممكن تحديده ماديا بالزمان والمكان الا من خلال موجوداته المكوّنة له..
ونخلص من هذا رغم الاختلاف الكبير بين الفيلسوفين الذي يرى أحدهما العالم بتكويناتها جميعها وعلاقاتها البينية في الطبيعة ومع الانسان تحكمه الحركة والصيرورة والتغيير (هيراقليطس).. ويرى الآخر بارمنيدس العكس من ذلك أن عالم الاشياء من حولنا يحكمه الثبات المطلق في كل شيء بدءا من الموجودات وليس انتهاءا بالوجود الميتافيزيقي لكل ما هو وراء الطبيعة..
لكن الشيء الذي يدعو للانتباه جيدا أن كليهما يعتبران (الوجود) كمفهوم تجريدي لا أنطولوجي هو غير موجوداته التي تكون مدركة ماديا عقليا.. فالوجود لا ينوب عن موجوداته في أدراكها كمتعينات موجودية لها استقلالية تامة عن الوجود حتى وأن أنضوت تحت عنوانه الاسمي فقط كقولنا موجودات الوجود...فالموجودات التي هي الاشياء من حولنا في العالم محكومة بالصيرورة والحركة والتغيير حسب هيراقليطس، أو على العكس يحكمها الثبات حسب (بارمنيدس) وهنا يتضح معنا أن الوجود المجرد من تكويناته وموجوداته لا يطاله التغيير والحركة والصيرورة كمفهوم مثالي ميتافيزيقي لغوي مجرد خال من مضمون الحياة من غير محتوياته الموجودية التكوينية كما لا يحكمه الثبات أيضا لأنه غير متعيّن موجودا فيزيائيا مدركا خارج أدراك  موجوداته فقط ..
لذا يكون الوجود المجرد كمفهوم بما هو تعبير خال من المعنى وميتافيزيقي لا يكون ولا يستمد قيمته المعرفية الا من خلال معرفة موجوداته أنطولوجيا.. وخطأ بارمنيدس الذي يعتمده هيدجر أنه لا يقّر أن الموجودات متعينات أنطولوجية واقعية تحكمها الصيرورة كما يحكمها العدم حتما.. على خلاف الرأي الفلسفي المجمع عليه أن الصيرورة تقاطع الوجود من حيث كونه مفهوما ميتافيزيقيا تجريديا لا يدرك انطولوجيا ويقاطعه العدم أيضا لنفس السبب..
فالعدم يفني ويعدم موجودات متعينة حيّة ولا يعدم مفاهيم مجردة مثل الوجود أو الماء أو الهواء أو النار وغيرها.. والصيرورة فعالية لا تعمل الا من خلال موجودات واقعية مدركة حسيا أيضا تمتلك حضورها المادي ولا تعمل مع مفاهيم مجردة , لذا فالصيرورة الحياتية والعدم الإفنائي لا يطالان الوجود كتجريد معرفي بل يطالان الموجودات الحيّة المدركة واقعيا التي هي موجودات الوجود المدركة المستقلة ماديا عنه في انفراداتها الموجودية التكوينية له..
واضح من هذا أن الصيرورة مجال اشتغالها ليس الوجود بما هو مفهوم ميتافيزيقي مجرد لا يدرك خارج متعيناته الموجودية، وإنما الصيرورة تشتغل على موجودات مادية متعيّنة إدراكيا كمواضيع أنطولوجية معرفية واقعية توجد من حولنا التي تكّون بمجموعها الوجود.. ولا صيرورة تحكم الوجود الذي هو تجريد أدراكي ومفهوم غير محدود الاحاطة والالمام به كمصطلح متحقق في وجود أنطولوجي متفق عليه كي يمكن إدراكه ومعاملته بالصيرورة التطورية التي تطال وتحكم موجودات الوجود المادية ولا تحكم الوجود غير المتعين أدراكه ماديا.
بتعبير هيدجر (الوجود كل متماسك من الحضور) 3، لا يمكننا تفسير معنى هذه العبارة الا في الذهاب الى أن الوجود في حضوره المتماسك المدرك لا يكون بغير تجليّات ومدركات موجوداته التكوينية المتماسكة كمواضيع واشياء واقعية أو كمواضيع للإدراك العقلي خياليا..
والوجود بالمعنى الميتافيزيقي لا يمتلك حضورا حقيقيا متمايزا مجردا إدراكيا عن مجمل مكوناته من الموجودات كأنطولوجيا متناثرة لأشياء واقعية عديدة متنوعة.. موجودات الوجود هي الاشياء العديدة المختلفة والمتنوعة التي يكون وجودها باستقلالية مادية تامة عن الوجود في اكتسابها الحضور المدرك المتماسك حسب تعبير هيدجر.. وكان من الممكن أن تكون عبارته صحيحة هو قوله الوجود بموجوداته كل متماسك الحضور.. فالوجود حضوره المادي كموجود بلا موجوداته هو استحالة وجودية إدراكية للعقل...عندما نقول (وجود القلم) فهذا لا يترتب عليه أن الوجود أصبح ماديا بإضافة القلم له بل القلم هو شيء موجود مادي واقعي يدرك حتى لو لم نضف له كلمة وجود..
هل نستطيع الجزم القاطع أن هيراقليطس في فهمه الصيرورة والتغيير في الموجودات وبالتضاد مع بارمنيدس صاحب نظرية ثبات العالم بمحتوياته كانا كليهما أكثر دقة من هيدجر في التعبير عن فهمهما أن الصيرورة تغيير مستمر يطال الموجودات المادية في وجودها ولا يطال الوجود في تجريده المفهومي الميتافيزيقي؟؟
قول هيراقليطس كل شيء في حالة تغيير مستمر، يقصد به تغيرات الاشياء كموجودات أنطولوجية متحركة ولم يقل ويقصد الوجود كمفهوم مطلق ميتافيزيقي غير محكوم بالتغّير والصيرورة، بما هو مفهوم تجريدي وليس بما هو مدرك موجود أنطولوجيا كالأشياء في وجودها المادي المستقل كينونة..
وتشّبث بارمنيدس بمذهبه الثابت عن الوجود بما هو مجموع مكوناته من الموجودات وليس كمفهوم غير متعيّن فيزيائيا حاله حال الزمان والمكان والماء والهواء والنار وغيرها التي هي كلها مفاهيم تجريدية وليست متعينات مادية يحكمها الادراك المباشر كون تعبير الوجود شموليا مجردا عن محتواه في متعينّات لا تحمل غير تجلّي صورة واحدة من التجريد اللغوي في الذهن وأدراكها ليس أكثر من لفظ لغوي بخلاف لفظة وجود التي هي من دون تجليّات آثارها موجوديا ماديا لا قيمة ولا معنى مادي لها.. ولا تمتلك دلالة حقيقية واقعية نعيشها. فماذا توحي لنا لفظة وجود من تجريدها عن المضاف لها؟ وجود ماذا أو أي شيء؟ لكن عندما نقول وجود كتاب فالفهم يكون أن الكتاب امتلك وجوده ولا يمتلك الوجود وجوده باقترانه بالكتاب. فالكتاب موجود مادي في الذهن التصوري سواء اقترن بلفظة وجود أم لم يقترن.
ولا تفهم تلك المفاهيم المجردة من المعنى الانطولوجي المحدد للفظة (وجود) وإنما تفهم بما تحويه وتشتمله تلك المفاهيم من محتوى لخواص واستعمالات وعلاقات بغيرها من موجودات الاشياء الاخرى التي بها تعرف تمايزاتها عن غيرها.. وبخلاف هذا الرأي نجد هيدجر ينعت الوجود وليس الموجود بالتالي: (الوجود تتعين حدوده من خلال شيء آخر, ومن خلال هذا التعيّن يمتلك تحديده وتعريفه )4. الوجود في اعتباره مطلقا لا محدودا يتعذر علينا تحيده بمطلق بآخر هو جزء منه ولا يتمايز عنه كي يتسنى لنا تحديده بمثله من وجود كلاهما واحد مطلق وجودي.. ولا نجد حاجة التذكير أن هيدجر يستخدم لفظة وجود وهو يقصد بها الموجود.
الموجودات وليس الوجود هي المتعينات الانطولوجية القابلة للإدراك المتضاد مع غيرها بالمقايسة المقارنة بالنوع وليس الوجود الذي يحتويها فلا تتوقف معرفته وأدراكه باختلافه عن شيء آخر كون الوجود مفهوم شمولي ينطبق معناه اللفظي على أصغر الاشياء وأعقدها بما يجعل من تفريق الوجود بتضاده مع وجود آخر لا يتسنى إلا من خلال تمايز واختلاف موجودات كل وجود مع غيرها من موجودات تماثلها ماديا وليس مع وجود تتعين حدوده من خلال شيء آخر كما عبر عنه هيدجر في عبارته الخاطئة السابقة. فالوجود بعكس الموجودات لا يتعين انطولوجيا ادراكيا ولا تحده حدود والا أصبح موجودا وليس وجودا... بهذا التفريق بين لا متناهي الوجود ومتناهي الموجودات تكون إمكانيتنا تحديد الموجودات كونها متناهية في إمكانية أدراكها من قبلنا وليست مثل (الوجود) في مطلقه اللانهائي غير المحدود الميتافيزيقي الذي لا يمكننا أدراكه لأننا لا نعرف ما هو وماذا يحتوي وما هي محددات وجوده الانطولوجية..
بعبارة ثانية الوجود مفهوم شمولي كلي غير قابل للتجزئة على صعيد الادراك المثالي المجازي له.. كما لا يمكننا مقايسة أثبات حضوره موجودا متعينا من خلال مقارنته بشيء آخرمن نوعه لأن الوجود هو كل شيء ولا شيء في وقت واحد وهو الوجود الميتافيزيقي وهو الآخر الوجود الواقعي لموجوداته أي لمكوناته في وقت واحد..
فالوجود مفهوم كلي واحد ميتافيزيقي لا يقبل القسمة على نفسه ولا على التجزئة كما هو الحال مع موجوداته المادية المكوّنة له التي يمكننا أدراكها مقسّمة مجزأة كونها أشياء يمكن أدراكها وليست مقولات ميتافيزيقية يجمعها لفظ وتعبير لغة واحدة خال من محتواه المادي التي هي محتوياته الموجودية من أشياء.. طالما كان الوجود مفهوما مطلقا غير متعيّن انطولوجيا يصبح فهمه كموجود مادي يدركه العقل مستحيلا كونه مفهوما وليس شيئا ماديا أو موضوعا محددا.
هذا الفهم يعطينا مؤشرا واضحا أننا يجب التعامل مع الوجود كونه لا يمتلك تعّينه الانطولوجي الا من خلال مجموع وكليّات مكوناته ومحتوياته من الاشياء والموجودات وليس من خلال فهم أمكانية تحديده كمفهوم شمولي بالمقارنة مع موجودات لا تجانسه وجودا من حيث أن الوجود مفهوم لا يمكننا تحديده بأية وسيلة معرفية مدركة عقليا مثلما يجري سريانها على الموجودات كأنطولوجيا تدرك محدداتها عقليا ولا ينطبق هذا على الوجود كمفهوم ميتافيزيقي مطلق غير محدود بمعنى مادي ولا يمتلك غير اللفظ المجرد في الدلالة عليه..
فمفاهيم مثل الزمان أو المكان أو الماء أو الهواء أو النار أو الضوء لا تعطي معناها ألا بمعرفة مقصود محتوياتها التكوينية لتلك المفاهيم في زمن ومكان معين، ودراسة علاقاتها واستعمالاتها وأهميتها ليس للإنسان وحده وإنما للطبيعة بمجملها كوجود شمولي وتبقى تلك المفاهيم مرموزات لغوية وعلامات من التعبير مجردة لا قيمة ولا مدلول تعرف به بغير معرفة محتوياتها وعلاقاتها بالإنسان والموجودات الاخرى المكوّنة لها وادراكها.. أما التعبير عنها كألفاظ عمومية لا تخرج عن كونها الفاظا لغوية مجردة لا يكتمل معناها الا بدلالات ما تحويه من خصائص موجودية تكوينية فيزيائية لوجودها التجريدي.. فالوجود المجرد هنا يمكن تشبيهه أنه (شكل) لا يفهم ماذا يعني من دون الوقوف على معرفة تداخل مضمونه بما يحتويه.. فلا موجود من دون شكل ولا موجود بلا مضمون، وفصل الشكل عن مضمونه محال.. كما أن ادراك الشكل خال من مضمونه محال كذلك محال أدراك مضمون لا يؤطره ويحويه شكل.. وبهذا المعنى يكون الوجود شكلا لأشياء يحتويها هي مكوناته المادية المدركة.
هيدجر ومعنى الوجود بذاته
أنه لمن الغريب حقا أن نجد هيدجر يحاول أضفاء مسحة مادية على الوجود الميتافيزيقي عندما يعتبر كلمة (الوجود) يتطابق مدلولها اللفظي مع مدلولها المادي ويعتبر هيدجر(الوجود بذاته) ليس كما نفهمه في معناه الظاهراتي في الوجودية ومنهج الفينامينالوجيا، وإنما بمنهج هيدجر الفلسفي الخاص به الذي يحاول أثباته أن الوجود بذاته ليس الوجود غير المدرك ماهويا المجمع عليه فلسفيا كمصطلح معروف، وإنما هو الوجود المدرك مباشرة بمحتوياته الداخلية وتكويناته من الاشياء المادية بما فيها الماهوية.. والموجود بذاته هو وجود متعين يمكن إدراكه ماهويا على حد تعبير هيدجر.. هنا هيدجر يردد نفس المنطلق المادي الماركسي في أعتباره ماهية الشيء هي مجموع صفاته الخارجية المدركة حسيا ولا وجود لماهية محتجبة خلف هذه الصفات..
وهذا من وجهة نظر هيدجر التهكمّية دليل كاف في أثبات دمغ وعدم دقة عبارة نيتشه قوله الوجود كلمة لا تحمل دلالتها المدركة المتعينة وهي خالية من المعنى وفارغة في حقيقتها التي يحاول هيدجر دحضها رغم أنها تمثّل الحقيقة بعينها خارج تفكير هيدجر المنغلق الذي يحاول تجيير المفاهيم الفلسفية لمنظوره الخاص به رغم عدم توفر أسباب هذا التجيير المقنعة...
الذي يراه هيدجر أن الوجود بذاته هو جضور واقعي متعيّن أنطولوجيا يمكن إدراكه، وهو رأي يخالف كانط والوجودية والماركسية وفلاسفة عديدين من تيارات فلسفية مادية أخرى غادروا مناقشة الشيء بذاته معتبرينه مفهوما ميتافيزيقيا معّلقا هو أقرب للمعنى الافتراضي منه للوجود المادي الواقعي فهو لا يدرك ولا يمكن معرفته أبتدعه كمصطلح فلسفي كانط وأخذه عنه هوسرل في منهج الفينامينالوجيا واعتبراه كانط وهوسرل أنه وجود افتراضي معياري لا يمكن أدراكه ماهويا ويكفي معرفة الصفات الخارجية له...
وبضوء نظرية الوجود بذاته الهيدجرية نجبر الذهاب الى تقسيم الوجود بذاته الى نوعين: الاول هو الوجود بذاته الذي تحاشاه هيدجر الذي يمثل المحتوى الماهوي (ماهية الوجود بذاته) التي من غير الممكن تعيين هذا النوع من الوجود كمدرك عقلي وكينونة معرفية يمكن بلوغها أو الاستدلال بها كونها لا تمتلك وجودا أنطولوجيا متعينا يمكننا معرفته وأدراكه لا بالحس ولا بالعقل خياليا كموضوع مستمد من الذاكرة.
أما النوع الثاني فهو الوجود بذاته حسب الفهم الهيدجري الذي يرى فيه هو ذلك الوجود المدرك بمحتوياته من الاشياء والمكونات المادية له بضمنها الماهية والجوهر..
 وهذا الخطأ يقودنا مجبرين توضيحه في مثال قولنا وجود بناية او مؤسسة أو فندق وغيرهما، فهي دلالات تعبيرية لغوية مجازية لمعاني تكتسب الوجود التجريدي بلفظ اللغة لمعناها قبل بحثنا اكتساب موجوداتها في وجودها المتعين إدراكيا كواقع حقيقي ماثل في معرفتنا... وتكون تلك الموجودات ليست وجودا بذاته طالما يتيّسر لنا أدراك ومعرفة محتوياتها التكوينية لها.. وتبقى لفظة بناية وغيرها تجريد معرفي لا يعطي معناه خارج فهم مكوناته ومحتوياته ومن أي الاشياء يتكون كي تعرف خصوصيته  في مجمل علاقاته بالحياة والانسان..
إن حل هذا الالتفاف على المفهوم المصطلحي المجمع عليه فلسفيا والذي يخالفه الفهم هيدجر(الوجود بذاته) الذي ليس له معنى يمكننا تفنيده, أننا حين نقول بناية فندق فهو(وجود مجرد) لكن يصبح موجودا حقيقيا حين يصبح معنا متاحا معرفة اسمه وموقعه وهيكلية بنائه ومحتوياته من الموجودات والاشياء العديدة المختلفة التي لا يشكل أحداها منفردا بل محتوياتها مجتمعة وجودا بذاته لبناية الفندق, و تبقى مكونات البناية موجودات مادية يمكننا أدراكها حسّيا انفراديا والتأكد من وجودها المادي وتبقى لفظة فندق لفظة تجريدية ومفهوم لغوي مطلق لا نستطيع معرفتها كوجود بذاته وإنما كموجودات تكوينية مادية لها تحتويها في داخلها تتمايز بها عن غيرها من مئات البنايات.. الوجود بذاته هو المفهوم اللفظي المجرد عن مكوّناته المادية التي يمكن إدراكها.. ولا يمكن للوجود بذاته الإبانة والكشف عن نفسه في توفر الادراك المعرفي له وأثبات أنه وجود حقيقي يدرك.. فهو وجود افتراضي لشيء يمكن أن يكون موجودا أولا موجودا. وتبقى جميع الموجودات مفاهيم لفظية مجردة لا رصيد لها في الواقع العياني بلا موجوداتها التكوينية لها.
والأهم من ذلك أن بناية فندق تبقى موجودا واحدا من بين عدد لامتناه لا يمكن إحصاؤه من البنايات التي تعرف موجوداتها التي يحتويها الوجود كمفهوم غير محدود الدلالة ولا يمكننا الاحاطة بمعرفته لفظيا ولا معرفيا أدراكيا في وجوب تطابق معنى اللفظة بمدلولها المقصود غير المدرك.. فالوجود مجاز لفظي للدلالة على شيء لا ندرك ماهية محتوياته وتكويناته ولا يمكن معرفة ما تعنيه أية لفظة مادية لشيء من غير معرفة مكوناته وعلاقة الانسان بها.
العودة الى هيراقليطس وبارمنيدس
وبالعودة إلى مفهومي هيراقليطس في الصيرورة والتغيير المستمر، وبارمنيدس في ثبات الاشياء في الوجود، نجد صواب ماذهب له هيراقليطس وأثبته العلم أن كل الاشياء في حالة من الصيرورة الدائمة وهو يفرق بين الموجودات التكوينية للوجود وبين الوجود كمفهوم ميتافيزيقي تجريدي غير محدود لا يدرك، وبذلك يلغي هيراقليطس أن يكون للوجود كيانا ماديا مستقلا يدرك خارج مدركات موجوداته التي يحتويها، والوجود يتشتت ويتلاشى كيانه في تعدد وتبعثر موجوداته المكوّنة له.. وما يدرك منه هو موجوداته فقط.
أما العكس من ذلك فإن بارمنيدس يؤكد الوجود كيانا قائما بذاته من خلال الثبات الذي يحكمه بغّض النظر عن أدراكنا موجوداته الثابتة داخله وهي وجهة نظر فلسفية لا يدحضها أن الاشياء والعالم دائبة الحركة وفي تغيير مستمر وحسب بل لأن الوجود لا يوجد كينونة مادية من خلال ثبات موجوداته، والقول بذلك نظرة مثالية غير واقعية بداياتها كما وجدناها عند بارمينيدس لا غيره...
الوجود المجرد كمفهوم ليس كيانا ماديا مثله مثل الموجودات التي يحتويها ويكون أدراكها متاحا منفردا لوحدها.. كلمة وجود لا تعيّن ولا تحدد موجودية الشيء أو الأشياء، فهي موجودة قبليا كأشياء سابقة في وجودها المادي المتعيّن قبل وصفنا لها بكلمة وجود التي هي تعبير مجازي لفظي لا يعني أن موجودات الاشياء أصبحت موجودة عند اقترانها بلفظة وجود والا لما كنا استطعنا أن نفهم كلمة شيء تعني شيئا موجودا ماديا ولا كنا استطعنا أن نطلق على الشيء والأشياء لفظة شيء بمعنى موجود..
وينحاز هيدجر الى بارمنيدس الذي يلغي أن يكون هناك تعارضا متضادا بين الصيرورة والوجود كما يرى هيراقليطس تلك الحقيقة، ويرى هيدجر وجوب التسليم بأن لا وجود لمثل هذا التعارض بين الفيلسوفين، وهما يقولان نفس الشيء فالصيرورة حسب تعبير هيدجر تطال الوجود كشيء طبيعي تماما في حقل الفلسفة وتاريخها.. ولو لم يقل هيراقليطس بما جاء به بارمنيدس لما كانت له تلك الشهرة على حد تعبيره.. لذا يقترح بضوء نجاحه في هذا الدمج الافتعالي بين رأيين مختلفين متوازيين لا يلتقيان لفيلسوفين متعاصرين تقريبا أن نتجاوز هذا التنوع بالأفكار والمذاهب والتعقيد في تاريخ الفلسفة، وأن يكون ثمة فلسفة واحدة كافية جدا بدلا من هذا التنوع والتعدد الذي لا فائدة منه..5
موضعة الوجود
ينسب لفلاسفة الاغريق قولهم الواضح الصائب (الموجود هو الصحيح الحقيقي بقدر ما هو موجود، فالحقيقة والصحيح على هذا النحو هو الموجود) 6
من الواضح الذي لا لبس فيه أن فلاسفة الاغريق القدامى فهموا (الوجود) كمطلق لا نهائي ولا يمكنهم تحديده بتفريقه عن (الموجود) الذي هو مدرك انطولوجي متعين بمواصفات فيزيائية يمكن ادراكها.. واعتبروا الوجود يكون واقعا أنطولوجيا فيزيائيا متحققا في تحقق مجمل مدركاته من الموجودات واعتبروا الموجود الحقيقي بقدر ما يكون مدركا عقليا في وجوده الانطولوجي المتعّين.. وهذا ما لا ينطبق على الوجود أن يوجد بذاته في التجريد كمفهوم بمعزل عن موجوداته المدركة الحقيقية..
أما موضعة الوجود التي يرغبها هيدجر على طريقته أنما تقوم على المرتكزات الهيدجرية الاربع التالية:
-         تتعين حدود الوجود من خلال اربعة جوانب هي (الوجود والصيرورة) و (الوجود والظهور) و (الوجود والتفكير) و (الوجود والواجب) وهذه الجوانب متداخلة بالاندماج الذي تمتلكه ضرورة الوجود. 7
-         وبناءا على تلك التضادات الاربع التي تبدو لأول وهلة مثل نمط الصيغ لا تنبثق ولا تقوم صدفة وتجد طريقها من خلال اللغة ورموز الكلام. وتعتبر ذات أهمية حاسمة وفاصلة (لتاريخ الغرب).8
-         أن هذه التمايزات بقيت سائدة ومسيطرة ليس فقط في وسط الفلسفة الغربية التي ظل مستغلقا عليها سؤال الوجود. 9
-         النظام الذي تدرج من خلاله عناوين التمايزات الاربعة يزودنا بذاته بإشارة أو علامة الى النظام الذي من خلاله ترتبط هذه العناوين فيما بينها داخليا والى النظام التاريخي التي تتشكل من خلاله.10
من خلال هذه التنويعات الاربع التي يحددها هيدجر في محاولته سحب الوجود من عالم الميتافيزيقا الى عالم المدركات ضمن مبحث الفلسفة، نجده يحاول الذهاب أبعد في محاولته سحب الوجود كمفهوم ايديولوجي سياسي وأسقاطه على التاريخ كمبحث يهم فلسفة التاريخ أكثر منه مبحثا فلسفيا قائما بذاته أبستمولوجيا.. وبالذات تحديدا المعني به عند هيدجر التاريخ الاوربي تحت قيادة الهيمنة الالمانية النازية..
أن بول ريكور كان دعا الى ضرورة تضمين الفلسفة وتطعيمها بجرعة ايديولوجية كي لا تكون الفلسفة تجريدا محضا لا فائدة عملانية مباشرة منه لكن ليس بالمعنى الفلسفي الذي ذهب له هيدجر في محاولته إنقاذ وتلميع تاريخ المانيا المحتضر نازيا وبعث الحياة فيه من خلال أسقاط الوجود كمبحث فلسفي شائك عالق على التاريخ السياسي الحديث تحديدا.. دعوة ريكور التأويلية في تطعيم الفلسفة بجرعة ايديولوجية أنما سببها فزعه مما ذهبت له البنيوية وبعدها التفكيكية في اعتمادهما مفهوم التحول اللغوي الذي ركن مباحث الفلسفة في متاهة اللغة في الغائها الانسان من مركزية الحياة..
لذا فمناقشة هذا الترابط الافتعالي بين الوجود كمفهوم فلسفي متعالق حسب رغبة هيدجر مع السياسة كايديولوجيا لا قيمة حقيقية فلسفية له سنتجاوزه لسبب انه يمثل اشكالية تاريخية مستمدة من الماضي ثبت خطأها القاطع في اندحار النازية الالمانية أربعينيات القرن العشرين.. فقد كان سبق لهيجل أن حاول مناقشة هذا الاسقاط الفلسفي – السياسي على واقع حال (بروسيا) في المانيا المجزأة عصر ذاك في القرن التاسع عشر وفشل بذلك في محاولته ابتداع مثالية الروح المطلق الذي يهتدي بالعقل في صناعة صيرورة التاريخ في تصاعده الخّطّي المحكوم بقوانين الديالكتيك التاريخية أي في تجريد هيجل لمنهجه في الديالكتيك من ماديته التي حاول فيورباخ تدارك استحضارها في منهج أيضا مثالي تصوفي في أسقاطه التأريخ الطبيعي على نشوء الاديان في حياة الانسان في مؤلفيه الرائعين(أصل الدين، وجوهر المسيحية)، مؤكدا أهمية التأريخ الانثروبولوجي الاسطوري البدائي في نشأة الاديان وعلاقة الطبيعة والانسان بتصنيع معتقداته الدينية الاسطورية..
بمجيئ ماركس وضع حدا لديالكتيك هيجل المثالي ومادية فيورباخ الصوفية.. إذ سحب تاريخ الفلسفة الى واقع الانسان انثروبولوجيا اقتصاديا سياسيا في تقسيمه الطبقي الاجتماعي الذي يوزع الغنى والفقر عالميا بإجحاف مزري بعيدا عن نزعة التدين المادية التي زرع بذورها فيورباخ بما من شأنه نسف مادية التاريخ القائمة على التفاوت الطبقي لدى ماركس الذي يرى لا أهمية للدين في تطور حياة الانسان تاريخيا انثروبولوجيا ومن هنا كان هجوم ماركس على مادية فيورباخ الصوفية.. لذا نحاول التركيز هنا على مناقشة محددات الوجود التي أدرجها هيدجر كمبحث فلسفي لا علاقة تربطه ضرورية بالسياسة والتاريخ السياسي حصرا..
الجوانب الاربعة التي أدرجناها سابقا نقلا عن هيدجر التي تجعل من الوجود ضرورة وجودية حاضرة حية تستلهم التاريخ حسب اجتهاده نعيد قراءتها نقديا وهي كالتالي:
-          علاقة الوجود بالصيرورة وناقشنا بتفصيل خطأها في سطور سابقة من هذه المقالة، فالوجود يقاطع الصيرورة ولا يلتقي معها بأي نوع من العلاقة الترابطية، كون الوجود مفهوما ميتافيزيقيا مجردا لا يمتلك واقعية انطولوجية يمكن أدراكها ويمكن للصيرورة التحكم في تلك الواقعية.. فالصيرورة كما مر بنا ذكره تشتغل وتحكم موجودات الاشياء في وجودها المادي ولا تشتغل على مبحث الوجود كمفهوم ميتافيزيقي مطلق غير متعيّن ولا مدرك ماديا..
-         الثانية التي هي علاقة الوجود بالظهور كما ذكره هيدجر أنه وجود حضوره مرهون بالحاجة له متجاهلا حقيقة أن الوجود لا تحكمه فيزيائية الموجودات الواجب حضورها كظاهرة محددة معروفة يمكن ملاحظة صفاتها وتأثيراتها وعلاقاتها بغيرها ومجالات توظيفها معرفيا أذا احتاج الامر ذلك..
فالظهور والغياب لا يحكم الوجود بما هو مفهوم كما يحكم الموجودات بما هي واقع مادي مدرك، والغياب والحضور سمة خاصة تحوزها الموجودات كمتعينات فيزيائية مادية لها حضور واقعي في الحياة والعالم من حولنا.. ويبقى الوجود فارضا حضوره من خلال ميزته أنه مفهوم لا تدرك أهمية حضوره عن أهمية غيابه علما أن الوجود دائم الحضور بالطبيعة كمعطى غير محدود لا يخضع الى تنظيرات فلسفية تستقدم ظهوره أو تأجيله بالغياب حسب الحاجة..
-         الثالثة الوجود والتفكير حتى العقلي والفلسفي لا يجعل من التفكير محايثا سببيا في تحويله الوجود الميتافيزيقي الى واقع انطولوجي والوجود لا يمتلك هذه الخاصية المادية أساسا.. فالتفكير ممكن له تحديد الوجود ومناقشته كمفهوم تجريدي معرفي فقط... وتكون الافكار عاجزة أن تمنح الوجود حضورا أنطولوجيا واقعيا ولا حتى أن تجعل منه ايديولوجيا سياسية يكون بمقتضاها حاضرا وجودا.. فالوجود قيمة ناجزة من الحضور المفهومي الميتافيزيقي، ولا يكتسب التاريخ من خلاله وبه قيمة من حضور الوجود المجازي على أنه ملهم التاريخ، فالتاريخ واقع أسطوري - عقلي اكتسب حضوره الدائم كصيرورة لأحداث ووقائع كانت متحركة بأستمرار, وبهذا المعنى يكون التاريخ محكوما بالصيرورة التي تقاطع الوجود تماما فيكون الوجود والتاريخ وجودان متقاطعان من حيث المعاني المختلفة ومحمولاتهما المتباينة لكل منهما كحامل موجودات تطالها الصيرورة ولا تطال الوجود كمفهوم دلالي مجازي يحتويها، وهو ما ينطبق على التاريخ أيضا.. فالتاريخ حكمته الصيرورة التطورية في الماضي ولا يشترط انسحاب فعل الصيرورة بتأثيرها على التاريخ الحاضر والمستقبل غير الناجزين.. فالصيرورة لا تدرك في حضورها الآني المؤقت كحاضر الا بعد أن تكون أصبحت الصيرورة تحقيبا مزامنا لماضي الاشياء في وجودها..
-         أما الرابعة الوجود والواجب التي هي بحسب هيدجر تمتلك خاصية متفردة وأهمية حاسمة فاصلة لتاريخ الغرب ويقصد أوربا بالذات، فنجد في أسقاط الوجود كمعطى فلسفي مفهومي على التاريخ بشكل مفتعل لا يمكن جني والحصول منه على مبتغى تحقيق صلة له بتوثيق أن الوجود المتحصّل عن طريق الاسقاط التنظيري سياسيا له كمادة فلسفية لا يكون لاعبا أساسيا في صنع تاريخ مغاير حسب الرغبة الشخصية لهيدجر..
    علي محمد اليوسف /الموصل
الهوامش:

1.      مارتن هيدجر، مدخل الى الميتافيزيقا، ت: د. عماد نبيل ص 104
2.       المصدر السابق ص 104
3.      المصدر السابق ص 105
4.      المصدر السابق ص 101
5.      المصدر السابق ص 106
6.      المصدر السابق ص 112
7.      المصدر السابق ص 101
8.      المصدر السابق ص 102
9.      المصدر السابق ص 102
10. المصدر السابق ص 102




تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس