الوعي الخالص واللغة

 الوعي الخالص واللغة
د علي محمد اليوسف                                                          27 مارس 2020
عبارتان
 أرى أن نعقد مقارنة بين عبارة ميرلوبونتي كنا ناقشناها من وجهة نظرنا في مقالة سابقة لنا (أنه لا فكر خارج العالم أو الكلمات) وعبارة سارتر ذات العلاقة (أن الوعي الخالص هو فينومينولوجيا جامعة تذهب الى ما يقصد اليه الوعي من أشياء). (1)
ميرلوبونتي لم يكن موفقا في اشتراطه الجمع بين الفكر في العالم الخارجي ومثله في الكلمات كتعبير صامت في الذهن أو معبّرا عنه في الخارج. يكون فيه تداخل الفكر بالعالم الخارجي هو افصاح تعبيري لغوي أو غير لغوي في أثبات وجود الأشياء، أما أن الفكر لا يكون خارج الكلمات حسب تعبير ميرلوبونتي، فهو خطأ أثبتنا عدم صحته في سطور لنا سابقة، أذ يمكن أن يكون الفكر خارج الكلمات، في فعالية العقل التفكيرية بالأشياء تجريديا خياليا في صمت اللغة. مثل الفكرة الصامتة في الذهن، أو التفكير الصامت المعبر عنه في ايحاءات وايمائيات وحركات الجسد الذي لا تلازمه اللغة أو الكلمات ولا يحتاج ملازمة اللغة التعبيرية عنه. الفكر سابق على الكلمات في الصمت، وبعدي متأخر في قبلية وجود الأشياء ماديا أو خياليا على الفكر.
بالحقيقة هذا التفريق بين تفكير العقل صمتا وتفكير العقل كلاما وكتابة ليس قائما حقيقيا، فالعقل الصامت يفكر بصور لغوية تماما كما هو الحال في تعبير العقل عن الموجودات بلغة التعبير الصورية التواصلية. بمعنى استحالة فصل الفكر عن اللغة صمتا تفكيريا وتعبيرا لغويا عن الأشياء.
 استحالة انعدام الكلمات يكون عندما يراد التعبير عن الاشياء والموجودات في أستقلالها الواقعي وفي التواصل الاجتماعي في تبادل الافكار في الحياة اليومية الذي هو العالم الخارجي للغة... فالعقل يفكر حتى أثناء النوم في تداعيات اللاشعور الحلمي، ويفكر أيضا في حالة اللاشعور الإلهامي في حلم اليقظة.
الفكر هو صور الاشياء المنطوقة لغويا أو المسكوت عنها صمتا..
أما عبارة سارتر أن الوعي الخالص هو ما يقصده الوعي من أشياء، فهو أراد بها إخراج الانسان من عدمية الوجود الى نوع من الوعي المطلوب وجوديا في الوعي (لذاته) والوعي في الكليّة المجتمعية (الوعي من أجل الاخرين)، كي لا يخرج سارتر عن فهم هوسرل للذات في اشتراطه أن يكون للوعي قصدية ملزمة له، وفهم هيدجر أن وعي الذات يمتلك ديناميكية شغالة تربطها بالأشياء والعالم الخارجي في تخارج جدلي مفروض على الوعي الذاتي الوجودي هي الاخرى مستمدة عن هيدجر والتي منبعها الاساس هو برينتانو.
أن الوعي (الخالص) الذي أراده سارتر (ذاتيا متعاليا) هو وعي خارج الكلمات في تناقض مع مفهوم ميرلوبونتي أن الوعي لا يوجد خارج الكلمات، بل وجوده مفروض عليه أن يكون جزءا من العالم الخارجي وفي الطبيعة وفي المجتمعية الانسانية أمر لا مجال الغنى عنه. الوعي الخالص الذي قصده سارتر لا يتحدد وجوده في صمت اللغة ولا في أدراكها العقلي للأشياء والموضوعات تأمليا تجريديا خياليا. فهو وعي ذاتي لا يتشارك المجموع به، لذا فهو نزوع انفرادي لا يمكن أدراكه سوى من صاحبه فقط.
الوعي الخالص في حقيقيته التي أرادها سارتر هو وهم سرابي لا يتحقق وجود الانسان فيه إلا أن يكون الإنسان نومينيا أي وعيا خالصا بذاته ممثلا في تجريد العقل لأناه الذاتية في محاولة تحقق وجوده الايجابي المطلق كفرد، أي أن يكون وجودا (في ذاته) فقط مثل وجود صخرة أو شجرة أو نهر الخ.
لذا فالوجود الخالص معنى معياري للوعي لا يمكننا أدراكه متحققا بالإنسان كموجود يرتبط بالعالم الخارجي والحياة.. وفي استعارتنا الفهم الفرويدي يكون الوعي الخالص هو محاولة تحقيق الانا الاعلى النموذجية في مثال من نزوع يوتوبي متعال لا يمكن تحققه. الوعي الذاتي الخالص في تحقق الوجود لا يمكن أن يكون متحققا لدى فرد يعيش ملزما ضمن مجتمعية تحتويه.  فالمجتمعية تقاطع على الدوام نزوع الفرد تكوين عالمه الخاص به. باستثناء اغتراب المتصوف عن المجتمع، وغياب المجنون الانفصامي عن مجتمعه دونما ارادة حقيقية منه. وكلا النموذجين في تحقيقهما (الوجود الخالص) وليس الوعي خالص، يكون بمعيارنا المجتمعي والسايكولوجي (السوي) بالنسبة لنا لا ينطبق لا على المتصوف الاغترابي ولا على المجنون الذي لا يدرك واقعنا (الزائف) الذي يتوجب عليه مغادرته نحو العالم الافضل. هذا المنحى في تحقيق الوجود الخالص تبناه هيدجر لدى الشاعر لاقتراب لغة تعبيره وتعالقها الشديد مع لغة المجنون التي تبناها فوكو.
سارتر في فلسفته العدمية السوداوية أراد انقاذ الوجودية أن تميت الانسان ألف مرة وتقعده عن ديناميكية الحياة، وهو منعزل عن الاخرين الذين هم الجحيم، لذا عمد الى مهادنة الماركسية والفلسفات المثالية في البنيوية في إقراره الصاغر بأن الوعي الخالص لا ينطبق على وجود انساني الا بانتسابه لمنظومة اجتماعية تحتويه شاء أم أبى الفرد ذلك. وبذا لا يمكننا القول بوجود وعي خالص هو وجود وهم يوتوبي لا يبلغه الانسان لا من خلال ذاتيته الفردية ولا من خلال مجتمعيته الذاتية.
يدرك سارتر جيدا أن الوعي الخالص في وعي الانسان ذاته خيالا عقليا مجردا عن أي انتماء أو موضوع يتخارج معه في تحقيق نتيجة هو محال فقال عبارته الشهيرة (يتوجب علينا مغادرة انا أفكر اذن انا موجود)، التي هي التجسيد الحقيقي لتحقيق الوعي الخالص كوجود ذاتي متحقق في أعلى مستوياته الممكنة.
وأدرك هوسرل قبل سارتر هذه الحقيقة قائلا وعي الذات يقترن ب(قصدية) أخذها عن برينتانو كما أدركها بعده هيدجر قائلا وعي الذات الحقيقي يقترن ب(الديناميكية) في مجال تعبيرها المجتمعي عن حقيقة وعي الوجود.
ما عدا فلاسفة المثالية، جميع فلاسفة الماركسية والوجودية والبنيوية والتفكيكية والعدمية خرجوا على كوجيتو ديكارت، في إقرارهم صاغرين بأن التفكير عقليا في صمت اللغة كوسيلة إدراكية لا يمكنها تحديد أو فهم الوعي الخالص، بمعزل عن اقتران ذلك الوعي بهدف يجعل منه جزءا من منظومة اجتماعية وجودية تعيش الحياة بأي شكل من الإشكال. لكنهم ابتدعوا مثالية ابتذالية بما لا يقاس مع الفلسفات المثالية في ابتذالية الوعي الإدراكي، تلك هي فلسفة اللغة في التحول اللغوي باعتبارها وسيلة مركزية في حل جميع اشكاليات الفلسفة التي كانت اللغة سببها في سوء استخدامها متناسين، أن قصور الفلسفة كتفكير منطقي تجريدي هو المبتدأ والمنتهى، واللغة في كل الاحوال هي وعاء الفكر العقلي.
في هذا المنحى نجد هيدجر أراد أن يخرج وعي الذات من المجرد الفكري داخل منظومة العقل، الى أثبات الوعي وجودا وكينونه في وعيه الاشياء كمتعّين أنطولوجي، لا يمكن أدراكه لذاتيته من غير وعيه العالم الخارجي وأدراكه له. فوجود الاشياء في العالم الخارجي لا يرتبط بعلاقة مع الفكر، من دون أن يجعل الوعي منها وبها والتفكير الادراكي لوجودها، موضوعا وكينونة متعينة مدركة عقليا وذهنيا في أسبقية الفكر على اللغة في أدراكها داخليا وأسبقية اللغة على الفكر في التعبير عنها خارجيا. (هنا تعبير تراتيبية الاسبقية لا تلغي تعالق الفكر واللغة في استحالة تفكير العقل من غير تلازمهما).
إدراك الشيء لغة عقلية فكرية صامتة أما التعبير عنه فهو لغة عقلية ناطقة. لذا يكون أدراك الشيء كموجود في الذهن يختلف آليا التعبير عنه باللغة كموجود في عالم الاشياء الخارجية، علما أن العقل يفكر لغويا ويعبر عن الفكر بوسيلة اللغة الصورية أيضا في تمثلاته الاشياء في وجودها المستقل.
ثمة تداخل أربعة فعاليات لا يمكن أن يتوفر هناك أدراك أو وعي بالأشياء المادية منها أو الخيالية بغياب واحدة منها هي في تسلسلها المترابط كالتالي: شيء موجود مستقل في العالم الخارجي أو العالم الخيالي (موضوع) +حواس خارجية أو أحاسيس داخلية تنقل عن الموضوع صفاته المدركة خارجيا له الى الذهن+ منظومة جهاز العصبي والدماغ الذي يستقبل تلك الايعازات الواصلة له + مقولات العقل بشأنه كموضوع يفصح عنها بلغة تعالق (الفكر واللغة معا ). بغير هذه الآلية الترابطية لا يكون هناك وعي بشيء.
سارتر وميرلوبونتي ولغة الصمت
أن الانسان العاقل يفكر ذهنيا وهو صامت، ويفكر صامتا وهو نائم، ويفكر صامتا وهو حالم، والصمت لغة حوار العقل مع ذاته داخليا في الموضوع, فالعقل لا يفكر في فراغ – سنوضح هذا لاحقا – ويكون تفكير الصمت بلا لغة تعبير تواصيلي إفصاحي إيحائي لا يشترط توسله اللغة ممكنا وجودا، عندما يكون الصمت هو تفكير في موجودات مادية واقعية تكون مادة تفكير صامت، أو أن مواضيع التفكير الصامت خيالية لا وجود لها ماديا متعينا في الواقع، يتناولها العقل بالتفكير الذهني المجرد، والصمت الذي يفكر بموضوعه لا يلغي دور العقل أو لا يستطيع الاستغناء عن الوظيفة العقلية في الوعي والتفكير بالأشياء. فالصمت في اللوحة التشكيلية هي لغة تخاطب، ورقص الباليه، والمسرح الصامت، واليوغا، وغيرها هي تعبير لغوي لا يتوسل لغة التواصل المباشرة.
أن وظيفة العقل في التفكير بالمجردات الذهنية أرقى درجة وأهمية منها التفكير في الموضوعات المادية التي يعقلها العقل كواقعات مادية ويدركها ظاهراتيا أو ماهويا. فالعقل في ملازمته الخيال ورقابته على اللاشعور وتداعيات التصورات الذهنية تكون مهمته أصعب من مهمة العقل في تناوله الماديات والموجودات والاشياء في الطبيعة، لكيلا ينتج عن التفكير الخيالي الذهني المجرد أصوات وهذاءات تعبيرية لا تعطي المفكر به من موضوعات مادية أو مجردة استحقاقها الوعوي الادراكي كما لا تعطي الهذاءات غير العقلية وعي الذات مصداقيتها.
يقول سارتر:(أن مسألة اللغة تسير جنبا الى جنب مع مسألة الجسم) (2)، وهي عبارة سليمة في توكيد بديهة بأيولوجية فيزيائية، أن اللغة لا تفارق جسم الانسان العاقل الناطق باعتبارها خاصية انسانية يتمايز بها الانسان ويحتازها لوحده من دون الكائنات الحية في الطبيعة. وفي نفس المقاربة التعبيرية يقول ميرلوبونتي (الكلمة ايماءة حقيقية لانها تتضمن معناها، وليست عشوائية أو طبيعية). (3)
الصمت لغة تواصلية
الإنسان في جنبة محورية جوهرية من كينونته الطبيعية هو أنه وجود عقلي لغوي ناطق. فالإنسان يفكر وهو يتكلم ويفّكر وهو صامت ويفّكر لا شعوريا وهو نائم، ويفكر وهو في حلم اليقظة، ويفكر وهو ماشيا لوحده أو مع مجموع. وفي كل حالات الصمت يحتاج الانسان التعبير اللغوي أو الكلامي عن بعض الاشياء والموضوعات، ويكتم أو يستعصي عليه التعبير عن بعضها، أو يتعذّر عليه الافصاح التواصلي في بعضها الاخر. أذن الانسان وجود مفكر في صمته وفي الافصاح عن بعض تفكيره الصامت في الكلام أو اللغة أو الكتابة. والإنسان كينونة عقلية إدراكية تفكيرية، ولغوية ناطقة، وخيالية تجريدية، تحتويها كل خصائص الانسان المادية وجودا.
يقول ميرلوبونتي (إذا كانت اللغة كيان باطن، فأن هذا الباطن ليس فكرا مغلقا على ذاته وواعيا بها). (4) أنه لمن المهم أدراكنا أن اللغة في التفكير الباطن العقلي أي الصامت, هي وسيلة العقل أن يعقل نفسه ووسيلة العقل في وعي الاشياء المادية وغير المادية ذهنيا. كما أن العقل هو الوسيلة الوحيدة في أدراك وفهم الوجود الخارجي ولا بديل عنه. أما إذا بقي هذا الادراك العقلي منغلقا على العالم الخارجي، في عدم ادراك تواصله الجدلي مع الاشياء والموضوعات، فهنا يصبح الانسان كيان لغوي حواري داخلي صامت فقط مفارقا لجوهر إنسانيته، وهو محال أن يكون وضعه هذا دائميا بالنسبة لإنسان سوي مجتمعيا عاقل وناطق ايضا سواء يعيش منعزلا أو يحتويه مجتمع. ومحال ايضا أن يكون الانسان خارج طبيعته بخصائصها الإنسانية، ألا يوجد ويكون جزءا من الطبيعة متفاعل مع مظاهرها، لا أن يكون كيانا مفكرا بذاته فقط ولذاته أيضا، منعزلا عن واقعه ومحيطه الاجتماعي. ولا في تعطيله لغة الحوار التواصلي مع الاخر.
الصمت الانساني هو حوار لغوي داخلي يعمل في الذهن البشري المفّكر، بينما يكون صمت الحيوان (لا معنى) له غير متعين لا عقليا ولا ذهنيا ولا تفكيرا منطقيا ولا تعبيرا لغويا. فهو صمت يغيب عنه العقل بخلاف الانسان. في عجز الحيوان الصامت أن يكون صمته تفكيرا خياليا محكوما بوعي زماني ومكاني، كما عند الانسان حيث يقوم العقل ومن ثم اللغة على تنظيم ذلك التفكير الخيالي في وعيهما الزمن. في هذا تكون علاقة الانسان بالطبيعة إثراءا لوجوده، وبقيت علاقة الحيوان بالطبيعة إفقارا لوجوده لولا تدخل ما يسمى محميات الحفاظ على التنوع البيئي والحيواني والنباتي من الافقار التدريجي الذي يقود الى أختلال بيولوجي مفزع في الطبيعة يقود الى انقراض العديد من الكائنات الحيوانية والنباتية، ومن هنا كان الانسان كائنا وجوديا مستقبليا، أي يفكر بالمستقبل زمانيا بما لا يتوفر للحيوان ذلك إلا مع تدّخل الانسان بالطبيعة في جعل الذئب يرعى مع الغنم عندما تنتفي الحاجة إلى القتل والافتراس الحيواني لإسكات الجوع في محميات الحفاظ على التنوع البيئي الطبيعي. كما انتفت مقولة هوبز الانسان وجود يلازمه القضاء على أخيه الانسان من نوعه منذ بدء الخليقة والى يومنا هذا.
 أشرنا سابقا لغة التعبير الفني مثلا في النحت والرسم وفي جميع جماليات الفنون التشكيلية، هي ايضا لغة حوار داخلي صامت معبّرا عنه بوسائط توصيل هي غير لغة الكلام أو الكتابة. وتكون لغة الحوار التواصلي في حالة كمون يستنطقها الانسان المتلقي للفن والجمال ويفهمها حسب ثقافته وتكوينه النفسي والجمالي. واللغة الصامتة بالفن منتج عقلي للفكر وتداعيات اللاشعور.
أما لغة التعبير الانساني الكلام أو اللغة المكتوبة فهي منتج مصنع الحيوية العقلية الانسانية المتفردة خياليا أو فكريا تواصليا، وبذلك يصبح الانسان كائنا لغويا يفكر وهو صامت وفي مخياله حضور ووعي الزمن الماضي والحاضر والمستقبل. وهذا النوع من الادراك بالزمن والمستقبل لا يتوفر عليه الحيوان...فالحيوان لا يعي الزمن مثل الإنسان، حتى وأن كان هذا الوعي الزمني(افتراضيا) كما يمارسه الانسان افتراضا وجوديا لا غنى عنه .
وعي الذات والصوفية
الانسان كينونة تمتلك فينومينولوجيتها وماهيتها وجوهرها المعبّر عنها في جميع صفاتها وكيفياتها التي تجعل من الانسان كائنا متمايزا في هوية جوهرية ماهوية مستقلة، وفي هذه الخاصية يتأكد استحالة الاتحاد الانساني غير القابل للتسوية بين الوجود في ذاته، والوجود من أجل ذاته، ومثال هذه الاستحالة تتمثل في محاولة الصوفية الاتحاد الانجذابي الاتحادي المؤقت بين الله الذي هو وجود (بذاته)، مع الانسان الذي هو وجود (لذاته) في كيان مادي ماهوي متعين، الله كيفية افتراضية لا يمكن اتحادها بكيفية انسانية مغايرة مادية. والله كائن نوراني حسب التعبير اللاهوتي لا يدرك عقليا وغير متعيّن ماديا بالنسبة لإدراك الانسان في محدودية ادراكه في اللانهائي الوجود. وفي هذا الفارق الجوهري الكبير ممثلا في تغاير (كيفيتين) احداهما روحانية لا يدركها عقل الانسان والاخرى مادية تتمايز ماهويا ذاتيا، كما تتمايز بعلاقتها مع قوانين الطبيعة التي يتحكم بها مطلق الزمان ولا محدودية المكان. وبهذا فالإنسان كيفية لا تلتقي الا مع كيفيات أخرى تشترك معها بالصفات الجوهرية المادية من نوعها تتجانس معها في كل أو بعض الصفات والماهيات ضمن ضوابط قوانين الطبيعة.
وعي الذات جماليا
لغة التخييل الانساني هو قسمة مشتركة بين وعي ذاتها ووعي المدركات المادية وغير المادية، كذلك مفهوم الخيال في وعي الانتاجية الفلسفية أو الجمالية، وفي نظم الشعرية الادبية الفنية، وفي اية فعالية فنية جمالية ينتجها الانسان ويلعب الخيال الفاعل دورا مهما فيها، وفي مجمل الفنون التشكيلية والنحت وغيرهما، كذلك الحال في ابداعات الاجناس الادبية الشعر والرواية والقصة ومختلف السرديات التي تعبر عن جماليات الادب والفنون عامة. في كل ما ذهبنا له يكون الخيال المنتج حاضرا.
رغم أني في عدة مقالات فلسفية منشورة لي تناولت فيها علاقة التعبير اللغوي كقاسم مشترك يتوسط التعبيرين الفلسفي والشعري، إلا أني أجد في نهاية هذه المقالة المرور السريع بهما. فالشعر بخلاف فلسفة افلاطون أكثر أنواع التعبير الانساني الذي يتعالق تواشجيا ارتباطيا بالتعبير الفلسفي. كما يذهب له نيتشه وهيدجر وغيرهما.
لغة الخيال العقلي غير المرضي المنتج ,هو قسمة مشتركة بين الفلسفة والشعر باختلاف ان لغة التعبير الفلسفي تلتقي بالشعر في ناحية انها ايضا تتعامل بمنطق التعبير اللغوي التجريدي الذي يتداخل فيه الخيال مع الفكر، لكن التعبير الفلسفي التجريدي لا يلغي هيمنة العقل ورقابته الصارمة, على العكس من الشعر الذي يطغى فيه الخيال وتداعيات المنطق اللاشعوري في اللغة، الذي لا يتوّسل العقل في التنظيم اللغوي, ولا يستدعي الشعر العقل في لجم الخيال المتداخل في جوهر منطق التعبير الشعري الذي ينتهك اللغة المنظمة ويعمل على جعلها لغة تهويم خيالي يخرج باللغة عن مألوفيتها التواصلية التداولية في ابتداع لغة خاصة خارج التنميط العادي. في وقت ترى الفلسفة لغتها التعبيرية في حضور صرامة العقل على التفكير الفلسفي ان تكون صياغة الافكار فيها تقترب جدا من صرامة علم الرياضيات.
الفلسفة في خروجها عن التنميط اللغوي التواصلي، تذهب باللغة الى مجاهل الفهم الاستعصائي على التلقي المباشر، فهي تستدعي العقل في رقابته الصارمة ان لا يخرج التعبير الفلسفي العقلي، عن منهجية اللاشعور في غلبة الخيال في انتاج تعبير اللامعنى وإعدام نظام اللغة التقليدي كما في الشعر.
تأكيدا لما سبق لي ذكره أن عبقرية اللغة سابقة على عبقرية الفكر، كما ان جمالية اللغة أسمى من جماليات التعابير الاخرى التي لا تتوسل اللغة قيمة عليا في التعبير. رغم ان تراتبية انتاجية العقل للغة لا يسبق انتاجية العقل للفكر. وفي حال صمت الإنسان، تكون اللغة هي الفكر ولا تفريق بينهما خارج الذهن كما لا تفريق بينهما داخله أيضا. فاللغة هي الفكر داخل العقل وخارجه في ترابط لا انفكاك بينهما. واللغة والفكر حوار داخلي غير مفارق ولا معلن, وكذلك هما خارج العقل حوار عقلي معلن لا انفكاك بينهما في فهم احدهما بمعزل عن الاخر. اللغة والفكرة تعبير واحد عن موضوع ملازم واحد في زمنية لحظوية محسوبة، ويفترقان عن الخيال العقلي المنتج لهما، وفي التمايز الدلالي بينهما، متى ما اصبحت الفكرة واقعا ماديا دلاليا معبرا عنها بلغة يدركها المتلقي في ظاهرياتها، أو بما تستبطنه الفكرة من دلالات تحمل فائض المعنى بلا نهاية قرائية استقبالية للنص.
الهوامش
1.      ميرلوبونتي، نقلا عن عبد الوهاب جعفر، الفلسفة واللغة، ص 58
2.      نفس المصدر السابق ص 106
3.      نفس المصدر السابق ص 107
4.      نفس المصر السابق ص 127



تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس