النزعة الفطرية الدينية في الفلسفة الغربية الحديثة
د علي محمد اليوسف 16 أبريل 2020
تمهيد
(أن العقائد الدينية الاولى لا بد ان تكون
مكتسبة وليست فطرية) ديفيد هيوم
ملخص معنى عبارة ديفيد هيوم (1711 – 1776) في
طرحه اشكالية فلسفية حول جينالوجيا التدين الإنساني، مفادها العقائد الدينية
البدئية الاولى هي ميتافيزيقا مكتسبة وليست نزعة فطرية تعتبر الانسان كائنا
ميتافيزيقيا متديّنا بالولادة بموازاة وتلازم أنه كائن اجتماعي مؤنسن بالغريزة
الطبيعية الفطرية كمعطى وجودي وكائن نوعي يحمل ما لا حصر له من صفات بايولوجية تميّزه
عن غيره من الكائنات في الطبيعة جميعها مكتسبة من التجربة والطبيعة.
من المعلوم عن ديفيد هيوم بأنه تجريبي علمي
النزعة الفلسفية ملحد لا يؤمن بأفكار فطرية دينية ولا غير دينية مصدرها ميتافيزيقي
ما وراء الطبيعة أو مصدرها الجينات الموّرثة الفطرية غير المكتسبة الصفات لدى
الانسان من تراكم التجربة وتطور الحياة عبر التاريخ الطويل.
فهيوم تجريبي النزعة العلمية يلتقي بها مع
جون لوك ويؤيده ولا يتعارض معه بنكران وجود أفكار فطرية مختزنة بالذاكرة الإنسانية
يولد الانسان مزودا بها، وإنما يولد الطفل ويكون عقله صفحة بيضاء من غير ما يحمل أفكارا
فطرية مصدرها متوارثا مجهولا ولا تخضع تلك الافكار الفطرية المدعاة كنزعة غريزية لإدراك
العقل أو كانت مكتسبة بالخبرة التراكمية عبر الاجيال بالوراثة..
ورغم تجريبية وعلمية تفكير ديكارت ألا أنه
شرع في القرن السابع عشر التسليم بوجود أفكار فطرية يرثها الانسان بالولادة بخاصة
الدينية منها، وتبعه بهذا المنحى كانط لكنهما أخفقا في البرهنة كيف تتكون النزعات
الفطرية عند الانسان وما هو مصدرها الحقيقي الميتافيزيقا أم تجربة الحياة مع
الطبيعة واعتبراها هبة الهية مزروعة بعقل الإنسان؟؟ بل عزا الاثنان ديكارت ومن
بعده كانط الافكار الفطرية الى قدرة إلهية تمنح الانسان مثل هذه الافكار الفطرية
خاصة الدينية منها.
النزعة الدينية بين الفطرة والمكتسب
الابستمولوجي
لا نصادر هنا الجدل الحقيقي الاختلافي الذي
تحمله العبارة بين النظرة العلمية المادية التي تنكر الفطرة الفكرية والمنطق
الميتافيزيقي الغيبي الذي يؤكدها بلا دليل عقلي ولا برهان غير التسليم بالإيمان
الغيبي بوجودها ملكات روحانية يتمتع بها الانسان خارج وصاية العقل عليها.. في هذا
الاختلاف والتباين البادي من حيث أنه لا توجد فطرة (غريزية ) دينية تحكم الانسان
وتلازمه بالولادة لا تكون في أصلها نزعة مكتسبة من الطبيعة ولا يوجد فطرة تمثل
مجموعة الافكار والمعتقدات التي يحملها الانسان ويعاملها على اعتبارها فطرية
غريزية غير مكتسبة من تجارب الحياة أنما هي افكار مطبوعة في الذهن كمعطيات من
تشكيل التفكير العقلي وبيولوجيا الانسان مصدرها قوى ميتافيزيقية الهية أو عوامل
تكوينية وراثية بيولوجية، ناكرين أن يكون في النهاية والمحصلة كل تفكير عقلي صادر
عن الانسان أنما منشؤه الوجود والمحيط والانسان والبيئة والطبيعة بالمفهوم الاشمل
لمعنى الطبيعة في تكويناتها..
من البديهي الذهاب أن الافكار الفطرية بمقدار
ماهي افكار ميتافيزيقية لم يكن مصدرها العقل في تخليقها، كذلك من الاولى أنكارنا
فطريتها لأنها ليست ملزمة بالحديث عن قضايا الوجود الانساني والطبيعة والحياة
كونها هذه جميعا أدراكات عقلية موضوعية من الحياة تقوم على التجربة وتراكم الخبرة
المستمدة منها كمواضيع مادية يدركها العقل، بخلاف ما هو فطري فهو ليس من تخليق العقل
وإنما هي هبة روحانية مزروعة بالعقل لكنها ليست من إنتاجه المكتسب تخارجيا جدليا
كباقي مدركاته الطبيعية من اشياء وموجودات..
وبذا يتحدث ما هو فطري ميتافيزيقي ديني عن أمور
ما فوق العقل الطبيعي المحكوم بقوانين الطبيعة ولا يدركها العقل فهي ليست من
تخليقه وليس مصدرها واقع حياة الانسان. وكل ما هو غير مدرك عقلي ماديا يكون
بالضرورة لا مدركا عقليا ميتافيزيقيا ويفقد قيمته وأهميته في تنظيم حياة الانسان
والحياة.
يوجد فرق جوهري كبير حين نقول الافكار الفطرية
التي يكون مصدر تواجدها العقل وليس مصدر تصنيعها العقل. وبين قولنا الفطرة مصدرها إلهي
ممثلة بتجسيدها واقعيا الجينات الوراثية عند الانسان عبر الاجيال وبهذا المعنى
تكون الفطرة الدينية وغير الدينية هي صفات مكتسبة من المحيط والواقع فقط وليست أفكارا
ميتافيزيقية غير عاملة في حياة الانسان.
الفطرة الدينية في حال تسليمنا أنها فطرة
غريزية بالإنسان وليست مكتسبة بخبرة الحياة الانسانية تاريخيا فهي تكون أيمان غيبي
صامت لدى الفرد لا يحتاج الانبياء ولا المعجزات لتدعيم التصديق به. كون لاهوت
الاديان يتحدث عن امور تخص حياة الانسان على الأرض بلغات تحاورية عديدة بين الناس
يفهمونها، بينما الفطرة الروحية الحقيقية المزروعة الهيا هي صمت متعال على العقل
ومنطق اللاهوت الديني. العقل يدرك الاشياء كمواضيع لذا فالأفكار الفطرية طالما لم
تكن مواضيع للعقل وصادرة عن مصدر ميتافيزيقي مجهول للعقل فهي بهذا المعنى لا تدرك
معنى الوجود والطبيعة والانسان لأنها لم تتخلق عنها إدراكيا عقليا.
نخلص من هذا الى تأكيد أن الأفكار الفطرية
الدينية وغير الدينية في حال تسليمنا بها فهي تكون بالضرورة البيولوجية اللغوية
مكتسبة من نتاج الواقع والحياة الانسانية.. وإذا قلنا انها فطرية موروثة جينيا فهي
صفات تلازم الانسان ويعمل على ترسيخها اللاهوت الديني الموزع بين الاسرة والمدرسة
والمجتمع ورجال الدين والكتب الدينية المقدسة فهي تكون صفة ونزوع روحاني وليست أفكارا
جاهزة لا يستوعبها الانسان بغير وساطة الانبياء والمعجزات والكتب الدينية وما
يفسره لهم رجال الدين.
وربما يكون فيورباخ (1798- 1851) عالج
ميتافيزيقا الدين من منطلق مادي ملغيا تماما أن يكون التدين نزعة ايمانية فطرية
مزروعة يحملها الانسان معه بالولادة وإنما هي نزعة روحية ميتافيزيقية مكتسبة
مبعثها الوعي الذاتي الانساني لوجوده في الطبيعة وتوضيح فلسفة فيورباخ في
جينالوجيا الاديان ضمنّها كتابيه الذائعين الشهيرين أصل الدين وجوهر المسيحية.
نجد من المهم
التفريق الذي يتوضح معنا لاحقا أن الأفكار الفطرية في حال التسليم بوجودها الفطري كمعارف
غير مكتسبة في مخزن الذاكرة المعلوماتية في الذهن عند الانسان ويوّرثها الاب والام
لطفلهما بالولادة فهي ليست بالضرورة أفكارا غريزية فطرية مصدرها خارج معطيات
الطبيعة المكتسبة من قبل الانسان في التجربة والخبرة التراكمية وتنامي الوعي
الذاتي عند الانسان في محاولته فهم وتفسير ظواهر الطبيعة... فالجينات الوراثية هي
صفات مكتسبة من البيئة والمحيط والمجتمع وتجربة الانسان بالحياة.
بمعنى أن
الجينات الوراثية التي تنتقل كصفات فطرية أنما هي في جذرها البيولوجي صفات مكتسبة
توارثتها الاجيال بعد الاجيال لآماد تاريخية طويلة بدليل أن العديد من تلك الصفات
التي كان يتوارثها الانسان جيلا بعد جيل انتفت وانتهى زمن توريثها بسبب انتفاء
حاجة الانسان البيولوجية المتطورة لها في عصور لاحقة متطورة من تاريخه
الانثروبولوجي لم يعد الانسان بحاجتها، ونظرية داروين في أصل الانواع والبقاء للأصلح
تؤكد اندثار ما كان يتعارف عليه أنه صفات وراثية تتناقلها الاجيال على مر العصور والتاريخ
وبعضها أخذ صيغ التكيّف التطوري التاريخي لحاجات الانسان المتجددة باستمرار..
العديد جدا مما تحتويه نظرية داروين التطورية والبقاء للأصلح نجدها تشير لما ذهبنا
له وكذلك أفكار لامارك في تطور فسلجة الأعضاء لدى الكائنات الحية بفعل الحاجة
والاستخدام لبقاء الحياة بدءا من تطور استعمال اليد في الالتقاط من الاشجار
والنباتات وأصبع الابهام وأهمية أن يكون للإنسان خمسة أصابع بدلا من أربعة، وانتصاب
القامة وطولها واضمحلال نهاية الفقرات العصعصية في العمود الفقري (الذيل) لدى
الانسان وانتفاء الحاجة الى الزائدة الدودية في الجهاز الهضمي عند الانسان
لمغادرته أكل النباتات غير مطبوخة كالحيوان تماما وغيرها من أمثلة نجدها في
بيولوجيا الانسان والحيوان وحتى في تغييرات الجينات الوراثية في النبات.
بين هيوم وفيورباخ
أن الفارق الزمني بين ما طرحه هيوم حول لا
فطرية نزعة التدين يشير إلى أن فيورباخ جاءت كتبه الفلسفية حول المادية التصوفية
الميتافيزيقية في التدين كنزعة مكتسبة عن الطبيعة بعد هيوم بفارق زمني يقدر بما
يقارب قرن كامل هي الفترة الزمنية الممتدة بين نهاية القرن الثامن عشر تاريخ وفاة
هيوم ومنتصف القرن التاسع عشر تاريخ وفاة فيورباخ، ليلتقيان بنفس التفسير أن
ميتافيزيقا نزعة التدين مكتسبة وليست فطرية كما وليست نزعة التديّن غريزية تولد مع
الانسان كما هو الحال في غريزة الجنس والتكاثر والحب والاناسة المجتمعية والتصرفات
العاطفية والنفسية التي يكون مبعثها الموّرثات الجينية المكتسبة للفرد من أبويه،
فلا يوجد مسيحي مثلا أو مسلم أو يهودي أو بوذي أو في غيرها من أديان أن أكتسب
الفرد هويته الدينية بالوراثة الجينية عن أبويه بالفطرة الولادية وإنما العامل
الاساس البدئي قديما وفي الأديان المعاصرة اليوم هو تأثير الاسرة في فرضها اولويات
نوع الدين الذين هم عليه ويختارونه قبل وبعد ولادة كل طفل لهما يلقنانه له وتكمله المدرسة ومن ثم رجال الدين
والكتب المقدسة ودور العبادة المخصصة لكل دين.
والفارق الجوهري الذي يمكننا استنتاجه أن
مادية فيورباخ في تأكيده النزعة الميتافيزيقية المكتسبة في التدين منشأها ذاتية
الوعي الانساني المتعالق مع (الطبيعة ) كجوهر انثروبولوجي للدين وقدرة خيال
الانسان تصنيع ألهه بالمواصفات التي يرغبها بضوء تفسيره ظواهر الطبيعة، يتمّثل هذا
في مقولته الشهيرة (إذا أراد الانسان أن يجد الرضا في الله، فيجب عليه أن يجد نفسه
في الله) وربما تكون هذه العبارة لفيورباخ الارهاصة الاولى التي التمعت في أذهان
اسبينوزا وفلاسفة التصوف من بعده حول مذهب وحدة الوجود في الفلسفة والصوفية
الدينية الحديثة.
في حين هذا الفهم أن المكتسب الديني ليس
فطريا عند الانسان الذي أعتمده ديفيد هيوم بفارق لم يذهب مع مفهوم فيورباخ المادي
الذي وجد الدين البدائي يبدأ بفكر الانسان الخيالي بالطبيعة ومنتهيا في الطبيعة
ولا يوجد نزعة تدين لا فطرية ولا مكتسبة لا تعود في أصل نشأتها الى خيال الانسان
وعلاقته بالطبيعة، وبحسب فيورباخ فأن الانسان والطبيعة والله شيء واحد جذرها مخيّلة
انسانية ابتدعتها جميعا ولا يمكن التفريق بينها فالطبيعة هي وعي الانسان بها و
معرفة ذاته، والله أو الخالق الموجد للطبيعة والإنسان هو تجسّيد خيال الانسان في
خلق معبوده المقدس.
الخالق أو الإله المقدس عند الانسان البدائي
في فلسفة فيورباخ هو تصنيع الانسان لذاته وعلاقته المادية بالطبيعة في ابتداعه
بخياله الذكي المنفرد (الهه) في تأمله الطبيعة في وجوده المتعالق بها. ما ذهب
فيورباخ له من بعد هيوم ناشئ من علاقة الإنسان بالطبيعة وهو أكثر مقبولية من ناحية
الوضوح السببي المستمد ماديا من الطبيعة وكيف نشأ التفكير الديني الميتافيزيقي عند
الانسان في مراحله البدئية الأولى. التي مصدرها الطبيعة كمرتكز أساس تنفرع عنه علاقة
الانسان بمحيطه البيئي المحدود اجتماعيا في اكتسابه الخبرة والمعرفة في عصور
تاريخية متتالية عبر التاريخ.
التدين حسب فيورباخ بناء تاريخي انثروبولوجي
أخترعه الانسان وبقي ملازما له عصورا طويلة جدا.. وكل أفكار دينية ميتافيزيقا لا
يعقلها الانسان بقيت الى اليوم مصدرها خلق الانسان البدائي لتدينه الغيبي المستمد
من الطبيعة وأصبحت أديان اليوم مستمدة من وراء الطبيعة ولم يتبدل الإيمان الديني
ولم يغادر وجوده الميتافيزيقي الغيبي الذي لا يخضع لقوانين العقل المادية متأصلا
في نزعة الانسان روحيا.
أن ما يحسب لديفيد هيوم في أنكاره فطرية
التدين في لاهوت الاديان المعاصرة على أنها ليست نزعة وراثية مركوزة ثابتة في
تفكير الانسان بفعل قوى غيبية بل ولا هي حاجة مكتسبة من المحيط الانساني والحياة
ترسّخت عند الانسان بمرور مراحل وعصور تاريخية طويلة لتصبح مع نشوء مفهوم الاديان
الحديثة غريزة متأصلة في حاجة الانسان للتدين والمقدس المعبود..
هيوم كغيره من الملحدين يتطرّف بنزعة التدين
على أنها امتداد العقلية البدائية التي بدأت بالخرافة والسحر والميثولوجيا
والطوطمية والأسطورة انتهاءا بما وصلته اليوم في ثلاثة أديان توحيدية وعشرات بل
مئات من الأديان والمذاهب الوثنية التي تقوم جميعها على الشعوذة والاكاذيب وترسيخ
الجهل والخرافات قبل دخولها مرحلة احتضارها الحتمي نتيجة التقدم العلمي مستقبلا.
هذا الفهم يعتبر في فلسفة فيورباخ في أصل
الدين وحقيقة منشأه ركيزة أساسية مادية أعتمدها من قبله هيوم أن منشأ التدين في
مراحله البدئية الأولى لم يكن فطريا وإنما هو مكتسب بالخبرة والتجربة المستمرة في
محاولة فهم الحياة وموقعة النزوع الروحي الديني عند الانسان في بحثه الدائب عما هو
مقدس يستحق العبادة من الانسان والانقياد الروحي بتسليم غيبي له.
باختلاف بينهما أن المكتسب غير الفطري
التديني عند فيورباخ منشأه التأمل الذاتي للإنسان في الطبيعة ومحاولته تفسيرها
ومعرفة وجوده المتعالق بها.. ما يؤكد هذا المنحى الفلسفي هو أن منشأ التدين
البدائي كان دافعه الاساس خوف الانسان من مظاهر طبيعية التي كان لا يجد لها تفسيرا
لها فقدح تفكيره الذكي لكنه القاصر آنذاك في التفتيش عمن يحميه ويطمئن نفسيته منها،
فعزا تلك الظواهر الطبيعية على أنها من عمل وصنع آلهة تمتلك قدرات لا يمتلكها هو
فهي أقوى منه ومن جميع الكائنات معه في الطبيعة فأخذ يختلقها بخياله التقديسي الإذعاني
لما كان يجهله من أسباب وجودها. يقدسها ويعتبرها آلهة هي من تصنيع خياله الذاتي
ولم تكن نزعة التدين غريزة فطرية تولد مع الانسان بل أصبحت غريزة دينية متوارثة
حين ترسخت بحكم توارث العادات والمعتقدات الخرافية والاساطير لتكون في موقع
الغريزة المصنّعة عند الانسان وليست الفطرية في عصور متعاقبة امتدت الاف لا بل
ملايين السنين. فالفطرة التدينية عند الانسان ليست غريزة بالولادة ولا هي غريزة
فطرية مكتسبة من المحيط بل هي نزعة دينية واستعداد ميتافيزيقي في الانسان تبدأ في
عملية تربية وتعليم وتلقين لما يعرف من أديان متنوعة معاصرة في داخل الاسرة والمدرسة
وفي أماكن إقامة الصلوات الاسبوعية وفي المناسبات والاعياد والزواج وغير ذلك من
تثقيف الكتب المقدسة ورجال الدين...
بين ماركس وفيورباخ
إن ثورة ماركس الغاضبة تجاه مادية فيورباخ
التدينية التصوفية التي أعتمدها ماركس في كتابه (أطروحات حول فيورباخ 1888م) ورغم
الاختلاف بينهما فأن ماركس لم ينكر على فيورباخ المادية التي تبناها بعد انتزاعها
وتخليصها من بعدها التصوفي الميتافيزيقي الذي زجّها بها فيورباخ في مستنقع
الميتافيزيقا التصوفي. بنفس الوقت الذي أخذ ماركس منهج الديالكتيك عن هيجل دونما أنكاره
هو وإنجلز فضل هذين الفيلسوفين العبقريين (هيجل وفيورباخ) عليهما. واعترف ماركس
بصريح العبارة على أنه تلميذ لهذا العبقري العملاق هيجل على حد تعبيره. ومعروف أن
كل من ماركس وفيورباخ تتلمذا على هيجل قبل انفصالهما عنه.
ماركس
لم يدن (يدين) المادية كمنهج أعتمده فيورباخ في استكماله وضع قوانين تطور المادية
التاريخية على أساس تفاوت (طبقي) مجتمعي متضاد بخلاف فيورباخ الذي كان يهدد مادية
ماركس التاريخية بأنه أراد تفسير السيرورة التاريخية من منطلقات لا تتغاضى عن تطور
المسألة الدينية الروحانية أكثر مما أراده ماركس في أن تكون مادية التاريخ الجدلية
قائمة على تناحر طبقي وتضاد اقتصادي سياسي خالص بين من يملك وآخر لا يملك، بين قوى
الانتاج ومالكي وسائل الانتاج وعلاقات الانتاج غير المتكافئة ولا موقع للدين في
تصنيع السيرورة الخطيّة الحتمية في تقدم التاريخ الانساني مطلقا وألا كانت انحدرت
المادية التاريخية الى ترسيخ ديالكتيك هيجل المثالي الذي يتقاطع مع السيرورة
التاريخية طبقيا واجتماعيا التي التزمها ماركس في المادة والتاريخ وليس كما اعلن
عنها هيجل على صعيد التفكير الفلسفي المتجرد عن الواقع. لذا وقف ماركس بشدة في أدانته
ديالكتيك هيجل المثالي ومادية فيورباخ الصوفية، معتمدا المادية والديالكتيك المادي
الماركسي في صياغته قوانين الجدل التي تحكم المادة والطبيعة وتحكم التطور التاريخي
معا. وهي القوانين الماركسية الكلاسيكية الثلاث المعروفة. قانون وحدة وصراع الأضداد،
وقانون تحول التراكمات الكمية الى كيفية (نوعية) والقانون الثالث والاخير قانون
نفي النفي في استحداث الديالكتيك للظاهرة الجديدة التي تحمل نقيضها بداخلها.
الفطري والمكتسب
يمكننا القول أن كل ما هو فطري (غير غريزي)
عند الانسان ليس هو نفسه الفطري الغريزي عنده ونوضح هذا التفريق أن الفطرة
الغريزية للأفكار والمعتقدات والسلوك النفسي والعاطفي وغيرها من موروثات جينية
يكتسبها الانسان بالولادة هي مكتسبة عن المحيط والتجربة وتراكم الخبرة في جينالوجيته
الاصولية الموروثة أجيالا بعدها أجيال كخصائص نوعية تلازم الانسان الفرد فطريا
بالولادة في مسائل تخص الخصائص النوعية البيولوجية وتبعاتها النفسية والوجدانية، كغريزة
الجنس والتكاثر، والغريزة الاجتماعية، والضمير وغيرها.
أما الفطرة غير الغريزية الدينية على وجه
التحديد أي التي لا تلازم الانسان بالولادة فهي في أصولها الجذرية أيضا خبرة مكتسبة
أصبحت في حكم التطور الخبراتي عبر عصور تاريخية طويلة من عمر الانسان التاريخي
الانثروبولوجي وبحكم العادة البديهية المستحكمة لها عند الانسان في مسألة التسليم
بحقائقها الذي سبق الايمان الغيبي الفطري في المعرفة القطعية بصحتها..
وحين نؤكد سلامة ما ذهب له هيوم في عبارته
السابقة حول التدين أنه ظاهرة مكتسبة وليست فطرية، هو الاقرار بحقيقة أن كل نزعة
دينية أو غير دينية مترسبة في الوعي الجمعي أنما تعود بالأصل الى كونها مكتسبة
معرفيا مستمدة من تجارب الحياة ونزوع الانسان نحو روحانية مبعثها البيئة والمحيط
والطبيعة والحياة وليست نزعة فطرية تداخل وجود الانسان في الطبيعة على أنه كائن
تديني بالفطرة منذ ولادته في نزوع غريزي مزروع في خلايا تفكيره وينمو بنمو الانسان
وتراكم خبراته وتجاربه وعمره زمنيا.
لذا لا يكون كل ما هو فطري غريزي موروث
بالولادة مكتسب عن الوالدين من خصائص ليس الدين من بينها أنما تتكون خصائصهما
الجينية الوراثية جيلا بعد جيل، فهي وأن كانت موروثة عن أبوين سابقين لهما وهكذا
عن أبوين سابقين قبلهما ألا أن كل تلك المورّثات التي أصبحت فطرية جينيا أنما هي
في جينالوجيتها السحيقة تاريخيا مكتسبة من الطبيعة وحياة الانسان المتطورة
انثروبولوجيا...
وليس كل ما هو فطري غير غريزي موروث بالولادة
أيضا لا يكون في جذره السحيق تاريخيا غير مكتسب. بل كلاهما الفطرة الموروثة
الجينية الغريزية والفطرة الموروثة غير الغريزية عند الانسان كلتاهما مكتسبتان
بالخبرة العملية في تطور مسيرة الحياة عبر العصور الطويلة قبل ظهور الاديان المعاصرة.
فلا وجود أفكار فطرية غير مكتسبة مزود بها الانسان تولد بميلاده.
الافكار الفطرية ليست هي تخليق العقل لها
خارج منطقه العلمي مستوحاة من مصدر ألهي أو ميتافيزيقي. والعقل لا يقوم بتخليق أفكار
فطرية من دون وعي مكتسب سابق ومستمد من الواقع والحياة والطبيعة والانسان.
النزوع الفطري ليس إلهاما ميتافيزيقيا من دونما
خلفية خبراتية تراكمية مكتسبة عبر الزمن ليكون في مقدورها التداخل مع معطيات مادية
خارج التفكير العقلي الباطني تحتاج تجاوبا انسجاميا في تداخل معطيات العقل الفطرية
معها والدخول بعلاقات تخارجية معرفية تبادلية معها. الفطرة الغريزية هي مكتسب
وجودي كجزء حيوي من تكوين الانسان بما هو انسان يتوارث صفاته الجينية بالولادة
الفطرية، وبهذا المعنى لا يمكننا الجزم بوجود فطرة غريزية غير مكتسبة من خبرات
خارجية أو فطرة غير غريزية مستمدة من الخبرة في تجارب الحياة لا يكون مصدرها
الاكتساب المعرفي بالتعلم التراكمي والكيفي لها وليس وجودها المعطى الفطري المجاني
المجهول مصدره الذي يلازم ولادة الانسان وهو يحمل مورّثات جينية فطرية في أن يكون
كائنا متدّينا. فالتدين الانساني بالولادة عندما يرث تدينه عن أبويه يهوديا أو
مسيحيا أو اسلاميا أو وثنيا أو ربوبيا أو أي نوع من التدين المتوارث لا يعني هذا بالمطلق
أن يكون الدين هنا نزعة فطرية وجزء من تكوين الانسان البايولوجي والروحي النفسي وحاله
يكون وينطبق مع كما يرث الانسان تقاطيع الوجه ولون العينين والبشرة وغيرها. فهذا
ما لا ينطبق على نزعة التدين أنها فطرية وليست مكتسبة عند الانسان. فالضمير الاخلاقي
مثلا عند الانسان مؤنسن بحب الخير والصلاح بالحياة وغالبية النزوعات الروحانية عند
الانسان أنما يكتسبها الفرد من الاسرة والمجتمع ولا تلازم الانسان كفطرة مستكملة
لشروط الاستكانة والتسليم لها في أعتبارها من مسلمات الحياة الثابتة التي تلازم
الانسان منذ الولادة. بل أن كل نزوعات الانسان التي تتأصل فيه طبيعيا لاحقا هي
استعداد يتم صقله وتجذيره بتلقين اللاهوت الديني لكل معتقد ديني أو مذهب بدءا من
الاسرة ثم المدرسة ثم رجال الدين.
بهذا المعنى يكون ما هو فطري عند الانسان لم
يتخّلق كعنصر فاعل حيوي في تكوين الانسان لما هو فطري بالذاكرة من دون مرجعية
استنادها أن تقوم على ما هو مكتسب بالتجربة والخبرة ليصير بعدها نزوعات دينية
يقينية قطعية على أساس أنها ليست فطرة روحانية ميتافيزيقية متأصلة بالإنسان والا
لما كنا وجدنا ملايين من البشر اليوم لا دينيين ولا يؤمنون بالرب الخالق للكون
والحياة والانسان.
مقارنة ختامية
لا توجد في الانسان أفكار ندعوها فطرية حتى
الجينية المتوارثة منها ليست في حقيقتها غير مكتسبة من الحياة والطبيعة ولا تقوم
على غير أحد المبدأين التاليين:
-
الفطرة الانسانية الجينية لا تكون معطى وجودي
يلازم الانسان منذ الولادة بل هي مكتسب توارثي حتى على مستوى الموّرثات الجينية،
والفطرة الغريزية مثل حب الخير وتقاطيع الوجه ولون البشرة ويقظة الضمير، والأنسنة
الطبيعية والاجتماعية، والذكاء، والعواطف، والقدرة على التفكير والاحساس بالزمن جميعها
حتى في حال اعتبارنا لها معطيات فطرية موروثة مصدرها تخليق العقل لها بقدرات إلهية
ميتافيزيقية غير مدركة عقليا ولا منظورة أنما هي تعود بالأصل وترجع الى أنها نزعة
مكتسبة بالخبرة والتعلم من الحياة قبل أن تصبح بمرور الأجيال نزوعات فطرية لا دور
للتعلم والخبرة في اكتسابها غير التهذيب لها وصقلها بما يلائم مستجدات كل عصر. كل
نزعة في الانسان فطرية وغير فطرية هي حاجة مكتسبة سعى الانسان خلقها وايجادها.
-
أما الفطرة الانسانية الغريزية المستمدة من
البيئة والمحيط وتطور الحياة فهي ليست فطرية بمعنى تخليق واستيلاد العقل الانساني
لها من عدم قبلي يسبقها بل هي ايضا مستمدة من خبرات تراكمية معرفية عبر أجيال
لتكون معالم مميزة من التفكير والسلوك العفوي لدى اجيال لاحقة في اعتمادها مرجعية
العقل في تخليقها على أنها مسلمات معرفية فطرية مكتسبة وليست موروثة ولا تداخل
ميتافيزيقي غير مستمد من الواقع والتجربة في صدورها عن العقل. فهي تكون فطرية متوارثة
جيلا بعد جيل لكنها في جينالوجيتها أيضا مكتسبة عبر تعاقب خبرات أجيال بما يجعل
منها مسلمات فطرية ليس مصدرها تصنيع الذاكرة الانسانية بوحي ألهي مجهول لها قبل اكتسابها
بميلاد الانسان كصفات معرفية فطرية مركوزة في العقل يهتدي الانسان بها في مواجهته
العديد من أمور الحياة. وتصبح تلك المعارف التي نطلق عليها صفة الفطرية أنما هي
مسائل مكتسبة جيلا بعد جيل استوطنت الذاكرة الانسانية وأصبحت معارف فطرية ليست
بصفتها الغريزية، وإنما بصفتها المكتسبة المتوارثة عبر أجيال. غرائز الانسان التي
نعتبر مصدرها الفطرة الايحائية الالهية ما فوق العقل لا وجود حقيقي لها من غير
واقع مادي استمدت اصولها منه وأعادته اليه ثانية في الاعتقاد بما اكتسبته من
الحياة عبر العصور الطويلة.
نخلص أن كل أفكارنا
الفطرية بالحياة التي نعتبرها معطى فطريا من تخليق العقل لها ذاتيا أنما هي في
حقيقتها الجوهرية تعود بالأصل إلى جينالوجيتها الوراثية المكتسبة أصلا، بأنها معارف
مكتسبة وليست ابتداعات من تخليق العقل الخالص بوحي الهي يركزها بالعقل...والفطرة
الدينية ليست غريزة تحكم الانسان بالحياة كمسلمات لا يطالها النقد والتخطئة فليس
كل ما نعزوه للفطرة يكون صادقا في تطبيقه الواقعي بالحياة، وطالما كانت الفطرة
غريزة مكتسبة من الحياة فهي تحمل معها نقائصها العديدة أن لا تكون مسلمات صالحة
لكل زمان ومكان لا تخطيء بل هي عادات تواضعت عليها أجيال أنها فطرة انسانية مركوزة
عند كل انسان نتيجة تراكم معرفي.
من غير
المقبول أن الافكار الفطرية هي صفات ماهوية للإنسان كنوع لا تقبل الخطأ. كما ليس
كل الافكار التي نعزوها للفطرة لا تحتاج البرهنة على صحتها ومعقولية صوابها. وكل
ما هو فطري نعتبره من تخليق العقل الخالص المتعالق مع المورثات الجينية أنما هو
حصيلة تراكمات من التجارب والخبرات المكتسبة على مدى أجيال وما هو فطري بمقاييس
عصر ما لا يكون فطريا مسلما به في مستقبل عصور لاحقة. وأبسط مثال انتصاب القامة
عند الانسان الذي هو اليوم صفة موروثة جينية لم تكن في حياة الانسان البدائي كذلك.
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية
0commentaires:
إرسال تعليق