انصهار الفكر في الوجود


انصهار الفكر في الوجود
منجد النّور الكرعاني                                                          09 فبراير 2019

إنّ مسار مصير كلّ فرد بصفته %1 في نقطة زمكانية تَشرُطه بقيّة كلّ الأفراد %99 الموجودين على سطح المعمورة في نفْس الحقبة الّتي تلتقي مع تلك النّقطة الزّمكانية. فالشّبكة الوجودية تُشَكِّل وَحَدة متكاملة، خيوطها مُتَّصلة كذَرّات تناضُحها مستمرّ و دائم، يتعايش في قطعة فوتون داخل حُجرة مظلمة.
سَبَبِيّة السَّبَبِيّة. الفكر الكوانتي لا ينحصر في عالَم السببية؛ فالعقل البراغماتي يمكنه أن يقف على التّحليل الشّمولي لِلسَّبب و لِلنّتيجة، إلّا أنّه في علاقة تكاملية ينتقل الفكر الكوانتي إلى عوالم التّساؤل حول لماذا هذا السّبب بالضّبط و لِما لا سببا آخَر، و لماذا هذه النّتيجة بالضّبط و ليس نتيجة أخرى؛ بعبارات أخرى، يَدرس و يتأمَّل سبب السّبب و سبب النّتيجة؛ و بالتّالي يقف في مركز الدّائرة الوجودية ، نقطة سببية السّببية، منفتحا على جميع زواياها بين %0 و %360، و زوايا الدّوائر الوجودية الأخرى المرتبطة بالدّائرة الوجودية الأصل، الحاملة في طيّها أعراض سياق السّببية.
ما تراه العين، على مستوى الفرد أو الجماعة، في باقي الأفراد أو الخلق عامّة، ما هو إلّا حبّة رمل في شُطآن و سَواحِل أسرار الغيب. فكيف السّبيل، إذن، للسّبر بِأغوار الباطن بغية كشف خبايا أجزاء بقيّة حبّات مختلف السّواحل و الشُّطآن؟
مِن أجل خوض غمار التّنقيب على الخبايا و الشُّروع في السَّفَر الوجودي ينبغي، بادئ ذي بدء، التّخلُّص الحتمي و الصّادق، الجُزئي أو النِّهائي، مِن المّادَّة و المادِّيات لتخفيف العبء و الثِّقل على الرُّوح، و كذا تخليصها مِن كُلّ الأغلال الدّنيوية و السّلاسل الّتي تُقَيِّدها بِبُعد الظّاهر و تَحُول بينها و بين فَتْحِها لِأبواب ما وراء الطّبيعة.
إذ كُلّ ما تراه العين في البُعد العادي لِلعالَم المادِّي له تفسير و سبب في البُعد الاستثنائي لِلعالَم الرُّوحي ـ الفكري، غير التّفسير المتداوَل المحدود و السّطحي البسيط الّذي يُعطيه قِصر النَّظر والبصيرة في العالَم البدائي. و بالتّالي، تتخلَّص الذَّات مِن الشَّوائب الّتي تبقيها خاضعة و طرَفاً بِبُؤر التَّوتُّر التَّافه لِترتقي في السَّلالِم الوجودية و تنتقل إلى دائرة وجودية أخرى تتساكن بها مع بُؤر التَّفكُّر و هي تتأمَّل و تُحلِّل مِن أعلى، كَمَن يطلّ مِن مَجَرَّة تبعد بملايين السّنوات الضّوئية على عَبَث الذَّرَّة الزَّرقاء و ما تغلي بها مِن إلكترونات نَوْكَاء.
يمكن تصوُّر الفكر كما تُفسِّر فيزياء الكوانتا حياة الذَّرّة و علاقة الضّوء بالأشياء. فهناك فِكْرٌ كالذَّرَّة، في نواته أفكار إيجابية و أخرى محايدة، و مِن حوله تدور الأفكار السّلبية؛ و فِكْرٌ تنعكس منه الأفكار، و فِكْرٌ يتشَرَّب الأفكار، و آخَر تمُرُّ مِن خلاله الأفكار. بِما أنّ للعقل طاقة فإنّ للفكر نفْس كمّية الطّاقة، إلّا أنّ هنالك مَن يستثمِر طاقة العقل لِيمدَّ فِكره بها و يشغِّله في التّفاعل مع الوجود، و هنالك مَن يضيعها دون أن ينعم على فِكره بها، لِيجعل منه اسماً دون حياة.
يمكن تحديد و تصنيف أدوار الفكر في ثلاث أدوار؛ أوّلها، تَخدم الشّخص نفسه، و نقصد بذلك كُلّ تأمُّل و تفكُّر و تحليل يصبو مِن خلاله الفرد إلى التَّعمُّق في ظواهر الظّاهر و الباطن؛ ثانيها، يتجلَّى في نَقْل الطّاقة الإيجابية إلى فكر آخَر بهدف طرد طاقته السّلبية؛ و ثالثها، إذا كان سلبيا، فإنّه يزاحم الطّاقة الإيجابية و يُشَوِّش عليها و رُبّما يقصيها، إذا أَرسَل بسرعة الضّوء كمّيات كبيرة مِن الأفكار السّلبية.
في جميع الحالات، فإنّ ما يسري على الذَّرَّات في علاقتها مع الطّاقة يسري على الفكر في علاقته مع ما يَستقبل مِن طاقة عبر الكلام أو المشاهدة. إذا كانت الطّاقة الّتي يستقبلها الفكر أقوى مِن الأفكار الأصلية السّاكنة به فإنّها تطردها إلى مدار آخَر، و لا ترجع إلى مدارها الأصلي إلّا حينما تتخَلَّص منها، سواء كانت إيجابية أو سلبية. إذ هناك مَن يُحَبِّذ التّجانس مع الفكر السّلبي، و إذا استقبَل طاقة سلبية فإنّه يتفاعل معها إيجاباً و لا يتخلَّص منها و لا يحاول البَتَّة؛ و هناك مَن يُنقِّب عن الطّاقة الإيجابية و ما إن يستقبلها حتّى يفسح لها المجال لِطرد الطّاقة السّلبية الّتي يتفاعل معها سلباً.
تُرى، ما هي الضّوابط و الميكانيزمات الّتي تُؤطِّر صيرورة التّفاعل مع الإيجابي و السّلبي؟ أوّلها، نسبة القابلية. ما يؤسِّس للقابلية هو الإرث الوجودي، و نقصد بذلك كُلّ ما استقبله العقل على المستوى التّعاقبي منذ فترة تكوينه و هو جنين في الأحشاء يُحرِّكه اللّاشعور، النُّقطة α ، إلى لحظة تفاعله السّلبي أو الإيجابي، الّذي يحرِّكه الشُّعور و اللّاشُعور، النُّقطة β.
يمكن تصوير الفكر كجسم اهليلجي غير مرئي و لا ملموس، يحتوي على ذرَّات / أفكار إيجابية و سلبية، بِنِسَب متفاوتة، بما أنّه ناقص و خالقه كامل. كُلّ المؤثِّرات الحواسية مِن النّقطة الزّمكانية α إلى النّقطة الزّمكانية  βهي مؤشِّرات، في إطار منطق السّببية، على نسبة القابلية في النّقطة . β
فلنتصوَّر أنّ حياة إنسان ما هي إلّا كمّية مِن الصُّوَر الّتي تساوي بالضّبط كمّية مِن الشُّعور؛ هذا يعني أنّه في كُلّ مرحلة، نوعيّة الصُّوَر البصرية و السَّمعية قد أَنجَبَت نوعيّة مضبوطة و خاصّة مِن الشُّعور، و الّتي بمعيّة ما تَداوَل و تَعاقَب مِن الصُّوَر و ما يُوازيها مِن الشُّعُور، أنتَجَت لنا شخصيّة / فكراً، لا نظير لها / له، عبارة عن شبكة شعورية تحيا، غير ملموسة، تحت أو وراء الجسم، تصير ملموسة عند تفاعلها مع الموقف في النّقطة β عبر ردّ الفعل التّزامني.
إنّ السّبيل إلى تشغيل العقل و بلورته بطريقة سليمة، و تَفَتُّح الفكر في بُعد التَّفَكُّر في التَّفكير و الأفكار، يبدأ بالتّخلُّص مِن كُلّ شائبة تَحُول دون تمكُّنه مِن الارتقاء في السّلالم الوجودية، و ذلك بالإحجام عن تمنِّي الأذى لِكُلّ مَن آذاك يوما. كلّما سعى الإنسان، حَبْواً، نحو أسرار الارتقاء في السُّلّم الوجودي كُلّما أتته القُوَّة الغيبية، رَكْضاً، بمفاتيح تلك الأسرار. فالأصل هو الخير، كُلّما طمع فيه كُلّما أُزِيلَت الغشاوة عن بصره و بصيرته؛ بينما الشّرّ دخيل على الفطرة، فكُلَّما فسح له المجال لِاستقباله أو ممارسته كُلّما عَشَّش و كُلَّما كُبْكِب و عَلَق في عُقر وحله.
تتجسَّد القُوَّة الغيبية / الخالق في الدِّقة اللّامتناهية لتركيبة المخلوق، و التّوازن المضبوط الّذي يضمنه تسيير القوانين الفيزيائية، و تدبير تفاعُل كُلّ المخلوقات معها، سواء كانت كونية، كالمجرّات و الكواكب و النّجوم؛ أو مَكروسكوبية، كالإنسان و البحر و النّبات؛ أو مِكروسكوبية، كالذَّرَّات.
أَبْدَع الخَالق الكون و هو يأمل أن يتفكَّر فيه الإنسان و يعترف و يُقِرّ بالقُوَّة الغيبية اللّامتناهية الكمال و الدِّقّة الّتي تُدبِّره و تُسيِّره، و لكي يُقدِّر قيمته كإنسان و قيمة الآخَر الّذي خُلِق لِأَجْله أيضا، كي يتأمَّل في صُورته و ما وراءها مِن كُلّ صغيرة و كبيرة وُضِعَت بِدقّة مِثلها مِثل مواقع النّجوم و الكواكب. حينما تتدبَّر في الكون الّذي خُلِق مِن أَجْلك تُدرك عظمته و إجادة و إحكام و سخاء مبدعه الّذي أهدانا نور الكون دون أن نؤدِّي فاتورته؛ و حين تتدبَّر في الآخَر، الّذي هو أنت لكن بشكل آخَر، تدرك أنّك معجزة حيَّرَت و ستُحيِّر بجزئياتها الفيزيائية و الكيميائية تركيبتها البيولوجية و الفيزيولوجية كُلّ مَن يدَّعي الإحاطة الشّاملة بِأسرارها. و الحالة هذه، فإنّ التّدبُّر في آيات الآفاق و الأنفُس لَمِعراج يقود إلى الانصهار الكُلِّي و النّاجح و الدّائم مع جمالية الخالق، و بالتّالي البقاء على اتِّصال سرمديّ معه، كأنّك تربط كُلّ ذرَّة مِن ملايير الذّرات المُشَكِّلة لجسدك، عبر ملايير الخيوط الرُّوحية، مع كُلّ صغيرة و كبيرة في هذا الكون.
في إطار العلاقة الرُّوحية التّفاعلية بين المخلوق و الخالق نُسجِّل أنّ المعادلات الوجودية الّتي تضعها الأقدار في طريقنا تنسجم و السُّلّم الوجودي الّذي ارتقى إليه الشّخص. هذا يعني أنّه تؤخذ بعين الاعتبار المكانة الفكرية للرُّوح المُمتَحَنة حتّى يتسنَّى لها إيجاد الحلّ. هكذا يتمّ الحفاظ على توازن الكفّتين؛ كفَّة المعادلة و كفَّة الحُظوة الوجودية، و كذا التّوازن بين البَشَر فيما بينهم، و التّوازن بين الأقدار عامّة و قُدرة تحمُّل المخلوقات، في علاقة ثلاثية محبوكة بخيوط روحانية تتفاعل في خضمّها المادّة و نقيضها، و الزَّمن العندي و الإنسي، و كُلِّية الحضور الإلهي و المكان الإنسي، بين ما يراه بعينه و ما يُبصره بفكره؛ و الطّاقة الثُّلاثية الأبعاد، بين الطّاقة الأزلية للخالق، و الطّاقة الهالكة للمخلوق، و بينهما الطّاقة المتجدِّدة و المتواصلة التّجانس للمجرّات و ما بينهم.
يجب أن نُفَرِّق بين طاقة الفكر، كأنّه كتلة تُؤثِّر فيها جاذبية المكان، و طاقة الفكر متى تَفُوق سرعة الضّوء لترجمتها إلى كلمات أو فِعل أو تصرُّف. و هكذا، فمِن أجل قياس فكرة في السُّلَّم الوجودي يتوجَّب قياس وظيفة إشعاعها في التّطوُّر الزَّمني.
ألا يُولِّد، عند المُفكِّر، انتقاله إلى بُعد وجودي فكري و بالتّالي سلوكي، إحساساً أو شعوراً بالخوف، كونه يُدرك أنّه أصبح غير طبيعي كطبيعة نظرة و سلوكات أبناء جنسه و عصره، و أنّ زاوية تفاعله الفكري مع المحيط الطّبيعي و الميتافيزيقي لا تَمُتُّ بأيّة صلة إلى زوايا تفاعل الآخرين مع السّياقات المحيطة بهم؟
الاستثناء، في تحليل المفاهيم و القيم الوجودية الّتي ننعت بها الأشخاص و نُصنِّفهم في نظرتنا الفكرية، يُربِك و يُبعثِر التّسلسُل المنطقي لمعطيات قاعدة الماهية؛ و هكذا تصير تَعرف عدّة نتائج لا تُشبه حصيلتها نَفْس النَّتيجة القارَّة المتداوَلة بين النّاس الّذين يتشاطرون نَفْس البُعد الوجودي و نَفْس السِّياق الذِّهني.
إنَّ التَّواصل مع بقيّة الأرواح السّامية لا تَشرُطه ضرورة انتماء الطّرفين أو الأطراف إلى نَفْس الحقبة الزّمنية و نَفْس الرُّقعة الجغرافية. لا حاجة إلى حضور الجسد، بل إلى الكتابة الّتي تُجسِّد طينة الرُّوح و فحواها. إذ باستطاعة المنتمي إلى حُظوة الأرواح السّامية، بِإبداعه و تَفكُّره، أن يتواصل مع مُفَكِّري القرون السّابقة أو اللّاحقة عبر نفيه أو تأكيده، اتّفاقه و مشاطرته أو اختلافه و نقده، لكتاباتهم أين تحيا رُوحهم بين الحروف و الكلمات و السُّطور و الفواصل و النُّقط.
كُلّ شيء يضيع و يتلاشى و يُفقَد أثره، إلّا ما أَنجَزتَ مِن خير، مِن قَول و فِعل، فإِنّه يظَلُّ جارياً و تتوارثه أجيال و أجيال تَذكُرك مِن خلاله و تَذكُر به قيمتك الإنسانية.
عندما يصطدم شخصان و لا يتّفقان، يَعتقدان و يَعتقد المشاهِد؛ في بُعد الظّاهر، أنّ تجربة تَوَاصلهما قد فَشَلَت، إلّا أنّه؛ في بُعد الباطن، الطّاقة الإيجابية لِلطَّرَف أ، و الطّاقة السّلبية لِلطَّرَف ب، لا تَضِيع و لا تَرسُب بل تَنتُج عنها طاقة ثالثة، هي عبارة عن حقيقة ثالثة تجمع بين السّلبي و الإيجابي، المتواجَد عند كُلّ طَرَف، كأنّه لحظة اصطدام الاثنين، سَالباً و مُوجَباً، يُولَد عنصر ثالث بمثابة ظلّ مجرَّد عبارة عن كتلة مِن الطّاقة، و بالتّأكيد ملموس، جسداً و رُوحاً، في مكان آخَر.
ماذا يحدُث في الكيمياء الدّاخلية متى نَفْس الشَّخص الّذي كان، في سياق ما، يُعبِّر عن رفضه للعيش تحت ظروف ما، يُصبح، في سياق مغاير، راضخاً لها و يتحمَّلها و يتفاعل مع مَن يحيطون به فيها، إلى درجة أنّه يتأقلم معها و يَتطَبَّع بِطِباع كُلّ ذرَّة تُؤثِّث محيطها؛ و ما كان يخشاه مِن ظَرف بالأمس القريب، إذا فَرَضَته الحتمية عليه، يصير يخشى أن يَفقده اليوم، و أن يُلزَم بِالتّعايُش مع ظَرف أدنى و أقسى ؟!
كيف يتفاهم عدم التّوازن 1 مع عدم التّوازن 2، مع تباين نسبة عدم التّوازن عند كُلّ طَرَف؟ و كيف يُمكِن أن يَظَلّ الإثنان في تواصل عن بُعد دون اللُّجوء إلى وسائل الاتِّصال أو إلى اللِّقاء المباشر؟
لا يُمكن قياس نسبة عدم توازن كُلّ طَرَف أو توازنه المُؤقَّت أثناء تفاعله الإيجابي، كإسداء خدمة أو إعطاء نصيحة...، مع عدم توازن الطَّرَف الآخَر.
أوَّلاً، يمكن أن يتفاهم عدم التّوازن 1 مع عدم التّوازن 2 رُبّما لِأنَّه يجمعهما بِبَعض نَفْس المرض النَّفسي أو الجسدي، أي أنّهما يتشاركان نَفْس البُعد التّفاعُلي ـ الوجودي؛ يعني أنّ نَفْس القناعات و النّظرة الوجودية و طريقة التّواصل تجمعهما بِبعض، دون أن يُدرِكا أنّهما يُثيران انتباه التّوازن '1 و التّوازن '2، أو عدم التّوازن 3 و عدم التّوازن 4. و الغريب في الأمر هو التّفاهم و الانسجام الّذي يربطهما بِبعض. هذا يعني، دون شكّ، أنّ هنالك منطق باطني ما في تواصلهما؛ رُبّما يكون اللّامنطق في نظر التّوازن '1 و التّوازن '2، لكن، بالنّسبة لهما، فهو المنطق عينه، أي منطق اللّامنطق، الّذي يحيلنا على بُعد اللّابُعد، الّذي سبق و أسّسنا له و حلّلناه في كِتابنا السّابق "البراغماتية الوجودية".
أَضِف إلى ذلك أنّ الطّرفان معا يظلّان في تواصل مع بعضهما عن بُعد دون اللّجوء إلى وسائل الاتّصال، و ذلك باجترار أفكار منطق اللّامنطق بِاستحضار طريقة النُّطق بها مِن قِبَل صاحبها، أو تفسيرها إلى حدّ أنّه لا يُستَبعَد أن يُطَبِّقها أو يَعمَل بها الطَّرَف المُستقبِل لها. و يمكن أن يبتسم الطَّرَفان معاً في نَفْس اللّحظة رغم المسافات البعيدة الّتي تفصلهما عن بعض، لِاستحضارهما فِكرة مِن الأفكار، نَفْس الفِكرة، أو موقِفاً مِن المواقف، نَفْس الموقف، في بُعد البُعد، أي البُعد السّطحي لِلعوام.
نتساءل، في هذا المضمار، كيف يمنح عدم التّوازن 1 ثقته لِعدم التّوازن 2 لِيكشف له عن أسراره الخفيّة، و يؤمن به إيماناً قويّاً إلى دَرَجة تطبيق نصيحته بِحَدافرها إذا ما طَلَب النّصح و الاستشارة، دون أن نغفَل أنّ هناك احتمالاً على اثنين أن تكون النّصيحة وليدة عدم التّوازن، و احتمالاً على اثنين أن تكون وليدة ما تَبَقَّى مِن نِسب مِئوية لِلتّوازن.
  كُلّ العلاقات تتَّسم في شموليتها بِالفشل، بِاستثناء ما يُنجَز في خضمِّها، على المستوى التّزامني، مِن إنجازات إيجابية. منطقيّاً، كُلّ ما يعيش و يتحرَّك بِالظّاهر و الباطن لا يظلّ قارّاً على حاله، كالمشاعر و الأحاسيس الباطنية، فهي تَرتفع و تنخفض، تُولَد، تَنمو، تَزدهر، و تتلاشى لِتَموت. الحُبّ، عند كُلّ الخَلق، يُولَد قويّاً و يَشيب مهترئاً، و بين النُّقطتين يَرتفع و يَنخفض، بِاستمرار، كتخطيط القلب.
إذا أَرَدنا أنْ نَنْعت العلاقة أو الشُّعور بِالنّاجحة أو النّاجح فيجب ألّا تَعرف أو يَعرف شحنات سلبية / سالبة، و بِما أنّ الخلق ناقص و يستحيل كماله و دوام حياته الجسدية و الفكرية و الشُّعورية على حالها الإيجابية فإِنّ كُلّ علاقاتها و تفاعلاتها يسودها ما هو سلبي في نقطة معيَّنة مِن مستقيم ممرِّه الوجودي، تُؤدِّي إلى الفشل المؤقَّت أو النِّهائي لِلعلاقة، و الأسباب شَتَّى و النِّهاية واحدة. و كُلّ التّجارب في الحياة تَكُون ناجحة في إطار تحليليّ محدَّد في الزّمن السّانكروني، و معنى نجاحها تُجَسِّده الخلاصات الّتي نخرج بها و تنضاف إلى خلاصات تجارب أخرى، رغم نسبة فرضيات فشلها، إذ أنّه ستُشكِّل عند البعض، و ليس الكُلّ، لَبِنة تُضاف إلى بقيّة اللَّبِنات المؤسِّسة لِلنَّظرة الوجودية في رُتبة مِن السُّلَّم الوجودي.
إنّ ماهية الخلق ثلاثية المكوِّنات بين اللّامتناهي الصّغير و اللّامتناهي الكبير. الأرض، مَثلا، عبارة عن نواة و قشرة و ما بينهما. الإنسان، جسد و روح و عقل. الشّجرة، أصل و فرع و ما بينهما. الذَّرَّة، إلكترون و بروتون و نوترون. الكون، مجرّات و نور و ظلام. حتّى في محاولتنا في تصنيف الأشخاص نعتمد أساساً على ثلاثية: المعرفة، و المعرفة التّطبيقية، و المعرفة السُّلوكية.
و إذا قمنا بِإسقاط قانون ثلاثية أقطاب الماهية على هوية الأشخاص، مِن حيث انتمائهم الوجودي، فإنّنا سنفضي إلى أنّه ليس مِن الضّروري و الحتميّ أن تنحصر ماهيتهم الوجودية في مبدأ الثّالث المرفوع، بل يمكن أن يُجسِّد الشّخص جوهراً ثالثاً مناقضاً لثنائية القيم المتداوَلة؛ الشّيء الّذي يدعونا إلى إعادة النَّظَر في قانون الثّالث المرفوع الّذي تبنّاه أرسطو، و الّذي نراه صائباً في أسيقة و خاطئاً في أخرى.
في السّياق العلاقتي، يكون الشّخص وفيّاً أو خائناً؛ في السّياق الدّيني، مؤمناً أو كافراً؛ في السّياق المعرفي، عليماً أو جاهلاً، وِفقاً لِلاختصاصات المتداوَلة على سطح الكوكب. لكن، في سياق تفاعُل الشّخص مع الحياة، بين حاضر و مستقبَل، يمكن أن يكون لا متفائلاً و لا متشائماً، و إنّما شيئاً ثالثاً: محايداً؛ لا سعيداً و لا حزيناً، بل  محايداً؛ لا شرّيراً و لا خيِّراً، بل محايداً؛ لا حيّاً، يحذو حذو الأحياء، و لا ميِّتاً في قبره، بل محتضراً، لا ينتمي إلى بُعد الأحياء و يرى ما يرون، و لا إلى بُعد الأموات، الّذي لا يَعرف عنه الأحياء شيئا، بل إلى بُعد محايد، يعكس مرحلة انتقالية، كأنّها جسر مجرَّد تمكث فيه الرُّوح بين الحياة و الموت، و هي تنسلخ و تخرج مِن مسكنها رويدا رويدا، بينما صاحبها و حامل سرِّها بِفطريّة تَمسُّكه بالحياة، الّتي يَعرف عنها كُلّ شيء تقريباً، و فطريّة توجُّسه مِن بُعد الموت الّذي يجهل عنه كُلّ شيء، يَظَلّ لِلَحظات مُعَلَّقاً، وحده يرى و يعيش تلك الحقيقة أثناء السَّكَرات، عاجزاً عن وصفها لِمَن سيلحق به عمّا قريب.
 و هكذا، ننتهي إلى أنّ قانون الثّالث المرفوع لا يَسْرِ على كُلّ الأسيقة الوجودية، و ذلك لِوجود قانون آخَر، سنطلق عليه تسمية: قانون الحيادية، الّذي يصف و ينعت، بِدِقَّة أكثر، ماهية الأشخاص في إطارٍ سِياقِيٍّ مُعيَّن لِلمفاهيم المُنظِّمة لِتفاعُل الشّخص مع الوجود.
في إطار مقاربتنا الفلسفية ـ الفيزيائية نرى أنّه مِن المُرَجَّح أن يكون الشَّخص حيّاً و ميِّتاً في الآن نَفْسه. و ليس هنالك تناقُض في الظّاهرة المطروحة. فالحياة لا تُساوِ اشتغال آلة القلب و آلة الصَّدر؛ و الموت لا يعني وقوف الآلتين عن تأدية وظيفتهما الميكانيكية. و هذا لا يَضرِب عرض الحائط قانون عدم التّناقُض، بل يُؤكِّده و يُعزِّزه. فالتّناقُض الفادح و الصّارخ هو أن نُصنِّف الشّخص مِن الأحياء فقط لِأنّه يَأكُل و يتوالد، غافلِين عن فراغه الرُّوحي و العاطفي؛ و بِما أنّ المخلوق يستحيل أن يصبو لِرِفعة الكمال، و كيفما كانت فصيلته و كفاياته و قدراته لا بُدّ له أن يَحمل في طيّاته نسبة مئوية مِن عدم التّوازن؛ إذن، فهو حيٌّ ( كفايات روحية و عاطفية ) و ميِّتٌ ( نسبة مئوية مِن عدم التّوازن ) في الآن نَفْسه؛ بعبارات أخرى، هو حيٌّ نسبة إلى الكيمياء الحيّة في جسمه و الفيزياء المتجانسة مع فكره، و ميّتٌ نسبة إلى الكمِّيات الكيميائية و الفيزيائية الميّتة في كينونته.
فلنتساءل لماذا يفقد الإنسان شيئاً مِن وزنه لحظة موته، أي لحظة هَجْر الرُّوح لِلجسد؟ ألن يكون عدد الغرامات الّذي يفقد هو كتلة الرُّوح؟ الشّيء الّذي يقودنا إلى فرضية اعتبار الرُّوح الطّاقة الجوهرية و الحاسمة لِلإنسان بصفتها كتلة غير ملموسة لِطاقة مُجرَّدة تُعدُّ الرَّكيزة المُحرِّكة، لِمُدَّة سنين، لِكتلة الجسد الّتي تحتوي على أعضاء و أنسجة و عروق و هرمونات تقوم، بِاستمرار، بوظائفها بشكل ميكانيكي مضبوط، دون انقطاع أو استراحة، حتّى أثناء النّوم، طيلة العُمر، مُنذ فترة تكوين الجنين إلى ثانية وفاته.
تخيَّل جسداً بلا رُوح، ألن يكون شبيها بتمثال نَتِن؟؟؟ إذن بضع غرامات مِن الطّاقة الغير ملموسة تُوَزَّع يوميّاً على كُلّ ذرَّات الجسم، مِن الدّاخل و الخارج، و تتجدَّد أثناء النّوم كي تُوَزَّع في اليوم المُوالي بنَفْس الوتيرة، و تتكرَّر العملية في مسار حياة كُلّ واحد مِنّا إلى أن تتبخَّر إلى الأبد.
السُّؤال الّذي يطرح نَفْسه هو: لِماذا هناك اختلاف جليّ في آجال تبخُّر الرُّوح؟ أي لِماذا يفقد النّاس بضع غرامات مِن وزنهم لحظة موتهم في أيّام و فصول و سنوات مختلفة؟ و هذا لا يرتكز على منطق الأكبر سِنّاً هو الّذي يسبق، إذ الأصغر سِنّاً، أحياناً، هو مَن يزور القَبر أوّلاً، فالمسألة لا تخضع لِمنطق السِّنّ.
و إذا كانت الرُّوح، كما سبق و افترضنا، عبارة عن كتلة غير ملموسة كطاقة مجرَّدة و مُحرِّكة لكتلة الجسد، فلماذا أثناء حادثة سير يموت الإنسان و لَم يُصَب إلّا في جزء مِن جسده لا في روحه؛ و نعني بذلك أنّه حتّى و لو تضرَّر الجسد فالأكثر منطقا أن يبقى صاحبه على قيد الحياة، بِما أنّ الرُّوح لا تُلمَس. ألن تكون هناك، نظرا للمعطيات المجرودة، علاقة تكاملية بين الرُّوح و الجسد، كإعطاء الطّاقة و التّغذِّي على مَا يُمنَح الطّاقة؛ يعني أنّ الرُّوح تعطي الطّاقة لِلجسد كي يقوم بوظائفه و في نَفْس الوقت تَمتَصّ الطّاقة منه أو تُجَدِّد طاقتها منه؛ و متى يَتعَب أو يُنهَك أو يُضَرّ أو يَتَضَرَّر و لا تجد مِمّا تتغذّى منه تهجُره.
بِما أنّ هنالك عدد لامتناهي مِن الذَّرَّات يَطُوف حولنا و يخترق أجسادنا دون أن نشعر بذلك، و بِما أنّ الكيمياء بداخلنا تتغيَّر بِتغيُّر الأفكار و الأسيقة الفيزيائية و الذِّهنية، مفرزة شحنات كهرومغناطيسية إيجابية و سلبية، فإنّنا ننتهي إلى أنّ الذّرّات، لحظة اجتياحها لِلجسم، تحتفظ بكمّية مِن تلك الشّحنات و تنقلها إلى جسم آخَر، تاركة كمّية مِمّا تحمِل و حاملة، أثناء مسارها، لِكمّية أُخْرى، و هكذا دواليك...، في علاقة تفاعلية متواصلة، تتفاعل، في سَرَيانها، صيرورة الطّاقة الإيجابية و السّلبية على مستوى الكوكب بِرُمّته.
  تجدر الإشارة أنّ فيزياء الكوانتا تُفسِّر كيف يستمرُّ تواصل إلكترونَين وُلِدا في نَفْس اللّحظة رغم ملايير الكيلومترات الّتي تفصلهما عن بعضهما، بِفضل جُسيم كالمغناطيس مُدمَج في تركيبة الإلكترون يُسمَّى العزم المغزلي: Spin. إذن، فإلكترون في أقصى الشّرق يُمكنه التّواصل مع إلكترون في أقصى الغرب، و كذلك هو الشّأن بِالنّسبة لِذرَّة تحمل شحنة سلبية استمدَّتها مِن جسم في أقصى الشّمال، حيث يمكن أن تحملها إلى جسم لحظة اجتياحه في أقصى الجنوب، دون أن يدرك أحد ذلك في بُعد الظّاهر.
و الحالة هذه، يمكن القول أنّ كُلّ الخلق يُشكِّل، في بُعد الباطن، جسماً واحداً، كشبكة واحدة غير ملموسة و لا مرئيّة، حُبِكَت بِناءً على قاعدة انصهار التّفاعلات الفيزيائية، و تنقسم إلى عدّة جسيمات ( أجساد ) مختلفة، في الظّاهر، بِاختلاف متغيّراتها الكيميائية عبر الزَّمَن.


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس