وليم جيمس.. هل الوعي موجود؟

وليم جيمس.. هل الوعي موجود؟
د علي محمد اليوسف                                                             28 نونبر 2019
أصدر وليم جيمس هذه المقالة بعنوان هل الوعي موجود؟ عام 1904 وكانت تمهيدا مباشرا لانبثاق الواقعية الجديدة وريثة الفلسفة الذرائعية الامريكية التي قامت على مرتكزين:
الفكرة الأولى: لا وجود لمادة أو لكيفية أولى خاصة بالكائن تتميز عما به تكوّن الموضوعات المادية، بل ثمة وظيفة بالتجربة تؤديها الأفكار، والوظيفة تكمن بالمعرفة (1) ... ما نفهمه من العبارة أن الوعي بالمدركات الحسية تجربة معرفية محايدة، ووظيفة بمعنى الوسيلة أو الوسيط وليس كيانا جوهريا استدلاليا معرفيا قائما بذاته يمكننا الاحتكام له كحقيقة منطقية متعالقة بالعقل من جهة وفي التعبير اللغوي والفكري عن مدركات الموجودات الحسية من جهة أخرى... فالوعي هو تصورات الافكار العقلية لمعرفة العالم والاشياء وليست موضوعا قائما بذاته مدركا من غير صاحبه وقد ناقشنا هذا الطرح في عدة مقالات سابقة لنا نوضّح جانبا منها لاحقا بضوء الفهم الذرائعي للوعي عند وليم جيمس.
الفكرة الثانية: التجربة الخالصة لا لزوم قسمتها الى وعي والى مضمون وعي، فتجاربنا ليست موجودة وحسب بل هي معروفة، والكيفية الواعية يمكننا تفسيرها من خلال علاقاتها المتبادلة. (2)
من الحقائق الفلسفية التي بدأها كانط وأعتمدها هوسرل بمنهجه الفينامينالوجي أن الوعي يحمل ويدّخر موضوعه أي (مضمونه) في المسكوت عنه الخفي في عجز اللغة الاحاطة به.. وليس هناك وعي سليم طبيعي لا يكون قصديا يحمل هدفه.. والوعي بلا مضمون ثرثرة وهراء لا معنى له، وقد أعتمد هذه المّسلمة الفلسفية كلا من هوسرل ومن بعده كلا من هيدجر وسارتر، والأهم أعتمدها جون سيرل وهو من فلاسفة الذرائعية الامريكان المعاصرين المتأخرين....
نحن مع استحالة أن يكون هناك معنى حقيقي لقول فلاسفة الواقعية الجديدة (لا لزوم الى قسمة التجربة الى وعي والى مضمون وعي) فليس من الممكن حدوث مثل هذه القسمة التي تحذر الذرائعية منها؟؟ الوعي هو إدراك عقلي فكري واحد من التجربة المعرفية ذي وجهين، أي هو وعي بمضمون وألا وقعنا في استحالة إدراكية من حيث أن الوعي بلا مضمون هو وعي غير ممكن عبثي عشوائي لا يحمل معنى الوعي الحقيقي ولا يمكننا التأكد من أمكانية حدوثه عند الشخص السوي في وعيه لذاته ولموجودات العالم... الوعي مضمون عقلي فكري مادي وليس تجريدا لفظيا لغويا فقط في التعبير عن المدركات...
لا يوجد وعي خالص كما أدانه سارتر بمعنى التجربة القائمة بذاتها التي ليس لها مضمون واقعي في عالم الموجودات بسبب استحالة الفكر واللغة التعبير عن وعي خال من المعنى والمضمون... الوعي وظيفة العقل في نقل الفكر وهو جزء لا ينفصل متعالق مع العقل كجوهر... ومن غير المجدي أن نضع محددات الوعي على أنه تجربة محايدة فقط وليس جوهرا فاعلا مستمدا من تخارجه مع جوهر العقل.. والوعي الخالص ربما يكون نوعا من التجربة الصوفية أبعد منه أن يكون وعيا وجوديا لا يمكن بلوغه ولا يمكن تحققه..
وعندما حاول ديكارت في كوجيتو أنا أفكر... أن يجعل الوعي تجربة ذاتية خالصة في أدراك الوجود انهالت عليه الانتقادات الشديدة من كل حدب وصوب التي بدأها كانط ومن بعده هوسرل وهيدجر وسارتر ولم تقف عند حدود فلاسفة البنيوية أبرزهم شتراوس وفوكو ولاكان والتوسير وصولا إلى كونديرا على وجه التحديد في أدانة مقولة ديكارت، معتبرين الوعي الفردي أو الخالص ذاتيا ليس كافيا لأثبات الوجود...فالوعي لا يتمكن التعبير عن نفسه الا بمغايرة وعيه لغيره من الذوات أو الموجودات من جهة وارتباطه الجوهري بالعقل من جهة أخرى... وبغير هاتين الصفتين الملازمتين للوعي يتحدد أن يكون حقيقيا له معنى أو لا يكون.
ولم يخلص ديكارت حتى من أولئك الذين دافعوا عنه على اعتبار ديكارت قرن وربط الوعي الذاتي الانطولوجي بالفكر وهو ما لم يسبقه به أحد من الفلاسفة..
ما هو الوعي...؟
الوعي الذاتي يكون فرديا شخصانيا ولا يمكن تعميمه، ولا يمكن تحققه الا بتوفره على جملة اشتراطات ندرج بعضها بأقل الكلمات:
-          أن الوعي هو الوعي الذاتي بالآخر المفارق المختلف عنه، ويبقى الوعي منقوصا أذا ما كان وعيا ذاتيا مثاليا خارج الوجود- في – عالم. (مستفيد من تعبير هيدجر).
-         والثاني لا وجود لوعي ذاتي بلا مضمون قصدي يحركه كهدف يسعى له يريد بلوغه والوصول له... (مستفيد من تعبيرات هوسرل وهيدجر وسارتر)
-         والوعي لا يكون موضوعا لذاته، أي أن الوعي لا يعي ذاته كجوهر قائم منفصل عن مدركاته من جهة وتجريده من ارتباطه بالعقل من جهة أخرى.. فمثلما لا يكون العقل موضوعا للعقل ذاته كذلك لا يمكن أن يكون الوعي موضوعا لوعيه.. أن العقل والوعي كلاهما وجهان لعملة واحدة يتبادلان الادراك ليس لمعرفة الموجودات والاشياء وحسب وإنما لمعرفة ذاتيتهما المتداخلة معا.... لذا يكون من الصعب الاستدلال على الوعي من دون تداخله بالعقل ومن خلال تعبير الفكر واللغة عنهما..
-         الوعي هو تفكير العقل بوسيلة اللغة.
-          الوعي يعي ذاته في مدركاته المغايرة له... الوعي يتحقق حين يكون الوعي بشيء يدركه مغايرا له... كما لا يمكننا تصور وعيا بلا مضمون... مضمون الوعي هو الوعي الحقيقي في مرجعية الاحتكام فيه للعقل.. والوعي بلا مضمون لا يمكن حصوله وحدوثه كونه مجردا عن مداخلة العقل في مدركاتهما الاشياء وفي التعبير عنها.
-         والوعي تجربة شخصانية منفردة تسعى لإشباع هدفها فرديا ولا يمكن تعميمها، فلكل وعي انفرادي هدفه المسبق المراد تحقيقه ولا وجود لوعي من دون قصدية... (مستفيد من تعبير هوسرل وجون سيرل)
-         والوعي تتعّطل وظيفته حينما لا يكون تعبيرا عن معنى...أي بلا مضمون.
الوعي والفكر
الأفكار هي معارف إدراكية يطلقها الوعي الذي هو وظيفة أنطولوجية – ابستمولوجية، ولا يمتلك الوعي قدرة الحكم على الاشياء منفردا كتجربة محايدة في اكتساب المعرفة التي هي من اختصاص العقل تحديدا قبل الوعي الذي غالبا ما يتجسّد بتعبير الفكر واللغة عنه...
والوعي القصدي الهادف هو الذي نراه متشّكلا كموضوع في تعبير اللغة ويحمل أفكارا مصدرها تخليق العقل للأشياء ومدركاته وليس خلقها بالفكر بما يضفيه عليها من مقولاته التفسيرية البنائية... من الخطأ أن نعامل الوعي على أنه تجربة محايدة في نقل أحساسات مدركاته عن الحواس بمعزل عن تداخله الصميم بمقولات العقل المعبّر عنها باللغة فالوعي هو العقل في تعبير اللغة.
الوعي الذاتي هو وعي الأنا الذي يسترشد بالعقل على الدوام في بيان حقيقة الاشياء والحكم عليها بمقولاته النقدية والتكوينية للمدركات... والوعي وظيفة عقلية ابستمولوجية لا يكون موضوعا لذاته ولا موضوعا لمدركاته من غيره... فهو وظيفة أدراك الاشياء والموضوعات المغايرة له... والوعي يعي ذاته كماهية جوهرية تخصّ الانسان الفرد ولا يكون الوعي الفردي موضوعا لغيره بمعنى لا يمكن تعميم ما يدركه الوعي منفردا على المجموع... فالوعي الذاتي هو ماهية الانسان التي لا يدركها غيره، والوعي خاصية إنسانية لا يمتلكها الحيوان ولا كائنات الطبيعة..
والعقل يعي ذاتيته وماهيته كموضوع تأملي صامت، ويدرك ذاتيته في وعيه وأدراكه لغيره من الاشياء والموجودات المغايرة له.
لا يمكننا تقسيم الوعي الى تجربة وعي محايدة والى وعي بمضمون حسب تحذير الفلسفة الذرائعية، فالوعي جوهر لا ينقسم على نفسه حاله كمثل حال جوهر العقل، وعي الذات هو مضمون الوعي الذي يدرك ذاته ويدرك موضوعاته على السواء ولا يكون الوعي موضوعا مدركا من غيره مالم يصدره العقل على شكل تعبير لغوي حسي عن الاشياء.. ومضمون الوعي هو الوعي الحقيقي ولا يمكننا تصور وعي لا يتعالق بموضوعه والا كان وعيا زائفا بلا معنى... بعبارة ثانية ليس هناك وعي لوحده كتجربة محايدة ولا هناك وعي بمضمون يختلف عنه بعد التجربة...
أن الوعي هو تصورات الذهن لمدركاته داخليا، والوعي فكر ولغة تعبير واحد يصدره العقل خارجيا في معالجة مدركاته.. الوعي الذاتي بين أنسان وآخر- أي داخل النوع الواحد – هو وعي نوعي مفارق ومغاير لكل منهما تجاه الاخر المدرك كموضوع... وحين يجد كل منهما في الانسان الآخر موضوعا لوعيه وأدراكه، يكونان بهذه المغايرة التعالقية من الوعي المتبادل بينهما يعرف كلا منهما حقيقة وعيه الذاتي...وعي الذات لا يتم الا بوعي المغايرة عن موضوعه.
علي محمد اليوسف /الموصل
الهوامش** الاقتباسات المحصورة بين قوسين غير المشار لها بالهوامش مأخوذة من مصدر هذه المقالة كتاب /الفلسفة الأميريكية/جيرار ديلودال/ترجمة د. جورج كتورة ود.الهام الشعراني.
1.     المصدر اعلاه ص 123
2.    المصدر نفسه ص 121

تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس