بول ريكور: تأويل خطاب ما بعد البنيوية

                 بول ريكور: تأويل خطاب ما بعد البنيوية
د علي محمد اليوسف                                                           12 مارس 2020                                                            
سؤال فلسفة اللغة
يطرح بول ريكور تساؤله اللغوي الفلسفي المزدوج (كيف يكون الخطأ ممكنا إذا كان الكلام دائما يعني أن نقول شيئا؟ فكيف يمكننا أن نقول ما ليس بشيء.؟
ويعبر افلاطون عن هذا المعنى الوارد في تساؤل ريكور (الكلمة بذاتها ليست صادقة ولا كاذبة برغم أن تشكيلة الكلمات قد تعني شيئا ولا تدل على شيء )1، ويضيف بول ريكور تعقيبا على أفلاطون أن حامل هذه المفارقة هو الجملة وليست الكلمة.. لكن هذا لا يلغي تساؤل ريكور استغرابه كيف يمكننا أن نقول ما ليس بشيء؟
مقاربة أولية الخطأ في تعبير الكلام واللغة عموما لا عصمة من الوقوع فيه ولا عصمة من الوقوع في منطقة قطبي التجاذب الرمادية بين الصدق واللاصدق في تعبيراتنا الكلامية والخطابية، ولا يكون التعبير عن الشيء لغويا قاصرا ولا صادقا كافيا بمعزل عن أدراكه الحسي والعقلي الناقص بالضرورة.. بمعزل عن قصور تعبير اللغة عنه إذا جاز لنا فصل اللغة عن الفكر في المنتج العقلي إدراك الاشياء.
أننا تعودنا أن نفهم التعبير عن الشيء لغويا صحيحا في حال مطابقة اللفظ مع مدلوله المدرك واقعيا، أي مطابقة ما في الأذهان (الفكر) مع ما في الاعيان بتعبير لغة المناطقة، نلاحظ ذكاء تعبير المناطقة مطابقة ما في (الاذهان) الفكر وليس مطابقة ما في (اللغة) مع ما في الاعيان من أشياء في عالمنا الخارجي رغم التداخل المستحيل انفكاك اشتباكه بينهما (بين اللغة والفكر)..
هنا ما يقصده المناطقة هو التطابق في معنى الادراك وليس التطابق في تعبير اللغة عن الاشياء مع حتمية التداخل العضوي بينهما الذي لا يمكن فصله بسهولة.. فالإدراك هو الوعي العقلي بالشيء لذا يتعذر فصله عن لغته في التعبير عنه.. واللغة لا تعبّر عن شيء لا يدركه العقل.. لذا يكون سهلا تلبية رغبة ريكور استحالة التعبير بالكلمات عن شيء لا معنى له.. ونصادر دهشته الاستغرابية في تعبيره كيف لنا التعبير عن شيء لا معنى له..
هذه المقولة تعطينا فسحة كبيرة أن الخطأ في عجز التعبير عن الشيء كما هو في حقيقته وتمامه ليس سببه عجز اللغة فقط وإنما عجز الذهن(الدماغ) أيضا في عدم إحاطة التعبير اللغوي الإجمالي عن الشيء إحاطة حقيقية تماما، وإذا عدنا الى مسلمة أن الذهن وسيلة تفكيره العقلي (الفكري) هو اللغة في تمثلاته الصورية لمدركات الواقع والخيال أصبح معنا إشكالية من يتحّمل مسؤولية أن بعض ما نقوله لغويا ليس صادقا وليس كاذبا في ذات الوقت؟ هل هي مسؤولية اللغة أم العقل؟ في تعييننا الشيء المقصود في عالمنا الخارجي وهذا غير كاف لحسم إشكالية ألا نكون مخطئين ولا صادقين في تعبيراتنا اللغوية عنها..
دلالة اللفظة أو الكلمة وحتى العبارة في حال سعينا مطابقتها مع الشيء كموجود مادي متعيّن لا يكون بالضرورة كافيا أننا عبّرنا عن ذلك الشيء في معرفتنا حقيقته. واحتمال أن تكون تلك المطابقة زائفة خاطئة وارد جدا.. فالتعبير عن الشيء لغويا لا يعني معرفته بل يعني أدراكه فقط ومعرفة الشيء هي غير أدراكه الحسي.. ليس في مقايسة خداع الحواس لنا فقط بل بأكثر على صعيد عجز اللغة التعبير عن مدركات العقل معرفيا وليس موجوديا (انطولوجيا) في عالم الاشياء.. في أدراك صفات الاشياء وخواصها الخارجية الفيزيائية المتاحة وما هو غير متاح أدراكه ولا معرفته هو الأكثر المتبقي في الشيء المدرك من قبلنا خارج قصور أدراكه المعبر عنه باللغة والفكر.. والكلام حين يقول شيئا منطوقا لا يكون معصوما من خطأ ألا يكون ذلك الكلام لا يحمل معنى كاف في تعبيره عن مقصوده تماما في كل موجودات وشؤون الحياة. أدراك الشيء والتعبير عنه لغويا لا يعني ذلك معرفته حقيقة.. أدراك الشيء هو أولى مراحل معرفته.. وليس أجمالي تمام معرفته..
أما الإشكال والمأزق الحقيقي الذي طرحه ريكور في شطر تساؤله المار بنا هو كيف وهل نستطيع التعبير بالكلمات عن (اللامعنى) أي عن شيء بلا معنى؟؟ وهل هذا المطلوب واردا في صياغته الفلسفية المعجزة التي تدخلنا في متاهة من التحليل غير المجدي في اشتباك وجود الشيء وتعبير اللغة عنه وأدراك العقل له، منظومة ثلاثية متعالقة ومتداخلة ليس سهلا الجزم بأهمية وأولوية من هو المسؤول فيها عن تعبير الانسان اللغوي وأين مكمن الصدق بين هذه المنظومة ثلاثية الابعاد..
لغة الشعر وهذاءات الجنون
الحقيقة هذا التعالق اللغوي التلفيقي بين الشاعر والمجنون كتبت في توضيحه مرات عديدة في ثنايا مقالاتي ومباحثي الفلسفية وما يدعوني تكرار التداخل هو استحضار بول ريكور لهذا التعالق استشهادا منه بكل من هيدجر وفوكو أن لغة الشاعر تتماهى مع لغة المجنون في تعبيرهما عن حقيقة عالمنا الزائف ونشدانهما تحقيق عالمنا الأصيل.. وناقشت هذا الادعاء في مقالتي المنشورة (البنيوية: الإنسان خارج منظومة الحياة).
ولم يكن تعبير هيدجر وفوكو عن هذا المعنى مستمدا من تحليل سايكولوجي يقوم على تغليب اللاشعور في تعبيري الشاعر والمجنون من حيث هو عند الشاعر لاشعور سليم غير مرضي مسيطر عليه لغويا شعريا بينما يكون اللاشعور عند المجنون مرضا عقليا وانفصاما ذهنيا ويعتبر ما ينتجه لاشعوره من هذاءات صوتية ليست لغة ولا معنى لها كتداعيات لاشعورية أيضا وتوصيف (لغة) المجنون تعبير خاطئ تماما أوضحه لاحقا.. لا ينتظم الفكر فيه – في اللاشعور الذي هو تداعيات من الهلوسات الاعتباطية التي تلغي رقابة العقل عليها وتنظيمها - ولا تستطيع اللغة الافصاح عن نفسها في اللاشعور بنظام استقبالي مفهوم من غيره..
لقد مزج هيدجر وفوكو تجربة لغة الشاعر الألماني الذي تقمّص حالة الجنون هولدرلين وسميت تجربته تلك (تنويعة هولدرلين) مع لغة المجنون على أنهما تعبير أصيل عن حقيقة الوجود. طبعا بعد تجربة هولدرلين الجنون الذي أراد معرفته كتجربة في فهم الوجود والتعبير عنه (جنونا) أودى به بالنهاية الى جنون مطبق لم يستطع الخلاص أو الخروج منه.
لكن علينا في حرارة الاطلاق الفلسفي الذي طرحه كلا من هيدجر وفوكو في استحصال مثل هذا الاستنتاج الافتعالي كمسلمة فلسفية وجوب الترّيث والتفريق أولا بين لغة الشاعر وهذاءات المجنون التي هي ليست لغة في كل المعايير الفنية والنحوية في تعريف معنى اللغة.. ولا غبار أو مثلبة على حقيقة الاقرار أن الشاعر يخرق النظام اللغوي التداولي التواصلي(الطبيعي) بتعبيره الشعري القائم على تفكيك مألوفية نظام اللغة النسقي المعهود في الخطاب الجمعي التواصلي عن قصد يدخل في صميم الشكل الجمالي الذي نجده بلغة الشاعر..
فالشعر الحديث والمعاصر عربيا وحتى عالميا خرج على المواضعات اللغوية القارة في الموروث الشعري الكلاسيكي على أنه نمط من تعبير اللغة الموزون المقفّى موسيقيا الذي يمتلك خاصيتي الخطابة والانشاد الغنائي أذ كانت أرجحية الالقاء الشعري على كتابته التداولية القرائية لعصور طويلة سائدا.. فخرق النظام النسقي المألوف في اللغة عند الشاعر لا تكون فيه اللفظة والعبارة الشعرية  تدل على مطابقة الشيء في وجوده المادي بالعالم الخارجي.. والمجاز البلاغي تنحسر حريته في تعبير الشاعر بلغته الخاصة غير المالوفة.. فالشاعر يستخدم لغة الاشارة والرمز والعلامة والاستعارة والمجاز والتأويل والبلاغة والكناية والتوليد والتركيب والترادف والغموض في نظام اللغة الشعرية خارج المتعارف عليه في كلامنا وخطابنا التواصلي الجمعي مجتمعيا.. وبهذا يكون الشعر قولا غير نثري ولا سردي يشبه الكلام العادي بل لغة نوعية خاصة بتراكيبها المنظومية الافصاح عن دلالاتها وعوالمها الخيالية جماليا فنيا تجعل من الشعر تعبيرا تشكيليا لغويا خاصا وليس كلاما شفاهيا استهلاكيا يتلاشى في مخاطبة مجتمعية..
ولا يلزم الشاعر من ذلك أن تكون لغته الشعرية مفهومة استقباليا من أول وهلة عند سماعها مثلما كان الشعر العربي تحديدا هو شعر خطابي غنائي تطرب له الاذن وتستمتع به الذائقة الاستقبالية الفطرية المباشرة لإنشاده والتغني به كمؤنس للنفس وترويحا للقلب في مزجه ما بين الواقع والخيال.. وهذه الميزة لا تزال سارية المفعول في قراءة معظم شعرنا قديما وحديثا القائم على الالتزام ببحور الشعر من وزن وقافية ونبرة غنائية موسيقية وخطابية منبرية عالية.. فيما اندثرت هذه الميزة الإلقائية تقريبا في الشعر العالمي الذي أخذ منحى التوصيل الفكري الجمالي الشعري كتابة وليس إلقاءا ألا في النادر القليل.. خير مثال نسوقه هنا حول هذه الظاهرة بما يخص الشعر العربي عندنا اليوم هو تراجع ميزة الالقاء الخطابي الغنائي في شعر الفصحى مقارنة عنه في الشعر الشعبي الذي هو في صميمه شعر تعبوي خطابي يقوم على الالقاء تأثيريا سماعيا استقباليا أكثر من كتابته تواصليا..
ونعود الى تفكيك اللغة وبعثرة انتظامها النسقي في الشعر الحديث التي هي قصدية جمالية - فكرية يريد الشاعر بلوغها كشكل مجدد في تعبير اللغة ومنحها معان غير مسبوقة في تلازم الشكل الجديد مع محتواه المضموني المرافق له.
أما هذاءات المجنون فهي أصوات عشوائية لتداعيات اللاشعور يطلقها صاحبها في عجزه التعبير عما يرغب توصيله لغيره، وهي هذاءات تخرق نظام الكلام السمعي الجمعي في عدم مطابقة المنطوق مع دلالته المادية أو المدركة في عالمنا الخارجي.. ونستقبلها – أي هذاءات الجنون - كتداعيات غير مفهومة يفرزها اللاشعور وغياب العقل عند المجنون.. الذي لا تؤطر هذاءاته الصوتية ولا تأخذ شكلا لغويا كما هو الحال مع تفكيك الشاعر لنظام اللغة فنيا جماليا.. وهي عند المجنون بالمعنى الدقيق أصوات لا تمت للغة بصلة لا شكلا ولا مضمونا.. وتفكيك نظام اللغة لدى الشاعر لا يشبهه أبدا تكسير نظام اللغة وتشتيتها كمفردات لا تجانس صوتي لغوي يجمعها بهذاءات المجنون على أنهما تعبير لغوي واحد (لغة الشاعر وهذاءات المجنون في اختلافهما الجوهري) كما يرغبه كل من هيدجر وفوكو...
لذا فمقولة هيدجر وفوكو الموحدة حول حقيقة لغة الشاعر تلتقي لغة المجنون في تعبيرهما عن وجودنا الاصيل والحقيقي بالحياة غير دقيقة ولا صحيحة من الناحية الفلسفية المنطقية ولا العلمية التخصصية بطب علم النفس.. إلا في حالة واحدة فقط هي عندما نكون على دراية تامة أن واقعنا وعالمنا المعيش الذي نحياه هو غير حقيقي بالمدرك العلمي وليس بالتعبير الفلسفي المجرد ويحتاج لغة خارج المدرك المتداول التعبير عنه وبهذا استحالة معرفية كوننا لا نتملك المعيارية الموثوقة بالتسليم لمثل ذلك الافتراض في وجود عالم حقيقي أفضل نطمح تحققه بلغة الشاعر وهذاءات المجنون الهلاوسية وليس بغيرهما... ويبقى طموح الوصول الى عالم حقيقي أصيل لمثل هذا المتخيّل مرهون في تعبير الشاعر والمجنون حصرا بهما عنه طموح قاصر غير مقبول ولا قابل التحقق منه كونه لا يدرك وجوده الحاضر الزائف كي يسعى استبداله بالحقيقي الاصيل الغائب. في فقداننا معيارية الاصالة الحقيقية عن الوعي الزائف الذي لا طائل ولا معنى وراءه..
ربما يكون معنا استدراكا مقبولا أذا ما اعتبرنا الشاعر يمكنه التعبير عن عوالم بديلة لعالمنا الذي نعيشه، وأن لغته الشعرية هي عوالم من اليوتوبيات الجميلة التي تريحنا يقيمها الشاعر على أنقاض عالمنا الحالي البائس الزائف الذي نعيشه رغما عنا.. وهذا لا ينسحب على قدرات المجنون المقّيدة بهذاءاته كون المجنون لا يهرب من واقعنا الذي هو أساسا غير مدرك من قبله كي يرفضه لا في سويته الطبيعية ولا في زيفه الواجب التغيير في محاولته أعطائنا البديل الأفضل في واقع يخترعه المجنون لنا.. كما أن لغة الشاعر في نشدانها عالم حقيقي أصيل يصبح متاحا بمجرد التعبير عنه بلغة الشعر والجنون هو طموح لا واقعي ولا يحتمل حضوره... تحقيق عالم أنساني أصيل هو تظافر جهود العلم والمعرفة والفلسفة والسلوك والاقتصاد والارادة وغيرها من عوامل مشتركة متداخلة.. محاكمة الافكار الفسفية بمنطق العلم النفسي الطبي في معالجة ظاهرة التعبير اللغوي في الجنون قد لا تبدو مستساغة في تمرير ما ترغبه الفلسفة من أمور فلسفية وأفكار تجريدية لا تصمد علميا..
كما قلنا ونعيدها ثانية هذاءات الجنون هي أصوات ليست لغوية وإنما هي تداعيات هستيرية لا يمكننا تصورها ولا استقبالها ولا فهم المراد المقصود منها.. وهي خروج تام وليس جزئي على نظام اللغة المألوف وخرق قوانينها دونما توّفر الوعي القصدي ولا الهدف المنشود على اختلاف مع الشاعر الذي يخرق قوانين اللغة العادية بوعي قصدي ينشد أن تكون اللغة الشعرية شكل جمالي قبل أن تكون ملفوظات تعبيرية لغوية أو مكتوبة تعبيريا لا تخرق النظام اللغوي الاستهلاكي الذي يتعمده الشاعر..
الكلمة ومغزاها
الكلمة كمفردة لغوية منطوقة أو مكتوبة قصدية لا تكون صادقة ولا كاذبة ألا إذا وردت ضمن سياق منظومة لغوية متماسكة على الاقل في جملة تمثل جزءا من خطاب أو نص.. وأخرج فينجشتين كل ملفوظ لغوي من أهميته ومعناه لا يكون جزءا تعبيريا مصدره وغايته مجرى الحياة مفضّلا عليه الصمت في عجز اللغة أن تكون وحدة بنائية تستمد حيويتها من طبيعة الواقع المعيش.. وإلا كانت المفردة اللغوية أو العبارة ضربا من الهلوسة اللغوية التي لا معنى لها ولا فائدة مرجوّة منها..
وإذا ما كانت العبارة أو الجملة هي وحدة علاقات بنيوية ضمن منظومة نسقية لغوية تستوعب محمولاتها من المعنى العام بانتظام المفردة ضمن ترصيف بنيوي متماسك، يصبح الخطاب في فلسفة اللغة في مفهوم ما أطلق عليه فلاسفة اللغة التحوّل اللغوي في الفلسفات البنيوية والتحليلية والتفكيكية والتأويلية والعدمية وغيرها في تجاوزهم أن يكون خطاب اللغة تعبيرا عن العالم الخارجي بضمنه الانسان كموجود محوري في الحياة والتاريخ..
وحسب التفريق الارسطي بين الاسم كمفردة نحوية لغوية وبين الفعل أيضا كمفردة نحوية تكون (ميزة الاسم أنه مدلول لمعنى، بينما يكون الفعل فضلا عن انطوائه على معنى فهو يشير الى زمن حدوث الفعل )2 عندنا في العربية ماضي وحاضر ومستقبل للتفريق أن الفعل هو غير سمة الاسم الذي يحمل معنى في الدلالة على شيء لكنه أي الاسم لا يمتلك تزمينا (زمن مؤقت) كما هو الحال مع الفعل فهو يشير الى معنى زائدا عليه زمن وقوع ذلك المعنى..
اسم الشيء دلالة لغوية كافية في التعبير عن شيء موجود متعين مادي أم خيالي.. أما الفعل فهو أضافة محموله لمعنى ألا أنه يشير الى (تزمين) لا يتوفر عليه الاسم.. فالاسم معرفة لغوية عن الشيء لا تمتلك تزمينا كما هي الحال مع الفعل عندما نقول كرة فهي أسم للدلالة على موجود مادي محسوس.. وفعل (نلعب) فهو دلالة لمعنى اللعب مضافا لها (زمن) اللعب فالاختلاف بينهما كبير.. وترابط نوعية دلالة الفعل وتزمينه مع الاسم كموجود مدرك في تعدد ورودهما ضمن تعبير عبارات وجمل يتشكل منها خطاب لغوي.. ويشير بول ريكور الى (أن الشفرة اللغوية - المقصود بها عوالم النسق الداخلية في أنفصالها التام عن العالم الخارجي - هي التي تضفي البنية المحددة على الانظمة اللغوية التي نعرفها بوصفها لغات متعددة متكلمة تتعلمها جماعات لغوية مختلفة، عليه لا تعني اللغة هنا القدرة على التحدث ولا الكفاءة المشتركة على التكلم بل تشير الى البنية الخاصة للنسق اللغوي الخاص بها.)3
نفهم من هذا أن ريكور يعتبر النسق اللغوي الداخلي هو منظومة الخطاب المعوّل عليه ولا يكتسب خطاب اللغة أهميته من القدرة على التحدث وإنما من فعالية تأثيره ضمن تشكيله بنى نسقية خاصة بعوالم داخلية لا يستمد الخطاب منها دلالاته ولا (محمولات معانيه الا بمقدار أن تكون لغة خاصة تهم مجموعة بشرية في مجتمع معين)4.. في هذا نفهم قصدية ريكور أن خطاب جماعة مجتمعية معينة لا تشكل خطابا معرفيا ثقافيا لتلك المجموعات، بل تشكل ظواهره نظاما لغويا يستهلك نفسه بالحوار والمحادثة ورتابة الحياة اليومية وحل مشاكلها وقضاء حاجاتها التي تحكمه في ظاهره ولا تحكمه في بواطنه ومدلولاته العابرة للاستهلاك الزمني كحوار.. إلى منظومة لغوية داخلية في تشكيل عوالم خاصة بها لا علاقة تربطها بالواقع العياني لموجودات العالم الخارجي..
مقومات علم اللغة في البنيوية
1.المقاربة التزامنية – في البنيوية - يجب أن تسيق أية مقاربة تعاقبية لأن الانظمة والانساق يمكن فهمها وتعّقلها أكثر من المتغيرات. 5
التعاقب الزمني الذي يقوم على الصيرورة المستمرة الدائمة كحوادث ووقائع تكون بمجملها تشكيل عوالم لغوية ليس بالضرورة معبّر أمين عنها هي في واقعها ثبات مرحلي لموجودات يطالها التغيير المستمر، يختلف ولا يشبه التزامن الذي تحدده اللغة بحدود أكثر من حدث تزامني متواشج ضمن نظام لغوي وأنساق لغوية أكثر من أمكانية رصده كتعاقب تزميني في عالم الاشياء.. التعاقب في تعبير اللغة هو نسق لغوي داخلي في التعبير عن موجودات محكومة بثبات نسبي محكوم بعوامل خارج فاعلية اللغة الاهتمام به، على خلاف التزامن الذي يرصد ويتعامل مع متغيرات يحدها الزمن ولا يحدها الوجود الحسي الادراكي لها خارجيا، أي خارج اللغة وليس خارج الزمن الادراكي لها..
2. ليس لأية وحدة منخرطة في نظام معين معنى مستقل، بل هي تستمد معناها من النظام ككل، الكلمة المنفردة ليس لها معنى في ذاتها، بل تستمد معناها من الوحدات والكلمات الاخرى المجاورة لها في السياق التي ترد فيه.6
بحسب دي سوسير وبضوء تعابير ريكور ليس للكلمات قيم إيجابية أو وجود مادي في نظام العلامات بل هناك فروقا تجعل من علم اللغة علما يهتم بالخواص الشكلية للغة في مقابل الخواص الجوهرية، أي الخواص التي تضفي وجود قيم إيجابية مستقلة على المفردات اللغوية تراهن عليها اللغة أو علم الدلالة السيمياء بشكل عام، هنا يظهر لدينا التعارض الجلي الواضح حين تكون المفردة اللغوية هي قيمة إيجابية لمعنى شيء محدد بخلاف ما تريده البنيوية في تجريدها المفردة عن المنظومة الواقعية وسحبها الى مصاف التجريد النسقي السيميائي الذي يعول عليه علم اللغة في البنيوية والتأويلية.. بمعنى أكثر وضوحا النسق اللغوي الدال لمعرفة الخارج الواقعي لا قيمة حقيقية له في سيمياء علم اللغة الذي يهتم بإيجاد علاقات لا ينتظمها واقع الحياة بما هي بل منظومات علاقات داخل تشكيلات بنية اللغة.. ودلالة المعنى المراد من المفردة لا يحمل واقعية المردود السيميائي لها وإنما يكون في وضعها ضمن نطاق شكل السياق الذي ينتظمها بعيدا عن معناها غير المتحقق في العالم الخارجي.
3.في الانظمة المحدودة – منظومات الدلالة اللغوية - تكون جميعها ضمنية في داخلية أي بمعنى علاقة اللغة بالواقع الخارجي غير السيميائي منفصمة لا علاقة ترابطية بينهما..7 ولا غرابة بذلك عندما نعرف أن انفصام العلاقة أن يكون الخطاب اللغوي ليس تعبيرا عن واقع وانما هو نسق ضمني يقوم ببناء علاقات داخل منظومة لغوية لا علاقة لها بالعالم الخارجي بل توازيه.. من هنا تكون الأنظمة السيميائية اللغوية هي أنظمة مغلقة تكون فيها علاقة اللغة بالواقع منفصمة هي من صميم اهتمامات الفلسفة البنيوية ومن بعدها تأويلية بول ريكور..
علي محمد اليوسف /الموصل
الهوامش
1.      بول ريكور، نظرية التاويل..الخطاب وفائض المعنى، ترجمة سعيد الغانمي ص 34
2.      المصدر اعلاه ص 35
3.       المصدر اعلاه ص 26
4.      المصدر اعلاه ص 28
5.      المصدر اعلاه ص 29
6.      المصدر اعلاه ص30
7.      المصدر اعلاه ص 31

تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس