علم الكلام بين خيار
التبني ومقاربة الرفض:
‘‘دراسة في معطيات الفكر الإسلامي’’
إعداد
د/ علي محمد
عليان عبد الرازق الخطيب
مدرس الفلسفة - كلية الآداب جامعة
المنيا
جمهورية مصر
العربية
إن الهدف الرئيس من هذه الدراسة
يتمثل - كما هو واضح من عنوانها - في محاولة التعرف على الموقف المتخذ من علم الكلام. ونحن نري أن الشروع في هذه
المهمة يتطلب منا الحديث عن ثلاثة محاور
رئيسة كي نحقق الهدف الذي قامت من أجله تلك الدراسة. يتمثل المحور الأول في ‘‘إشكالية التسمية
والنشأة’’، أما المحور الثاني فيتمثل في ‘‘الموقف من علم الكلام’’، ووصولاً إلي
المحور الثالث والأخير فنجده يتمثل في ‘‘السؤال عن حاجتنا إلي تجديد علم الكلام من
عدمه ’’ أو علي الأحرى الحاجة إلي ‘‘علم
الكلام الجديد’’.
وبالنظر إلي المحور الأول
والمتمثل في ‘‘إشكالية التسمية والنشأة’’، فإننا نرى إنه من الواجب علينا ألا نقف
عنده طويلاً ، بل نقتصر فيه على إظهار بعض النقاط الرئيسة في هذا المحور ، وذلك أن
معظم الباحثين طالما تحدثوا عن هذا المحور سواء علي نحو مباشر أو غير مباشر . و علي
أيه حال فإننا نري أن الحديث عن ‘‘إشكالية التسمية والنشأة’’ يستلزم منا الوقوف
علي نقاط رئيسة منها أولا: معرفة ماهية علم الكلام قبل الحديث عن نشأته، حيث إنه يعتبر
علم الدفاع عن العقائد الدينية بالأدلة العقلية. إذا يختلف عن علم الفقه حتى وإن
كان بينه وبين علم الفقه اتصال لدرجة أنه يمكننا القول بأنهما مكملان لبعضهما
البعض، وذلك لأن البعض قد رأي أن علم الفقه هو العلم الذي يهتم بالدفاع عن العقائد
الدينية بالأدلة التقلية لا العقلية .(1)
ومن ثم فلا غضاضة حينما يقرر
البعض الحقيقة التي تقول : باختلاف الفقيه
عن المتكلم ، حيث إن الاختلاف بينهما يكمن في أن الفقيه عندما يهتم بدراسة المبادئ
الدينية فهو يهتم بمعرفة ما يترتب عليها من نتائج، أما المتكلم فيهتم بالبحث لهذه
المبادئ عن الأدلة التي تدعم ثبوتها والإقرار بها. و من ناحية أخري يمكننا القول بما
رآه ‘‘ابن خلدون’’ – من قبل - باختلاف علم الكلام عن الفلسفة من حيث المنهج. فما
نريد التأكيد عليه هنا هو أنه ينبغي علينا ألا نقول علي ‘‘المتكلم’’ فيلسوفاً عقلياً،
إذا إن الفيلسوف هو ذلك الشخص الذي يفكر في مسألة ما تفكيراً عقدياً
محضاً(2).
و ما يؤكد صدق هذه الحقيقة هو
الحديث عن المنهج الذي يتبعه المتكلم عند تأييد موقفه تجاه مسألة ما . وإننا نري
أن الحديث عن المنهج هنا يتطلب منا البحث والفحص في المناهج التي اعتمد عليها
المتكلمون، ومن خلال قيام البعض بهذه
المهمة وجد أن المتكلمين لا يعتمدون على
منهج واحد بعينه بل على مناهج عديدة،
وهدفوا من ذلك تأييداً لموقفهم تجاه قضية ما ، وتتمثل هذه المناهج فيما يلي:
1- منهج البرهان الكلامي: ومعناه أن يبدأ المتكلم من أقوال الخصوم ثم يصل من
خلال اعتماده علي طريقة البرهان العقلي إلي نتائج ملزمة للخصم. غير أننا نجد أن
الإمام ‘‘ الغزالي’’ قد أقر بعدم صلاحية هذا المنهج وخصوصا عند استخدامه في إقناع
المسلم المجادل، وكذا أصحاب الملل والنحل الأخرى.
2- منهج التأويل: وهو ذلك المنهج الذي يلجأ إليه المتكلم حينما لا يتفق
ظاهر النصوص مع ما يريده. و قد تسبب هذا المنهج في جعل مواقف المتكلمين - باختلاف مدارسهم
الكلامية - في حالة من الاختلاف الشديد.
3- منهج التفويض: وهو المنهج الذي يعتمد عليه المتكلم و بخاصة عندما
يسلم ببعض الأسرار الإلهية التي يعجز العقل عن إدراكها.(3) ومن الملاحظ أن
الأشاعرة وحدهم هم الذين اعتنقوا ذلك المنهج، وعلي هذا النحو نجد أنهم قد
اختلفوا مع المعتزلة التي كانت تقدس العقل، والتي تري أن العقل لا تحده أية حدود.
ومن هنا يمكننا أن نقرر حقيقة مهمة : هي أن المنهجين الأولين هما اللذان استقطبا إجماع
سائر المتكلمين في مباحثهم الكلامية ، كما تعددت آراء المتكلمين واختلفت، لدرجة
إننا لا نستطيع أن نجمعهم تحت فرقة واحده و قد كانت معظم اختلافاتهم تدور حول
موضوعات متعلقة بذات الله وصفاته، والجبر والاختيار ..إلخ (4).
أما النقطة الثانية فتتمثل في
الحقيقة المتعلقة بالمسميات التي أطلقها البعض علي علم الكلام حيث نجد أن ‘‘أبا
الوفا التفتا زاني’’ قد رأي أن البعض أطلق مسميات عديدة منها علم التوحيد والصفات
نظرا لاعتقادهم بأن علم الكلام يهتم بالبحث في الأحكام الاعتقادية. أضف إلي ذلك أن
هناك مسميات أخري قد أطلقها البعض الآخر علي هذا العلم مثل ‘‘علم أصول الدين’’،
‘‘علم الفقه الأكبر’’ ، و ‘‘علم النظر
والاستدلال’’(5)
وتكمن النقطة الثالثة في معرفة
الهدف الذي قام من أجله هذا العلم حيث نري أن البعض قد اهتدي إلي القول بأن الهدف
الرئيس لعلم الكلام يتمثل في الدفاع عن الإسلام والإقرار بأن الإسلام هو دين واحد
ولا يوجد به أية انقسامات . وذلك راجع إلي اعتقاد المتكلمين في أن الإسلام له
الفضل الكبير في وحدة العرب بعد أن كانوا قبائل متفرقة تحارب بعضها البعض.(6) أما النقطة
الرابعة فتتمثل في معرفة الغاية التي من أجلها نشأ هذا العلم ، فمن خلال بحث
المتخصصين لمعرفة الغاية وجدوا أنها كانت تنحصر حول الإقرار بالعقائد وذلك من خلال
العقل والإقرار القلبي بها، وفي الدفاع عن هذه العقائد من خلال دفع شبه الخصوم.
ومن ثم وجدنا البعض وخصوصا المتكلمين قد
أكدوا علي حقيقة مهمة هي: أن غاية علم
الكلام تتمثل في الترقي من حضيض التقليد إلي ذروة اليقين.(7)
و وصولاً إلي النقطة الخامسة
والأخيرة من المحور الأول فإننا نلاحظ أنها تكمن في معرفة نشأة علم الكلام ، حيث
إننا لو تحدثنا عن هذه النقطة بالذات لخصصنا مجلدات عديدة، غير أننا نري أن مهمتنا
الرئيسة هنا تنصب علي إظهار أهم المعالم الرئيسة التي ساهمت بشكل أو بآخر في نشأة
هذا العلم. فنقول في البداية : إن علم الكلام قد نشأ في بداية القرن الثاني للهجرة
علي يد المعتزلة، غير أننا نلحظ أن المشكلات الدينية المتعلقة بمرتكبي الكبيرة قد
ظهرت قبل ظهور علم الكلام بحوالي نصف قرن من الزمان. و هذا معناه أنه من الممكن
النظر إلي هذه المشكلات علي أنها الإرهاصات المبكرة لنشأة هذا العلم.(8)
ومهما يكن الأمر فإن ما يهمنا ويشغل
بالنا هو أن نشأة علم الكلام باعتباره نسقاً كاملاً قد ارتبط ارتباطاً وثيق الصلة
بنشأة المعتزلة. كما ساهم انتشار الإسلام في مختلف بقاع العالم في إلزام علماء
الكلام مسايرة متطلبات الحضارات الجديدة من خلال تقديمهم لتفسيرات جديدة للمشكلات التي
نتجت بسبب انتشار الإسلام. غير أن ما نريد التأكيد عليه هنا هو أن المعتزلة قد ظلت
تمثل الفكر الكلامي حتى بداية القرن الرابع الهجري، إلا أن الانحدار العام بدأ يصيب المعتزلة بسبب ظهور ‘‘أبي الحسن الأشعري’’
في الفكر الإسلامي . لذ ا وجدنا المعتزلة
تتجه إلي الفكر الشيعي وأخص بالذكر ‘‘الزيدية’’، حيث تسربت أفكار المعتزلة إلى
مؤلفات الشيعة، وتزايد الاقتراب بينهما حتى وصل إلي أوجه علي يد ‘‘نصر الدين
الطوسي’’ في القرن السابع الهجري. كما تسربت أفكار المعتزلة إلي مؤلفات الأشاعرة
بدءاً من القرن السابع الهجري، ولقد ظهر ذلك على نحو جلي في كتاب ‘‘طوالع الأنوار’’
‘‘للبيضاوي’’ ، و كتاب ‘‘المواقف’’ ‘‘للإيجي’’...إلخ
.(9)
وعلي الرغم من ذلك فإنه يمكننا
القول بأن الناظر إلي علم الكلام وخصوصا في فترة نشوئه المبكرة ، يجده قد تأثر
بالفلسفة اليونانية، ومع ذلك فقد ظل علم الكلام مختصاً بالمشكلات الفكرية التي
أوجدتها الصراعات الاجتماعية والسياسية داخل العالم الإسلامي . إن ما نريد التأكيد
عليه هنا أن علم الكلام كان بمثابة القناة التي تصل الفكر الإسلامي بالفلسفة
اليونانية. (10) غير أننا نجد أن ‘‘على سامي
النشار’’ يقول : إن فقهاء المسلمين لم
يوافقوا على هذا المزج ، وذلك إذ رفضوه رفضاً شديداً ، ولم يتوقفوا عند هذا الحد
حيث نجدهم ينظرون إلي من قام بهذا العمل من المتكلمين علي أنه ‘‘مبتدع’’وقريب من
ذلك الرأي رأي ‘‘مصطفى عبدا لرازق’’ الذي رأي أن علم الكلام قد نشأ بغرض الحاجة
إليه، كما أنه نشأ نشأة إسلامية غير مشوبة بالفكر اليوناني .(11)
إن هذه الحقيقة التي اختلف حولها
البعض لا تشغل بالنا الآن، وذلك لأننا نريد التأكيد علي حقيقة أخري هي أن علم
الكلام قد وصل في مرحلة ما و علي وجه
التحديد في القرن السابع الهجري إلي أعلي درجات النضج، وصار متوافقا كليا مع الفكر
الإسلامي. لذا كان من الطبيعي أن يتخلى عن مكانه فلسفياً ليتحول إلي كيفية فلسفية خالصة
، وذلك لأن الفلسفة لم تلق قبولاً فكرياً بسبب فتوى الفقهاء بتحريم الاشتغال بها.
غير أن الفلسفة قد صمدت في وجه هذا الهجوم الذي شنه البعض أمثال ‘‘الغزالي’’ ...إلخ.
وترتب على ذلك دخولها تحت موضوعات علم
الكلام والتصوف.لدرجة أن علم الكلام والتصوف قد صارا بمثابة الشاطئ الذي ترسى عليه
سائر الاتجاهات الفلسفية في الإسلام في تلك الفترة.(12)
هنا يتبادر إلي الذهن تساؤل مهم يتعلق بالبحث عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلي
تحول علم الكلام الخالص إلي فلسفة خاصة ؟ لقد أجاب لنا الدكتور ‘‘عباس سليمان’’ علي هذا التساؤل ، حيث توصل إلي
أربعة أسباب وجدها من أهم الأسباب التي أدت إلي هذا التحول منها ما يلي:
1-
ارتباط علم الكلام المتأخر باستخدامه للمنطق الصوري أداة
ومنهجا للبحث والاستدلال.
فلقد ارتبط علم الكلام بالمنطق الصوري
وآثر ذلك في طبيعة علم الكلام في الإسلام، والدليل على ذلك هو أن علماء الكلام
المتأخرين قد استخدموا المنطق الصوري في سائر كتاباتهم الكلامية. كما بحث علماء
الكلام المتأخرون عن الاستدلالات العقلية. أضف إلي ذلك اعتمادهم على صورة
الاستدلال القياسي لتدعيم حجتهم. كما اعتمدوا على مفهوم الجنس والفصل لتعريف
الوجود. ولم يتوقفوا عند هذا الحد حيث وجدناهم يستخدمون ‘‘المقولات العشر
الأرسطية’’ في سائر كتاباتهم الكلامية .وترتب علي ذلك أن صارت ‘‘المقولات العشر’’
من المقولات المهمة في تطور علم الكلام لارتباطها بمباحث التوحيد عندهم.(13)
2-
اهتمام علماء الكلام المتأخرين بمنهج التأويل العقلي
المعتزلي، ذلك الأمر الذي مزج علم الكلام بالفلسفة .
من الملاحظ أن قضية التأويل قد
شغلت حيزاً كبيراً من تفكير واهتمام الفلاسفة والمتكلمين على حد سواء ، تجاه
موقفهم من النصوص الدينية. من ثم أصبح من الطبيعي أن يقول الفلاسفة والمتكلمون: إن النص وحده لا يكفي في
الوصول إلي الحق، بل لا بد كذلك من الاعتماد على العقل والبرهان المنطقي. ونظراً
لقولهم بذلك فقد أصبح منهج التأويل العقلي مطلباً ملحاً وضرورياً لجميع الفرق
الكلامية ، واقترب أكثر فأكثر من الفلسفة ، بل واستمد منها مادته ومنهجه .(14)
3-
أثر الفكر الإسماعيلي في انطباع الموضوعات الكلامية
بالطابع الفلسفي
فلو توقفنا قليلا عند الإسماعيلية
نجد أنها فرقة تفوقت علي سائر الفرق الأخرى ، وذلك من خلال تنظيمها الدقيق في مجال
الفكر الفلسفي. كما نجدها قد ضمت العديد من الفلاسفة والعلماء الذين تمتعوا بقدرات
خاصة فاقت سائر العلماء والفلاسفة الموجودة آنذاك . وكذا قدمت لنا شرحاً باطنياً
فلسفياً للكون اعتمدت فيه علي مصادر الثقافات الشرقية القديمة, وخصوصا الأفلاطونية
المحدثة .والمهم هنا إن سائر أفكارها الفلسفية قد تغلغلت في شتي نواحي الفكر أقصد:
علم الكلام، الفلسفة، والتصوف
4-
ارتباط علم الكلام المتأخر بالأصول الكلامية في فلسفة
‘‘ابن سينا’’
إن الناظر لفلسفة ‘‘ابن سينا’’ يجدها ترتبط ارتباطاً
وثيق الصلة بالفلسفة الإسماعيلية ، وقد نتج عن ذلك ارتباط علم الكلام بالفلسفة.
وتأكيداً لهذه الحقيقة نجد أن ‘‘ابن سينا’’ قد تناول القضايا عينها التي اهتم بها
المتكلمون منذ نشأة علم الكلام. بجانب اهتمامه بالقضايا الفلسفية البحتة، لذا جاءت
فلسفته مزيجاً من علم الكلام والفلسفة .والجدير بالذكر هنا أن ‘‘ابن سينا’’ لم
يفعل ذلك بطريقة عشوائية ، بل كان يسعي إلي تحقيق هدف يتمثل في تقديم حلول فلسفية
لهذه القضايا من ناحية، وتأسيس علم الكلام تأسيساً فلسفياً من ناحية أخري. (15)
بناء علي ما تقدم من أسباب فقد حدث بالفعل تحول لعلم الكلام
الخالص ليصبح فلسفة خاصة للمتكلمين في القرون المتأخرة ، ومن خلال هذه الأسباب
يمكننا التوصل إلي عدة حقائق تؤكد علي
أصالة علم الكلام منها: 1- أن علم الكلام لم يكن علما منغلقا أو مستقلا بذاته. 2-
قد استخدم المتكلمون الفلسفة بوصفها أداة للتعبير عن مشكلاتهم الكلامية، لذا صارت
الفلسفة وسيلة من الوسائل التي تمكن المتكلمين من إثبات العقائد. 3- يشكل علم
الكلام الفلسفي عنصراً مهماً من العناصر المشكلة لبنية الفكر الإسلامي. 4- قد
اعتمد علم الكلام الفلسفي على الفلسفة ، مما يدل علي سمو البحث الفلسفي في المناخ
الإسلامي. (16)
وبهذا قد انتهينا من المحور الأول الذي أكدنا فيه علي
أصالة علم الكلام .غير أننا نري أن هناك تساؤلاً ملحاً يتعلق بـــــــالتساؤل عن
:هل نظر الجميع إلي علم الكلام علي أنه يتمتع بالأصالة؟ أو بمعنى آخر هل اتفق
الجميع على مشروعية قبوله أم إنه واجه رفضاً من قبل الجميع؟ إننا نري أن الإجابة
علي هذا السؤال تجبرنا علي ضرورة معرفة
الموقف المتخذ من علم الكلام، وهذا ما سنتناوله بالتفصيل في المحور الثاني
من محاور هذا البحث .
و يتمثل المحور الثاني -كما قلنا- في ‘‘الموقف من علم الكلام ’’، فمن
الملاحظ أن الباحث في ‘‘ الموقف المتخذ من علم الكلام’’ يمكن أن يقرر في البداية
الحقيقة التي مؤداها: إنه علي الرغم من الأصالة التي تحدثنا عنها عبر السطور
السابقة، إلا إنه قوبل باستنكار شديد وخصوصا من أهل الحديث والفقهاء والصوفية .
فهؤلاء لم يتوقفوا عند هذا الحد بل أطلقوا علي علم الكلام وأهله ‘‘أصحاب البدعة’’.
ولقد اعتمدوا في تأكيدهم لذلك علي أن الرسول(ص) والصحابة لم يشتغلوا به، فهو من
البدع. من هنا قابلوا علم الكلام بالاستنكار وذموه وأهله.(17)
وإحقاقاً للحق فإننا نود أن نشير إلي حقيقة مهمة هي أن هذا الموقف لم يكن الموقف
الوحيد الذي اتخذه البعض تجاه علم الكلام، حيث رحب البعض بعلم الكلام واشتغل به ،
كما عرف البعض الأخر بقيمة وقدر ومشروعية علم الكلام. مما يؤكد أن هناك موقفين اتخذهما البعض تجاه علم الكلام: موقف الرفض، و
موقف القبول.
ولو نظرنا إلي الموقف الرافض لعلم
الكلام فأول ما نلاحظه أن هذا الموقف كان رافضاً لعلم الكلام وقد استمر قديماً
وحديثاً . أما بالنسبة للرافضين قديما فنذكر منهم علي سبيل المثال لا الحصر ‘‘ابن
قتيبة’’(276 ه)، ‘‘ابن عبدا لبر’’ (463ه) و‘‘الهروي’’ (401ه) فهؤلاء قد رفضوا علم
الكلام رفضاً تاماً، حيث ذهبوا إلي القول بأن المتكلمين قد خاضوا في موضوعات دقيقة
، كان واجباً عليهم ألا يخوضوا فيها وذلك لأن الرسول(ص) وأصحابه لم يخوضوا في شيء من
قبل ذلك بل نهوا عنها. (18)
أضف إلي ذلك إنهم اعتقدوا بأنه لم
يكن عند المسلمين الأوائل أيام الرسول (ص) والصحابة علم الكلام أو الفلسفة، ولا خوض في جدال ،
وإنما كان عندهم إجماع في الكلمة حول العقائد. كما اعتقدوا بأنه حتى لو أشارت بعد
المصادر إلي وجود بعض المناقشات التي حدثت في زمن الرسول(ص) بخصوص مسألة القدر،
فإن الرسول(ص) قد نهي عن الحديث عنها وذلك بقوله (ص): ‘‘بهذا خلت الأمم قبلكم’’
وعلي هذا النحو يمكننا أن نقرر بأن الذين ذموا علم الكلام وأهله واعتبروهم أهل
بدعة قد اعتمدوا اعتمادا كليا علي القول بأن المتكلمين قد خاضوا في موضوعات لم يخض
فيها السلف الأول من المسلمين، كما تدخلوا في دقائق الأصول الدينية.(19)
غير إننا إذا نظرنا إلي
الأئمة الأربعة مؤسسي المذاهب الفقهية
الأربعة نجد أن بعض الباحثين قد صنفوهم جميعاً على أنهم من الرافضين قديماً لعلم
الكلام واعتمدوا في ذلك علي ما أورده ‘‘ابن تيمية’’ في كتابه ‘‘درء تعارض العقل
والنقل’’.(20) كما رأي الباحثون أن هؤلاء الأئمة قد مارسوا علم الكلام وأدركوا
خطورته علي الدين ، فنصحوا بعدم استعماله لاعتقادهم بأنه يؤدي إلي ترك كتاب الله
وسنة رسوله(ص). كما رأوا أننا لسنا بحاجة إلي علم الكلام لاعتقادهم بأن بواعثه
ونشأته قد ارتبطت بموضوعات ومباحث زالت في عصرهم. خلاصة ما نريد أن نقوله هنا أن
الباحثين قد رأوا أن هؤلاء الأئمة الذين رفضوا علم الكلام كان لديهم من الأسباب ما يبرر رفضهم لعلم الكلام ، و
من أبرز هذه الأسباب: سوء استخدام المتكلمين للجدل مما أدي إلي ظهور الفتنة
والفرقة (21). وعلي النقيض من ذلك نجد أن بعض
الباحثين قد رأوا أن هؤلاء الأئمة قد
اهتموا بعلم الكلام مما آثار الشكوك حول موقفهم . فها نحن نري الدكتور ‘‘محمد صالح’’ ينظر إلي الإمام
‘‘أبي حنيفة’’ علي أنه صاحب مؤلفات مهمة في علم الكلام منها كتاب ‘‘الفقه الأكبر’’و
كتاب ‘‘العالم والمتعلم’’ وكتاب ‘‘الرد علي القدرية’’ (22) فما يريد أن يؤكد عليه الدكتور
‘‘محمد صالح’’ هنا هو أن الإمام ‘‘أبا حنيفة’’ قد ساهم في علم الكلام ، وتأكيداً لذلك نجده يقول: إن ‘‘أبا حنيفة’’ ساهم في تسمية
علم الكلام بعلم الفقه الأكبر (23) كما نظر أيضا إلي الإمام ‘‘مالك بن أنس’’ فوجده
مشهوراً بكراهية الخوض في المسائل الكلامية و كذا نظرته للمتكلمين علي أنهم أهل
بدعة، إلا أنه اعتبره - من وجهة نظره -صاحب مذهب كلامي استطاع من خلاله محاربة
التشبيه والتجسيم بصفة عامة(24) .كما نظر إلي الإمام ‘‘الشافعي’’ فرأي أنه يعتبر
المتكلم الثاني بعد الإمام ‘‘أبا حنيفة’’، غير أنه وجد أن البعض قد شكك في هذه
الحقيقة . إلا أنه اعتقد بأنه إذا وصف الإمام ‘‘الشافعي’’ بكراهيته لعلم الكلام من قبل البعض ، فإن هذه
الكراهية لم تكن موجهه لعلم الكلام بل كانت موجهه لأهل الأهواء والبدع المنحرفين
عن عقيدة أهل السنة. ولكي يؤكد الدكتور ‘‘محمد صالح’’ علي صحة ما انتهي إليه فقد
شكك في قول البعض بكراهية الإمام ‘‘الشافعي’’ لعلم الكلام معتمداً في ذلك على
أربعة أسباب رئيسة هي علي النحو التالي:
السبب الأول: ويؤكد من خلاله
علي اهتمام الإمام ‘‘الشافعي’’ بدراسة كلام المتكلمين
السبب الثاني: ويشرح لنا من خلاله كيف كان للإمام ‘‘الشافعي’’ كلام
كثير في أبواب التوحيد المختلفة، كما يعرض - من خلاله - رأيه في بعض المسائل الكلامية مثل : القضاء
والقدر، والإيمان.
السبب الثالث: ويؤكد من خلاله علي شهادة البعض أمثال
‘‘البغدادي’’ بكتابته كتباً في علم الكلام
منها: تصحيح النبوة، الرد علي البراهمة،و الرد علي أهل الأهواء. مما يدل علي أن
للإمام ‘‘الشافعي’’ آراءً عظيمة لا يستهان بها في مجال علم الكلام.
السبب الرابع والأخير: فيؤكد من خلاله علي معاصرة الإمام ‘‘الشافعي’’ للمعتزلة
، مما يدل على اهتمامه بعلم الكلام . غير أن الإمام‘‘الشافعي’’ لم يتفق معها في
استخدامها الرئيس للعقل، بمعنى أنه آثر النقل علي العقل، ومن هنا بدأ البعض في
التشكيك تجاه موقفه من علم الكلام.(25)
و حينما نظر الدكتور ‘‘محمد
صالح’’ أخيراً إلي الإمام ‘‘أحمد بن حنبل’’ وجده ينفي كونه واحداً من المتكلمين ،
كما وجده يعلن هذه الحقيقة علي الملأ غير أن ‘‘محمد صالح’’ قد رأي بأن ما صرح به
الإمام ‘‘أحمد بن حنبل’’ لا يجعلنا نصنفه
من الكارهين لعلم الكلام، بل يجعلنا نقول عنه: إنه كان كارها ًلعلم الكلام القائم
علي الجدل الذي يخوض في مسائل لم يخض فيها السلف الصالح. كما رأى الدكتور ‘‘محمد
صالح’’ أن البعض قد وصف الإمام ‘‘أحمد بن حنبل’’ بكراهيته لعلم الكلام نظرا للمحنة
التي تعرض لها الإمام. و بناء علي ما تقدم وجدنا ‘‘محمد صالح’’ يؤكد على حقيقة
مهمة مؤداها: أن الأئمة الأربعة قد اهتموا بعلم الكلام ومسائله ، كما كانت لهم
آراء كلامية جديرة بالاعتبار . كما رأي أن الإمام ‘‘أحمد بن حنبل’’ الذي قيل عنه إنه
كاره لعلم الكلام ومسائله ، قد نسب إليه البعض كتباً رئيسة في علم الكلام منها علي
سبيل المثال لا الحصر : رسالته في الرد
علي الزنادقة و الجهمية .(26)
و وصولاً إلي الرافضين لعلم
الكلام حديثاً نجد أن هناك تياراً مناهضاً
لعلم الكلام في العصر الحديث ، و يعد هذا التيار امتداداً للتيار الرافض لعلم
الكلام قديماً .و قد اعتمد هذا التيار علي نفس المبررات المعارضة التي كان يعتمد
عليها التيار القديم. و كان الممثل الحقيقي لهذا التيار هم أهل السلف الذين نادوا
بضرورة المحافظة علي آراء وفتاوى القدامى والتمسك بالتفكير، وغلق باب الاجتهاد في
العقيدة والشريعة والاقتصار علي ظاهر
النصوص. كما شعر هذا التيار بأن الحديث عن أهمية علم الكلام في أيامنا تلك ما هو
إلا إعادة جديدة للصراعات بين الفرق الكلامية، وإحياء للمشكلات الكلامية . كما ظن
التيار نفسه بأن علم الكلام قد حقق غرضه تعريفا وموضوعا . و نلاحظ هنا أن هذا
التيار قد ردد أقوال ‘‘ابن خلدون’’ التي
تقول : إن الملاحدة لم يكن لهم أي وجود و بالتالي فليس أي حاجة لعلم الكلام.(27) إن
ما نريد قوله هنا أنه لا يزال في عصرنا من يهاجم علم الكلام ويحرمه أمثال الشيخ ‘‘عبدا
لحليم محمود’’ خصوصاً في كتابه ‘‘الإسلام والعقل’’ والمرحوم ‘‘محمود قاسم’’ في
مقدمته لكتاب ‘‘مناهج الأدلة لابن رشد’’ .(28)
و إذا نظرنا إلى الموقف الثاني الذي أقر بقبوله لعلم الكلام ، فإننا نجده يتشابه مع الموقف السابق في أن
هناك من قبل علم الكلام قديماً وهناك من قبل علم الكلام حديثاً ، ولو نظرنا إلي
موقف القبول لعلم الكلام قديماً فيمكن أن نستنبطه علي نحو جلي خصوصاً لو نظرنا إلي
‘‘الأشعري’’ الذي أعد رسالة في ‘‘استحسان الخوض في علم الكلام’’تلك الرسالة التي
اعتبرها ‘‘الأشعري’’ من الرسائل المهمة في بيان أصالة علم الكلام الإسلامية، و قد قدم
لنا أدلة المعترضين علي علم الكلام تمهيداً للرد عليهم.(29) وليظهر لنا أصالة علم
الكلام من خلال ثلاثة وجوه علي النحو التالي:
الوجه الأول: و الذي رأى ‘‘الأشعري’’ من خلاله أننا لو قلبنا الأمر
على المعترضين لعلم الكلام وقلنا: هل قال الرسول(ص) : إن من بحث عن المسائل
الكلامية وتكلم فيها يكون مبتدعاً ضالاً؟
الوجه الثاني: وهو بمثابة رد
يرد من خلاله ‘‘الأشعري’’ علي المعترضين، حيث يُظهر من خلاله أصالة علم الكلام الإسلامية إذ
نجده يؤكد فيه على أن الخوض في المسائل الكلامية يعد أمراً مقبولاً ، وذلك لأنها
مسائل كلامية لا بأس بها، كما أن لها أصولاً نقلية أو على الأحرى موجودة في القرآن
الكريم والسنة النبوية جملة غير مفصلة.(30)
الوجه الثالث: ويتمثل في تأكيد ‘‘الأشعري’’ علي أن مسائل علم الكلام
التي يطعن البعض في الخوض فيها ويعتبرها بدعة كان الرسول(ص) عالما بها، ولم بكن يجهل منها شيئاً مفصلاً. غير أنها لم تحدث في
أيامه فيتحدث أو لا يتحدث عنها، كما أن أصولها كانت موجودة في
القرآن الكريم و السنة النبوية.(31)
وتأكيداً لما انتهي إليه ‘‘الأشعري’’
وجدناه يقول: إنه لو حدث في أيام الرسول(ص) الحديث عن مسائل كلامية لتحدث عنها
وبينها كما بين سائر ما حدث في أيامه. أضف إلى ذلك ‘‘الأشعري’’ رأي أن ما
خاض فيه المتكلمون وما انتهوا إليه من نتائج لا يدخل في دائرة البدع من ناحية، في
حين نجده يري أن الذين لم يبدوا رأيهم في المسائل الكلامية فإنهم من وجهه نظره هم
أهل البدع الأصليين من ناحية أخري ، لاعتقاده بأنه لم يرد عن الرسول (ص) و قد حدثت حادثة ما وقال لهم: لا تقولوا فيها
بعدي شيئا.
وعلي هذا النحو يمكننا القول بأن
الأشعري استطاع بالفعل من خلال رسالته أن يدافع عن علم الكلام ويؤيده ، ويؤكد علي
اعتماده على العقل والنقل. من هنا يمكن اعتبار رسالته رسالة مهمة ودليلاً دامغاً
على أصالة علم الكلام الإسلامية، كما أخبرنا ‘‘الأشعري’’ في الوقت ذاته بأن ما خاض
فيه المتكلمون لا يجعلهم داخلين في البدع
علي الإطلاق.(32)
أما لو نظرنا إلى موقف ‘‘الغزالي’’
فنجد أن ‘‘محمد صالح’’ قد وصف موقفه بموقف المتردد من علم الكلام وذلك لأن ‘‘الغزالي’’
من وجهه نظره قد شك في منهج المتكلمين .ومن ثم كان لموقف ‘‘الغزالي’’ أثراً بالغ على
أصالة علم الكلام ، حيث اعتمد المنكرون لعلم الكلام على رأي ‘‘الغزالي’’ وحاولوا من خلاله التشكيك في
أصالة علم الكلام ومشروعيته. إلا أننا نجد
أن ‘‘محمد صالح’’قد عد الإمام ‘‘الغزالي’’ من أئمة المتكلمين ، وذلك لأنه
كان ولا يزال ينظر إليه على أنه صاحب مذهب في علم الكلام ، كما اعتبره واحدا من
الذين اهتموا بوضع علم الكلام ضمن دائرة
العلوم الشرعية(33). ولكي يؤكد الدكتور ‘‘محمد صالح’’ صدق ما انتهى إليه بخصوص
الإمام ‘‘الغزالي’’ نجده يشير لنا إلي أن الإمام ‘‘الغزالي’’ قد قام بتصنيف العلوم
في كتابه ‘‘إحياء علوم الدين’’، وقسم سائر العلوم إلى قسمين لا ثالث لهما: العلوم
الشرعية، والعلوم غير الشرعية ، وقد عد الإمام ‘‘الغزالي’’ علم الكلام ضمن العلوم
الشرعية.(34)
هذا معناه أن الدكتور ‘‘محمد
صالح’’ يريد أن يخبرنا بأنه من الأفضل بالنسبة لنا أن نستحسن الخوض في علم الكلام
من ناحية، كما يريد أن يؤكد على أصالته ومشروعيته قديما وحديثا . وذلك راجع إلى
اعتقاده بأن علم الكلام سوف يحقق لنا خمس فؤائد على قدر كبير من الأهمية كما يلي:
الفائدة الأولي: وتتمثل في أن الخوض في علم الكلام يجعلنا نرتقي من حضيض
التقليد إلى ذروة اليقين.مصداقاً لقوله
تعالى: ‘‘يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات’’
الفائدة الثانية: وتكمن في أن الخوض في علم الكلام يسهم في إرشاد
المسترشدين بإيراد الحجة ويلزم المعاندين بإقامة الحجة.
الفائدة الثالثة : وتتمثل في أن
الخوض في مسائل علم الكلام يحافظ على قواعد الدين .
الفائدة الرابعة : وتكمن في أن الخوض في المسائل الكلامية يعتبر الأساس الذي
تبنى عليه سائر العلوم الشرعية.
الفائدة الخامسة: وتتمثل في أن الخوض في المسائل الكلامية يحقق السعادة في
الدارين .(35)
بناء على ما تقدم فقد أكد لنا الدكتور‘‘محمد
صالح’’ على أصالة علم الكلام ، كما أشار إلى موقف القبول والترحيب بعلم الكلام ، ولم يكتف بذلك إذ وجدناه يسرد
لنا موقف القبول لعلم الكلام قديماً ، معتمدا في ذلك على تصنيف العلوم عند العرب ،
ذلك التصنيف الذي كان يعتمد عندهم على تصورهم للمعرفة البشرية ، وبيان علاقة هذه
العلوم مع بعضها البعض من خلال ترتيبهم للعلوم بحسب الخصوصية والعمومية بهدف إظهار
حدودها وعلاقتها القائمة فيما بينها.
فقد نظر الدكتور ‘‘محمد صالح’’
أول ما نظر إلي ‘‘الفارابي’’ الذي عده من
المفكرين الأوائل الذين اهتموا بتصنيف العلوم وخصوصا في كتابه ‘‘إحصاء العلوم’’
(36) الذي عبر من خلاله عن ضرورة اعتبار علم الكلام والفقه علمين إسلاميين خالصين
وذلك لأنه اعتقد في أن صلتهما بالفلسفة صلة عرضية وليست جوهرية. كما نظر إلى
‘‘إخوان الصفا’’ فوجد أنهم لم يصنفوا علم الكلام ضمن العلوم الإلهية ، بمعنى أنهم صنفوا علم الكلام ضمن العلوم الفلسفية لا
العلوم الشرعية. وذلك راجع في الأساس إلى نزعتهم الفلسفية التي جمعوا فيها سائر
التيارات الفلسفية الشائعة بهدف تفسير الدين تفسيراً عقلياً مستندين في ذلك على
النظر إلى الدين نظرة باطنية صوفية ، ومعتمدين في فهمهم للدين على العلوم الطبيعية
.(37)
ثم نظر الدكتور ‘‘محمد صالح’’
أيضا إلي ‘‘ابن النديم’’ في كتابه ‘‘الفهرست’’ ولاحظ أنه أعلى من مكانة علم الكلام
حيث خصص مقالة كاملة للحديث عن علم الكلام، كما حاول الجمع بين علمي الكلام
والتصوف، لاعتقاده بالعلاقة الوثيقة بين الصوفية والمتكلمين خصوصاً في القرن
الرابع الذي عاش فيه ‘‘ابن النديم’’. كما نظر إلى ‘‘الخوارزمي’’ الذي أراد أن يصنف
سائر علوم عصره في كتابه ‘‘مفاتيح العلوم’’(38) فلاحظ أن ‘‘الخوارزمي’’قد وضع لعلم الكلام مكانة مهمة في تصنيفه ، حيث أفرد
لعلم الكلام باباً كاملاً. وقد استنتج‘‘محمد صالح’’ من ذلك أن ‘‘الخوارزمي’’ يتشابه مع ‘‘ابن النديم’’ في اعتماده في
التصنيف على الإحصاء الوصفي فحسب، دون الاهتمام بالبحث عن مراتب العلوم. ومما يؤكد
وجهه نظر ‘‘محمد صالح’’ هو أن ‘‘الخوارزمي’’ قد أورد علم الكلام بعد الفقه في
الترتيب دون التقليل من شأن علم الكلام . (39)
كما نظر إلى تصنيف ‘‘ابن خلدون’’ فلاحظ
أنه يهتم بتصنيف العلوم من خلال مقدمته ، بيد أن العصر الذي كان يعيش فيه ‘‘ابن
خلدون’’ كان عصراً متصفاً بالركود والانحلال والتأخر في كل المجالات وعلى رأسها
العلم والحضارة الإسلامية. لذا اهتم ‘‘ابن خلدون’’ بضرورة احتواء مقدمته على سائر
العلوم خوفا عليها من الضياع. وعلى أيه حال فقد صنف ‘‘ابن خلدون’’ العلوم الموجودة فى عصره إلى صنفين : صنف طبيعي
للإنسان، وصنف للعلوم التقلية. وبالنسبة للصنف الأول فيختص بعلوم الفلسفة والحكمة
أو على الأحرى بالعلوم الطبيعة التي تفيد الإنسان. أما الصنف الثاني فيختص بالعلوم
التقلية الخاصة بالملة الإسلامية. وقد صنف ‘‘ابن خلدون’’ علم الكلام واحداً من
العلوم التقلية التي يهتم بها الصنف الثاني. لذا وجدنا ‘‘ابن خلدون’’ يخصص فصلا
كاملا يهتم فيه بالحديث عن علم الكلام من حيث النشأة والتطور، ويميزه عن الفلسفة (40).
وعلى الرغم من ذلك فقد قصر ‘‘ابن
خلدون’’ مهمة علم الكلام على الرد على شبهات المخالفين لعقيدة أهل السنة
والسلف.وهنا أدان البعض ‘‘ابن خلدون’’ واتهموه بعدم الموضوعية عند تصنيفه للعلوم ،
كما وصفه البعض الآخر بأنه وقف موقف المتفرج في الوقت الذي بلغ فيه علم الكلام قمة
التطور . غير أننا نجد أن الدكتور ‘‘ محمد صالح’’
قد أرجع موقف ‘‘ابن خلدون ’’ الذي
اتخذه من علم الكلام إلى أمرين لا ثالث لهما: يتمثل الأول في رفض ‘‘ابن
خلدون’’ خلط علم الكلام بالفلسفة ،
لاعتقاده بضرورة التمييز بين العقائد والفلسفة . أما الثاني فيتمثل في إيمان
‘‘ابن خلدون’’ بعدم حاجته إلى علم الكلام في
عصره. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على اقتصار ‘‘ابن خلدون’’ على عقائد السلف
فحسب.
وأخيرا نظر الدكتور ‘‘محمد صالح’’ إلى موقف ‘‘طائش كيري زاده’’ فمن
خلال تصفحه لكتابه ‘‘مفتاح السعادة ومصباح السيادة’’ ، وجده يدخل علم الكلام ضمن
دائرة العلوم الشرعية، كما وجده متشابهاً إلى حد كبير مع موقف ‘‘الإيجي’’ من علم
الكلام . وبناء على ما تقدم يمكننا القول
بوجوبية علم الكلام عبر سائر العصور ،
وذلك لأنه يعد علما قد يستعين به البعض في الدفاع عن الدين.(41) كما لم ينشأ ترفا
ولا عبثا (42) بل يعد علما بمعني الكلمة يجب علينا وضعه على رأس العلوم الشرعية، نظرا
لاعتماد سائر العلوم الشرعية عليه .هذه
الحقيقة أكد عليها ‘‘محمد صالح’’ و اعتمد في ذلك على موقف ‘‘الإيجي’’ . (43) كما
اعتمد على التصوف الإسلامي الذي وجده يستند في الأساس إلى علم الكلام وذلك لأن التصوف يهتم بالبحث في الأحكام
الشرعية النظرية والعملية. كما أن الصوفي الحق هو الذي يكون على علم بالكتاب
والسنة . لذا ليس غريباً أن نجد ‘‘محمد صالح’’ يؤكد - مثلما أكد ‘‘التفتازانى’’ من
قبل - على أن انفصال العلوم - أقصد علم الكلام والفقه ، والتمييز بينهما- يعد أمراً اعتبارياً حيث اعتقد بإمكانية إدراج
هذه العلوم تحت مسمى واحد هو الشريعة. كما رأى أن الانفصال الذي حدث بينهما قد حدث
مؤخراً في الإسلام نتيجة للتخصص العلمي
فحسب.(44)
و وصولاً إلى العصر الحديث فنجد
أن هناك متكلمين قد أقدموا عليه ,ولكنهم اشترطوا قيامه على الكتاب والسنة مثل ‘‘الإمام
الغزالي’’ وخاصة رسالته في ‘‘إلجام العوام عن علم الكلام ,‘‘وابن الوزير’’ فى
كتابه ‘‘ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليويان ’’.(45)كما شارك في الدفاع عن علم
الكلام فلاسفة وصوفية ومحدثون وفقهاء إلى جانب متكلمين‘‘كالعامري’’ في كتابه
‘‘الإعلام بمناقب الإسلام. و‘‘السبكى’’ في الطبقات،‘‘وابن عساكر ’’في ‘‘
التبيين’’،و‘‘البياضى’’ في ‘‘إشارات المرام من عبارات الإمام’’0كما لا يزال من
يدافع عنه في أيامنا تلك ويقر مشروعية وجوبه ,فهناك بحث مهم قام به الدكتور الشيخ ‘‘يحيى فرغل’’ للحديث
عن ‘‘نشأة علم الكلام ودواعيه،’’ إذ خصص مجلدين لتحقيق ذلك.(46)
على هذا النحو نكون قد قدمنا
بالفعل للموقف الرافض لعلم الكلام و كذا المؤيد له ,غير أننا نرى أنه إلى جانب
المناهضين والمؤيدين يوجد فريق ثالث يتوسط بين المعارض المطلق والتأييد المطلق
لعلم الكلام ,وهم الذين ميزوا بين موضوعات علم الكلام وقسموها إلى موضوعات محمودة
وأخرى مذمومة.كما بحثوا عن المشتغلين به والممنوعين من الاشتغال به .(47) و نلاحظ
أنه مع مطلع القرن العشرين قد ظهرت دعوة تهدف إلى تجديد علم الكلام ,ومن أبرز
الشخصيات التي نادت بذلك :‘‘محمد إقبال’’,و‘‘عبدا لحميد بن بأديس’’,و‘‘مالك بن
نبي’’...إلخ.(48) وهذا معناه أنهم جميعا و كما يقول ‘‘عبدا لعزيز راجل ’’: شعروا
أننا في أمس الحاجة إلى علم الكلام الجديد خاصة وأن الإلحاد مازال موجوداً ,بل زاد
عن الأيام السابقة حيث أخذ شكلاً جديداً تحت مسمي ‘‘العلم’’.كما اعتقدوا أن الفلسفات
الحديثة صارت تتنافس مع المقولات الدينية وتطرح شكوى حول الدين وأصبح المسلمون في
تحديات حضارية وسياسية .(49)
لذا نرى أن المحور الثالث والأخير
يجب أن يتناول ‘‘علم الكلام الجديد’’ أو ‘‘الحاجة إلى علم الكلام الجديد’’ .و سوف
نتناول هذا المحور من خلال عدة نقاط رئيسة منها:أولا ‘‘حقيقة وجود ما يمكن أن نطلق
عليه علم الكلام الجديد’’, فعلاً فإن هناك علم كلام جديداً له منهج محدد، يبد أنه تغير كثيراً عن المنهج الذي كان مألوفا من ذي قبل. كما أن له مفاهيم
إجرائية ولكنها مختلفة أيضا عن المفاهيم التي كانت موجودة من ذي قبل ، و نلاحظ أن
له قضايا وهى كالعادة مختلفة عن القضايا التي كانت موجودة من قبل. أما النقطة
الثانية في هذا المحور فتتمثل في المنهج الجديد الذي يتبعه علم الكلام الجديد إذ
نري أن المنهج الجديد يتمثل في ممارسة الفعل الذي يعتمد على الواقع تارة و
على النص تارة أخرى.(50) وتتمثل النقطة الثالثة في معرفة الهدف الذي قام
من أجله علم الكلام الجديد و الذي يكمن في
وضع حد لحالات الركود التي سيطرت على الدراسات الكلامية في القرون الأخيرة، كما يكمن
في إعادة بعث النتاج الكلامي من جديد
وربطه بالتطورات التي طرأت على المعرفة الإنسانية و التي تأثرت بالعاصفة الغربية ،
و يكمن أيضا في تحقيق تنمية فكرية لعلم
الكلام ووضعه في السياق الذي يتناسب معه . وتتمثل النقطة الرابعة في معرفة مجالات
التجديد في علم الكلام خصوصاً و قد قلنا من قبل بمشروعية وجود علم كلام جديد، وعلى
أيه حال فإنه من الملاحظ أن التجديد كان على أكثر من مستوى وعلى أكثر من صعيد
ويمكننا إيجازه على النحو التالي :
1-التجديد في المسائل الكلامية: حيث وجد المهتمين
بالتجديد لعلم الكلام إن هناك مسائل كثيرة لسنا بحاجة إليها في أيامنا تلك ، بل
رأوا أن هناك مذاهب ومدارس كلامية بأكملها لسنا بحاجة إليها . و في المقابل نادوا
بضرورة وجود أفكار جديدة ومذاهب ومدارس كلامية جديدة تكون بعيدة كل البعد عن
الصراع، وتعتمد على أنماط تفكير أخرى غير التي كانت تعتمد عليها من ذي قبل.
2- التجديد في المبادئ:
وذلك بهدف تغيير دراسات علم المعرفة والوجود وكذلك العلوم الإنسانية والطبيعية
والأبحاث الرياضية .
3- التجديد في المنهج: و الذي يعتبره البعض من أهم أنواع التجديد ،
حيث كان المنهج القديم الذي يستخدمه المتكلمون هو المنهج الجدلي الذي تطور فيما
بعد، وأصبح مزيجاً من الفلسفة والكلام، إلا أننا وجدناهم ينادون بضرورة التغيير لذا صار المنهج عندهم
متمثلاً في العقل الكلامي. (51)
وتكمن النقطة الخامسة في معرفة
القضايا التي يهتم بها علم الكلام الجديد، وأول ما نلاحظه أن معظم هذه القضايا
تعبر عن إشكاليات متعلقة بحقوق الإنسان وتوفيقه مع عصره . وثاني الملاحظات تتمثل في
إمكانية تقسيم القضايا التي يهتم بها علم الكلام الجديد إلى ستة أفرع رئيسة هي على
النحو التالي:
-
الفرع الأول و يتعلق بالقضايا العقدية الإلهية: ومن أمثلة هذه القضايا البحوث الخاصة بأصول الدين ،
تلك البحوث التي تتميز بكونها بحوثاً قديمة إلا أنها عولجت معالجة جديدة كان من
أبرزها ‘‘ الردود الخاصة حول الشبهات الفلسفية والعلمية الحديثة’’ ، ونذكر أيضا من أهم المعالجات الحديثة والتي تعد
أكثر منهجية معالجة المفكر‘‘محمد باقر الصدر’’الذي قام بتأسيس الأصول الدينية على
منهجه في الاستقراء وحساب الاحتمال، وتحقيقاً لذلك فقد وجدناه يخصص كتابين الأول
‘‘الأسس المنطقية للاستقراء’’ ويمتاز بالبساطة وهدف منه التأكيد على وجود القاسم الذي
يثبت كلا من العلوم الطبيعية والإيمان بالله، أما الثاني فعنوانه ‘‘موجز أصول
الدين ، المرسل -الرسول والرسالة’’ وهدف
من خلاله إلي توسيع قضايا العقيدة من خلال النظر إلى الواقع معتمداً في ذلك على
منطق الاستقراء.
-
الفرع الثاني ويتعلق بقضايا التربية العقائدية: وذلك لترسيخ العقيدة لدى الإنسان المسلم دون
الاكتفاء بالاعتقاد المعرفي المبنى على الدليل والتحقيق .
-
الفرع الثالث ويتعلق بالقضايا الأيديولوجية: وذلك بهدف تحويل معاني العقيدة إلى معان اجتماعية
غرضها الأساسي إصلاح الواقع الاجتماعي للأمة. وهنا نجد ‘‘محمد إقبال’’ خصوصا في
مشروعه‘‘تجديد التفكير الديني في الإسلام’’ من أول المهتمين بهذا المجال، حيث جعل
من التوحيد الميتافيزيقي توحيداً قابلاً للتنزيل
و أيضا وجدنا ‘‘محمد باقر الصدر’’ قد
استمد من وحدانية الله وعدالته مطلبين هما : إقامة العدل في المجتمع ووحدة الأمة.
الفرع الرابع ويتعلق بالقضايا النظمية: وهذا معناه أن هذا الفرع يهتم بإيضاح ما يتضمنه
الإسلام من نظم قد تضاهى قدرتها وقوتها سائر النظم الحديثة.
الفرع الخامس ويتعلق بقضايا حقوق الإنسان: ويتميز هذا الفرع بأنه يشغل اهتمام المتكلمين بكل ما
تحويه الكلمة من معنى، حيث نشر المتكلمون بحوثاً في هذا المجال كان معظمها متعلقاً
بالحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والمواطنة
.........إلخ.
الفرع السادس والأخير ويتعلق بالقضايا التوفيقية مع العصر: وتمتاز هذه
القضايا بانشغال المفكر بها منذ النشأة ، وكان يطلق عليها من قبل البعض التوفيق
بين الأصالة والمعاصرة تارة والتوفيق مع قضايا العلوم الطبيعية تارة أخري.(52)
أما النقطة السادسة والأخيرة فتتمثل
في الإشارة السريعة إلى أبرز القائلين بضرورة تجديد علم الكلام، حيث يعد ‘‘شلبي النعماني’’(1857-1914م)من
أبرز المنادين بضرورة تجديد علم الكلام وظهر ذلك على نحو جلي في سائر كتاباته
الكلامية ، كما نرى الأستاذ ‘‘مرتضى مطهري’’ (1920-1979) يؤكد على ضرورة إحداث تحولات في العلوم
الكلامية وتأسيس علم كلام جديد .وعلى أية حال فإنه من الملاحظ أنه قد كثرت الأبحاث
في هذا المجال الجديد رغم مرور أقل من مئة عام على الدعوة إلى تجديد هذا العلم،
حيث كثرت البحوث والكتب خلال الأعوام الماضية القليلة بخصوص المسائل والقضايا
المتعلقة بالعلم الجديد. غير أن الأستاذ ‘‘أحمد قراملكي’’ لاحظ حقيقة على قدر كبير من الأهمية هي أنه على
الرغم من كون هذا العلم علماً جديداً ، وكانت هناك أبحاث وكتب بخصوصه ، إلا إنه قد
تناول - في بعض الأحيان- قضايا ومسائل ليس
لها صلة بعلم الكلام الجديد. وقد أرجع ‘‘أحمد قراملكي’’ ذلك إلى سببين لا ثالث
لهما هما: الأول ويرى من خلاله أن علم الكلام الجديد لا يشارك علم الكلام التقليدي
الذي كان سائداً من ذي قبل إلا في اللفظ أو العنوان. أما السبب الثاني فيتمثل في أنه
رأى أن البعض قال على علم الكلام الجديد إنه علم له هدف ومنهج مختلف عن علم الكلام
التقليدي ، إلا أنهم لم يلاحظوا علي هذا
العلم أية استقلالية سواء من حيث الهدف أو المنهج. من هنا نظر ‘‘أحمد القراملكي’’ إلى هذين السببين واعتبرهما من الأسباب الرئيسة
التي أدت إلى غموض علم الكلام الجديد.(53)
وقريب من رأى كل من ‘‘شلبي
النعمانى’’ و‘‘مرتضى مطهري’’ نجد‘‘طه عبدا
لرحمن’’ الذي يعد من أبرز المنادين بضرورة تجديد علم الكلام حيث رأى أن
علم الكلام الجديد هو السبيل النافع والجاد لتقويم النزعات الفكرية
المستجدة، والنظر إلى التغيرات العميقة التي أحدثت التقدم العلمي والتقني في
المجتمع المسلم.(54) غير أننا لو تعمقنا في رأى ‘‘طه عبدا لرحمن’’ في علم الكلام
الجديد نجده في البداية يريد أن يطلق على علم الكلام مصطلح‘‘علم المناظرة العقدي’’
. كما نجده يحدد لنا شروطاً رئيسة ينبغي توافرها لهذا العلم هي على النحو التالي:
-
الشرط الأول الاعتقاد: بمعنى أن يسلم القائم على هذا العلم - في التسليم- بما ورد في الكتاب والسنة النبوية.
-
الشرط الثاني النظر: فلقد اعتمد
‘‘طه عبدا لرحمن’’ على هذا الشرط نظراً لاعتقاده بإمكانية تسمية علم الكلام ‘‘بعلم
النظر والاستدلال’’.
-
الشرط الثالث والأخير وهو التحاور: والتحاور
المقصود هنا أن يكون هناك خطاب بين اثنين
ولكل منهما مقامان: مقام المخاطٍب ومقام المخاطًب، ووظيفتان هما: العارض والمعترض
و قد هدف ‘‘طه عبدا لرحمن’’ من وراء ذلك أن يجعل علم الكلام ‘‘علماً للمقالات
الإسلامية’’ وليس علماً للمكالمة أو المناظرة.(50)
أما بالنسبة لموقفه النهائي من
علم الكلام فنجده يقول : إن علم الكلام قد
تعرض للاعتراض والاستنكار الشديد وللأسف قد وجد هذا الاعتراض قوة وسنداً نتيجة لما
وقع فيه بعض المتكلمين من شبهات مقصودة و غير مقصودة، ونتيجة لما سلكوه عن عمد أو
غير عمد من طرق فلسفية طلبوا من خلالها نصرة آرائهم الكلامية. وعلى الرغم من ذلك
نجد ‘‘طه عبدا لرحمن’’ يعترف بمقدرة علم الكلام الفعلية على الجمع بين أصول النقل
وبين مبادئ العقل .و ما نريد التأكيد عليه
بخصوص رأيه في علم الكلام يتمثل في أن غرضه الأساسي لا يكمن في الانحياز إلى موقف
قد يتعارض بشكل أو بآخر مع المعترض على علم الكلام، فينتصر لمذاهب المتكلمين جملة وتفصيلاً، وإنما
نجده يريد أن ينظر إلى المتكلمين فيما أصابوا فيه بهدف الاستفادة من تقدير الطاقة الإبداعية
في إنتاجهم .وعلى أية حال فقد لاحظ على المهتمين بعلم الكلام الجديد عدة ملاحظات
مهمة هي على النحو التالي :أولاً: لعب المهتمون بعلم الكلام دوراً مهماً في مواجهة
التيارات الاعتقادية غير الإسلامية المنزلة أو غير المنزلة، وكذلك الاتجاهات
الفكرية القائمة على العقلانية المادية .ثانيا توصل المهتمون بعلم الكلام إلى
مستوى رفيع يتمثل في ضبط مناهجهم العقلية وأخذهم القويم للأدلة المنطقية ، وقد فاق
مستواهم مستوى علماء المسلمين عند تصديهم للمذاهب الفكرية غير الإسلامية في وقتنا الحالي
، كما فاق مستوى المفكرين العرب المعاصرين المهتمين بتجديد التنظير لمناهج البحث في
الإنتاج الإسلامي.
وتأكيدا لهذه الملاحظات وجدناه يقدم دليلين هما
: الدليل الأول و يتمثل في اعتقاده الراسخ باستيعاب المتكلمين لمختلف أسباب عصرهم
العلمية والتاريخية . وأما الدليل الثاني فيتمثل في اعتقاده بأنهم انتهجوا في أبحاثهم طرقاً
استدلالية تتمتع بالتجريد والدقة ، كما اعتمدوا في تحليلاتهم على أساليب تمتاز
بالدقة والطرافة .(56)
الخاتمة:
من خلال عرضنا السابق
تبين لنا مجموعة من الحقائق المهمة منها ما يلي:
- يعد علم الكلام علماً من العلوم التي تهتم بالدفاع عن
العقائد الدينية بالأدلة العقلية، كما أنه يختلف عن علم الفقه ، مع الوضع في
الاعتبار أنه علم يتصل اتصالاً مباشراً بعلم الفقه.
- هناك مناهج متعددة يعتمد عليها المتكلمون عند تناولهم لقضية ما و من أبرز هذه المناهج: منهج البرهان الكلامي،
ومنهج التأويل ، و منهج التفويض.
- كان لعلم الكلام الكثير من المسميات فالبعض يطلق عليه
" علم التوحيد"،و البعض الآخر يطلق عليه " علم أصول الدين" ،
و علم الفقه الأكبر، و علم النظر و الاستدلال....إلخ. كما كان لعلم الكلام هدف
أسمي يتمثل في الدفاع عن الإسلام و الإقرار بأنه دين واحد و لا يوجد به أية
انقسامات أو تحزبات.
- حدث لعلم الكلام تحول إذ انتقل من كونه علماً مختصاً
بعلم الكلام إلي كونه فلسفة خالصة، و يرجع ذلك إلي أسباب عدة منها: ارتباط علم
الكلام المتأخر باستخدام المنطق الصوري أداة و منهجاً للبحث و الاستدلال، و اهتمام
علماء الكلام المتأخرين بمنهج التأويل العقلي المعتزلي، الأمر الذي نتج عنه مزج
علم الكلام بالفلسفة، و تأثير الفكر الإسماعيلي في انطباع الموضوعات الكلامية
بالطابع الفلسفي، و أخيرا ارتباط علم الكلام المتأخر بالأصول الكلامية في فلسفة
ابن سينا.
- على الرغم من أصالة علم الكلام التي أقرها العديد من
الباحثين، إلا أنه قوبل – لدي البعض- باستنكار شديد و على وجه الخصوص لدي أهل
الحديث و الفقهاء و الصوفية، و في المقابل نرى أن هناك من رحب و اشتغل بعلم الكلام
و أقر بقيمته و مشروعيته. من هنا يمكننا القول بأن هناك موقفين تجاه علم الكلام:
الأول كان مستنكراً لعلم الكلام ، و الثاني كان قابلاً له و مقراً بقيمته و
أهميته.
- ظهرت
دعوات عديدة مع مطلع القرن العشرين نادت بضرورة تجديد علم الكلام ، و من أبرز
الشخصيات التي نادت بذلك: محمد إقبال، و عبد الحميد بن باديس، و مالك بن نبي.....إلخ.
و على أية حال من الأحوال، فإن التجديد في علم الكلام قد تضمن التجديد في المسائل
الكلامية، و في المبادئ، و في المنهج. كما كان التجديد منصباً على الاهتمام بقضايا
رئيسة منها:القضايا العقدية الإلهية، القضايا المتعلقة بالتربية العقائدية، القضايا الأيديولوجية، القضايا النظمية، القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان، و أخيرا
القضايا المتعلقة بالتوفيق مع العصر.
الهوامش:
1-
أحمد على زهرة، بين الكلام والفلسفة عند الخوارج والمعتزلة، دار نينوى ،سوريا، الطبعة الأولي، 2004، ص31.
2-
علي الشابي،
مباحث في علم الكلام والفلسفة، دار المدار الإسلامي ، الطبعة الأولى، 2002، ص -ص
17-18
3-
المرجع السابق، ص18
4-
المرجع السابق ، ص 19
5-
أبوا لوفا الغنيمي التفتا زاني، علم الكلام وبعض مشكلاته، دار الثقافة ،
القاهرة، ص 3
6-
أحمد على زهرة، بين الكلام والفلسفة عند الخوارج والمعتزلة، ص33
7-
على الشابي، مباحث في علم الكلام والفلسفة، ص18
8-
عباس محمد حسن سليمان ، الصلة بين علم الكلام والفلسفة في الفكر الإسلامي:
محاولة
لتقويم علم الكلام وتجديده، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية 1998، ص11
9-
المرجع السابق، ص- ص 12-13
10-
المرجع السابق، ص 215
11-
أحمد على زهرة، بين الكلام والفلسفة عند الخوارج والمعتزلة، ص - ص 35-36
12-
عباس محمد حسن سليمان، الصلة بين علم الكلام والفلسفة في الفكر الإسلامي:
محاولة
لتقويم
علم الكلام وتجديده، ص - ص 215-216
13-
المرج السابق، ص ص217-218
14-
المرجع السابق ، ص - ص 218-219
15-
المرجع السابق، ص 220
16-
المرجع السابق، ص 22
17-
محمد صالح محمد السيد، أصالة علم الكلام، دار الثقافة ،القاهرة ، 1987 ،
ص21
18-
المرجع السابق ، نفس الصفحة
19-
المرجع السابق ، ص23
20-
حسن محمود الشافعي ، المدخل إلى دراسة علم الكلام ، دار القرآن والعلوم الإسلامية،
الطبعة الأولى ، 1989، ص30
21-
عبدا لعزيز راجل، مناهضة علم الكلام قديما وحديثا.(27-9-2010) http://www.doroob.com/archives/?p=47975
22-
محمد صالح محمد السيد، أصالة علم الكلام ، ص - ص 37-39
23-
المرجع السابق، ص 40
24-
المرجع السابق، ص 41
25-
المرج السابق، ص - ص 42-43
26-
المرجع السابق، ص 43
27-
عبدا لعزيز راجل، مناهضة علم الكلام قديما وحديثا.
28-
حسن محمود الشافعي ، المدخل إلى دراسة علم الكلام ،ص 28
29-
محمد صالح محمد السيد، أصالة علم الكلام، ص29
30-
المرجع السابق، ص 25
31-
المرجع السابق، ص 28
32-
المرجع
السابق، ص - ص 29-30
33-
المرجع السابق، ص ص36 -37
34-
المرجع السابق، ص 53
35-
المرجع السابق، ص31
36-
المرجع السابق، ص 47
37-
المرجع السابق، ص50
38-
المرجع السابق، ص - ص 51-52
39-
المرجع السابق، ص 53
40-
المرجع السابق، ص ص55-56
41-
المرجع السابق ، ص58
42-
المرجع السابق، ص37
43-
المرجع السابق، ص45
44-
المرجع السابق، ص ص46-47
45-
حسن محمود الشافعي ، المدخل إلى دراسة علم الكلام ، ص30
46-
المرجع السابق، ص 32
47-
عبدا لعزيز راجل، مناهضة علم الكلام قديما وحديثا.
48-
عبدا لعزيز محمد حسن سليمان، الصلة بين الكلام والفلسفة في الفكر الإسلامي
: محاولة لتقويم علم الكلام وتجديده، ص 223
49-
عبدا لعزيز راجل، مناهضة علم الكلام قديما وحديثا.
52-
يحيى محمد، علم الكلام الجديد: الهوية والوظيفة
54-
طه عبدا لرحمن، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، المركز الثقافي العربي،
الطبعة الثانية، 2000، ص 157
55-
المرجع السابق ، ص - ص 70-71
56-
المرجع السابق، ص - ص 71-72
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية