قول
في موضوع النظرية
القول:
" المفاهيم
الفيزيائية إبداعات حرة للفكر البشري، و ليست كما يمكن أن يعتقد، محددة فقط من
طرف العالم الخارجي".
منذ
وجد الانسان و هو يسعى إلى أن يعرف ذاته و واقعه و
حتى القضايا التي تتجاوزه و تغيب عنه، و ذلك لكونه كائنا عارفا،
أي يمتلك فاعلية تميزه عن غيره، و هي فاعلية المعرفة،
و المعرفة هي نشاط عقلي تقوم به الذات من أجل فهم موضوع ما اعتمادا على
منهج محدد. و حالما تتمكن الذات من إدراك موضوعها، تحول نتائج هذا الإدراك أو
المعرفة إلى بناء عقلي، و إلى نسق من الأفكار و
المفاهيم نسميه بالنظرية.. غير أن مسألة بناء النظرية تثير مجموعة من الاشكالات، لعل أهمها هو ذاك
المتعلق بكيفية البناء و مصدره، خصوصا و أن عملية
البناء تتأرجح بين العقل و الواقع.. فهل النظرية بناء
عقلي خالص ام أنها بناء تجريبي فقط؟ و هل مصدرها
هو الأنشطة العقلية للذات أم أن مصدرها هو المعطيات الحسية التي يقدمها الواقع التجريبي؟ أم انها
تفاعل و حوار بينهما؟
لتحديد
الأطروحة التي يتضمنها القول، سيكون من المفيد منهجيا الوقوف عند المفاهيم
الأساسية التي يتشكل من خلالها و هي: المفاهيم
الفيزيائية التي تحيل إلى النظرية
الفيزيائية، و الفكر البشري الذي يشير إلى العقل، ثم العالم
الخارجي و الذي يقصد به الواقع المادي
الحسي. هكذا فمن خلال العلاقة الموجودة بين
هذه المفاهيم يمكن ان نصوغ الأطروحة التالية: إن النظرية الفيزيائية بناء عقلي حر و ليست
بناء تجريبا فقط كما يمكن ان يعتقد. و هذا يعني أن النظرية الفيزيائية تتأسس على الممارسة
العقلية و على الأفعال العقلية كالتأمل و
التخيل و الافتراض... و ليست بناء مصدره المعطيات الحسية التي يقدمها الواقع
التجريبي. أي ان العالم عندما يريد ان يبني
نظرية في الفيزياء فهو لا يركن إلى ما يجده في الواقع، و لا ينصت إليه، بل يعتمد
على فكره الحر و المبدع.
هكذا
إذن يمكن التأكيد بأن القول يراهن على تأسيس النظرية
الفيزيائية اعتمادا على النشاط العقلي الحر و الخالص، و هذا ما يمكن تأكيده من
خلال نموذج الفيزياء النظرية باعتبارها فيزياء
تتأسس بعيدا عن الواقع التجريبي، فمثلا إذا
استحضرنا نظرية خلق الكون من عدم كما صيغت في
الفيزياء النظرية، فإن العالم لا يعود إلى الواقع من أجل الملاحظة و التجريب
لاستحالة القيام بهاته العمليات لكنه يعتمد منهجا عقليا فرضيا استنباطيا مبني على
معطيات: إذا كان الكون يتمدد و يتوسع، فهذا يفترض أنه كان متقلصا، و إذا ذهبنا في
التقلص إلى نهايته فسنجد نقطة و ربما لاشيء أي العدم. إنها نظرية بنيت خارج أسوار
الواقع المادي المختبري. و تبدو إبداعا عقليا حرا ربما يكون فيه للخيال نصيب كبير
بدلا من الواقع المادي التجريبي الذي يظهر أنه مستبعد، و بشكل كبير. و هنا يمكن
استحضار انشتاين الذي تساءل ساخرا: إذا كانت التجربة
هي مبتدأ و منتهى معرفتنا بالواقع، فأي دور تبقيه للعقل في مجال المعرفة العلمية؟
و الأكيد أنه يقصد أن العقل من خلال المنهج الفرضي الاستنباطي هو أساس بناء العلم
و النظريات و المفاهيم العلمية... خصوصا و أنه يشتغل على ظواهر لامادية لا تدرك
واقعيا و بشكل ملموس، و إنما من خلال عمليات عقلية خالصة تقوم على الخيال بالمعنى
الذي يستعمله به روني طوم، و الذي يتأسس على
افتراضات ذهنية بعيدة عن الواقع. و غير بعيد عن الفيزياء النظرية نصادف الميكروفيزياء كتخصص ضمن مجال المعرفة العلمية ـ
خصوصا الفيزياء ـ نقل البحث من المواضيع المادية الواقعية إلى مواضيع ميكروفيزيائية
لا تقبل تطبيق خطوات المنهج التجريبي عليها. فالإلكترون
مثلا لا يمكن رؤيته بالعين المجردة و لا حتى بالمجهر و بالتالي لا يمكن أن
تطبق عليه أولى خطوات المنهج التجريبي و هي الملاحظة، و ما دام الأمر كذلك فلا
يمكن تطبيق باقي الخطوات الأخرى مما يعني إمكانية الاستغناء عن المنهج التجريبي.و
هكذا فالعالم في الميكروفيزياء لا يعتبر
الواقع مرجعا مهما بالنسبة إليه، بل الأساس هو العقل من خلال ما يقوم به من عمليات
تبنى على الافتراض، الاستنباط، التخيل، الترابط المنطقي و إبداع وقائع جديدة…
و إذا صح ان النموذج العلمي للفيزياء النظرية و للميكروفيزياء يتسق مع
الأطروحة التي يقدمها القول... فإن الأمر لن يكون صحيحا بشكل مطلق. فماذا لو تعلق
الأمر بمواضيع فيزيائية مختلفة كليا عن النموذجين المذكورين؟ ألن تصبح الحاجة ماسة
للتعامل المباشر مع الواقع المادي و اعتباره مصدرا و مرجعا لا غنى عنه؟
بالفعل
يظهر أن الموقف المعبر عنه في القول قابل للنقد و إعادة النظر... خصوصا إذا
استحضرنا نموذج الفيزياء الكلاسيكية أو أية
مواضيع ذات طبيعة مادية ملموسة مرتبطة مباشرة بالعالم الخارجي. و كمثال على ذلك يمكن
أن نستحضر ظاهرة سقوط الأجسام، كظاهرة طبيعية في إطار الفيزياء الكلاسيكية، إذ لا
يمكن بناء نظرية مفسرة لهذه الظاهرة إلا إذا اعتمدنا خطوات المنهج التجريبي، إذا
عدنا إلى الواقع باعتباره مرجعا أساسيا. فمع غاليلي مثلا، خصوصا علاقة سقوط
الأجسام بالوسط الذي يتم فيه السقوط، فقد لاحظ أجساما
من كتل مختلفة تسقط و تتفاوت سرعة سقوطها، فافترض أن الوسط يلعب دورا
على هذا المستوى، ثم قام بتجارب تنويع
الأوساط، ليستنتج أن الوسط له تأثير على سرعة سقوط الأجسام، و بالتالي
فجميع الأجسام تسقط في الفراغ [ غياب مقاومة الوسط] في نفس الوقت و بنفس السرعة.
و
يقدم تاريخ العلم أمثلة عديدة ،في هذا السياق، تؤكد أن المنهج التجريبي لا غنى
عنه، ما دمنا أمام ظواهر ووقائع مادية تتطلب أن يكون الواقع هو المنطلق [الملاحظة]
و هو المنتهى [التجربة]. يقول كلود برنار في تعريفه للنظرية العلمية: ″إن
النظرية العلمية ليست شيئا آخر عدا الفكرة العلمية المراقبة من طرف
التجربة″ ، فإذا كان العالم من خلال المنهج التجريبي يلاحظ ثم يفترض فإن
الافتراض يظل مجرد تصور لا يرقى إلى درجة العلمية و لا يساهم في بناء النظرية العلمية
إذا لم تؤيده التجربة.. و هي الفكرة ذاتها التي نجدها عند بيير دوهايم الذي يرفض
تأسيس النظرية الفيزيائية على التفسير العقلي لأنه يجعلها تابعة للفلسفة و كأنه
يستعيد مقولة نيوتن ″ أيتها الفيزياء حذار من
الميتافيزياء ″ … فحسب دوهايم ″ النظرية الفيزيائية نسق
من القضايا الرياضية المستنبطة من عدد قليل من القوانين التجريبية″،
إن التجربة حسب هذا التصور هي التي تؤكد مدى صحة أو خطأ ما يستنبطه العالم
الفيزيائي.
يمكن
القول في الختام بأن بناء النظرية العلمية يمكن أن يكون تجريبيا عندما يتعلق الأمر
بموضوع أو ظاهرة طبيعية مادية محسوسة {الفيزياء الكلاسيكية}، لكن عندما يتعلق
الأمر بموضوع نظري صوري {الفيزياء النظرية} فهذا يتطلب إبداع منهج عقلي يقطع كل
صلة بالتجريب العلمي بمعناه الكلاسيكي… و هكذا فإن طبيعة الموضوع ، في الحقيقة، هي
التي تحدد طبيعة المنهج.
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية