جدل التفكير الفلسفي

جدل التفكير الفلسفي
د علي محمد اليوسف                                                         05 مارس 2020
جدل الفكر والواقع
نجد في التضاد الجدلي الهيجلي (أن حركة الافكار هي نفسها حركة الأشياء، وصراع التضاد هو قانون النمو التطوري) (1) قصة الفلسفة ص 379
فموجودات الطبيعة ومكوناتها، والوجود والحياة والتاريخ بمجملها، تتداخل معها علاقة الفكر الانساني وإرادة التغيير القائمة على رصد الفكر لحركة الاشياء في تضادهما المستمر، ويرتبط الفكر والواقع بعلاقة جدلية متخارجة في التأثير لكليهما.. فالواقع لا يتطور بمعزل عن الفكر ولا الفكر يتطور بمعزل عن الواقع... ومعرفة حقيقة الاشياء تكون بمرجعية مقارنة خصائصها المدركة بما تختزنه الذاكرة في معرفة غيرها من الاشياء بالتجربة والتكرار.. فمعرفة الشيء لا تكون من غير مخزون تجريبي في الذهن يساعد على فهمه وتفسيره بالمقارنة المغايرة بغيره... بمعنى معرفة الشيء لا تدرك من غير ذخيرة ذهنية مكتسبة ومختزنة بالذاكرة تخص غيره من الاشياء ليجد حضوره المعرفي الخاص به في تلك المقارنة المعرفية.. ولا يكون الدماغ خلوّا من المعارف القبلية الفطرية والمكتسبة في معرفته مواضيع الوعي والادراك.. .
التضاد الجدلي ليس قانونا يحكم الوجود والطبيعة في وجودهما المستقل وحسب.. وإنما هو ناتج تضاد الفكر الانساني وتقاطعه مع تلك القوانين كعامل موضوعي خارجي يعمل على أنضاج الجدل الذاتي داخل الاشياء في تحقيق طفرات تغيراتها الكمية وتحوّلاتها الكيفية على السواء.. والواقع في كل تمظهراته هو مواضيع الفكر والوعي، لكن لا يكون الفكر موضوعا مدركا من الواقع.. الواقع بجميع مكوناته واشتمالاته لا يدرك الفكر كما يدرك الفكر الواقع...
الفكر يستمد فاعليته وحيويته الجدلية في التغيير من أسبقية أنطولوجيا الموجودات في العالم الخارجي عليه، التي يدخل معها الفكر في تضاد جدلي متخارج كعامل موضوعي مساعد لتطورها الذاتي، والموجودات التي يرصدها الفكر خارجيا أنما هي تحمل جدلها الخاص بها في التناقض الذاتي الداخلي الذي يحدد صفاتها الخارجية مع ماهياتها الذاتية أو جواهرها المحتجبة خلف صفاتها الخارجية البائنة.... مواضيع الادراك الفكري تحمل تناقضين من الجدل، الاول هو الجدل الذي يعتمل داخل الاشياء ذاتيا ولا يقوى على تغييرها، الثاني هو التناقض الجدلي مع الفكر الخارجي الموضوعي الذي به ومن خلاله وناتجه يحصل التطور والانتقالات التغييرية في الأشياء..
الاشياء والموجودات الواقعية المادية تدخل في علاقة تضاد خارجي مع الفكر الانساني وإرادة التغيير المستمر وبذلك تمتلك قدراتها التطورية التي تكون معطلة ذاتيا في الاشياء قبل تداخل الجدل الفكري معها.... ويكون ناتج هذه العلاقة الجدلية المتخارجة تطور كل من موجودات الواقع والفكر الانساني المتعالق معها كليهما، أي أن الفكر في الوقت الذي يستهدف الاشياء في التغيير هو الآخر يتغير أيضا في موازاة تغييره الاشياء... كما أن الموجودات والاشياء في العالم الخارجي والطبيعة لا تتغير ذاتيا بفعل التناقض الذي يعتمل داخلها من غير ما دخولها مع تناقض جدلي مع الفكر الانساني الذي هو العامل الموضوعي الخارجي في أحداث التطور المطلوب في واقع الاشياء والموجودات كما اشرنا له سابقا....الفكر يقود الموجودات الى حالات ومراحل متغيرة تطورية مستمرة.. والفكر يقود الواقع ولا يقود الواقع الفكر، ومهمة الفكر تحفيز الجدل الذاتي داخل الاشياء في تحقيقه قفزات من حالة تطورية الى حالة جديدة تطورية أخرى أكثر تقدما وهكذا..
إن من المهم الاشارة له الى أن الواقع لا يتغير ذاتيا ولا يغير الافكار بقدر أمكانية وقدرات الأفكار تغييرها واقع الاشياء في سيرورتها التطورية... لكن يبقى الفكر ملزما أن يتغير هو أيضا في مواكبته التطور الحاصل في متغيرات الواقع ويكون تطوره سابقا على تطور واقع الاشياء باستمرار دائما.. وحركة التغيير في الواقع لا تستبق حركة التغيير بالفكر والا أنعدم حضور تأثير وأهمية الفكر في قيادة تغييره الواقع... وفي الوقت الذي يكون الفكر عاملا موضوعيا في تسريعه الجدل الذاتي التطوري المعتمل داخل الاشياء فهو يستمد من حركة الواقع المتغيرة تطوره هو الآخر في استباقه وتقدمه على حركة التغيير بالأشياء... الفكر يكون على الدوام سابقا حركة الاشياء ويكون في وضع قيادي في سحبه الموجودات وراءه في تطورها الحركي المتغير على الدوام، والفكر ليس انعكاس الواقع على وفق آلية ميكانيكية تفتقد الجدل التنموي بين الاشياء من جهة وتعالق الفكر تنمويا بها من جهة أخرى..
عليه يمكننا القول أن الواقع بكل مكوناته وموجوداته المادية المستقلة أنما هي تحمل عوامل التضاد والتناقض داخليا لكنها تعجز عن أحداث التغيير المطلوب بقواها الذاتية المجردة عن قيادة الفكر لهذا التناقض بل في وجوب دخول تناقض الأشياء الذاتية مع الفكر الذي يمثل العامل الموضوعي المحرك لجدل التناقض الداخلي واكسابه التطور المتلاحق على الدوام معه في تخارج يحقق أرادة التغيير والتطور على مراحل من التجديد المستمر... الفكر الجدلي التطوري في جوهره أرادة ملزمة في نشدانها تغيير الواقع، والفكر الذي لا تقوده قصدية أرادة تحقيق الهدف يكون فكرا أعزلا من أمكانية قيادة تناقضات الواقع وفي تحقيق التطورات المستمرة فيه..
تعالق الواقع والفكر وبينهما العقل
 (العقل هو جوهر الكون، وتصميم الكون عقلي خالص ومطلق) (2)، الفكر نتاج عقلي لا يعمل في غياب الواقع المادي للأشياء أو في غياب الموضوع المتخيل من الذاكرة، بمعنى الفكر لا فاعلية له تذكر في غياب مواضيع تفكيره المادية والخيالية، والفكر قوة مادية يكتسب ماديته من علاقته الجدلية بالواقع في تخارجه مع مواضيعه المدركة... والفكر من غير مدركات مواضيعه لا قيمة له وغير موجود اذ بالموضوع المدرك وحده في تعالقه الجدلي به هو وحده الذي يحدد قيمة الفكر وأهميته... الواقع والفكر وجهين لعملة واحدة لا يكتسب احدهما قيمته بمعزل عن الآخر أوفي غياب حضور أحدهما المتعالق مع الآخر... وحضور فاعلية العقل تكون الى جانب الفكر بعّلة الفكر أنه نتاج عقلي بخلاف الواقع الذي هو وجود مستقل لا علاقة للعقل في أيجاده بل علاقة العقل به في وجوب تغييره.. العقل يكسب الفكر ماديته في تعالقه الجدلي مع الواقع، ويبقى الفكر والواقع وسيلتي أدراك العقل يؤثر بهما ويصوغهما حسب مقولاته العقلية لكنه يحتفظ بمسافة رصد وتخليق تجعل من استقلالية العقل حقيقة مطلقة على العكس من نسبيتي الواقع والفكر، فهما موضوعي إدراك عقلي وليسا حقائق مطلقة خارج وصاية العقل عليهما..
التاريخ والفكر
 يبقى التاريخ في النهاية مسارا عشوائيا لمختلف الوقائع والاحداث لا تحكمه الضرورة الحتمية في الزامها تطوره ذاتيا، التاريخ لا يتطور تصاعديا بقوى خفية تلهمه التقدم الى أمام من غير إرادة انسانية تقود حوادثه نحو الافضل أو الاسوأ على السواء تبعا لنوعية الإرادة في تغيير ورسم مساراته الفوضوية التي تدخل عليه الصدف العفوية والصدف المصّنعة... ولو كان التاريخ حتمية تطورية تحكمها الضرورة لما كانت ولادة العولمة لقيطا بعد انهيار منظومة الاتحاد السوفييتي، فالعولمة لم تكن حتمية تحكمها الضرورة بل هي انبجاس تاريخي لقيط ولد من العشوائية والصدفة المصنّعة التي تحكم التاريخ أكثر منها حصيلة وثمرة روحية التاريخ التي كما تذهب له التنظيرات الفلسفية يسير بقوى خفيّة تقود مساره الى مراحل متقدمة متصاعدة... التاريخ تحقيب زمني بعدي لا قبلي لا سيطرة للإنسان عليه قبل وقوعه وحدوثه ويبقى الاستدلال عليه في التحقيب الزمني له فقط وليس في تحقيبه الأنثروبولوجي الذي هو متحفية التاريخ وليس حيوية التاريخ.. التاريخ ملهم.. نعم ملهم.. التاريخ يقود نفسه نحو غايات مرسوم بلوغها له سلفا... لا.. معرفتنا التاريخ هي معرفة الفكر للزمن... إدراك لأحداث أنثروبولوجية ماضية من العبث أن تحكم الاحياء في قانون كان الاجدر أن يحدث هذا ولم يحدث ذاك.. وهذا دليل قاطع أن التاريخ أخطاء قاتلة نتيجة فوضوية مساراته المتعثرة بالصدف العشوائية على الدوام... والمسكوت عنه في التاريخ هو نبش في الوقوف على فوضوية وعشوائية المسار التاريخي..
يبقى فهمنا التاريخ أنه قراءة فكرية في النهاية، التاريخ يبقى حضوره كنتاج الفكر الذي يقود وقائع وأحداث التاريخ المتحفية الانثروبولوجية، وتورخة التاريخ في جوهرها عملية فكرية في تنظيم مسار التاريخ، والفكر هو أرادة التغيير الانساني الهادف بعيدا وبمعزل عن أمكانية التاريخ أن يصنع تطوراته الخطيّة ذاتيا، ومن غير تنظيم الفكر الانساني لعشوائية مسار التاريخ لا يخرج هذا الاخير من مطبّات الإعاقة والصدف الطارئة على تشكيل أحداثه ووقائعه.. وقائع وأحداث التاريخ هي نظام الأفكار المحكومة بإرادة التغيير المستمر الدائم نحو الافضل..
المادة والفكر
علاقة المادة بالفكر تعتبر أهم مبحث فلسفي أستحدث لاحقا بعد مبحثي الانطولوجيا والميتافيزيقا، منذ نشأة الفلسفة في القرن السادس قبل الميلاد، وعلى امتداد قرون طويلة من تاريخ الفلسفات المثالية وصل مبحث علاقة الفكر بالمادة الى تمفصّل جوهري متمايز كبير بمجيء كلا من هيجل وفيورباخ وماركس في القرن التاسع عشر.. وقبل هذا التاريخ كانت الفلسفة بمجمل مباحثها نزعات مثالية صرفة اشتملت على ارهاصات مادية متناثرة لا يعّول عليها كثيرا تمّثلت في نزعات مادية بدئية لدى كل من ديمقريطس في الذرات الذي أخذها عنه لايبتنز في المونادا وهيرقليطس في الحركة والتغيير المستمرين اللذين يحكمان المادة وظواهر الحياة التي أخذها عنه هيجل في الحركة والديالكتيك..
نستطيع الجزم أن الفلسفات جميعها إلى ما قبل القرن التاسع عشر وقبل مجيء ماركس، كانت فلسفات مثالية محورها الارتكازي هو الفكر التجريدي المحض الذي يعالج الواقع المادي بتصورات عقلية ذهنية تكتفي بتفسير بعض مظاهر الحياة ولا تمت بصلة لمحاولة تغييرها وتبديلها.. وقد ورثت النزعات الفلسفية المثالية الحديثة التي رافقت نشوء الماركسية المادية، أهمية أسبقية وأولوية الفكر على المادة معتبرة الفكر المجرد جوهر مستقل قائم بذاته يستطيع تفسير العالم ولا وجود لشيء اسمه مادة أو واقع خارجي يحتوي مكونات لا حصر لها، ولا وجود حتى لعقل خارج تصورات الذهن الواصلة عبر الحواس.. فقد أنكر بيركلي المادة في وجودها المتموضع واقعيا في عالم الاشياء معتبرا اياها صورا في الذهن، وذهب ديفيد هيوم في نفس المنحى في إنكاره العقل ومبدأ العليّة السببية، معتبرا العلاقات التي تربط العلة بالمعلول هي تجربة تتكرس في الذاكرة بحكم التكرار والتجربة حتى تصبح العادة في حكمنا على الأشياء.. وفي نفس المنحى المثالي ذهبت التجريبية الانكليزية الحديثة والتحليلية عند جورج مور وبيرتراند رسل مستفيدة من إرث كانط المثالي وبيكون التجريبي الى أفشاء التفكير المثالي الفلسفي المناوئ للماركسية، كما عمدت الفلسفة البراجماتية الامريكية في نفس المنحى لدى أقطابها ريتشارد بيرس، وليم جيمس، وجون ديوي.. الذين رفعوا شعارهم المعروف بالمنفعة العملانية للأفكار، والافكار صحيحة ليس باتساقها المنطقي بل بما تحمله من أمكانية تحقيق المنفعة الواقعية في الحياة..
وبمجيء أقطاب المادية الماركسية الثلاثة هيجل، فيورباخ، وماركس، ظهرت الفلسفة المادية منتصف القرن التاسع عشر وبداية العشرين بأجلى صور التمايز عن المثالية، فقد بعث هيجل مبدأ الديالكتيك أو الجدل في تأكيده أهمية الحركة والتناقض، وذهب معاصره المنشق عنه فيورباخ الى تبني نزعة مادية أراد تطبيقها تحديدا على نشأة الأديان في ثلاث من أهم مؤلفاته الفلسفية، ليأتي من بعدهما كلا من ماركس وانجلز ليكملا المسيرة في وضع قوانين المادية الديالكتيكية على صعيد المادة، والمادية التاريخية على صعيد التطور الانثروبولوجي والسيوسيولوجي الطبقي.. ومن الجدير الاشارة له في دراسة علاقة الفكر بالمادة التي أشبعت تناولا فكريا وفلسفيا لدى أقطاب فلاسفة المادية الماركسية بدءا من لينين وستالين وتروتسكي وروزا لوكسمبورغ ولوكاتش وغرامشي وعشرات وأكثر غيرهم.. أن علاقة الفكر بالمادة تفرض فرز وتشخيص نوعية الفكر الذي هو حركة دائبة متغيّرة على الدوام في علاقته بالمادة التي تكون في حال من الحركة غير المدركة التي توهم بالسكون والثبات.. من جنبة أخرى المادة ليست هي الفكر ولا الفكر هو المادة، فالمادة باعث للفكر وحافز له على تناول مواضيع إدراكاته بالتفسير والتحليل والتأويل والعّلة، والفكر الذي هو في سمته الأساس المميزة له أنه عقلاني مصدره العقل تقابله المادة في لاعقلانيتها أنها لا تعي ذاتها ولا تدرك ما حولها ولا تفهم علاقاتها بغيرها، فهي وجود أنطولوجي لا عقلاني مجرد من الفاعلية الإدراكية.. والمادة وجود لا يمتلك الإدراك لكنها تمثل موضوع الإدراك للفكر، المادة وجود سلبي لا قيمة حقيقية له من غير معالجة الفكر لها...
أخيرا ما الذي يجعل أي من المذهبين الفلسفيين المادي أم المثالي قادرا على خدمة الإنسان ومواكبة تطور الحياة؟ طبعا هنا يبرز دور العلم في كلمة الفصل، فالعلم بمنجزاته الهائلة لم يعتمد الفلسفات المثالية التي لا تجد في الحياة غير تصورات الذهن المجردة المعزولة، وانما يعتمد العلم التجربة التي تقوم على أسبقية المادة التي هي الركن الأساس في التفكير المادي والمثالي والعلمي على السواء.
الهوامش
1-      ويل ديورانت، قصة الفلسفة ص 379
2-      نفسه


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس