المقدس و المدنس في التجربة الشعورية الدينية عند عزمي بشارة

المقدس و المدنس في التجربة الشعورية الدينية عند عزمي بشارة
بقلم : كمال طيرشي
يعتقد المفكر العربي عزمي بشارة أن التجربة الدينية هي جوهر الدين و ذلك لما تعمد إلى مجاوزة تجربة المقدس إلى منحى التجربة، و يواشج بشارة كل ما يمت بعلاقة بمفاهيم الحرام والحلال بالمقدس، الذي يحايثه الشعور بالوجل و القشعريرة، حيث استنجد في سبيل تحليل ومناقشة هذه التمفصلات بالفيلسوف البراجماتي وليام جيمس، هذا الأخير برغم نزعته الفلسفية المرهونة بالذرائعية و النظر في نتائج الفعل التي يتحدد على إثرها بعدها القيمي إلا أنه أكد على تلازمية الإيمان مع حضور الخشوع و الوجدان الباطني، معتبراً إياها أهم من الممارسة الدينية في حد ذاتها، حيث يبقى الشعور الإيماني هو الأصل و هو الجوهري.
ويؤكد في المقابل من ذلك أن الأديان الأقل تطورية هي تلك التي لم تنتظم في اطار عقيدة دينية، احتكمت إلى الحفظ عن طريق التدوين، كما أن الطائفة تحل في الكثير من الحالات مكان الدين تماماً، بصفتها مرجعية يمكن التشبث بها عند أولئك الذين لا تتوافر لديهم مرجعيات أخرى غير الدين، فالطائفة لما يجبلها من أسس اجتماعية وشائجية ترعاها روح الجموع، و تتلاحم في إطار اجتماعي وقائعي يربطها، تنوب في كثير من الحالات لدى بعض الشعوب عن حضور الديني أو غيابه كلياً أو غموض وجهته.كما يميز عزمي بين الشعور الذي ينعت بأنه تجربة مقدس من الشعور الإيماني الخاص الذي يبطن في الفرد، و يعتبر أن هذه التجارب الباطنية مشبوبة بكل ما له علاقة بالقشعريرة و الوجل الذي هو جوهر الدين، و المقدس يتلاحم في كنهه بكل ما له علاقة بالحرام والطابو أو بالأحرى مع ذلك التعالق المتباين بين المقدس و المدنس.
استشعار المقدس متعالق في كينونته بكل ماله علاقة بما يستشعره المرء أثناء انهماكه بالممارسة الشعائرية الطقوسية لأي نحلة دينية أو معتنق معينة، هذا الاستشعار القداسي يجبل الفرد على التعامل بنوع من الوجل و الرهبة مع كل ماله علاقة بالمحظور (المحرم)، كما أن المفكرين في القرن 19 للميلاد تصوروا المقدس في مقابل العادي ، و ليس يعني الأمر ههنا أن المقدس ليس له أية علاقة مع الدنيوة ، وحتى هذه المتقابلات التي ينهجها بعض المفكرين لم تجد قيوميتها إلا في الأزمنة الحديثة ، لكن تبقى حضورية المقدس مركزية في حياة الناس ، وبصورة محايثة لشتى الأشياء الحسية المبثوثة في الوجود برمته ، حيث تكون الروح المتوارية بالأجساد أو الأرواح المتلبسة بالمادة ، و قداسة تنضخ بها الموجودات كما أصبحت معتمدة في الكثير من ضروب الحياة اليومية للإنسان ( فأصبح الفرلد يتحدث عن الحرية المقدسة، الحقوق المقدسة إلى غير ذلك ..إلخ).
و يعتقد المفكر بشارة أن المحرم ليس له ضرب واحد من الفاهمة الشائعة، حيث نجد البعض يرهنه بالمقدس و يكون هذا المقدس طابو لا يجوز التطاول عليه أو التعرض له بأي حال من الأحوال، بل يمكن أن يكون لهذا الطابو في محظوريته تعالق بالنجاسة، و مثال ذلك لما يحرم علينا الرب بعض المأكولات أو الممارسات بحكم نجاستها، برغم أن نجاسة الأشياء لا تزال مثار جدل خصوصاً في العالم الإسلامي و بين العلماء بين من يطبع بعض المأكولات أو المشروبات بطابع النجاسة و بين من يقول بطهارتها و تبقى هذه المسائل خلافية بين الفقهاء على اختلاف مذاهبهم و توجهاتهم و تصوراتهم،هذا و يعتبر عزمي أن المقدس و المدنس في التجربة الدينية لا يتعلق بالشيء بذاته بقدر ماهو الطاقة الإيجابية أو السلبية التي تتمظهر من خلاله، فالمقدس هو تلك القوة المتوارية المتحجبة التي تنبجس من خلال الأشياء المبثوثة في العالم، و يصح ذلك على المقدس أكثر مما يصح على المدنس طبعاً، الذي قد يكون شيئاً غالبه التلوث و أصبح مدنساً، فالتمظهر الخارجي للمقدس قد يكون أي شيء، كما أكد بشارة على أن مفهومي الحلال و الحرام من مشتقات المقدس، مع فارق يقر بأن الحلال هو ما لا يحرمه المقدس، و المحلل و المحرم لهما قيوميتهما على مستوى الدنيانية ، و في حين أن الحرام تابع للمقدس، تماما كما في حلة بيت الله الحرام، فإن ما يقرر المحلل هو المحرم، بمعنى أن الطرف المحدد في هذه المعادلة هو المحرم، و ليس المحلل، مع ذلك رسب في ذهن البشري أن من يخلط بين الحلال و الحرام هو الجاهل في أمور الدين، على عكس العارف أو العالم، الذي يحول التمييز بين الحلال و الحرام وتفسيره و تعلميه للناس إلى اختصاصات له، إنه اختصاص يحتم وظيفة رجال الدين ، حتى الديانات التي لا تؤمن بوساطة بين الرب و البشر، فإنها تحتاج إلى رسم الحدود بين الحلال والحرام، وتحتاج إلى حرس لهذه الحدود.
كما يعتبر المفكر بشارة أن النظريات التي تقدمت بها الدراسات السيكولوجية في فهم الظاهرة الدينية أو بالأحرى في تفسير المقدس وفقها غير كافية في فهم الديني ، و نتجلى بذلك ههنا أن عزمي ينتقد رهن الدين بأحوال سيكولوجية باطنية كالتي عمد سورن كيرككورد إلى تبريرها وتفسير الإيمان من خلالها، فتجارب كالقلق و الخوف و الرعشة الروحية و تجليات الحزن و الألم الروحي كأقانيم جوهرية للتعبير عن الدين في صورته النقية، و دحض كل ما لا يمت بصلة إلى هذه الأحوال النفسية، هذا و يؤكد على الرهبة و الخشوع القائم في التجربة الدينية في تفاعلها مع المقدس، و بدرجة خاصة حينما يتفاعل المقدس مع التجربة الدينية و تخشع لذلك قلوب أهل الإيمان، فتكون خشية الله ههنا دلالة على الإيمان ، كما يؤكد بشارة على أن التجربة الدينية هي تجربة عادية و عاديتها إن صح هذا التعبير يعبر عنه الدين ، و أنها تصير أمراً استثنائياً حينما تتعلق بكل ما له علاقة بالانفعالية و الشجون الإنفعالي، و التجربة الانفعالية الشجونية إذا تعالقت مع المقدس و تكرر ذلك على نحو حثيث لا تؤدي البتة إلى التدين، و إنما إلى ضرب من العته، و يبقى بذلك الجانب المهيب و الممتع في التجربة الدينية و القيمة التي يكتسيها هو حينما يرتبط التدين بالحياة اليومية العادية التي لا استثناء فيها و لا شيء عادي فيها، كما نجد كذلك عند أرباب التصوف و الطرق العرفانية الجوانية بحث عن شجونية المقدس و أنها إذا لم تجد سبيلا إلى التجربة الدينية تستنجد بأدوات ووسائط شطحاتية مثل الموسيقى و الغناء و الرقص و غير ذلك، ولابد أن نفرق ههنا بين أهل علوم الظاهر الذين يبحثون عن الله في خارجهم ، و بين أهل التصوف و العرفان الذي يرون الله متجلياً فيهم، و يعيشون حضوره في كل تفاصيل حياتهم وهو ما يفسر تميز عباداتهم و نسكهم .لكن ومع ذلك فتجربة التصوف عبرت عن المقدس بطرق أخرى مختلفة لم ترتهن فقط بالزهد و التجرد عن اللواحق الدنيوية بل نهجت مسلكها إلى الذوق الفني الجمالي الحسي كذلك، فمثلاً ابن عربي في ترجمان الأشواق سلك مسلكاً جمالياً ذوقياً و فنياً مختلفاً عبر فيه عن عاطفة المحبة بطريقة غنائية شعرية محمومة بطابع حسي فريد.
و بذلك نتوصل في النهاية إلى نتيجة مفادها أن هنالك ضروب متباينة من الشعور بالمقدس، بحكم أن البعض منها يعبر عن ذاته في شتى الفنون و الآداب، و بعضها الآخر يعبر عنه في ضروب التدين و في كليهما كذلك، و يبقى الأهم ههنا أن الشعور الذي ننعت به تجربة المقدس هو شعور قائم ومؤسس خارج سياق الدين أيضاً، و حينما يصبح ديناً فيلزمه أن يعبر عن نفسه من خلال الإيمان، أو أن يكون المسلك القويم نحو طريق الإيمان، و المقصود ههنا هو الإيمان بحد أدنى من العقيدة التي تقسم الحياة إلى حرام و حلال، ومدنس على الأقل.





تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس