فلسفة الرغبة في ديوان "لمن الشوق كل مساء؟" لرشيدة بوزفور

فلسفة الرغبة في ديوان "لمن الشوق كل مساء؟"
لرشيدة بوزفور
محمد بعدي
تقديم
ربما تبدو العلاقة بين الفلسفة والشعر علاقة متباعدة، خصوصا وأن الفلسفة ارتبطت دائما بالعقل والتأمل، ومعاداة العواطف أو على الأقل الابتعاد عنها. بينما شكلت الأحاسيس ركنا ركينا في كل تجربة شعرية، واللاعقل أساسا لها. غير أن الاقتراب من التجربتين الفلسفية والشعرية يكشف عن وشائج وصلات لا يمكن نكرانها، ويكشف عن نماذج تاريخية جمعت بين التجربتين.. يبقى النموذج الأفلاطوني أبرزها.
قرأت ديوان "لمن الشوق كل مساء؟  للشاعرة رشيدة بوزفور، الصادر عن دار الإسلام للطباعة والنشر في 2014، فوجدته ككل تجربة شعرية ينفتح على قراءات متعددة اخترت من بينها هذه المحاولة حول فلسفة الرغبة. حيث وجدت هذا المفهوم، أي الرغبة، يخترق الديوان ويقيم في كل تفاصيله، ليس كمفهوم عابر أو عرضي، وإنما كحالة وجودية جوهرية تعبر إراديا أو لاإراديا عن الذات الشاعرة في علاقتها بذاتها وبالأغيار وبالأشياء... إن الرغبة في قصائد الديوان نمط وجود ومنهج حياة... فالذات بهذا المعنى لا توجد إلا ما دامت لديها رغبة، ومتى انعدمت الرغبة أسرعت هذه الذات الخطو في اتجاه نهايتها.
1 - الرغبة جوهر الوجود: قراءة في العنوان
"لمن الشوق كل مساء...؟" عنوان يختزن الرغبة التي لا تنتهي.. إنها رغبة في هذا الغير الذي يكون حاضرا في الغياب، هذا الغير الذي كلما أرخى الليل سدائله يقف في غيابه كذكرى تشعل نار الحنين وتزرع في قلب القصيدة نبتة الأنين، هذا الغير الذي له الشوق وله الثوق أبديا... هذا الغير الذي كان آدم لحواء، هذا الغير الذي يجسد العلاقة الوجودية الأبدية بين أنيين يحتاج أحدهما إلى الآخر ليكون.. لأن الوجود يصير لا- وجودا عندما لا يكون... فالشوق هنا يتكرر كل مساء في عود أبدي يعبر عن التجربة الإنسانية التي تسعى دوما للاكتمال دون أن تدركه، وتنهد دوما للقاء يجهضه المساء. هذه التجربة الإنسانية المعبرة عن ذات راغبة أبدا من أول صرخة وحتى آخر رمق..
2 - الرغبة في الغير أو الحب المستحيل
تتبدى الرغبة ميولات نفسية جامحة للامساك بأمل يجعل المرغوب فيه يمحي بحضوره الغياب، لذلك تريد الذات أن تكون مرفأ لمركب ذات أخرى تعشق السفر بعيدا عندما تحل الأمسيات، حينها يصير المكان بيداء، لا البحر يغسل حزن المدينة ولا الشوارع تجد لها رداء، وحدها الذات تقبل جبين الألم، وتعد الكفن للأغنيات التي غيلة ودعت الحياة... وحده ألم الغياب يحفر جرحا عميقا تطال ندوبه الأمكنة، فعندما يغيب آخر الذات تصير الجديدة مدينة مقفرة، وكأنها لا تتجمل ولا ترتدي زينتها إلا بوجود المحبوب... وحده الشك حصانا جامحا يرقص على جثة الأزاهير، وينثر على خد الورود بدل النسمات الأعاصير.
تقول الشاعرة في قصيدتها الرائعة "لم يأت بك المساء" مخاطبة الغائب - الحاضر:
آلمتها،
هي الشطآن البعيدة إذن
وكل تلك الكائنات الرخوة.... الجميلة
عارية شوارع المدينة
حافية القدمين هذه الأطلسية اللعوب
{...}
حبيبها
براءة روحها
حوافر الشك تدك أزاهير حديقتها
أكلما – في حضنك – الإيمان اقترفت
ينأى بك الكفر مسافات
هكذا هو الغير إذن، أناني، نرجسي... لا يتقن غير أن يزرع داخل النفس العاشقة المشاعر الأليمة المدمرة للذات القلقة التي تلف الحيرة عنقها، ويعييها الحزن فتتوسد حضن القصيد وتتدثر الكلمات عندما لا تجد غير الحرف بلسما...
موحشة أحراش حلمي
قاتلة خيوط الحزن هذه الأيام
عبثا تبعدها الحروف عن نحري
وحده الدفء المنهمر من أعالي الروح
ما يبدد – قصائدا – وحشة رصيف الأمنيات
هذا الغير الذي يفتقد الذكاء العاطفي، ولا يحسن محاورة امرأة متيمة، هذا الغير "السيبيري" المشاعر، والذي يأبى إلا أن يستل سيفا ويغتال عند كل مساء أجمل الأغنيات...
هكذا أنت
بارد كجبين اليتامى
متعب كحال الدفاتر القديمة
مثقل بحفيف القصائد وغبار الذكريات
تتسكع في دمي
فاغرا ألم الغياب على حشاشة التفاصيل
كم من حنين يكفي
ليصخب جوف الليل ببعض الأغنيات؟
هكذا هو الغير إذن.. مقاول نساء، ومربي وحوش الغدر في ساحات الوفاء، من يعرف كيف يخون، ومن يعرف جعل كل شيء، حتى الحب، يهون. من يذنب ولا يتعب، من يعشق فيلهو ويلعب.. هذا الغير الذي يهوى الطعن، وإن سئل يكذب دون أن يرف له جفن...
في الخيانة،
لا تسأليه:
لم خنتني؟
هو لن يقول: أذنبت
وأنت – كما أنت - لن تغفري
فقط ضمي حقيبتك
عودي إليه
أو ارحلي
هو الغير الذي لا يكتفي بأن يخون، والذي عندما يهدى إليه القلب لا يعرف كيف يصون، وإنما يسعى إضافة إلى الخيانة اختلاق أعذار تضيف إلى الخيانة خيانات... وإلى ما تبقى من حب، ما تبقى من إساءات...
تقول الشاعرة بوزفور بتعبير بليغ:
أكان عليه أن يتأبط هكذا عذرا...؟
لكأن الخيانة لم تكفه سقوطا من علياء الخشوع
3 – الرغبة والشعر أو القصيدة كتحقق للرغبة
ليست القصيدة في ديوان "لمن الشوق كل مساء؟" جلسة شعرية هادئة على ضفاف الذات، بل هي امرأة عاشقة، تتزين كل مساء حين البوح يملأ القلب، وحين الشعر يمرر أنامله بين خصلات شعرها لتغفو.
مال المساء على غصن قلبها
أترع البوح
ساور جموحها
تثاءب القصيد
تداعت
يا فرح أناملها
قد حث الشعر إليها غفوتها
إن القصيدة عند الشاعرة رشيدة بوزفور وسادة أحلام وردية بريئة التي لا تحدها حدود... إنها حضن ذكريات جميلات كان الماضي لها يوما سكنا وسكنى... إنها سرير لذة حيث تزرع الكلمات الحياة في ماض يقبل أبدا شفاه الذاكرة...
لا حدود للأحلام
قد شبت حرائق القصيد
عراة....
حفاة إلا من طفولتنا
يزرعنا الشعر في الأمداء الغجرية على مرمى العود
الأبدي
 إن القصيدة عند الشاعرة رشيدة بوزفور تحقق للرغبة العاطفية، وترجمة لما يعتمل داخل الذات الشاعرة من حب يجعل حدائق القلب تزهر ياسمينا أو يصيبها الإعصار.
فما الحب
سوى قصائد تكتب على عجل
وأخرى
على مهل قد تحرق كل جميل فيك
 إن القصيدة عند الشاعرة تصير نبيذا مسكرا يرتقي بالذات مدارج العاشقين، حتى تصل أعلى مقامات المحبة، حيث تحل الذات في الغير، وتصير اللغة، كل اللغة، كلمات غزل وهيام، وتنمحي الذات في الحبيب...
قبلة اشتهائي
هذا النبيذ الأحمر المنسكب من معانيه
هذه اللغة النافرة مني إليه
هذا الحلول اللذيذ
المنهمر علي بكل أسرار الحياة
4 - الرغبة والجسد أو النص الإيروتيكي
في بعض القصائد نلمس حضور الإيروتيك في الإبداع الشعري للشاعرة رشيدة بوزفور. غير أن هذا الحضور لا يمثل دعوة إلى إثارة المعطى الأسفل للجسد أو الجانب البيولوجي، وإنما يمثل تعبيرا عن إحساس طبيعي وجد منذ وجد الإنسان، سواء تعلق الأمر بالذكر أو الأنثى، هذا الإحساس الذي يحرك غرائز الكائن البشري ويعزف على وتر الشبق فيه.. وحين يترجم ذلك إبداعا أو تحمله الكلمات الشاعرية فهو يستحيل جمالا روحيا يروض الشهوة ويثقف الجسد... وعندما تفرد الشاعرة رشيدة بوزفور للإيروتيك مساحة من قصائدها يكون لهذه القصائد تأثيرا خاصا وجمالا متميزا، تقول الشاعرة:
لا شيء غير نهدها
يقتات من غيمة الأحلام
ويذرف الحروف من جوف الذوبان،
رويدا.... رويدا..... حيث المغيب.
كما تقول أيضا:
تلك الشفة التي
كرزا دون الشفاه أشتهي
وفي قصيدة أخرى نقرأ للشاعرة:
عالق أنت
مشدود إلى حلمات السماء
تراوح الجنوح فيك لمدائن اغترابي
موعود بالتيه ابدا حتى آخر حدود الانتشاء
تلك القبلة التي
في البعد ساورت شفتي
تلك الشفة التي
عنبا دون العناقيد قبلتي
أكان علي أن أحتاجك
لأعلم أنك أيضا تشتهي
في هذا العمر الكئيب عناقيد جنتي...؟
إن الإيروتيك عند الشاعرة بوزفور يعبر عن علاقة إنسانية سامية تهذب الروح وليس علاقة بهيمية تعرض تفاصيل الجسد وتستفز الشهوة... فالشاعرة توظف لغة الإشارات والرموز التي توحي وتلمح... وهي لغة بعيدة عن الطروحات "البورنوغرافية" العبثية... إننا هنا أمام طرح شاعري سامي ومهذب يحوي دلالات عميقة للغريزة الجنسية باعتبارها محور الوجود البشري...
على سبيل الختم
يحتاج ديوان "لمن الشوق كل مساء...؟"، إقامة طويلة بين دروبه، ذلك أنه نص جذاب، يشدك إليه شدا غريبا، ويمنحك متعة خالصة. أضف إلى ذلك أنه نص مسكون بمضامين وأفكار فلسفية عميقة وليدة تأملات في الذات وفي ما بعد الذات... وهو لذلك نص مثير للاندهاش، حاض على التساؤل... مدغدغ للمشاعر بشكل ساحر، لكنه لا ينوم المتلقي بل يوقظ فيه روح التفكير والتأمل والمناقشة.


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس