البنيوية: الإنسان خارج منظومة الحياة

          البنيوية: الإنسان خارج منظومة الحياة
د علي محمد اليوسف                                                    27 فبراير 2020
نيتشه والبداية
لم يكن نيتشه على حذر كاف مسؤول حين أطلق عبارته الاستفزازية موت الاله، ولم يكن على تقدير تنبؤي صادق مع نفسه لما ستجّر اليه تلك المقولة من عواقب تدميرية خارج حساباته الفلسفية على صعيد وجود ملتبس انساني لم تحسم فيه العديد من علامات الاستفهام.. لم يستهدف ثيولوجيا الدين تحديدا كما أراد نيتشه في موت الاله، ولم يدرك مدى تبعات مقولته السائبة تلك على تداعيات فكرية معرفية ستطال الانسان والعقل والسرديات الكبرى في الفلسفة والعقل والتاريخ ومختلف علوم الانسانيات من بعده التي استنفدت حقيقتها الجوهرية بالاجترار وعمقت التصّحر الثقافي الساذج المتطرف في تبني الجدب الخوائي للوجود الانساني في تقويض وجوده كائنا محوريا واستبعاده – المعرفي خارج منظومة الحياة الفكرية اللغوية واعتباره موجودا متشيئا لا قيمة استثنائية له يعلو بها على مكونات وأشياء الطبيعة غيره.  
لم يكن نيتشه في مقولته تلك سوى نزوة استفزازية لتقويض ثيولوجيا الدين ممثلة بسلطة الكنيسة المطلقة فقط تحديدا وزعزعة الايمان القطعي الدوغمائي في التسليم لما يجب هدمه وتقويضه من كهنوت وضعي زائف طارئ جرى تجييره لزيادة عذابات الإنسان في جحيم الحياة.. موت الإله نيتشويا كان الفخ الذي نصبه نيتشه في غابة مليئة بخرافات وقهر واستلاب القيم الانسانية في العصور الوسطى الاوربية على صعيد تغوّل انحرافات لاهوت الدين عن مساره الطبيعي كمنقذ للإنسان في الحياة، ولم يكن نيتشه يدرك أن موت الإله سيتبعه موت الانسان كقيمة عليا في رأسمال الحياة والا ما كان وضع الانسان الذي أراد إنقاذه من ورطته الكهنوتية الوضعية في وهدة سقوطه بورطة أكبر أن يكون فيما تلا عصر نيتشه إنسانا متشيئا لا قيمة إنسانية حقيقية يحملها ولا قيمة روحية سامية يدافع عنها جديرة بالاهتمام المعرفي الفلسفي...
الفخ المربك الذي نصبه نيتشه ولم يحاول غيره تقليده بل التمسك الخاطئ به لم يكن في وارد فلسفة نيتشه أن يكون الانسان بعد موت الاله أسعد حالا منه العيش في ظل الاله الذي الحي الذي لم يمته نيتشه ولن يموت.. وهنا خطأ نيتشه بحق الانسان كمخلوق ميتافيزيقي ديني بالفطرة وليس مخلوقا تصنيعيا ملحدا بالفكر العبثي في تقويض كل متبنياته التي أكتسبها عبر العصور في الفلسفات التي أعقبت موت نيتشه بداية القرن العشرين.. الحقيقة التي يجري التغافل عنها أن نيتشه في مقولته التي أصبحت الكتاب المقدس الزائف للملحدين أنه لم يقتل الله بقدر اغتياله الانسان كموجود ديني ميتافيزيقي كان ولا يزال جحيمه في الحياة أكبر من جحيمه الموعود به في السماء.. ولم يكن موت الاله ولا بقائه الحي سببا بذلك.. الخلل كان ولا زال ليس في الايمان بالله من عدمه بل الخلل في الكهنوت الوضعي ولاهوت الاديان والخرافات المليئة بها الكتب التي توصف بالمقدسة وتدعي محتوياتها الزائفة أنها من وحي الاله الخالق.. وليس ابتداعات خرافية تهويلية لأناس اشتروا ثراءهم الدنيوي باسم التضليل الديني التعبوي في نشر وتعميم الجهال والتخلف والخرافة..
البنيوية ونهاية الإنسان
التيه العدمي الذي وضع نيتشه الانسان فيه منذ نهايات القرن التاسع عشر في مقولته الاستفزازية الملغمّة موت الاله استقبلته البنيوية في اعتمادها مرتكزين الأول أن الإنسان كوجود مأزوم قلق ليس من المتاح إنقاذه في المدى المنظور بل ولا أهمية تسترعي الاهتمام به كبؤرة مركزية تدور في فلكها الفلسفة والعلم والمعرفة والحياة، والمرتكز الثاني هو علم اللغة كمفهوم مستحدث خارج منظومة الحياة مستقل لا علاقة تربطه بما أصطلح تسميته السرديات اليقينية الكبرى من ضمنها الدين... كلاهما الإنسان كوجود ومنظومة اللغة في انفصالها عن الانسان والواقع جرى أقصائهما العمد على لسان دي سوسير مخترع لعبة اللغة القائمة على ازدواجية المفهوم وليس ازدواجية المعنى التي كانت مفتتح تجربة جديدة في استقبال الايديولوجيا الفلسفية المستمدة من نيتشه في توظيف اللغة كأداة هدم وتقويض زادت عليه البنيوية تطرف أسلوب (القوة الناعمة) بالفلسفة اللغوية والتأويل وهو مصطلح نحته لأول مرة بضوء هذا الترسيم الفلسفي التي أرادته البنيوية عسى أن يحظى بمطابقة الاحالة الصحيحة في التقويض البنيوي- التفكيكي لعالم الانسان من دون الانسان..
وبهذا الترسيم العدمي البعيد جدا عن اعتماد ايديولوجيا السياسة التي استهلكت نفسها على هامش نقد الفلسفة الفضفاض أذ لم تعد أيديولوجيا السرديات الكبرى وسيلة هدم وبناء كما هو المرجو فاستأثرت الفلسفتان البنيوية - التفكيكية تحديدا ملء فراغ الهدم والتقويض دونما البناء في اعتمادهما أسلوب قوة اللغة الناعمة في تنفيذها المطلوب، وسرعان ما تبنّى أقطاب البنيوية كلا من بارت وفوكو ولاكان وإلى حد ما على صعيد ما نقصده منطلقات فلسفة اللغة الناعمة في المراجعة والتقويض انضمام كلا من شتراوس في الأنثروبوجيا (إثنولوجيا الأقوام البدائية) وألتوسير في استهدافه السردية الماركسية الكبرى الشاخصة في كتاب رأس المال.. وبارت على صعيد الادب في موت المؤلف، ولاكان في علم النفس، وفوكو في استدافه كل شيء يطاله بدءا من الانسان والعقل وليس انتهاءا بالجنسانية والجنون وسلطة القمع والمنع والسجون..
إذا ما سمحنا لأنفسنا تجاوز المسار الفلسفي المعقد المتشعب لأقطاب البنيوية سنجد أنفسنا نتوقف أمام تداخلاتهم مع أبرز امتداد فلسفي لتطوير مفهوم علم اللغة واللسانيات في مشروع بول ريكور في فلسفة التأويل الذي يقوم بالأساس الاشتغال على تطويره منحى التأويل البنيوي الذي جاء تتويجه (حيث وجد ريكور مشروعه التأويلي اللغوي يستثمر اتجاهات الفلسفات الغربية الحديثة جميعا، البنيوية، الوجودية، التاويلية، الماركسية، ونظرية الثقافة والتفكيك، والتحليل اللغوي ونظريات اللغة، وأخيرا انثروبولوجيا الدين)1  وقد أفاد ريكور في منهجه البنيوي التأويلي من ميراث فلاسفة التأويل غادمير، وشلاير ماخر، وأخيرا دلتاي..
الانفصامية المرضية فلسفيا التي وضعت الإنسان كوجود مركزي طارد في مأزق الاحتضار السريري التي كانت البنيوية اضطلعت بالمهمة الكبرى تنفيذه في حقنها ذلك المريض المحتضر(الانسان) الذي خرج من محنة الحداثة وما بعدها في تقويضهما كل مكتسباته التي حققها له عصر النهضة والانوار والحداثة، نقول عمدت البنيوية الى تشييئه الإلغائي كوجود محوري تدور في فلكه كل ما سمي بالمعارف والعلوم والسرديات الكبرى على ما شابها من قصور لم يكن الانسان مرتكز ذلك القصور كسبب ولكن كان المساهم الاكبر الوحيد الذي ناء بحمله عواقب ذلك القصور لزمن طويل الى اليوم...
هذا الانفصام المرضي الفلسفي الذي تبنته البنيوية بضراوة كان في اعتمادها مفهوم الاكتفاء الذاتي في منظومة اللغة الانفصال التام عن الواقع الانساني بغية الوصول الى معرفة حقيقية للعالم على وفق قراءة لغوية بنيوية نسقية جديدة تنقذ اللغة من احتكار علاقتها بالواقع واستئثارها التعبير عنه وحدها... ولم تعد اللغة مرتهنة وظيفيا وسيليا في تجسير فهم الواقع بتعبير اللغة السطحي المعتاد على حد سوق ذرائع البنيوية كفلسفة حضور لمفاهيم ما بعد الحداثة.. وهذا (الانفصام جعل من الأنظمة اللغوية في البنيوية وتأويلية بول ريكور أنظمة مغلقة مكتفية ذاتيا تنطوي ضمنا على جميع العلاقات الممكنة بداخلها، وبالتالي لا يبقى من علاقة ضرورية تجمع اللغة بالعالم الخارجي في تمثّلات اللغة له)2
واضح المقصود بالخارج اللغوي هو العالم الواقعي الخارجي للإنسان بما هو الحياة في تمثّلات اللغة التعبيرية عنه تداوليا كلام تحاوري مجتمعي.. وليس بالمعنى الفلسفي الذي عبر عنه دي سوسير أن اللغة تمتلك نظامها الداخلي الخاص بها ولا حاجة للواقع الخارجي التعريف بها، وكذا الحال معكوسا أن الواقع بكل منظوماته التكوينية له يحقق الكفاية الذاتية به بمعزل عن أهمية اللغة الاسهام بهذا التوضيح..
وعندما تبطل وسيلية توظيف اللغة ويجري انسحابها من ميدانها المألوف في مهمة التمثلات الواقعية للعالم الخارجي فهي تكون أنساقا لغوية خاصة بما هي منظومة علائقية تجريدية قائمة داخليا بعالمها الخاص بها خارج مهمتها التعبير عن الواقع ما يرتّب على ذلك أن الواقع الإنساني الحيوي يكون التعبير عنه بالكلام الشفاهي وليس باللغة التي تكون لوحدها خطابا يبحث في العلاقات النسقية للأشياء بما هي صيرورات متداخلة متنوعة داخل بنى الاشياء وليس في عالمها الخارجي المرتبط بالإنسان لا يمتلك سوى اللغة في توكيد وجوده الانساني..
هذه الواقعة المعتمدة بنيويا بموجبها تعتبر نفسها فلسفة نمطية نسقية كليّة من التفكير الجوّاني الذي يعتمل ويتكوّن داخل الصيرورة اللغوية بما هي نسق معرفي يهتم بعوالمه المخترعة لغويا ولا قيمة للواقع والانسان في علاقة الربط بينهما وبين اللغة... هذا النمط النسقي اللغوي (يكون تفكيرا يتخطى جميع الاشتراطات المنهجية، حينها لم تعد اللغة وسيطا بين العقول والاشياء) 3 فقد تم اغتيال الواقع الحياتي ملاذ الانسان الأخير باستعداء اللغة له وركنه جانبا خارج اهتمامات الفلسفة.. بعيدا عن كل اشتراط منهجي عقلي مخالف لهذا التوجه المنحرف..
البنيوية وفتجنشتين
هناك حقيقة متداولة عمرها عشرات القرون هي أن اللغة تفكير العقل المدرك في معرفة الاشياء والتعريف بها، واللغة هي الوسيط بين العقل والاشياء في تعالقهما معرفيا.. هذا الفهم اعتبرته البنيوية ومن بعدها التفكيكية في اعتمادهما منظومة علوم اللغة واللسانيات والتأويل والتحليل والاحالة والارجاء مرتكزا فلسفيا في فهم العالم والانسان في عالمه الخارجي لم يعد له تلك القيمة المطلقة التسليم بصحتها وحقيقة الانسان خارج المنظومة اللغوية لا شيء كما هي اللغة من دون الانسان لا معنى لها حتى فلسفيا.. هذا التوجه قاد مأزق الانسان الوجودي بالحياة الى أكبر منه، فاللغة هي تجريد علاماتي خطابي في فهم الانسان وعالمه الخارجي، فكيف باللغة عندما تكون في الفلسفة البنيوية والتفكيكية تجريدا مضافا لتفسير تجريد سابق عليه في الانفصال التام التعبير عن الواقع الانساني بالحياة؟
فتجنشتين فيلسوف اللغة المعروف أراد إخراج اللغة من عنق الزجاجة كما يقال الذي هو النفق الذي أدخلته البنيوية ومن بعدها التفكيكية فيه حين اعتبرتا النظام اللغوي المكتفي بصنع عوالمه الذاتية يسير في توازيه مع الواقع هو منظومة اللغة أو الخطاب الواجب الاهتمام به... وليس من مهمة هذا الخطاب اللغوي المنعزل تفسير العالم الخارجي...ولا أهمية يمتلكها القيام بذلك..
أمام هذا الفهم الفلسفي البنيوي طرح فينجشتين أن تمثّلات اللغة للواقع هو تلك الحيوية الخلاقة التي تبعثها اللغة في جسد ذلك الواقع المعيش في الوقت نفسه التي تكتسب هي- اللغة - حيويتها الحضورية في تطوير نظامها اللغوي بتأثير من الواقع الذي تحكمه الصيرورة أيضا كما تحكم الواقع بذات الحين.. وفي حال العجز من تحقيق هذه المهمة فسوف لن يكون للغة معنى يمكن حضوره وعليه يكون صمت اللغة في العجز أجدى وأكثر حيوية من التعبير عن اللامعنى..
هذا التحذير الذي نادى فينجشتين به أن اللغة لا تستمد فعاليتها القصوى إلا في صيرورة الحياة وجريانها المتدفق والانسان جزء هام في هذه المنظومة التي هي مصنع الحيوية البشرية للحياة والوجود.. والذي تبنته الفلسفة التحليلية الانجليزية عبر رفضها والتقاطع مع رائد فلسفة التأويل اللغوي بول ريكور قوله (لم تعد اللغة بوصفها صورة الحياة كما أراد لها فينجشتين، بل صارت نظاما مكتفيا بذاته يمتلك علاقاته الخاصة به) 4. وكان سبق لأقطاب البنيوية أن أخرجوا اللغة بوصفها خطابا لا تتحدد مقاصده في تعابير المفردات اللغوية المنفصلة التي لا ينتظمها سياق الجملة وموقعها في بنية النسق الخطابي داخليا.. وعبر عن هذا المعنى دي سوسير (أرجحية الكلام على اللغة باعتبار الكلام فردي تعاقبي وعارض، واللغة أو اللسان هو الاجتماعي والتزامني والنسقي لذا يكون الخطاب بدلا من الكلام)5
منطق دي سوسير هو تنحية الكلام عن مهمته واسطة التعامل مع الواقع الحياتي، في أزاحته التنافسية عن طريق فهم اللغة أنها منظومة خطاب متكامل مكتف ذاتيا, ويرى سوسير الكلام فرديا تعاقبيا عارضا، أي أنه محاورة مجتمعية من الكلام الشفاهي، تسمه فردية المتكلم, والتعاقب الحواري في تنوع المصدر الفرد المتكلم وما يحمله من محمولات الحديث العابر، وهو أي الكلام أخيرا عارض لانتهاء دوره الاستعمالي التوظيفي في التواصل الحواري التخاطبي التداولي مع انتهاء وتفرق المتحادثين المشاركين في إنتاجية واستهلاك الكلام الجماعي في التحاور.
بينما تكون اللغة حسب فهمنا عن دي سوسير خطابا تدوينيا ثابتا مكتوبا في الغالب حين يكون نصّا.. يحكم ذلك الخطاب نسق من العلاقات الداخلية التي تجعل منه بؤرة مركزية ثابتة الفهم والقيمة على المدى البعيد على خلاف الكلام الذي يستهلك نفسه في الشفاهية التحاورية في وقتية زمنية زائلة يطالها التزامن العرضي..
في مبتدءات فهمنا معنى الكلمة أو المفردة هو انها لفظ صوتي مسموع دال وصوري مكتوب خال من المعنى ما لم يكن متضمنا دلالته المحمولة بمعناه القصدي، وفي هذا تجد البنيوية تبسيطا مخلا عندما لا يكون معنى المفردة مستمدا من سياقها المنتظم في جملة نسقية تشي عن عبارة تحمل معنى متكاملا ونجد تعبير ريكور بهذا المعنى (الجملة وحدة الخطاب الاساسية التي تشمل وحدات أكثر تعقيدا، وتعاقب الكلمات بالجملة لا معنى ينتظمها ما لم تكن ضمن وحدة نسقية تحمل الدلالة بلا قطوعات معاني المفردات المنفردة التي هي الجملة )6
هيدجر والتماهي مع البنيوية
هذه المفارقة التي حاولت البنيوية تكريسها إنما وجدت ضالتها في التماهي الهيدجري معها الذي أيّد منطلق أن تكون اللغة أصبحت حقيقتها مكفولة في انفصالها عن الواقع وتمثلاته ويؤثر هيدجر (الشاعر – ويقصد به شاعره الاثير هولدرين الذي يمتلك نفس الحفاوة لدى فوكو – يقول الوجود بلغة الوجود الأصيلة). هنا الوجود الأصيل الذي يقصده هيدجر هو الذي ينفرد التعبير عنه بمكنة لغة الشاعر عن (اللاوجود)، أي بمعنى الوجود القائم على تصورات التهويم الخيالي في تفكيك نسق اللغة التداولي الذي يقصي سلطة العقل تماما في رقابة اللغة الشاعرية، فيكون بهذا تعبير الشاعر الشعري عن الوجود الاصيل أنما هو تداعيات الخيال الذي تتفكك اللغة فيه وتخرج عن نظامها الدلالي المألوف الى حد طغيان اللاشعور في محاولة الوصول تخوم العبث اللغوي في التعبير.. أحياء نسخة سريالية مستهلكة كان أندريه بريتون رائدها الاول في قول الشعر معتبرا القصيدة الشعرية هي حطام العقل الذي مصدره غياب الشعور المطلق وأستلهم بيان بريتون سلفادور دالي في التشكيل الفني الجمالي ورسم اللوحة التي كانت بحق تحطيما للعقل.
هذه الميزة المتفردة التي خلعها هيدجر على الشاعر أنه الوحيد القادر ومعه المجنون لدى فوكو التعبير عن الوجود الاصيل الذي هو اللاوجود في حقيقته جعلت حمى وطيس التجاوب لدى فوكو الاستجابة المتماهية مع هيدجر في أعلى مستوياتها، وذهب أبعد منه في أهمية انفصال اللغة تمثلاتها الواقع العياني فوجد هو الآخر في لغة الشاعر التهويمية المفككة المتقافزة في وصاية تداعيات اللاشعور عليها.. وإضافة فوكو المتطرفة الجديدة لدى فوكو أنما جاءت على صعيد وشم الثقافة الغربية المعاصرة في لقاء (الشعر والجنون) والجنون هنا لا يأتي (بمعنى المرض العقلي وانما هو تجربة جديدة في اللغة والاشياء )7. ويؤكد فوكو تطرفه في اعتباره (الانسان ليس أكثر من تمزّق في نظام الاشياء وتشكيلا مستحدثا رسمه الوضع الجديد في الثقافة الغربية)8.
لا جدوى التعليق أن اللغة كنظام تعبير دلالي معرفي في تفسير وفهم الواقع يمكنه الخروج على هذه المواضعات التي تكون اللغة فيه نظام توليدي متطور في مواكبته الحياة الإنسانية في جريانها.. ولا غرابة إذا ما وجدنا أن لغة الشعر التي تلتقي هذاءات الجنون حسب رغبة فوكو في التعبير عن حقيقتنا تخرج عن تلك المواضعات تماما.. باعتبار لغة الشاعر وهذاءات المجنون رغم التباين والاختلاف الشاسع لغتان من نوع خاص يتحكم بهما اللاشعور في تغييب رقابة العقل الذي تتصف اللغة عندهما بميزات التداعي والتفكك وعدم الانتظام وإبهام المعنى وغيرها.. والجملة بالمنظور البنيوي هي خروج على المألوف وسمة التجديد فيها أنها تلغي دلالة المفردة من المعنى من جهة وخروج الجملة أو العبارة المألوفة قدرتها التعبير عن الواقع بل في وجوب الانفصال عنه..
أما أن يكون التفكيك والتحليل والتقويض هو استجابة محاكية للتماثل مع تمزّقات الانسان كونه شيئا طارئا في وجوده بين نظام الاشياء في الوجود الاصيل الذي ينشده ويبتغيه هيدجر خارج وجود الانسان الزائف الذي يعيشه، وأن لغة التعبير الحقيقية عن الوجود الاصيل معقودة على الشاعر وهذاءات المجنون فهي تفلسف يحمل أكثر من علامة استفهام عديدة متروكة النهايات بلا إجابات مقنعة الا بمنطق العبث والعدمية في التفلسف البنيوي – التفكيكي المزدوج..
أختم بملاحظة أن كلامي في إدانتي لغة الشاعر السريالية في تفكيك النسق اللغوي التي لا تعبر عن حقيقة الواقع في تفكيك النسق اللغوي المألوف، ناقشته أدانته بالمقالة من منطلق بنيوي فلسفي تفكيكي تحليلي، وهذا يختلف عن تناول خروج لغة الشاعر عن المألوف لغويا في قول الشعر والنقد الأدبي الذي يدرس تفكيك خطاب اللغة الشعرية جماليا وليس تعبيرا فلسفيا.. مما يبيح للشاعر الخروج عن النظام النسقي المالوف للغة في كتابة الشعر كتعبير أدبي وليس كتعبير فلسفي..
الهوامش
1.بول ريكور، نظرية التأويل.. الخطاب وفائض المعنى .. ترجمة سعيد الغانمي ص8
2. المصدر اعلاه ص 11
3. المصدر اعلاه نفس الصفحة
4. المصدر اعلاه نفس الصفحة
5. المصدر اعلاه ص 12
6. المصدر اعلاه ص 14
7.د. محمد المزوغي، فوكو والأشياء، موقع كوة الالكتروني، شباط 2020
8. المصدر أعلاه


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس